بلعمري اسماعيل
الحوار المتمدن-العدد: 3851 - 2012 / 9 / 15 - 15:42
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كالملايين من الناس سمعت لأول مرة بحكاية الفليم الأمريكي المسيئ للنبي محمد (ص) لا من خلال نجاحه السنيمائي و لا حتى التجاري, بل من خلال ردات الفعل التي تسبب بها و بالأخص أحداث القاهرة و بنغازي, و التي أودت بحياة السفير الأمريكي في ليبيا " المحررة" و من معه, بطريقة بشعة و وحشية أعادت إلى الأذهان وقائع تصفية القذافي, و المفارقة أن العمليتين تمتا بأيدي واحدة ( ثوار ليبيا ) كما أسماهم الإعلام الغربي و إعلام أمراء الخليج, و في المدينة ذاتها التي زارها هنري ليفي في بداية إنشقاقها عن حكم القذافي, و كُرِّم فيها من قبل " الثوار" الذين أغفلوا عن عمد وقتئذٍ أن " الفيلسوف" الفرنسي- اليهودي هو صاحب معرض الرسوم الكاريكاتورية المسيئة لنفس النبي الذي لأجله ثاروا هذه المرة.
و لولا تلك الأحداث لما انتبهت الأغلبية الساحقة من الناس إلى هذا فليم "التافه" و عديم القيمة الفنية على حد وصف جريدة "لوموند".
ما يهمنا في هذه القضية لا يتعلق بخلفيات الفعل و رد الفعل, و الذي تحكمه حسابات و دوافع يسعى كل طرف لتحقيق مكاسب من ورائها, أظهرت التجارب أن المستفيد الوحيد منها هي الجهات المتطرفة في كلا الجانبين, و هي جهات دأبت على إستثمار – و بمهارة – الإنفعالات العاطفية للفئات المحبطة و تحريفها عن مقصدها, حتى و إن تعلق الأمر في أحيان كثيرة كما في هذه المرة, بعواطف نبيلة و مبررة و إن كانت مبالغ فيها و منفلتة, إنما المهم هنا هي مسألة كثيراً ما تتكرر كلما تعلق الأمر بإساءة من هذا النوع, أكانت رسماً أو فليماً أو حتى خطاباً, و هي مسألة جوهرية تدور حول حق من أهم الحقوق المدنية للإنسان, و هو حقه في التعبير الحر عن رأيه, بلا إكراه أو تضييق أو رقابة.
و الجدال في هذه القضية لا يدور عادة حول المبدأ الذي يتفق الجميع - عدى الجهات المتطرفة – على أنه حق مقدس لا يجوز المس به تحت أي مبرر كان, إنما حول نسبية هذا الحق, فحرية التعبير كغيرها من الحريات الأخرى, ليست بلا حدود, و لا هي مطلقة أو فوق كل إعتبار قانوني أو أخلاقي متفق عليه, و الزعم بخلاف ذلك هو نفاق خاصة عندما يصدر من الدول نفسها التي تبيح تدنيس مقدس الآخر لأجل إشباع نزوعة مرضية في تعذيب هذا الآخر جزاءاً له على إختلافه!
في هذا الصدد بالذات يجدر التذكير أن التخفي وراء قداسة حرية التعبير – وهو أمر بالفعل مقدس- للنيّل من مقدسات الآخريين هو أمر لا يصدر في الغالب إلا في إتجاه واحد, من الغرب و ضد المسلمين, و فيما تقف الحكومات الغربية الغير معنية بهذه الإساءات عاجزة عن التعاطي مع الأمر بسبب ثغرات قانونية تتيح لمتطرفي الغرب التسديد منها على مقدسات المسلمين, تقوم نفس هذه الحكومات بحظر الكثير من الأعمال الفنية و بقوة القانون عندما يتعلق الأمر بقضايا أخرى تحتمل قرآءات كثيرة, في ألمانيا الفيدرالية مثلاً, تمنع و لايات عديدة عرض مسرحية " تاجر البندقية" للكاتب الشهير شكسبير, بحجة منع معاداة السامية و بث الكراهية الدينية, مع أن هذه المسرحية لا تحمل أيّة شيئ مما تمنع لأجله, بل مجرد قصة عن مرابي يهودي يستغل الظروف المادية العصيبة للبطل بشكل غير إنساني, و ينجو البطل في النهاية بحيلة طريفة!ً
و يمنع في فرنسا – مع الوقوع تحت طائلة العقوبة – كل عمل من أي نوع كان يشكك فيه صاحبه في وقوع المحرقة اليهودية في الحرب العالمية الثانية أو يهوِّن من أعداد ضحاياها!
و بالعودة إلى أصل الأحداث الأخيرة, و هو الفيلم الذي قيل إنه يصور النبي محمد (ص) في وضعيات غير لائقة أخلاقياً – عند المسلمين على الأقل- يبدو لأول وهلة أن للحكومات الغربية معذرة في عدم منعها له كما لغيره من الأعمال الأخرى المسيئة للمسلمين و لغير المسلمين بما في ذلك المسيحيين الذين يمثلون الأغلبية الساحقة من شعوب الغرب, و أن دساتيرها كما تقاليدها الديموقراطية العريقة تحولان دون تدخلها لمنع أي عمل فني أو فكري مهما كان محتواه, لكن التمعن في تاريخ المنع في هذه الدول لا يشير فقط إلى سوابق منع بل و حواضر أيضاً, في فرنسا دائماً ظل فليم " معركة الجزائر" الذي يروي نضال الشعب الجزائري خلال حرب التحرير في مدينة الجزائر العاصمة ممنوعاً من العرض في فرنسا لأزيد من أربعين سنة بحجة كونه يمجد الإرهاب.
و حتى لا نحيد كثيراً عن طبيعة الفليم الأمريكي, و الذي يتناول السيرة الذاتية لشخصية تاريخية وفق وجهة نظر منتجيه, لنا أن نتصور فليماً من نفس الطبيعة, تنتجه أيّة جهة, يتناول فيه أصحابه السيرة الذاتية " لهتلر" مثلاً من زاوية غير تلك التي ينظر منها الغرب إليه على إعتبار أن التاريخ يكتبه المنتصرون, و يبرز فيه كشخصية عادلة محقة تمثل الخير في مواجه الشر, هل يمكن لفيلم كهذا أن يجد طريقه إلى التوزيع في الغرب تحت عنوان حرية التعبير؟ أم إلى المنع تحت عنوان تمجيد معاداة السامية و بث الكراهية و إهانة أرواح ضحايا الحرية و وووو؟ و حتى لا يبقى هذا الحكم إفتراضياً أتمنى حصول ذلك لنقطع الشك باليقين.
الإسلام و النقذ:
عند إثارة مسألة ضرورة منع الإساءة إلى المقدسات, كثيراً ما يذهب البعض عن عمد إلى الخلط بين حرية النقذ و بين حرية الهجاء, و كثيرأ ما يزعم هؤلاء أن الإسلام دين يمنع النقذ لأنه لا يقوى عن الدفاع عن أطروحاته بشكل عقلي, فيختبأ وراء القدسية كما يختبأ وراء الغيبيات و التي ينسبها إلى بُعد آخر غير محسوس, أولاً ينبغي التمييز بحذر بين الإسلام و بين الإسلاميين بكل أنواعهم, الإسلام هو معتقد روحي, هو منظومة قيّم إجتماعية و أخلاقية, هو شعائر تهدف إلى تهذيب النفس والسمو بها عن الإفراط في الإرتباط بالحياة المادية الزائلة إلى الحياة الروحية الأبدية, الإسلام هو دين " المسلم من سلم الناس من لسانه و يده" هو دين " ... الناس أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق" هو دين " من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً" , أما الإسلاميين فتجار دين و طلاّب زعامة سياسية أوإجتماعية أو روحية , و عند الحديث عن الإسلام ينبغي التركيز على أمرين يحكم من خلالها على أيّة حركة فكرية أو سياسية أو إجتماعية ( و الإسلام هو كل ذلك معاً), هما الغاية و الوسيلة, فمقاصد الإسلام واضحة لا أتصور عاقلاً يتحفظ عليها ( حفظ النفس, حفظ العقل, حفظ الدين, حفظ المال, حفظ العرض) , أما أساليبه فمرنة بالنظر إلى البعد السياسي له, ينبغي هنا التفريق أيضاً بين الإسلام كدين و بين الدولة الإسلامية ككيان سياسي و إقتصادي و إجتماعي نشأت في بيئة معادية سياسية و فقيرة إقتصادياً و على أنقاض مجتمع عربي ممزق و متخلف على جميع الأصعدة.
فالتاريخ الإسلامي كما الإسلام نفسه لم يرفض يوماً النقذ و الذي يعبر عنه القرآن بلفظ " الجدال" " و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا باللّتي هي أحسن " " وقولوا للناس حسنا" و غيرها كثير من الآيات الداعية إلى المناظرة و المحاورة, و التي جرى الكثير منها بالفعل في عهد النبوة و بحرية غريبة عن بيئة الناس وقتئذً.
أما السب و الشتم فللإسلام موقف عبر عنه القرآن كما السنة النبوية, " و لا تسبوا الذين كفروا فيسبوا الله عدواً بغير حق" , " يطلع عليكم عكرمة بن ابي جهل, فلا تسبوا أباه أمامه, فإن ذلك يؤذي الأحياء و لا يلحق الأموات" .
كما يجدر بالملاحظ التوقف عند حقيقة أن الشعوب الإسلامية على تخلفها و عدم تعودها على النقذ لم تتحرك يوماً ضد أي عمل نقذي يتناول فيه صاحبه قضايا تخص الإسلام, على الأقل ليس بشكل مستنكر, على إعتبار أن النقذ في كل الأحوال رأي يبديه الفرد يحتمل الخطأ و الصواب و يكفي الرد عليه برأي مثله في ميدان الحجة و المنطق, فيكون رد فعل من جنس الفعل, أما السب فلا جواب له إلا السب, و هذا إنحطاط لا نتمناه للبشرية.
#بلعمري_اسماعيل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟