موريس عايق
الحوار المتمدن-العدد: 1120 - 2005 / 2 / 25 - 10:40
المحور:
في نقد الشيوعية واليسار واحزابها
يشكو الكثيرون مما أصاب اليسار العربي من ضعف ووهن , وهم يتسألون عن الأسباب التي أدت الى ما حصل وعن الوسائل القادرة على معالجة الأزمة وتجاوزها من أجل اعادة بناء يسار عربي جديد وقوي وقادر على المواجهة وانجاز مشروعه وبناء أحزابه القوية والجماهيرية مرة أخرى.
طبعا لهذا النقاش مستويات مختلفة ومتفاوتة, وهذا عائد الى أن الجميع يطرحون آرائهم وافكارهم, سواء أكانوا منظرين و مفكرين, او ممارسين للعمل السياسي العام والحزبي , ومهتمين بقضايا اليسار وحاله. ولهذا نرى الحجم الهائل للأعمال (من الكتب المؤلفة خصيصا لهذا الغرض وصولا الى المقالات القصيرة) التي تناقش الأزمة وسبل الخروج منها وبسويات متنافرة.
كما كانت الأزمة مثار اهتمام (شبه جدي) الأحزاب التي ناقشتها باستمرار وعقدت الندوات عن اليسار والمستقبل وتجاوز الأزمة او ازمة الحركة الوطنية ومن اجل حركة وطنية جديدة, وعلى ما يبدو انه اتفقت اكثر هذه التحليلات على ان الأزمة التي اصابت اليسار عائدة الى ما يلي:
1- التبعية التي عاشتها الأحزاب اليسارية ( والشيوعية تحديدا) تجاه المركز السوفياتي كفاتيكان للعقيدة الماركسية اللينينية, وهذه التبعية أعفتها من طرح قضاياها العربية والوطنية الخاصة بشكل صائب ومحاولة اكتشاف الواقع العربي وتحليله عبر المنهج الماركسي والاستغناء عن هذا بالصيغ والقوالب الجاهزة والواردة من موسكو والتي تكون امتداد للسياسة الخارجية السوفياتية, وبالتالي تحولت هذه الأحزاب من أحزاب الى أحزاب ناطقة بلسان الخارجية السوفياتية وقد أدى هذا الى مواقف سيئةجدا في التاريخ وأشهر هذه المواقف على الاطلاق هو الموقف من قضية قرار تقسيم فلسطين.
2- العقيدة (الدوغما): تحويل الماركسية من فلسفة لاكتشاف الواقع ومنهج لتحليل التاريخ أساسه المادية التاريخية وفلسفة للتغيير, الى دوغما وبنية جامدة وعقيدة دينية مفرطة في الجمود والتزمت وفلسفة للتبرير , وهكذا أصبحت نصوص مؤسسي الماركسية-اللينينية نصوصا دينية ولاهوتية, يتم الاستشهاد بها كما الاستشهاد بنص ديني, اما الواقع كما هو, فيبقى خارجا لا يؤبه له, فعوضا عن أن تصبح الفلسفة مفسرة للواقع, أصبح على هذا الواقع أن يقص من هنا وهناك حتى يأتي على مقاس النصوص وككل دوغما أصبح لها لاهوت وهرمية دينية تعطي الغفران أو الحرمان, والنتيجة كارثية فلا ابداع ولا اكتشاف بل بنية ميتة ومغلقة لا دور لها سوى اضافة دين جديد الى مجموع الأديان الموجودة أصلا, بل ما هو أسوأ كونه دين بلا اله ولا آخرة.
3- التغريب: فالاشتراكية بجميع أشكالها لم تكن نتاجا عربيا ولا نتاج لواقع يشبه ولو من قريب الواقع العربي فكان من المستحيل ان يتم نقل الاشتراكية والماركسية بشكل ميكانيكي الى الواقع العربي دون تغيير أو تعديل حتى تصبح ملائمة له. وخاصة في أدواتها التحليلية حتى تستطيع اكتشاف الواقع وخاصة كون هويته لم تحدد بعد (رأسمالي, كومبرادوري, اقطاعي, اسيوي,,,,الخ) فما بالك بأن لنقل تم حتى ضمن النتائج الأخيرة , فكانت النتيجة حالة كاريكاتورية لأحزاب تعيش في عالمها الآخر أكثر مما تعيش في الواقع العربي.
4- الشمولية: غياب الديموقراطية عن الحياة السياسية الحزبية في الأحزاب اليسارية واستبداد القيادة الحزبية ممثلة في شخص الأمين العام المزمن على رأس حزبه (والمورث له احيانا) وقطعها لدابر اي خلاف او نقاش مما أدى الى غياب الآراء المغايرة وبالتالي عدم تطوير بينية الحزب تطوير فكره وانعدام ثراءه وتنوعه وهكذا انتهى اي خلاف حزبي الى انشقاق واصبح تسرب العضوية داء عام بغياب اي مجال للحرية والتعبير عن الرأي, فانتهت الأحزاب الى مؤسسات ديكتاتورية (شمولية حسب التعبير الأكثر شهرة واستخدام) لا تحترم الخلاف وحق الرأي ولا حتى النقد والنقد الذاتي مما أدى الى هزالها وموتها السريري..
هذه هي المشكلات التي تم تحديدها عموما والحلول (وبكل ذكاء) هي الكلمات المعاكسة.
1- الاستقلال (ضد التبعية): تجاه مراكز القوى وبعد السقوط السوفياتي اصبح الاستقلال قدرا لامفر منه ولكن للتأكيد, الاستقلال عن اي تبعية لأي كان في القرارات والتصورات والممارسة السياسية.
2- الابداع (ضد الدوغمائية): وبالتالي تحويل الماركسية (وغيرها فيما بعد) الى مناهج فكرية وأدوات تحليلية لاكتشاف الواقع واستخلاص الحلول, والممارسة السياسية بشكل ابداعي والتحرر من سيطرة النصوص علينا, بل اعادتها الى حقيقتها كتراث يمكن استلهامه والاستفادة والتعلم منه, وعدم ابقائها كنص ديني. اعادة الاعتبار الى الواقع ودراسته بشكل علمي وعملي والتحرر من هيمنة المؤسسة الدينية (الماركسية أو الشيوعية) والعودة الى الماركسية الأصلية.
3- التعريب (ضد التغريب): اعادة انتاج الماركسية عربيا وتبيئتها ومصالحتها مع الواقع العربي حتى تصبح قادرة في آن واحد على اكتشافه وتغييره وهذا يتطلب فصلها على الصعيد النظري عن نتائجها والكثير من مقدماتها السابقة وتطويرها لتصبح ملائمة لمجتمع مغاير تماما لمجتمعها الأصلي.
4- الديمقراطية (ضد الشمولية): القضاء على الديكتاتورية داخل الأحزاب واعادة بنائها بشكل جديد يحقق الديمقراطية داخلها, مما يفسح مجالا للاختلاف والتنوع والتعبير الحر عن الرأي وبالتالي يفسح مجالا حقيقيا لتطورها وتقدمها والاستفادة خاصة مما تقدمه امكانية النقد والنقد الذاتي من مجالات, وحاليا تزداد الضرورة مع التطور العالمي تجاه الديمقراطية لبناء حزب ديمقراطي, اي يقبل بقواعد اللعبة الديمقراطية المتعلقة بالتعددية والاختلاف والتسليم بصناديق الاقتراع, وهذا الحزب يجب أن يكون ديمقراطي في داخله قبل اي شئ, وهكذا يبدو التأكيد على الديمقراطية أكثر من غيرها كونها أساس يبنى عليه.
طبعا لم نقم حتى الآن سوى بالتلخيص لمجمل ما قيل حول اليسار وأزمته وسبل الخروج منها, وربما البعض أكد على نقطة اكثر من اخرى او أغفل نقاط, ولكن على العموم يمكن القول بأن هذه التجميعة هي لحد ما خلاصة ما كتب (والأصح ما قرأت).
ولكن نلاحظ عدة اشياء, انه على الرغم من كل السيئات التي أوردناها فقد ظهرت أحزاب جمعت هذه السيئات بتمامها ودون أن تفرط بأي منهاومع هذا كانت أحزابا جماهيرية وذات امتداد هائل في مجتمعها وشكلت قوة حقيقية يحسب حسابهاوكادت أن تصل الى السلطة في بلدها, كالحزب الشيوعي العراقي حتى شباط 1963, أو وصلت لفترة محدودة كالحزب الشيوعي السوداني, وفي بعض الفترات يمكن الحديث عن الحزبين الشيوعين السوري واللبناني كأحزاب ذات وجود فاعل وقوي على الساحة في كلي البلدين.
واذا أخذنا البرنامج المقترح للخروج من الأزمة فسنلاحظ ايضا انه ليس بجديد, ويمكن تقديم أحزاب قامت عليه (او على بعض نقاطه) مثل ظاهرة اليسار الجديد (الى الأمام و23مارس في المغرب, والعمل الشيوعي في سوريا ولبنان, القيادة المركزية في العراق,والعمال الشيوعي في تونس,,,, والتي أمنت لحد كبير الاستقلال عن المركز السوفياتي وغيره, وفي أحيان أقل الديمقراطية, وأقل الابداع , ولكنها لم تعمر طويلا وانتهت بسرعة تماثل سرعة صعودها (المغاربة مستمرون حتى الآن ببطولية وان بألق أقل) وحتى دون جماهيرية تذكر ولو من بعيد بجماهيرية الأحزاب التقليدية, وهناك مثلا حزب العمال الثوري المرتبط بياسين الحافظ والياس مرقص وهو الوحيد ربما الذي أنجز البرنامج بأكمله (وهذا عائد الى خصوصية ياسين والياس أولا وأخيرا) ومع هذا فهو –ربما- أكثر حزب بلا وجود موضوعي (معدوم التأثير عمليا), وكذلك تبدو تجربة الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي في فشلها, وحتى الأحزاب القومية العربية (المكتشفة للاشتراكية) لايمكن اغفالها هنا (الناصرية, البعث, الجبهات), وطبعا لكوننا نتحدث عن اليسار تحديدا فلن تقاربها لكنها كانت الأنجح ولكنها فيما بعد فشلت, الناصرية انتهت والجبهات تنازع.
هذا يدل على ضعف ما في مقاربة أزمة اليسار العربي وبالتالي برنامج الحل. من المؤكد ان هذا لايدل على أن كل ما قيل سابقا هو خاطئ بل على العكس, فمن المؤكد ان التبعية والديكتاتورية والدوغما والتغريب مساؤى يجب علاجها والخلاص منها لكن القول انها كل الأزمة (أو هي الأزمة) هو أمر خاطئ, هي جزء من الأزمة وربما ليست الجزء الأساسي حتى. ان التحليلات السابقة ليست خاطئة ولكنها ايضا ليست صحيحة, وذلك لأنها تهمل التاريخ,العيني والواقعي.
طبعا لا نستطيع أن نقول ما هو التاريخ لو نجحت الأحزاب اليسارية الكبرى التي عرفها الوطن العربي بتجاوز تلك السلبيات في لحظات معينة من التاريخ. فلو استقل الحزب الشيوعي العراقي عن السوفييت عندما أراد الاطاحة بعبد الكريم قاسم, بالتأكيد لن يكون التاريخ كما كان. وكذلك الحزب الشيوعي السوري تجاه عبد الناصر وقضية الوحدة, لو كان أكثر عروبة وأكثر ابداعا, وجميع الأحزاب الشيوعية لو لم تتبنى الوقف السوفياتس من التقسيم, ربما كان للتاريخ مجرى آخر لكنه لم يحصل.
ان أزمة التحليل السابق والحل الذي يقترحه, هي الأخرى تعبير عن أزمة اليسار العربي أكثر من كونها حل لهذه الأزمة. فالتحليل يقدم خلاصات ونتائج عن برامج سياسية دون أن يسعى لأن يقارب المجتمع العربي واليسار العربي اجتماعيا, فالأحزاب العربية لم تدرس الا في برامجها, اين أصاب البرنامج وأين أخطأ؟
الفكرة تناقش الفكرة, لكن لا وجود لدراسة لواقع الفكرة, واقع انتاجها وواقع تطبيقها, فلا نملك دراسات عن الأحزاب اليسارية كمؤسسات اجتماعية, كأدوات للممارسة السياسية.
هذا العيش خارج الواقع لا يمكن ان يكون هو الحل, لأنه أصلا جزء من الأزمة قد ينجح في اضاءة بعض جوانب المشكلة, لكنه لن يقدم أكثر من ذلك. فنحن نلاحظ حاليا الكثير من الجدال عن تجديد الماركسية وتطوير بنية الأحزاب, فما الذي نراه أمامنا؟
استدعاء نصوص لماركس لمواجهة نصوص أخرى (1)و أو ماركس في مواجهة لينين(2) ,أو للسوفيات(3), أو نقاش للبرامج السياسية الخاطئة(4), أو ديمقراطية ماركسية مع استغرابنا لهذه الديمقراطية التي لم أفهمها وأشك بأني سأفعل(5), أو كحل أخير وهو انتقال فكري باتجاه الديمقراطية واليمين (6).
من الواضح انه لا يوجد نقاش للواقع العربي جدي وعميق ( المغاربة هنا يشكلون استثناء هاما (7)) ولا حتى لظاهرة اليسار الفكري والحزبي اجتماعيا ولهذا نبقى نناقش في الهواء, واهذا سأقدم أسئلتي الخاصة وهي
1- مالذي نعنيه باليسار؟
2- ماهية اليسار العربي (على مستوى الفكرة والبرنامج وايضا على مستوى البشر)
3- هل فشل اليسار؟
4- وأخيرا محاولة بدائية للاجتهاد
* * *
ما الذي نقصده باليسار؟
من المعروف أن تسمية اليسار ظهرت مع الثورة الفرنسية وارتبطت أولا باليعاقبة, ومن ذلك الوقت تدل كلمة يسار على برنامج يرتبط بقيمتين أساسيتين وهما الحرية والمساواة, وان أردنا التحديد أكثر , فقد اشتهر اليسار كمدافع عن المساواة, المساواة أمام القانون (المواطنية) ولكن بشكل أكبر بالمساواة الاجتماعية. النقد اليساري قائم على موضوعة أساسية وهي, اللامساواة الاجتماعية ستنتج لا مساواة سياسية واللامساواة الاجتماعية ناشئة عن النظام الاجتماعي (ليس بسبب الطبيعة أو الكسل) ولهذا يجب (ومن الممكن) تغيير (أو تعديل) النظام الاجتماعي لجعله أكثر مساواة (أو لتحقيق المساواة التامة) وبالتالي تكريس الحرية كواقع وليس فقط كأحلام , ومن هنا تصبح قضية التغيير (أو الثورة) هوية دائمة لليسار.
وبما أن المساواة هي المطلب الأساسي لليسار, فكان من الطبيعي أن يكون معبرا عن, ومكونا من الذين يعيشون واقع الظلم الاجتماعي (وحتى السياسي) اي العمال اساسا ومعهم المهمشين والفلاحين والفقراء, ويضاف اليهم المثقفون والطلاب. ومع بداية الثورة الصناعية التي انطلقت عبر لامساواة مجحفة جدا بدأ الفكر الاشتراكي (اليسار = الاشتراكية(8)) كرؤى عند بعض المثقفين لينتهي الى فكر شديد الرسوخ عند الطبقة العاملة. وتصبح الاشتراكية فكر الطبقة العاملة وتصبح الطبقة العاملة الأداة التاريخية للاشتراكية. وهكذا فان اليسار يسعى الى مجتمع يحقق العدالة (الحرية والمساواة).
عندما انتقل الفكر الاشتراكي الى الوطن العربي كان من الطبيعي ان يواجه عدد من الأزمات, منها عدم وجود طبقة عاملة ولا حتى تصنيع, بل كتلة كبيرة من الفلاحين مع ملاك عقاريين وتجار ورجال دين ودولة وايضا استعمار.
هذه المشكلة لم تكن مقتصرة على اليسار العربي بل على كل بلد من بلدان العالم الثاث وايضا الثاتي استقبل هذا التيار, واجه ذات المشكلة المتمثلة بأي طبقة عليه أن يلتحم؟
وبتعبير آخر, من هي الطبقة الثورية؟(9)
طبعا أقدمت الحركة الاشتراكية في بعض الأحيان على خيار قاتل وهو انتظار التصنيع وتشكل الطبقة العاملة, وبالتالي دعم البرجوازية الوطنية في التصنيع, وهو خيار مارسه الحزب الشيوعي السوري في بعض مراحله.
هنا طغت العقيدة على الواقع, والغريب ان الأحزاب العربية لم تعرف آنذاك أيا من الأفكار والتأويلات الماركسية المنشقة والتي كانت أكثر انسجاما مع واقعنا وخاصة الأفكار ذات الطابع الفلاحي (على الرغم من أن فرانز فانون مثلا كتب عندنا), كما أنها لم تبتدع تأويلاتها عند الحاجة, وهو أمر له دلالته.
يضاف الى ذلك قوة التقاليد وسيطرة بنى فكرية وسياسية مفوتة على كامل الحياة مما أدى الى تقوية بعد التحرر في هوية اليسار وصراعه (ما سمي بالثورة الديمقراطية البرجوازية خطأ) وهذا ما دفع الى حالة من الاختلاط بين الليبرالية واليسار في واقعنا كونهما معا يحاربان ضد عدو مشترك متمثل بالتقاليد والمؤسسات الدينية, لكن هذا ايضا سبب المزيد من التخبط بصدد هوية اليسار الذي اصبح معبرا عن التمرد , واليوم نلاحظ ان قسما كبيرا من اليسار انتهى الى حالة ليبرالية فقط.
كان البؤس موجودا وبضراوة لكن اليسار كان بعيدا عنه وهذا ما سنتحدث عنه الآن.
ماهية اليسار العربي
نعاني حقيقة من نقص هائل بالدراسات المتعلقة بالأحزاب العربي ولهذا فقسم كبير مما سيكتب ينقص التوثيق على أمل انجازه فيما بعد.
تشكلت الأحزاب العربية في مراحل مختلفة ومتباعدة, أقدمها الفلسطيني والذي تشكل من اليهود ليلحقه السوري- اللبناني, والعراقي والمصري....,ولكن اقدم الأحزاب الاشتراكية هو الحزب الاشتراكي المصري 1908
كان الحزب الشيوعي العراقي مميزا بالوجود الكاسح لأبناء البلد (ومع هذا لعب بيوتر فاسيلي دورا أوليا في تأسيسه ولعب اليهود العراقيون دورا هاما في حياته) والمصري كان استثناءا مضادا للغياب الكبير لأبناء البلد عنه في البداية.
وكذلك لعبت ثورة أكتوبر دورا مفصليا في نشوء الأحزاب الشيوعية في الوطن العربي, ان ما نريد التأكيد عليه هو أن بداية اليسار العربي لم تكن تشبه النمو الطبيعي من الوسط الاجتماعي بل حالة زراعة ضمن هذا الجسد(10). لكن فيما بعد حاولت الأحزاب التجذر في وسطها الاجتماعي , لكن ارتباطها الكبير بالأقليات القومية والدينية زاد من صعوبة هذه العملية بل ودفعها الى مواقف ذات بعد أقلوي وخصوصا في مسألة الوحدة القومية(11), لكن الميزة الأهم حول موضوع اليسار هو البعد الطبقي, فاليسار كما سيفترض الجميع هو المعبر عن طموحات الفقراء والكادحين وبالتالي سيكون موجودا وبقوة في الأوساط العمالية (وخاصة اليسار الماركسي) والفلاحين, ولكن الواقع كان يسجل غيابا تاما عن الريف (باستثناء العراقي) وهذا ما سيدفع الأحزاب القومية لكي تملأ هذا الفراغ بل أنها ستكون أشد وعيا وتقدما في موضوع الفلاحين, بل الواقع يسجل ضعفا في الوجود في الوسط العمالي, و العكس صحيح ضعف الوجود العمالي في الأحزاب , فالعمال في الحزب الشيوعي السوري مثلا "لم تتجاوز نسبتهم في صفوفه حتى في فترات قوته, مثل فترة 1967- 1972 نسبة13% كما كان الحال في ايام المؤتمر الثالث للحزب, حزيران 1969(الاحزاب والحركات اليسارية- المركز العربي للدراسات الاستراتيجية, ص466)
ما هو المنبت الطبقي لغالبية أعضاء الأحزاب الشيوعية؟
أولا هم من أبناء المدن, وهناك قسم هام من أبناء عائلات ملاك وكبار البرجوازيين وحتى عائلات شريفية, أبناء بجوازية صغيرة أو متوسطة (خاصة مثقفين وحامعيين وهذا يعود بنا الى الطايع التثاقفي لليسار العربي)
هذا الحضور ليس غريبا لكنه سيطرح (مع غياب العمال والفلاحين وحتى المهمشين) تساؤلا حول أية طبقة يمثلون؟ وماهو برنامجهم الطبقي المفترض؟
البرنامج كما ظهر هو الاستقلال الوطني والاقتصادي والتطور الصناعي هو قاعدته, , ولهذا ظهرت شعبية هائلة لهذه الأحزاب تحت تأثير النجاحات السوفياتية في الحرب والفضاء, وخاصة انها دولة متأخرة عند انطلاقها, اي ان هذه الشعبية والاعجاب لم يكن وليد برامج اجتماعية بل للنجاح في انجاز تطور سريع ومستقل وحتى على الضد من رغبة الدول الاستعمارية آنذالك والتي كانت تسيطر على الوطن العربي.
ان البرجوازية الصغيرة (صغار التجار- باعة مفرق- حرفيون- موظفون بالدولة-فلاحون صغار....) , في مواجهة هذه المهمة لم ترى أية امكانية سوى الدولة كرافعة تحديثية, عبر سياسة التأميمات والتصنيع والاستثمار في قطاع انتاج وسائل الانتاج, فالدولة كأداة للتحديث والهيمنة هي التي كانت في مخيلة هؤلاء اليساريين المنحدرين بأغلبيتهم من أبناء البرجوازيات الصغيرة والمهددة بشكل دائم أمام تحديث على النمط الرأسمالي القح (ان حدث) أو المبعدة والمدمرة من خلال عملية التطور الرأسمالي التبعي الحاصل في بلادنا, فهم كأبناء بلدات صغيرة سيبعدون تحت وطأة ملكية الأراضي الكبيرة واستثمارها الرأسمالي مع انعدام فرص عمل حقيقية في المدن, حيث الرأسمال الكومبرادوري, فلا توجد صناعة تدمجهم, بل حتى الصناعات الصغيرة والحرفية مهددة بالتدمير تحت وطاة المنتج الأجنبي
هذه الطبقة الوسطى المرتبطة سابقا مع أشكال انتاج قبل رأسمالية والتي ستتعرض للتدمير مع ادخال المجتمع العربي في السوق العالمية وبالتالي ادخال علاقات الانتاج الرأسمالية في صلب هذا المجتمع أدى الى تدمير للعلاقات السابقة, أو اثر عليها بشدة فالغياب السابق للملكية الخاصة خارج المدن زالت لتحل مكانها الملكيات الكبيرة المرتبطة بكبار رجال الدولة , وشيوخ العشائر وكبار رجال الدين, ولتحل ايضا الزراعات الرأسمالية المعتمدة على زراعة محصول نقدي واحد محل زراعات الكفاف ولتبعد بالتالي المزارعين الفقراء الذين بلا أرض باتجاه المدينة أو لتجريدهم من الحيازات الصغيرة التي كانوا يملكونها, وتضعف من موقع الفلاح في العلاقة مع المالك الكبير.
الطبقة الوسطى هذه هي التي ستشكل الرافد الأساسي للحركة الشيوعية كما للحركة القومية العربية وفيما بعد الحركة الاسلامية , حيث ان الشيوعيين في بغداد "وجدوا واحدة من أكبر وأرسخ قواعد تأييدهم خلال الأربعينيات في محلة باب الشيخ, مركز صناعة النسيج اليدوي, التي كانت مزدهرة ذات يوم..... وأن جل الدعم الجماهيري الذي ناله الشيوعيون أيام الوثبة, أو خلال "المد" عام 1995, أو في ايام انقلاب شباط 1963 المريرة, جاء من "شروك" بغداد, نعني الفلاحين القبليين المهاجرين من لواء العمارة, الذين تدهور نمط معيشتهم بفعل العلاقات الزراعية الجديدة, واستخدام مضخات الري من جانب ملاك الكوت وبغداد استخداما غير مقيد..ونجد أيضا أن لا أقل من 32% من اجمالي عضوية اللجان المركزية للحزب الشيوعي خلال سنوات 1955-1963, كانوا من السادة الفقراء, أو من أبناء البلدات الأقليمية الصغيرة, التي تدهورت اقتصاداتها القديمة بفعل القوى الناجمة عن خضوع العراق للسوق العالمي. حنا بطاطو, التحليل الطبقي والمجتمع العراقي, النهج العدد 61,ص85)
ان هذا التغيير الاجتماعي السريع والحاد أفرز متضررين فقدوا الميزات الاجتماعية التي امتلكوها سابقا, والتي لم تكن أصلا كبيرة, ودفع قسم كبير من البشر باتجاه المدينة مشكلا بنى طبقية شديدة الميوعة بارتباطاتها السابقة ومواقعها الجديدة, هي التي ستشكل الخزان البشري للحركة الشيوعية. ان الغياب الموضوعي للطبقة العاملة, أو ضعفها الشديد هو الذي سيجعل من الأحزاب الشيوعية أحزاب ذات بنية طبقية شديدة التنوع (أو متعددة التركيب الطبقي), معبرة عن برجوازية صغيرة, حتى لو أكدت دوما عن تمثيلها للطبقة العاملة, والتي كانت في حال وجودها, ولو الضعيف والمرتبط بصناعات حديثة ولم تكن ذات جذور فلاحية مباشرة, تنخرط في نضال نقابي وشيوعي فعال(الاسلام والسياسة والحركات الاجتماعية, الفصلان10,11, مكتبة مدبولي 2000)
وعلى الرغم من أن مهدي عامل سيربط بين البرجوازية الصغيرة والحركات القومية العربية وتاليا مع الأنظمة العربية في مصر وسوريا والعراق, ويؤكد فيما بعد على ضعف راديكاليتها وبالتالي بأنها ستفتح الطريق أمام الطبقة العاملة لاستلام قيادة الحركة الثورية عبر طليعتها الحزب الشيوعي, الا انه لم يوضح طابع الضرورة التاريخية على مايبدو لهذه الانظمة والمتمثل بانجاز التصنيع, وبالتالي ايجاد الطبقة العاملة المدعوة لاستلام قيادة حركة الثورة العربية, هذا الغياب الذي رأه عامل بكل وضوح هذا من ناحية, اما من الناحية الأخرى فما لم يراه عامل, هو ان التكوين ذاته يملكه الحزب الشيوعي, بل نستطيع القول أن الحزب الشيوعي أضعف من تأثيره تبنيه لخطاب موجه للطبقة العاملة, في الوقت الذي كان هو حزبا للطبقة الوسطى ويتجه في عمله السياسي الى الطبقة الوسطى(12)
هذا التشابه الطبقي بين الأحزاب الشيوعية والأحزاب القومية العربية, عبر عن نفسه بثقاطعات كبيرة على صعيد البرنامج السياسي القائم أساسا على التقدم على قاعدة القطاع العام, وتضخم الدولة المستوعبة لكم هائل من الموظفين, وانجاز التصنيع السريع, وتقديس قيم الانتاج والتضحية والعمل الدؤوب والنشيط.
ان هذه الطبقات الوسطى لا تملك تجانس كبير أو حتى وعي طبقي خاص يجمعها, مما يضعف امكانية فعلها السياسي التغييري والذي يحتاج الى وعي حاد لمصالح مشتركة. بينما هي متضررة من اندماج المجتمع في السوق العالمي, وهي ايضا متحدرة من مواقع متغايرة, لهذا شكل الجيش عامل جوهري للتغيير في الوطن العربي كونه المكان الوحيد الذي استطاعت الطبقات الوسطى أن تخلق لنفسها هوية في اطاره لا يمكن للمجال السياسي الطبيعي أن يعطيها اياه الآ كشكل احتجاجي وناقم, والتغيير عن طريق الجيش لم يقتصر على القوميين العرب انما تعداه للحركة الشيوعية الوحيدة التي استلمت السلطة السياسية وهو الحزب الشيوعي السوداني.
* * *
ان استعراض تجربة الحزب الشيوعي السوداني هام, فقد بدأ متأخرا وعبر مثقفين عائدين من دراستهم الجامعية في القاهرة, وهذا الحزب مع تطوره السريع وتقدمه فانه لم يستطع ان يتواجد الا في أوساط الطلبة والمثقفين ومزارعي الجزيرة والعمال, اي قوى حديثة ولكنها لم تكن لتشكل الا أقلية في الوسط السوداني العام, فالحزب لم تكن أمامه اشكالية بناء الاشتراكية, بل الدولة الحديثة والهوية الوطنية السودانية, والهزيمة التي الحقت به كانت على يد قوى عشائرية وطائفية ومناطقية, ان دمج المجتمع السوداني في السوق العالمي تأخر ولم يصب أيضا كامل مناطق السودان, ولكنه كان كافيا في العديد من الأمكنة لدرجة ايجاد قوى حديثة متجاوزة لأشكال التنظيم الاجتماعي السابقة, ومتناقضة معها.
ان هذه القوى والقاطنة في المدن, والتي تملك ثقافة متجاوزة للطوائف و الأقاليم المحلية, سترى نفسها مرتبطة بمشروع الدولة و الذي بدأ مع المهدي كهوية تتجاوز الأنتماءات ما دون الوطنية, ان التنوع العرقي والديني والطائفي في السودان وايجاد طبقة عاملة متقدمة وان كانت صغيرة, أفسح مجالا للحزب الشيوعي السوداني للظهور كقوة حداثية على الساحة السياسية, وليس فقط كقوة اشتراكية, ان هذا التداخل بين مهمة بناء الدولة و الاشتراكية كطريق للتحديث هو الجوهري والمميز للاشتراكية العربية, وحتى لكل اشتراكيات العالم الثالث.
ان ضعف القوى الحديثة في السودان, لتأخر اندماجه في السوق العالمي(وهذا لا يعني ان السوق ذو دور تحديثي, انما انه يدخل عوامل, ويخلق قوى جديدة ويهمش أخرى مغيرا السياق الطبيعي للحياة كما في السابق, وهو في الكثير من الأحيان سيكون له دور كارثي) وهذا ما عبر عنه أولا الاتقلاب العسكري الذي أوصل الحزب الشيوعي الى السلطة في السودان لأيام معدودة.
ربما تكون تجربة الحزب الشيوعي العراقي هي التجربة الأهم على الصعيد العربي, فهو حزب حقق جماهيرية ملفتة وكاد ان يستلم زمام السلطة لولا التدخل السوفياتي آنذاك.
فعند تشكل الحزب عام 1935 كان أربعة عشر من أصل ستة عشر عضو رئيسي للمجموعات التي شكلت الحزب, من أبناء الطبقة الوسطى,وكانت الكتلة الأساسية للحزب فيما بعد من الطلاب, فعندما بلغ عدده الاجمالي 1832, فان 27,6% كانوا من الطلاب, و9,1% من العمال
وفي الفترة من 1949- 1955 زادت نسبة العمال في اللجان المركزية الى 28,1%, والفلاحين الى 15,6%, و32% من السادة, اما المهنيون الاختصاصيون فشكلوا 47,2%.
ان هذا يدل على حزب ذو بنية طبقية شديدة التنوع ومرتبطة بالمدينة, أي سمات واضحة لحزب معبر عن الطبقة الوسطى, وان كان هناك حضور عمالي قوي, هذا الانجاز الخاص للحزب الشيوعي العراقي والمتمثل بنجاحه في دمج مهمات الثورة الوطنية الديمقراطية, وتحقيق العدالة.
ان الانغراس الذي حققه الحزب في أوساط اجتماعية واسعة (وضمن الطبقة الوسطى كقوة كبرى) كان على خلفية التنوع العرقي للمجتمع العراقي, وايضا على خلفية غياب مد قومي, قام الحزب الشيوعي بتعويضه, بعد هزيمة ثورة عالي الكيلاني, وفشل الأحزاب الليبرالية أمام مهمة تحقيق الاستقلال وفشل الحكم الملكي امام مهمة التوحيد القومي للعراقيين, عبر تجاوز الانتماءات الاثنية والطائفية, وبناء الدولة الحديثة.
فقد تقدم الحزب الشيوعي العراقي ببرنامجه الذي نجح بشكل مذهل في استقطاب الشارع العراقي, فالأقليات تجاوزوا وضعهم عبر برنامج توحيد وطني ديمقراطي (وحتى خيار الانفصال للأكراد), وهذا استمرار للمشروع القومي العربي لمسيحيي النهضة في سوريا ومصر, وأبناء البرجوازيات الصغيرة الدينية لتحرير البلاد وبناء الدولة الحديثة, والتصنيع والتأميم , كما ضم أبناء الريف عبر مشاريع للاصلاح الزراعي.
ان ارتباط الحزبين بمشاريع الدولة الحديثة هو السبب الأساسي لتقدمهما وامتلاك الصدارة, في الوقت الذي ستترك هذه المشاريع للأحزاب القومية العربية في سوريا ومصر, هذا لا يعني أن الأحزاب لم تعبر عن تلك البرامج بل على العكس تماما, ولهذا سيدعم الشيوعيون المصريون عبد الناصر من سجونه, لكن الأحزاب القومية كمعبرة أكثر مباشرة عن الطبقات الوسطى هي التي ستتولى قيادة الحركة الثورية العربية, كحركة ناشئة عن قوى جديدة نشأت عن طريق اندماج المجتمع العربي في السوق العالمية, وقوى تضررت من هذا الاندماج, هذه الكتلة (الطبقات الوسطى أساسا), لن تملك الا مشروع واحد وهو التحديث عن طريق الدولة, وكذلك الهيمنة عن طريق الدولة.
يمكن القول ان اليسار العربي هو احدى الاجابات على التحدي الأوربي الذي وضعنا أمامه منذ احتلال نابليون لمصر, وهوليس اجابة الفقراء والفلاحين والعمال حصريا كما يحاول أن يصور نفسه, بالتأكيد هو يعبر عن هم اجتماعي حقيقي بهؤلاء البشر وحضورهم داخله كان جليا, لكنهم لم يكونوا الأكثرية ولا حتى القيادة, فالمحرك الرئيسي لليسار العربي كان التحديث وليس بناء الاشتراكية.
* * *
هل فشل اليسار؟
لا أبدا , اليسار العربي توفي, ليس لفشله, انما لأنه انجز المشروع الذي قدم نفسه كحامل له, صحيح أن هذا المشروع لم ينجز عبره ولكنه أنجز عبر استلام السلطة من قوى أخرى تحمل ذات المشروع , صحيح اننا لم ندخل نادي الدول الحديثة ولا حققنا التصنيع ولا الهوية الوطنية ولا الاستقلال الحقيقي,لكن هذا العيب ناتج عن طبيعة المشروع نفسه, وطبيعى حامليه ايا كانوا,فالمشروع لم يكن واضحا لدى حامليه, فلا الحركة القومية العربية كانت واضحة تجاه مقدماتها, فالقوميون يتلمسون يكتشفون, ويخطئون, وبالنتيجة كانوا دوما متأخرين,"كانت الظاهرة الأساسية في التجارب الثلاثة(عبد الناصر, بن بركة, بن بلا) العجز الايديولوجي او بكيفية ادق تخلف الذهنيات عن الأوضاع الاقتصادية- الاجتماعيى العامة......وكل سياسة "علمية" لا تستقر في الامد الطويل الا على اساس التوضيح المتواصل, لكن السياسة "الآنية" لها متطلبات غير متطلبات التحليل العلمي الذي لا ينتهي ابدا" (العرب والفكر التاريخي, العروي,ص19)
اما الاشتراكيون فراديكالية خطابهم ووسطية فعلهم وتبعيتهم وتجاهلهم المطلق لحقيقة مشروعهم جعلتهم لايصلون, فكل من هذين التيارين لم يكن سوى اجابة واحدة على سؤال واحد وبتنويعات مختلفة.
اليسار لم يفشل للنواقص السابقة, على أهميتها, بل لعدم وضوحه ولعدم ادراكه ادوره الحقيقي والتاريخي, فشل اليسار لم يأتي على الصعيد العربي الا متوافقا مع فشل عبد الناصر- وتقدم اليسار بعد 1967 ليس سوى فورة سرعان ما انتهت- اي مع الفشل النهائي لهذا المشروع التحديثي الذبي حمله عبد الناصر, هذا الفشل المستمر الذي نحياه لا يتعلق بالعامل الذاتي وحسب أو بالعامل الموضوعي (وان كانت هناك اسباب موضوعية شديدة الصلابة) بل بالعلاقة بينهما وفعليا بفكرة الذاتي والموضوعي نفسها, وهذه الرؤية ليست تحليلا ولا اكتشافا علميا, لأننا ان كنا نرغب باعادة المشروع اليساري, فسوف ننطلق بالنقد من أنفسنا ومن التسليم بفرضية (التسليم بمعناه الحرفي) قدرتنا على تغيير الواقع بالشكل الذي نراه, عبر الواقع ذاته.
هذا افتراض لا يمكن اثبات صحته, لكنه ضروري, لأنه لا يمكن العمل بدونه, وهنا يتوجب علينا تحديدا الوضوح (الحقيقة دائما ثورية كما يردد ياسين الحافظ) الوضوح أمام أنفسنا, وتجاه مقدماتنا وبشكل صريح, وليس تحت ألفاظ وشعارات, ان قدرتنا على الوضوح والصراحة ستمنحنا القردة على الوصول الى النتائج بشكل منطقي ليس عبر قفزات, ونتيجة لاكتشافات متأخرو عبر تراكم الأخطاء, ان قدرتنا على فك رموز تفكيرنا واستيعاب آلياته ومقدماته ونهاياته التي نريد, هو ضرورة مطلقة,كما هي ضرورية تماما توضيح افتراضاتنا ومسلماتنا, ان التقدم عبر التجريب والاكتشاف خطر بشكل خاص وهذا ما دفع ثمنه بشكل باهظ عبد الناصر, ان تطور فكر عبد الناصر هو حصيلة تطور عبد التاصر من حرب فلسطين حتى وفاته ,لم يتوقف عن التطور, لكنه كان دائما مدفوعا بقوة الأحداث, يكتشف الفساد بهزيمة فلسطين, والامبريالية بالسد العالي, والتأميم والاشتراكية مع رفض البرجوازية المصرية تمويل التصنيع, دائما متأخرا لكنه بقي يتعلم لكن في النهاية كانت الهزيمة, كنا نرغب بالاستقلال والتحرر مع عبد الناصر, كان يعرف ماذا يريد لكنه لم يكن يدرك كيف ينجز ماذا يريد.
المطلوب اليوم هو تجاوز هذه الأزمة, ان نسهم بانجاز ماركسية عربية تطرح على نفسها أولا المهمات التي تواجه المجتمع العربي وثانيا ان تكون واضحة تجاه فرضياتها, وكيف يتم انجاز مشروعها.
ام مسألة انجاز القطيعة مع الوضع الحالي كوضع متخلف هو الذي يفرض علينا برنامجنا, القطع مع التخلف( وهو رأسمالي بامتياز) وانجاز التطور السريع واللحاق هي المهمة التي ستبقى مطروحة مهما حاولنا من اضفاء للمسميات عليها, المطلوب ان نتبناها بوضوح وبانسجام حتى التهاية, فالاشتراكية لا تعني المناداة الجوفاء بالتزام جانب المقهورين, انما هي العمل الجدي كي لا يكونوا مقهورين, العمل لاجتياز التخلف الذي لايمكن ان يتم الا عبر هؤلاء المقهورين ولمصلحتهم ايضا, وايضا عبر نقد وعيهم, هذا الاجتياز للتخلف هو الابداع الذاتي, فالذات سوف تختزل التاريخ, تضغطه.
هنا تكون الرافعة ممثلة بالشعب, فكسر هوة التخلف لا يمكن ان تتم الا عبر مشروع شعبي, ومن هنا يجب علينا ان نعيد تحديد علاقة الحزب بالشعب, فالمطلوب ليس وحسب حزب ديمقراطي كما يقولون هذه الأيام, اوطليعي كام قالوا في تلك الأيام, بل حزب (او احزاب) من نوع خاص, حزب يحقق الهيمنة, يعيد تشكيل الضمير الأخلاقي للشعب ووعيه بذاته "فان بنية هذا العمل (الأمير الحديث- الحزب) يجب أن تتشكل من هاتين النقطتين الاساسيتين: نشوء الارادة الجمعية القومية- الشعبية التي سيكون الأمير الحديث لها بمثابة المنظم وبمثابة التعبير العملي الفعال في وقت واحد, ومن جهة اخرى الاصلاح الثقافي والاخلاقي. (الامير الحديث, غرامشي, الطليعة 1970, ص26- 27)
وطبعا هذا لن يكون عبر أدعاء أجوف بالطليعة, لمجرد قراءة ماركس او لينين, انما لانغراسه بالمشروع المتمثل بتطلعات الشعب, فكونه ضمير الشعب ووعيه لا يكون الا عبر الممارسة التي تجعله كذلك, فهذه المسألة ليست موضوع ادعاء انما انجاز وفعل ولهذا عليه ان يتخلى عن اي ادعاء بالطليعة او الوعي والعلمية, فنحن لسنا في مخبر تجارب, هذا الحزب هو تكثيف للفعل السياسي للشعب في لحظة تاريخية لانجاز امر تاريخي وهواعادة بناء الذات, ولهذا لن يكون له وجود في حالات اخرى فقط في لحظات التحول واعادة البناء, لحظات تغيير التاريخ, ونحن الآن مدعوون وحصرا لتغيير التاريخ ان اردنا اعادة دخوله, اعادة بناء الذات والعالم.
وهذا الاقدام هو في آن تجاوز للذاتي والموضوعي, هنا لانكون في لحظتين منفصلتين انما في خلقهما المستمر والمشترك.
الهوامش
1-وكمثال عليه موقف عطية مسوح من الانتقال الى الاشتراكية وان ماركس تحدث عن الانتقال السلمي للاشتراكية ويستشهد بنص لماركس لكن هذا يبقى دون فائدة, فالسيد عطية مسوح لم يفعل الا ما فعله من هاجمهم وأخذ عليهم النصية والجمود, فآليات العمل السياسي لم تكن نتيجة تحليل انما نص آخر لماركس وان كان هذا النص سابقا من النصوص الغائبة, وكذلك قضية الديمقراطية وتطور الاشتراكية من رحم الرأسمالية ويمكن الاطلاع عليها في عملي عطية مسوح, الماركسية من فلسفة للتغيير الى فلسفة للتبرير, والماركسية وأسئلة العصر_دار الينابيع.
2-هذه الموضة شاعت جدا فلينين احيانا فوضوي, او كان أبا لستالين اما ماركس فهو الديمقراطي والعقلاني والبعيد عن الفوضوية. وهناك أمثلة كثيرة ويمكن مراجعة أعداد الطريق لأجل مقاربات متنوعة ضمن هذا التيار
3- كنموذج عن فكرة التناقد بين أفكار ماركس كما نقرأها والدولة السوفياتية, يمكن اعتبار كتاب ماركسية المستبقل للدكتور رفعت السعيد (دار الأهالي), فالماركسير براء من كل التهم للتناقض الفاضح بين ما دعا اليه ماركس وما صنعته الدولة السوفياتية, وايضا هذا التحليل هو اعفاء للنفس أكثر من كونه تحليل واقعي فكأن الاشتراكية القادمة ستسير على الملاحظات التي تركها ماركس وتكون صحيحة بقدر ما تعكسها, اما الواقع وتأثيره وحتى واقعية افتراضات ماركس وامكانية تحققها عيانيا فهي كلها مبعدة.
4- وهذه لحد كبير هي مقاربة الأستاذ كريم مروة في أعماله المنشورة في مجلة الطريق.
5-العلاقة بين الماركسية والديمقراطية أسالت حبرا كثيرا وغالبا ما جاءت بنتائج متواضعة جدا واصبح السعي لتحقيق التوافق وعدم التناقض بينهما هدف لكل ماركسي , واظهار التناقض هدفا لكل مغادر او معارض والمشكلة ان النتيجة كانت دائما مضمرة منذ البداية, اما فيما يتعلق بالأحزاب فالموضة الديمقراطية لحقتها جميعا وكثيرة ما انتهت بانشقاقات ديمقراطية ولكن لم يتغير شيء تحت السماء.
هن أفضل مل كتب عن هذا الموضوع دراسة لجاك تكسيه,الثورة والديمقراطية في الفكر السياسي لماركس وانجلز, النهج, العدد46
6- الأمثله هنا لاتكاد تنتهي كالعفيف الأخضر باتجاه اليبرالية بأكثر نسخها تطرفا أو محمد عمارة باتجاه الاسلام السياسي
7-تشكل مقاربة المغاربة السياسية والتحليلية حالة استثنائية (وحتى فكريا) على مستوى الحزبي او الفردي ويمكن لقراء الحوار المتمدن الاطلاع على الأعمال المميزة لكل من محمد الحنفي, اديس ولد القابلة, آمال الحسين ومصطفى عنترة, ومن الأعمال الجيدة في التحليل والجهد المبذول عمل لمنظمة 23مارس, مناقشات حول تطور المجتمع المغربي, دار ابن خلدون, دليل المناضل
8-عن النشوء التاريخي للاشتراكية الحديثة وعلاقتها مع الطبقة العاملة والثورة الصناعية يشكل كتاب التاريخ العام للاشتراكية, وزارة الثقافة السورية, مصدر ممتاز وكذلك لكامل الفترة المدروسة حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية
9- كانت مسألة الطبقة الثورية المسألة المفصلية لجميع الماركسيين خارج أوربا وقد عالجها الأستاذ جورج طرابيشي في كتابه" الاستراتيجية الطبقية للثورة,دار الطليعة" كما ظهرت عند كبار الماركسيين من ماركس حتى ماو, مرورا بلينين و تروتسكي.
10- هذا واضح من الدور الكبير للأجانب في نشوء أغلب الأحزاب الشيوعية, ويبدو واضحا من السيرة الذاتية لأول ماركسي عراقي وهو حسين الرحال وهو ابن عائلة متوسطة الحال, ابوه ضابط يتقن عدة لغات أجنبية (الألمانية والانكليزية والفرنسية والتركية) تعرف الى الاشتراكية عندما كان في المانيا حيث عاصر ثورة 1918, وعندما عاد الى العراق بدأ بنسشر الفكر الاشتراكي عبر المجلات والحلقات, ولكنه لم ينارس السياسة وكان يحمل تعاطفا كبيرا مع الفقراء والكادحين, وكذلك سلامة موسى وشبلي شميل في مصر كمثقين تعرفوا على الاشتراكية عن طريق التثاقف مع الغرب.
11- لمناقشة ممتازة لموضوعة الوحدة والقضية القومية تشكل أعمال ياسين الحافظ افضل مرجع, وهو الموضوع الذي أعطاه الكثير من عمله وجهد
12-مقدمات نظرية, مهدي عامل, دار الفارابي 1990
مع عمل مهدي عامل السابق وأعمال ياسين الحافظ لابد من ذكر أعمال عبد الله العروي الهامة وخاصة كتابه العرب والفكر التاريخي
#موريس_عايق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟