العلم هو ظاهرة اجتماعية نتجت عن محاولة المجتمع البشرى السيطرة على الطبيعة لتلبية احتياجاته المطردة التنوع ، وكان هذا النشاط يعنى تطور معرفى مطرد النمو ، و من ثم قدرة مطردة على تغيير الواقع وتحويله .والعلم ككل ظاهرة إنسانية واجتماعية يتميز كنشاط اجتماعى بدرجة عالية من التعقد مما لا يسمح لنا بتناوله بتلك البساطة والخفة التى يتناوله بها البعض ، فهذا النشاط استلزم منهج معين فى فهم الواقع يتميز فيما يتميز بالموضوعية ومن ثم فهو منفصل عن الدوافع والمصالح الذاتية لمن يمارسونه من رجال العلم هذا من جانب .إلا أن من يمارسون العلم هم قطاع من المجتمع له مصالحه الخاصة ، و كل من يمارسون محاولة فهم الواقع وبرغم أن هذه المحاولة تتطلب منهم الموضوعية ،إلا أن لهم أهواءهم ومصالحهم الخاصة هذا من جانب ثانى ، و لذلك عرف تاريخ العلم دائما ظلالا كثيفة من تلك الذاتية النابعة من تلك المصالح و الأهواء التى شوهت موضوعيته أحيانا .
ومن ثم فحين نتناول العلم كظاهرة معقدة يجب أن نفهمه من مستويات متعددة ،فهناك حقائق وقوانين للعلم ، وهى بالطبع تتميز بموضوعية صارمة ، فقواعد التفاعل الكيميائى وقوانين الحركة الميكانيكية ، والتمثيل والأيض الغذائيين ..الخ على سبيل المثال لا الحصر بالطبع ، هى هى مهما تغيرت النظم الاجتماعية ، ولا علاقة لها بالمصالح والأهواء ، فهى قواعد محايدة يمكن أن تستخدمها كل أطراف الصراع الاجتماعى ، وهى قواعد ثبتت صحتها بالممارسة العملية والبراهين النظرية على نحو متواتر على وجه القطع واليقين .إلا أن هناك أيضا مستويات من المعرفة العلمية مرتبطة أشد ما يكون الارتباط بالصراع الاجتماعى ، والبنية الاجتماعية التى يمارس فيها النشاط العلمى ، فالاستخدام التكنولوجى للعلم له علاقة مباشرة بكل من النظام الاجتماعى والصراع الاجتماعى ، فلما كان العلم كأى نشاط اجتماعى لا يوجد فى فراغ أواستقلال عن باقى الأنشطة الاجتماعية فهو يدخل فى علاقات متبادلة معها ، مؤثرا ومتأثرا ، فمن يملك تمويل البحث العلمى يملك توجيهه لمصلحته ، ووفق ما يريد .
فالنهضة العلمية الحديثة ارتبطت باحتياجات البورجوازية الصاعدة فى غرب أوروبا التى حولت النشاط العلمى من نشاط فردى منفصل نسبيا عن الإنتاج ، إلى مؤسسة هدفها تطوير قوى الإنتاج من أجل زيادة الإنتاجية ، والتوسع فى الإنتاج السلعى كما ونوعا وتحسينا ، وقد تحولت عملية البحث العلمى والتطوير التكنولوجى بمرور الوقت من مجرد إحدى قوى الإنتاج ، إلى عصب العملية الإنتاجية ذاتها فى السنوات القليلة الماضية ، ولأن المعرفة و إن كانت أحد مصادر السلطة المادية ،إلا أنها خاضعة تماما كنشاط اجتماعى لمن يملكون الثروة أو يسيطرون عليها ، وبناء على ذلك فقد وجهت البيروقراطية السوفيتية جل جهود المجتمع العلمى السوفيتى لتطوير صناعة السلاح وغزو الفضاء لأغراض السيطرة الإمبريالية على مناطق نفوذها وتوسيع تلك المناطق ، فقد وصل الغباء البيروقراطى لأن يكرس كل طاقات المجتمع فى سباق التسلح المحموم دون أن يستفيد من التطور العلمى فى هذا المجال ،لتطوير القطاعات المدنية مثلما حدث فى الغرب ، أما الجماهير بما فيهم العلماء أنفسهم ، فظلوا يرزحون تحت ظروف معيشة متدنية مكتفين بالفخر بالجيش الأحمر و ريادة الفضاء ، فى حين أن الرأسمالية فى الغرب و أن كانت حريصة على نفس الهدف ، إلا أنها راهنت على البحث العلمى لا فى تطوير قوى الإنتاج لآفاق أكثر تطورا فحسب مما انعكس على مستويات المعيشة وطرق الحياة ، و إنما كسلاح فعال حقق لها النصر على البيروقراطية فى الشرق .
ومع التطور الرأسمالى أصبح جزءا رئيسيا ومتناميا من القيمة المضافة ، ينتجه العلماء والباحثون والفنيون ،وبمعنى ما تمت بلترة العلماء والباحثين والفنيين، فأصبحوا مجردين إلا من قوة عملهم التى يطرحونها فى سوق العمل لإنتاج ما لايرغبون فى إنتاجه فى كثير من الأحيان ، وفى ظل ظروف عمل لا يتحكمون فيها ، حتى ولو كان مقابل ما ينتجوه من قيمة مضافة يميزهم اجتماعيا ومعيشيا عن باقى قوة العمل ، وحتى ولو كان ما يبدعوه يشبعهم معنويا ،فما هم خلال نشاطهم الإنتاجى إلا عبيدا مأجوريين سواء لرأسالمال أو البيروقراطيين ،شأنهم شأن العمال اليدويين .
فالعالم والباحث والفنى لا يمكن أن يبدع إلا ما يحتاجه السوق ، ويموله رأسالمال ،وتقرره السلطات البيروقراطية والسياسية .والبحث العلمى والتكنولوجى عموما يخضع الآن على نحو كامل لمشيئة هؤلاء . ومن ثم فهناك علاقة وطيدة بين العلم والصراع الطبقى على هذا المستوى ..فهؤلاء العلماء والباحثين والفنيين هم أصحاب مصلحة مؤكدة فى تطوير قوى الإنتاج مما يرشحهم كأكثر الفئات ثورية باعتبار الإمكانية المادية لوجودهم الاجتماعى فى عالمنا المعاصر ، وهم أصحاب مصلحة مؤكدة فى التحرر من سيطرة كل من رأسالمال والبيروقراطية والدولة على البحث العلمى لتتحقق حريتهم فى البحث العلمى وتطوير قوى الإنتاج ، وهذا يتطلب نمطا لاسلطويا لممارستهم نشاطهم العلمى بعيدا عن ما يقيدهم
وقد فوجئت شخصيا أن طبيب العيون الروسى الشهير فيدوروف ، والذى كان مرشحا فى انتخابات الرئاسة الروسية ليس بهدف الفوز ولكن بهدف الدعاية فحسب ، قد أسس حزب باسم حزب الحكم الذاتى للشعب العامل فى روسيا ، مناديا بنمط إنتاج ومجتمع لاسلطوى، يتخلص من سيطرة كل من البيروقراطية و رأسالمال ، و فى نفس الوقت وكخطوة على طريق التحرر الذاتى ، كون هو ومجموعة من زملاءه فى العمل الطبى من الأطباء والممرضين والفنيين ، تعاونية طبية ، لتقديم الخدمة الطبية المتميزة التى عرف بها فى طب العيون ، بعيدا عن الدولة ورأسالمال ، قائمة على أسس لاسلطوية وتعاونية ، وقد يكون هذا هو مجرد بداية قد تتبعها خطوات أخرى فى طريق أن يعى العلماء طريق تحررهم ، ليس بالاستمرار كخدم سمان مدللين للبورجوازية والبيروقراطية ، و كعبيد للدولة وفق تعبير فيدروف نفسه عن حالة العلماء ، وانما أداء دورهم فى قيادة عملية التحرر من عبودية الاضطرار للدولة ورأسالمال .
و بروفيسور فيدروف لمن لايعرفون .. إسم له رنين خاص وغير متكرر فى دنيا السياسة الروسية، شخصية فذة غير عادية، وصاحب أشهر مانيفستو صدر فى روسيا ما بعد التفكك السوفيتى، رفع لواء التغيير الشامل الذى يبدأ من الجذور لا من القمة، ووضع منهجا اصلاحيا يستند أساسا الى الشعب، منهجا يعمل على تحفيز امكانات الشعب الروسى واستنفار قدراته.
اشترك فى تأسيس ورئاسة حزب تحرير الاقتصاد عام 1994. أسس حزب الحكم الذاتى للشعب العامل عام 1995 ، ويعد من أهم أعضاء حركة الاصلاح الديمقراطى ، ورشح نفسه فى الانتخابات الرئاسية لعام 1996 أمام بوريس يلتسين.
جمع بين السياسة والطب، فهو أساسا طبيب وجراح عيون طبقت شهرته الآفاق، ونقل عنه العالم اكتشافاته واختراعاته وجراحاته النادرة. زار موانىء العالم بسفينته الشهيرة المجهزة بأحدث الأجهزة والآلات المتطورة لإجراء الجراحات النادرة للمرضى مجانا. تبوأ أعلى المناصب العلمية والطبية فى روسيا الاتحاد السوفيتى وروسيا ما بعد الاتحاد السوفيتى، ومثل بلاده ومازال يمثلها فى جميع الأكاديميات الدولية للعلوم والطب.
طبق على أرض الواقع نظريته الجديدة للاصلاح الاقتصادى، فأنشأ مركز جراحات العيون الدقيقة الشهير فى موسكو بفروعه الاثنى عشر المنتشرة فى جميع أنحاء روسيا .. ووضع أسسه الاقتصادية وقوانينه وضوابطه .. وأقام له برلمانا خاصا. ويعد هذا المركز الضخم ذو الشهرة العالمية نموذجا ناجحا للتحرر الاقتصادى والإدارة الذاتية والاستقلال التام عن الدولة.1
___________________
1السياسة الدولية عدد إبريل 2000