خليل كلفت
الحوار المتمدن-العدد: 3847 - 2012 / 9 / 11 - 09:11
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
فيديريكو مايور
بالاشتراك مع
چيروم بانديه
عالم جديد
الجزء الثالث
ترجمة: خليل كلفت و على كلفت
بمساعدة
جان ـ إيڤ لو سو، رانيار جيدماندسون، وفريق مكتب اليونسكو للتحليل والتقديرات المستقبلية
هذه ترجمة لكتاب
Un Monde Nouveau
par
Federico Mayor
Avec la collaboration de
Jérôme Bindé
صدرت الطبعة العربية الأولى عن دار النهار للنشر، بيروت
بالتعاون مع منظمة اليونيسكو
2002
ترجم خليل كلفت
المدخل والفصول من 1 إلى 6
والفصول من 13-16 والفصول من 18-20 والخاتمة
وترجم على كلفت
الفصول من 7-12 والفصل 17
المحتويات
الجزء الأول
مدخل ........................................................................
1. نحو عقد اجتماعي جديد ..........................................
1: السكان: قنبلة زمنية؟ .........................................................
2: فضيحة الفقر والحرمان ......................................................
3: تغيير المدينة يعني تغيير الحياة ...............................................
4: مستقبل وسائل النقل الحضري: أكثر أمانا، أكثر نظافة، أكثر قربا ..............
5: النساء يحركن العالم ..........................................................
6: النضال ضد المخدرات: التعليم والتنمية والبحث عن معنى .....................
الجزء الثانى
2. العقد الطبيعي للمستقبل:
العلم والتنمية والبيئة .................................................
7: أن ننمو مع الأرض ..........................................................
8: الصحراء تنمو ...............................................................
9: هل ستظل المياه جارية؟ ......................................................
10: هل سيكون الطعام كافيا للجميع؟ ............................................
11: إطعام البشرية بفضل البيوتكنولوجيات؟ .......................................
12: نحو "ثورة فعالية الطاقة" .....................................................
الجزء الثالث
3. نحو عقد ثقافي:
من مجتمع المعلومات إلى مجتمع المعرفة ...........................
13: ثورة التكنولوجيات الجديدة: المعلومات والاتصالات والمعرفة ..................
14: أيّ مستقبل ينتظر الكتاب والقراءة؟ ..........................................
15: تراث مهدد بالانقراض: اللغات ...............................................
16: التعليم على مشارف 2020: عن بُعْد أم بدون بُعْد؟ ..........................
الجزء الرابع
4. نحو عقد أخلاقي جديد ............................................
17: هل ستحدث "المعجزة الأفريقية"؟ .............................................
18: عائدات السلام والأمن العالمي ..............................................
19: أيّ مستقبل لمنظومة الأمم المتحدة؟ .........................................
20: من أجل ثقافة سلام .........................................................
خاتمة: في سبيل أخلاق للمستقبل .....................................
إشارات ......................................................................
فريق إعداد "عالم جديد"...................................................
شكر وتقدير...................................................................
القسم الثالث
نحو عقد ثقافي:
من مجتمع المعلومات إلى مجتمع المعرفة؟
13
ثورة التكنولوجيا الجديدة:
المعلومات والاتصالات والمعرفة
وفقا لأغلب الخبراء، يشكل الانتشار الواسع للتكنولوجيات الجديدة للمعلومات والاتصالات ثورة حقيقية. غير أن الآراء تتباعد فيما يتعلق بمدى طبيعة هذه الثورة. وفي نظر بعضهم، لا ينبغي أن نرى فيها سوى مجرد انقلاب تقني لا يتطلب، رغم آثاره الاقتصادية والاجتماعية الجلية، سوى تهيئة للأطر السياسية والتشريعية والتنظيمية. وهي في نظر آخرين، قطيعة رئيسية في الحضارة، تضارع في أهميتها ظهور الألفباء، أو اختراع المطبعة، أو بدء الثورة الصناعية: في نهاية المطاف، يمكن أن ينطلق مجتمع جديد من هذه الدوامة الاجتماعية والثقافية والسياسية التي غرقنا فيها منذ الآن.
على أن كل الآراء تتقارب حول نقطة: إن ثورة المعلوماتية مصدر انقلابات اقتصادية واجتماعية وثقافية لم يسبق لها مثيل، بدأنا فقط في إدراك كل مداها. ووفقا للاقتصادي دانييل كوهن ([1])، تشكل هذه الثورة القوة المحركة وراء "ثورة صناعية ثالثة" سوف تؤثر ليس فقط على طبيعة وتنظيم العمل، بل أيضا على شروط العقد الاجتماعي والفوارق القائمة الآن في مجال التنمية. فهل تمثل هذه الثورة الصناعية الجديدة مقدمة "لعصر جديد من عدم المساواة"([2])، "لعصر جديد من العزل"([3])؟ وهل ستتم ترجمتها، على المستوى العالمي إلى زيادة التفاوت بين البلدان الغنية والبلدان النامية؟ وهل ستتضاعف الانقسامات داخل المجتمعات نفسها وداخل كل مجموعة اجتماعية مهنية، نتيجة لمنطق "التقسيم التمييزي الانتقائي" appariements sélectifs([4])؟ إن التحدي ليس اقتصاديا أو تجاريا فقط: إنه يجعل من الضروري إعادة التعريف لعقد اجتماعي على المستوى العالمي. وهو يقتضي، إعادة تفكير في دور دولة الرفاهية، كما يشدد إيثان كابشتين([5])، ولكن أيضا في دور مؤسسات اجتماعية أساسية، منها المدرسة. ويجب أن تغدو "الثورة الصناعية الثالثة"، التي تشكل القوة المحركة "للعولمة" الجارية، لخير الجميع: سوف يتوقف نجاحها على قدرتنا على تضييق عدم المساواة بين البلدان وداخل كل بلد. وسوف تحتاج بالضرورة إلى جهود اقتصادية رئيسية، ولكن أيضا إلى استثمارات كبيرة لصالح التعليم والتدريب([6]). وسوف تتيح هذه الجهود والاستثمارات، في الأجل المتوسط والطويل، تضييق الفوارق وردم الفجوات القائمة التي تشكل تهديدا بالغ الخطورة على السلام والأمن الدوليين.
الرقمية والتفاعل ونماذج المحاكاة بالحاسوب والواقع الافتراضي
يمكن القول إن صناعات المعلوماتية، والاتصالات البعيدة المدى، والبث التليفزيوني، هي الآن في طريقها إلى التلاقي. واليوم صار من الممكن إرسال البيانات، والأصوات، والصور، بسرعة بالغة باستخدام نفس طرق التشفير الرقمي للإرسال. ولهذا ينبغي أن نتوقع زيادة هائلة في طاقة التخزين والبث، التي ستتضاعف إلى عشرين ضعفا خلال الأعوام القليلة المقبلة، بفضل الضغط الرقمي. وسوف تكون الثقافة، بل أيضا الثقافات، متاحة في المسكن، لدى المرء، بفضل جهاز واحد متعدد الوظائف يؤدى في وقت واحد وظائف تليفون، وفاكس، وتليفزيون، ومسجِّل فيديو، وقارئ أقراص الليزر الممغنطة (سي دي)، وكمبيوتر. وربما كان التلاقي في نظام للتشفير والمعلومات والاتصالات والمعلوماتية (المعالجة الآلية للمعلومات)، الحدث الثقافي الأهم لنهاية القرن العشرين. وكما يلاحظ خابيير پيريث دى كويار Xavier Pérez de Cuéllar، فإنه "منذ أن يركز مجتمع على التصورات أكثر من الوسائل المادية للإنتاج، منذ أن يصوغ الرموز أكثر مما يصنع الأشياء المادية، فإن هذا المجتمع يدخل في مجال الثقافة ـ وذلك بوسائل صناعية"([7]).
وتتميز ثورة الاتصالات والمعلومات قبل كل شيء بتطوير لغة عالمية: الرقمية. وللتصور الرقمي مزايا حاسمة على النظم الأخرى للتصور: عمومية التشفير، والنسخ بصورة لا نهائية بتكلفة حدية لا تذكر، والتوفر في كل مكان، والفورية. ومن الآن فصاعدا، يمكن تصور كل النصوص والصور والأصوات بنفس الشكل العام لسلسلة من الأعداد. ومن هنا عدة مزايا نوعية: دوام التسجيلات، وطرق جديدة لحفظ الملفات والملاحة، ومحو الحدود بين مختلف أنواع البيانات والوسائل، والوصول الفوري من وإلى كل مكان، والفهرسة الدقيقة عن طريق "الوسائط الذكية"، مما يسمح باستشفاف إمكانية وضع "كل ذاكرة العالم" في صورة رقمية.
ومع تطوير وَصْلات بينية interfaces جديدة، تظهر أيضا حركات جديدة: أوضاع جسدية تشجع مختلف أنواع "التفاعل" بين الإنسان والآلة، ولكن أيضا طريقة للربط بين المعلومات، وللملاحة "في" داخلها، وبالتالي لاستخلاص حدوس جديدة. وفيما وراء لغة الإشارات الجسدية هذه، ينبغي أن نذكر التحولات النفسية التي تحفزها الثقافة الإلكترونية وانتشار عادات إنترنت حميمة([8]). وبفضل تنوع تقنيات نماذج المحاكاة بالحاسوب (التي توصف بأنها "تجارب فكرية") يظهر استكشاف heuristique جديد، وبكلمات أخرى علم للاكتشاف يستفيد أقصى استفادة بـ "أصغر العوالم" التي تسمح النماذج الرياضية والمعلوماتية بخلقها. وعلى هذا فإن ثورة الاتصالات يمكن أن تقود إلى ثورة في الفهم، كما يمكن أن تقود ثورة المعلومات ـ بافتراض وجود الوقت اللازم لإمعان التفكير ـ إلى ثورة في الذكاء.
غير أن إضفاء الطابع الرقمي والرياضي على الواقع لا يحدث بدون خسائر: تضعف علاقة أنطولوجية ما بالواقع مما يسمح بانحرافات عديدة، تعطينا التلاعبات بالصور والتزويرات الإلكترونية فكرة أولى عنها. غير أن تعميم التصورات الرقمية يشجع، بصورة خاصة، على نوع من الخلط بين الحقيقة والخيال، بين الطبيعة والصنعة، بين الواقع وتصور ما نعتقد أنه الواقع. إنه يشجع على التلاعب بالشفرات، والصور، والرموز.
والواقع أن الاندفاع الذي لا يقاوم للتقنيات "الفورية" du temps réel، وتطور تقنيات الواقع الافتراضي réalité virtuelle، و"الواقع المتزايد" réalité augmentée، و"الواقع الافتراضي التفاعلي الفائق الأداء" télévirtualité و"الحضور عن بعد" téléprésence، يخلق شروط ظهور ما يمكن أن نسميه حالة جديدة من الواقع: الافتراضي le virtuel. وتقترن هذه الظاهرة بخطر جديد: وماذا إذا صارت التكنولوجيا "الجنة المفتعلة الجديدة للذكاء"، إذا اقتبسنا جان بودريار؟ وماذا إذا صارت التكنولوجيا السلاح السري "لجريمة كاملة"([9])ـ اختفاء الواقع في عالم إلكتروني من المحاكاة بالصور؟ ثم ألا يخاطر عقل الإنسان أن يغرق في إدمان الافتراضي du virtuel، في دوار هلاوس كون "ثلاثي الأبعاد" يضاعف العالم الواقعي؟
ولا ينبغي أن ينسينا عالم "الافتراضية" الجديد أن علينا أولا وقبل كل شئ واجب أن نعرف تعقيد الواقع وأن نعترف به، لكي نستطيع تحويله، وأن نأخذ في اعتبارنا طابع العمومية والاتجاه الواحد للظواهر. أما أولئك الذين لا يعرفون سوى "تصور" واحد عن الواقع فإنه محكوم عليهم بأن لا يحولوا إلا ذلك التصور، ولكن ليس الواقع الذي يشكل أساسه.
غير أن "الافتراضي" لا يساوى اللاواقع l irréel([10]): إنه تصور يتيح لنا التأثير في الواقع إلى هذا الحد أو ذاك من الفعالية. والحقيقة أن العوالم الافتراضية أو المجتمعات البشرية الافتراضية تملك على طريقتها واقعا بعينه، وفعالية بعينها، وقدرة إجرائية. وهي تميل إلى محو الحدود بين مختلف مستويات الواقع. وتبدو ثقافة جديدة تقوم على الصور ونماذج المحاكاة بالحاسوب ضرورية من الآن فصاعدا ليعرف المرء طريقه بين خفايا التصور الرقمي. ولا شك في أن هذا ملحّ جدا لأن هذه الثقافة صارت لغة مشتركة lingua franca حقيقية نتيجة لثورة الشبكة.
وبالمقابل، يجب أن تشجع السياسات الثقافية في المستقبل إحياء نشاط ثقافي مستقل، فردى أو جماعي، لتفادى أن تقود حضارة الافتراضي إلى مجتمع نماذج معممة للمحاكاة بالحاسوب، يقوم على الإفراط في استهلاك منتجات ثقافية موحدة قياسيا. وبطبيعة الحال فإن كل كائن بشرى، في كل لحظة من وجوده، فريد. والحقيقة أن هذا التنوع اللانهائي وهذا الطابع الفريد يمثلان ثروتنا. أما إضفاء طابع التماثل فإنه يعنى تراجعا ينطوي على عواقب مفزعة على إنسانيتنا.
من الثقافة الإلكترونية إلى الأخلاق الإلكترونية
يثير انتشار التكنولوجيات الجديدة آمالا كبيرة لأنه يخلق جيلا جديدا من الآلات التي يمكن أن تعزز التنمية، والتعليم ونقل المعرفة، والديمقراطية، والتعددية. كما أن الثورة الجارية الآن تثير أيضا أسئلة أساسية حول النتائج المنطقية "للعولمة"، التي تتسم، وفقا لخوسيه خواكين برونر José Joaquin Brunner، "بإعادة تنظيم للزمان والمكان"([11]). وفيما وراء التجديد الصناعي الذي تأتى به معها التكنولوجيات الجديدة للمعلومات والاتصالات، ترتسم صورة خيارات مجتمعية: ماذا سيكون تأثير الإنترنت على الأسواق التجارية والمالية. والأشكال النقدية للتبادل (بإيجاد "نقود إلكترونية")، والعمل، والتجارة، والاستهلاك، ولكن أيضا على وسائل الإعلام والإبداع، والتعليم، ونقل المعرفة؟ وما هو الدور الذي سوف يعهد به إلى الإنترنت العام في المجتمع العالمي للمعلومات، وما هو الدور الذي سوف يخصص لشبكات الإنترنت الخاصة؟ وكيف يمكن أن نساعد في "صون وتقدم ونشر المعرفة"([12])في هذا السياق الجديد بصورة جذرية؟
ولكن قبل كل شئ، ما هي الأخلاق التي سوف توجه عالما يتسم بالاعتماد المتبادل والارتباط المتبادل، تسوده المعلومات المفهومة على أنها قيمة تبادلية وسلعة، والفورية المعاشة باعتبارها التجربة الأساسية للعالمية؟ وما هي الجماليات والتصورات الثقافية التي سوف تنتصر في عالم صارت فيه طبيعة التجربة الثقافية إلى حد كبير تعددية ومجردة من الطابع الإقليمي، ويمكن فيه أن يحتفظ أبعد الظواهر بعلاقات جديدة وغير متوقعة مع ظواهر قريبة ومألوفة؟ وتمثل الإجابة على هذه الأسئلة أحد التحديات الكبرى للأعوام المقبلة. والواقع أن العولمة الثقافية، التي تبدأها التكنولوجيات الجديدة للمعلومات، تأتى معها بصور جديدة جذريا للمعرفة وأنماط جديدة للتصور الثقافي؛ وهي تصيب، على وجه الخصوص، حقوق وكرامة الكائن البشرى. وكما يكتب خوسيه خواكين برونر فـ"نحن نعيش في عالم يغدو مصنوعا ومصطنعا بصورة متزايدة؛ وغنيا في المعارف بصورة متزايدة، ومع ذلك... مبهما ومستغلقا على الفهم بصورة متزايدة... والتكنولوجيات المتاحة... قد غيرت إلى الأبد الطريقة التي نتصور بها العالم والطريقة التي نعيش بها فيه، لقاء تدمير حقائقنا اليقينية وزيادة حيرتنا. ومن المفارقات أن المعرفة جعلتنا أكثر شكا"([13]).
على أن الثورة الصناعية الثالثة أتت معها بالتباس: تتحدث أغلب المؤسسات الحسنة السمعة للغاية، والمنظمات التي تتجر بالعولمة، وأحيانا الخبراء أنفسهم، عن "مجتمع المعلومات" و"مجتمع المعرفة" دون تمييز. وعلينا أن نكف عن الخلط بين "المعرفة" و"المعلومات". ونحن نعيش اليوم في مجتمع عالمي للمعلومات، زادت فيه التكنولوجيا كمية المعلومات المتوفرة وسرعة بثها بصورة تتجاوز أيّ شئ كان بوسعنا أن نتصوره منذ أعوام قليلة. وطالما بقى الناس، في كل مكان في العالم، عاجزين عن تناول كل هذه المعلومات بحسّ نقدي، وطالما لم يستطيعوا تحليلها، وتصنيفها، ودمج العناصر التي تهمهم في قاعدة المعارف التي يملكونها بالفعل فإن هذه المعلومات ستظل كتلة بيانات مبهمة؛ وبدلا من أن يسيطروا على المعلومات، سيدرك كثيرون أنها هي التي تسيطر عليهم.
ذلك أن هذه الثورة ليست آلية فحسب، إنها أيضا وقبل كل شئ ثورة كتابية Scripturale، ثورة في التصور. وتفضل تكنولوجيات المعلومات والاتصالات الكائن المطلع على الكائن الواعي، والمعلومات على التفكير، والمعرفة على الحكمة. وهي تتيح النمو الواسع لطرق جديدة للتعليم، والتعلم، وإجراء الأبحاث؛ وهي تيسر انتشار أشكال ثقافية جديدة وسلوكيات اجتماعية مستحدثة؛ وهي تجعل من الممكن التعبير عن فرديات جديدة وتضامنات جديدة؛ وهي تشجع ظهور أنماط جديدة من "المجتمعات" البشرية. إنها تعنى إذن ثورة حقيقية في الاتصالات، يمكن أن تؤثر أيضا في الذكاء: ذكاء ربما كان أكثر تبعية إزاء التأثيرات والتصورات الخارجية، وربما كان أقل استقلالا.
الإنترنت: هندسة اجتماعية جديدة؟
"الإنترنت واحد من أهم تجليات هذه الثورة الجديدة [لتكنولوجيات المعلومات]... وتقدم هذه الشبكة المعولمة globalisé ثلاث سمات مميزة لهندسة اجتماعية جديدة، يمكن أن تنتهي، مع الوقت، إلى السيطرة على هذا الكوكب. فهي، أولا، نسق ذاتي التنظيم. وقد نشأت وتطورت بدون قوة دافعة مركزية، بدون تخطيط مركزي، بدون سيطرة هيراركية. إنها أيضا هندسة أفقية وغير هيراركية (النقيض الكامل للنماذج البيروقراطية للتنظيم التي اعتدنا عليها). وهي، ثانيا، شبكة مفتوحة لكل شخص يود الاتصال بها. وللمشاركة فيها لا حاجة إلى طلب تصريح خاص أو إلى الانضمام إلى أية مجموعة. وعندما تكون داخل الشبكة فإنك تأخذ أو تدع، وفقا لرغبتك. وهي تقدم خيارات عديدة. وأخيرا فإنها هندسة تفاعلية. وعندما تدخل فيها فإنك تكون على اتصال؛ "أنت على الشبكة". ويتمتع كل عضو جديد بكل فضاء الاتصال المتاح. وكلما دخل عدد أكبر من الأشخاص في الشبكة ارتفعت قيمة كل الشبكة".
خوسيه خواكين برونر([14]).
والإنترنت، في نظر الجمهور العريض، هو النموذج الأمثل للتكنولوجيات الجديدة. وبطبيعة الحال فإنه ليس بعد "عالميا" من حيث مدى توفره الجغرافي؛ غير أنه مع ذلك يمثل شكلا جديدا من أشكال التعبير هو كوكبيّ بالقوة. فالإنترنت، أولا، يجرى إثراؤه بصورة متواصلة من داخله عن طريق الاستعمالات المتزايدة التنوع التي يقوم بها مستعملوه. ويؤدى تضاعف الشبكات العامة للمستعملين الذين تجمعهم اهتمامات مشتركة إلى ظهور عدد متزايد من الأنشطة والتبادلات، التي تصل إلى بيئات جغرافية واجتماعية وثقافية متزايدة التباين والتباعد: يتيح الإنترنت للعلماء العمل في كل مكان في العالم عن طريق إنشاء معامل وفرق أبحاث "عبر محلية"؛ ويتيح للموسيقيين تشكيل مجموعات افتراضية؛ ويتيح للمصممين الإلكترونيين الشباب باختبار قدراتهم من خلال مسابقات ابتكار صور ذات ثلاثة أبعاد؛ كما يتيح للأشخاص المتوحدين أو كبار السن الخروج من عزلتهم. وبطبيعة الحال فإن هذه "الدياسبورات الافتراضية" عبر القومية مدعوة إلى أن تتضاعف وتؤثر، مستقبلا، على إبداعية البشر وألفتهم الاجتماعية([15])وأيضا على مستقبل الديمقراطية على النطاق الوطني والدولي.
على أن الدفاع عن هذا الشكل الجديد للتعبير والاتصال والإبداع يفرض مسئوليات خاصة إزاء أولئك المحرومين منه في الوقت الحالي لأسباب اقتصادية، وكذلك إزاء ضحاياها المحتملين: وعلى سبيل المثال فإن التضاعف، داخل الفضاء الإلكتروني، لشبكات خاصة باللواط بالأطفال وبغاء الأطفال([16])، وانتهاك حقوق التأليف، والحض على الكراهية العنصرية، إنما تمثل أشكالا جديدة للجريمة، يجب أن تحفز الحكومات والبرلمانات الوطنية، جنبا إلى جنب مع القضاة ورجال الشرطة، إلى غاية اليقظة وإلى تعاون أكبر. والفضاء الإلكتروني ليس خارج العالم بل داخل العالم: من واجب المؤسسات الديمقراطية السيادية أن تشجع استعمالا لهذه الوسيلة يقوم بتقريبنا من بعضنا الآخر، بدلا من زرع التعارض والتنافر بيننا. إن الثقافة الإلكترونية يجب أن يصحبها ابتكار أخلاق إلكترونية ـ هذه الأخلاق التي نأمل أن تكون لدى الديمقراطيات الشجاعة الكافية لأن تنقشها قبل كل شئ في القانون القومي؛ وأن تكون قادرة على التفاوض على مبادئها بالتنسيق والتعاون مع شركائها، على المستوى الدولي([17]).
الإنترنت والتنمية:
دمج المبعدين عن الطرق السريعة للمعلومات
تقدم الثورة الراهنة ما يساوى شكلا جديدا لنقل الكتابة ومطبعة. غير أن من المبرر تماما أن نخشى ترسيخ انقسامات عميقة بين الكتبة الجدد، بإتقانهم التام لاستعمال الأدوات، والأميين الرقميين الجدد، الذين سوف يجدون أنفسهم ملقون خارج دائرة الخبراء بأسرار هذه الأدوات. وسوف يقوم الأولون بالملاحة بكل يسر فوق المحيطات العالمية للمعرفة وشبكات الشبكات، وسوف يلوذ الآخرون بالعوالم الحلمية للمخدرات الافتراضية وبالفراديس اللعبية الصناعية لـ"متنزهات الواقع"، أو سوف يتم إقصاؤهم كليا عن التكنولوجيات الجديدة. ومن ذا الذي لا يقوم اليوم بتمجيد الانطلاق المذهل للإنترنت؟ غير أننا، ولوقت طويل قادم، سوف نعيش في عالم الطرق السريعة للمعلومات inforoutes والممرات الفرعية للمعلومات infosoutes([18]).
والواقع أن المشاركة في "حضارة اللامادي" موزعة بصورة غير متكافئة مطلقا بين مختلف أجزاء العالم. ووفقا لـ ت. ل. جاكوبسون T. L. Jacobson فإن "أشكال عدم المساواة بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة فيما يتعلق بالصحة والتعليم والدخل تتم إعادة إنتاجها فيما يتعلق بخدمات المعلومات"([19]). ويتيح مؤشران رئيسيان بتصور مدى عدم المساواة: الوصول إلى بنية تحتية للاتصالات السلكية واللاسلكية الأساسية، والوصول إلى شبكة الإنترنت. ولا شك في أن الوصول إلى الوسائل التقليدية للاتصالات السلكية واللاسلكية هو العامل الحاسم: إذ أنه لا يمكن، بدونها، أن يوجد أيّ وصول تقريبا إلى "الطرق السريعة للمعلومات". غير أنه وفقا لميشيل إيلي Michel Elie فإن "80% على الأقل من سكان العالم لا يملكون أي خدمات أساسية للاتصالات السلكية واللاسلكية"([20]). وفي 1995، وفقا للبنك الدولي، كانت البلدان الغنية تحوز في المتوسط أكثر من خط تليفون رئيسي واحد لكل شخصين من السكان؛ وعلى سبيل المقارنة، كان على جنوب آسيا أن ترضى بـ 13 خطا لكل 1000 نسمة، وأفريقيا جنوب الصحراء بـ 11 لكل 1000([21]). وكيف يمكن، على سبيل المثال، توفير الوصول التنافسي لأفريقيا إلى "الطرق السريعة للمعلومات" في الوقت الذي يشير فيه ثابومبيكي Thabo Mbeki إلى أنه "توجد في مانهاتن خطوط تليفونية أكثر مما في كل أفريقيا جنوب الصحراء" وإلى أن "نصف الجنس البشرى لم يستعملوا تليفونا قط"؟ وكما أشرنا كثيرا من قبل، ماذا يمكن أن تعنى حقا "الطرق السريعة للمعلومات" بالنسبة لـ 600000 مدينة وقرية ما تزال، بمليارين من سكانها، محرومة من الكهرباء؟
والبيانات المتعلقة بالوصول إلى الإنترنت بليغة. وبطبيعة الحال فإن شبكة الإنترنت تنمو بسرعة هائلة، حيث يتضاعف عدد وحدات خدمة الويب كل حوالي ستة أشهر: ارتفع إجمالي عدد وحدات خدمة الويب من 1313000 في كانون الثاني/يناير 1993 إلى 43230000 في كانون الثاني/يناير 1999([22]). بل تقدم بعض التوقعات، وربما كانت متفائلة جدا، رقم 187 مليون من التوصيلات على نطاق العالم، ومليوني شبكة خارج الولايات المتحدة، و2.5 مليار مستعمل بحلول عام 2000([23]). غير أن مدى انتشار الإنترنت في مختلف البلدان "يرتبط بقوة فيما يبدو بمستوى التنمية فيها": يمكن القول إن العلاقة بين الشبكة والناتج المحلى الإجمالي شبيهة بالعلاقة الملحوظة منذ وقت طويل بين التليفون والناتج المحلى الإجمالي. وتتجاوز ستة بلدان أفريقية فقط عشر وحدات خدمة ويب لكل مليون نسمة، في حين أن عشرة بلدان (ستة في أوروبا، وبلدان في منطقة المحيط الهادي، وبلد واحد في آسيا، وبلد واحد في أمريكا) تتجاوز مستوى وحدة خدمة الويب وحدة واحدة لكل مائة من السكان([24]). ووفقا لأحدث تقرير للاتحاد الدولي للاتصالات السلكية واللاسلكية، يوجد في آيسلندا مستعملون للإنترنت أكثر مما في كل أفريقيا جنوب الصحراء، وقد تراوح الاستثمار في الاتصالات السلكية واللاسلكية في 1996 بين 5.9 دولارات للفرد في البلدان المنخفضة الدخل و135.3 دولار للفرد في البلدان المرتفعة الدخل (أي ثلاثة وعشرون ضعفا)([25]). ومن الجلي أن القرية العالمية والقرية الإلكترونية لا تتوافقان([26]): على سبيل المثال، تعكس الخريطة الراهنة لانتشار شبكة الإنترنت جغرافية التنمية بخطوطها العريضة. ويشير البروفيسور دان شيللر Dan Schiller إلى أنه "في كانون الثاني/يناير 1996، أكدت التقديرات أن 60% من التسعة ملايين ونصف من أجهزة الكمبيوتر الموصلة بالإنترنت كان يملكها أمريكيون... وكان عدد مواقع الإنترنت، لكل ألف شخص، يتراوح بين 10 و18 في الولايات المتحدة، وأستراليا، وبلدان شمال أوروبا؛ وبين 5 و10 بالنسبة لكندا وبعض أنحاء أوروبا الغربية. في حين أنه كان لا يكاد يوجد موقع واحد في أمريكا اللاتينية، وفي أفريقيا (باستثناء جنوب أفريقيا)، وفي الشرق الأوسط، وفي آسيا (بما في ذلك بلدان الاتحاد السوڤييتي السابق)"([27]). والواقع أن الإنترنت يمثل الآن ظاهرة مميزة للبلدان الغنية، وهذا هو ما يبينه أيضا توزيع العناوين الإلكترونية حسب البلدان([28]).
ويوجد أيضا ارتباط متبادل وثيق بين التجهيز بوحدات خدمة الإنترنت ومؤشر التنمية البشرية لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية. غير أن هذا الارتباط المتبادل ليس مطلقا: بمؤشر متماثل للتنمية البشرية، هناك بلدان أفضل تجهيزا من بلدان أخرى (هذه حالة جنوب أفريقيا، أو تركيا، أو لبنان، أو سنغافورة). وعلى النقيض، "تعانى بعض البلدان التي لها مؤشر مرتفع للتنمية البشرية (إسبانيا، فرنسا)، أو لها مؤشر متوسط أو ضعيف للتنمية البشرية (الصين، أو المملكة العربية السعودية، أو سرى لانكا) من نقص التجهيز"([29]). والحقيقة أن أسباب هذا النقص في التجهيز، عندما يكون للبلد مؤشر مرتفع للتنمية البشرية، لا يرتبط مطلقا، كما توحي وسائل الإعلام أحيانا، بتخلف تكنولوجي بل بعوامل مؤسسية وثقافية خاصة. وفي حالة فرنسا، وترتيبها الثاني في مؤشر التنمية البشرية في تقرير عن التنمية البشرية 1998، كان التطور المبكر في المينيتل Minitel، من خلال الدفعة التي تلقاها من الدولة، ونجاحه التكنولوجي والتجاري الاستثنائي، هما اللذان أعاقا لفترة طويلة انتشار الإنترنت. غير أن انتشار الإنترنت صار سريعا جدا في فرنسا منذ 1997ـ 1998. وبالتالي فإنه لا وجود "للعنة الإنترنت" التي تحكم على الفقراء، أو على البلدان ذات الخصوصية الثقافية الراسخة، بأن تبقى بعيدة عن "حضارة اللامادى"، وتعترض بصورة دائمة طريق وصولها إلى الفرص الجديدة التي تخلقها "الطرق السريعة للمعلومات" أمام التنمية. وتدل الفوارق الإقليمية الملحوظة على أن الإنترنت على وجه الخصوص، والتكنولوجيات الجديدة للمعلومات والاتصالات بصورة عامة، قد أدخلت في مجرى التنمية عنصرا جديدا وغير متوقع جزئيا، وهو عنصر يمثل أيضا رمزا للأمل.
والحقيقة أن "التقدم بالوثبات" Leapfrogging تكنولوجيا واقتصاديا للبلدان الأقل تقدما، وهو ما تتيحه هذه التكنولوجيات الجديدة، يحتاج إلى استثمار كبير في مجال البنية الأساسية للاتصالات السلكية واللاسلكية والتجهيزات. ولهذا فإن التطور السريع للتكنولوجيات يفترض تفكيرا منسقا بين الخبراء، والشركاء العامين والخاصين والنقابيين، والمستهلكين، والمواطنين، في مستقبل مجموع فضاء التليماتيك télématique ـ المعدات، البنية الأساسية، تكلفة الاتصالات السلكية واللاسلكية ـ الذي سوف يتوقف عليه من الآن فصاعدا جزء كبير من التنمية، كما يفترض التزاما بالحد من أشكال عدم المساواة التي تتمحور حول مفهوم "الوصول الشامل" والتعليم للجميع مدى الحياة.
وسيكون خفض تكلفة الاتصالات السلكية واللاسلكية أساسيا. وينطبق هذا أيضا على البلدان الصناعية. وقد بينت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في دراسة حديثة أن تكلفة الوصول إلى الإنترنت في أوروبا ما تزال أكثر ارتفاعا بكل وضوح مما في أمريكا الشمالية([30]). ويشدد أرنو ﭙنزياس Arno Penzias، الحاصل على جائزة نوبل على أن "الكمبيوتر لا يكون اقتصاديا إلا إذا كانت تكلفة الاتصالات منخفضة"([31]). والواقع أن الآمال كبيرة في حدوث خفض سريع في التكلفة. ووفقا لجان ـ فرانسوا ريشار Jean – François Richard، نائب رئيس البنك الدولي، "سوف تنخفض قريبا تكلفة الاتصالات السلكية واللاسلكية (حتى أكثر) إلى الدرجة تصير فيها الاتصالات مجانية من الناحية العملية. ومن الآن وحتى 2010، يمكن أن تنخفض تكلفة مكالمة ساعة واحدة عبر الأطلنطي إلى أقل من 15 سنتيما"([32]). ويجدر أن نلاحظ، بهذا الخصوص، أن الاتصال المعلوماتي يغدو أرخص من وسائل الاتصال من نقطة إلى نقطة، وأنه يحول كل مستعمل إلى "ناشر محتمل". كما أن معدل المعلومات التي نحصل عليها عن طريق مودم modem (20 أو 30 صفحة من النص في الدقيقة) أعلى بوضوح من معدل جهاز فاكس، وهو أقل تكلفة، لأنه يتم إرساله في كثير من الأحيان بتكلفة اتصال تليفوني محلى.
ويجرى الآن تشاور بشأن الشركة العالمية للمعلومات: وقد شدد المؤتمر الوزاري لمجموعة السبعة (قمة البلدان السبعة الأكثر صناعية)، الذي انعقد بهذا الشأن في شباط/ فبراير 1995 في بروكسل، على ضرورة أن تندمج كل البلدان، خاصة البلدان النامية والبلدان التي تمر بمرحلة انتقال، في شركة المعلومات. وتابع المؤتمر المنعقد في ميدراند، جنوب أفريقيا، بشأن شركة المعلومات والتنمية (13ـ 15 آيار/مايو 1996) هذا التشاور، مشددا على أن "من الجلي أن الاستثمارات في مجال البنية الأساسية للمعلومات في البلدان الأقل صناعية غير كافية"، ومطالبا بالتعبئة اللازمة للاستثمارات من أجل إنشاء "شركة معلومات عالمية حقا"([33]). وتم التشديد عن حق في مؤتمر ميدراند على أنه "لا وجود لأي نموذج عالمي"([34]). ويجدر بنا الآن أن نترجم إعلانات النوايا الممتازة هذه إلى أعمال، عن طريق زيادة المساعدة الرسمية للتنمية في هذا المجال زيادة كبيرة، بدلا من تقليصها، في البلدان الكثيرة التي تكون فيها الاستثمارات الخاصة غير كافية بصورة جلية.
والاستثمار في مجال التعليم ملح بصورة مماثلة، لكي يكون جميع البشر قادرين على استخدام شبكات المعلومات. وهذا ما يفترض التعليم للجميع، مع البداية بأولئك الذين يعتقدون أنه بالكمبيوتر قد تم حل كل المشكلات بالفعل. وهو يفترض أيضا أن ينمى التعليم السيطرة على النفس، والتفكير النقدي، والإبداع ـ وهذا ما يفترض، قبل الكمبيوتر تدخل الوالدين والمدرسين. إن التفكير هو القدرة المميزة للكائنات البشرية. وكما علمني هانس كريبس Hans Krebs، أستاذي بمعمل أبحاث عملية الأيض بكلية ترينيتي بجامعة أكسفورد، فإن المعدات العلمية مهمة والموارد أساسية غير أن البحث الحقيقي يتمثل، في التحليل الأخير، في أن ترى ما لم يره شخص آخر من قبل وأن تفكر فيما لم يفكر فيه شخص غيرك من قبل. ولهذا دعونا لا ننسى أن القدرة على الإبداع هي كنزنا وأملنا: إن كل إنسان يجب أن يكون في مستوى استخدام هذه القدرة الكامنة الهائلة.
وبصورة متزايدة يغدو النضال ضد نقص التجهيز في تكنولوجيات الاتصالات أولوية عامة: هذا النضال وحده هو الذي سوف يتيح وصولا أكثر إنصافا للبلدان النامية و"للمبعدين عن المعلومات" إلى شركة المعلومات، كما أنه سوف يسهم في جعل "السوق العالمية" للاتصالات السلكية واللاسلكية عامل تسريع للتنمية في العالم. ووفقا لكارلوس ـ ألبرتو ألفونسو Carlos – Alberto Alfonso، رئيس المعهد البرازيلي للتحليل الاجتماعي والاقتصادي، فإن شبكات التليماتيك التي تجرى إقامتها في عدد من البلدان النامية سوف تتيح للمجتمع المدني تبادل المعلومات والمشاركة في النقاش بشأن موضوعات متصلة بها، في حين أنه في الماضي، كانت المعلومات لا تصل إليها إلا بعد أن يكون النقاش قد انتهي بالفعل. ذلك أن للمشاركة في نقاش إلكتروني، كما يلاحظ ك. أ. ألفونسو، طابعا ديمقراطيا بصورة عميقة: "إن وجهة نظر مؤسسة ’عالمية‘ كبيرة لها، على مستوى العرض البصري، نفس الأهمية التي لمجموعة شعبية تعمل على مستوى القرية"([35]). ومن الآن فصاعدا يمكن لمنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان أن ترسل مطالبها بصورة مباشرة إلى الهيئات المختصة للأمم المتحدة، ويمكن للباحثين أن يقوموا بسرعة بتبادل ببليوغرافياتهم، ويمكن لتلاميذ المدارس أن يتصلوا يوميا من بلد إلى آخر.
غير أنه ما لم يحدث تطور سريع وتعزيز ملموس لتطوير سياسات مساعدة التنمية فإن من المحتمل، لوقت طويل قادم، أن يهدد رواج "الطرق السريعة للمعلومات" بزيادة عدم المساواة القائم في التنمية وترك مليارات الكائنات البشرية على حافة الطريق. ولهذا يجب أن يرسى المسئولون عن التنمية، بروح مؤتمر ميدراند، أسسا متينة لتنمية معلومات info–développement حقيقية تقوم على إستراتيجيات جديدة وعلى خطط تمويل دائمة جريئة تكون على مستوى ضخامة التحدي الذي تواجهنا به التكنولوجيات الجديدة ولهذا يجب، وفقا لجان ـ لوى جيغو Jean–Louis Guigou، أن تكون تنمية المعلومات الأولوية الأولى لمشروعات التخطيط الإقليمي في المستقبل([36])، وأن تدعم سياسة جديدة للمشروعات الكبرى، في أكبر عدد من البلدان، خلال العشرين سنة المقبلة.
ومثل هذا الخيار هو، قبل كل شئ، ذو طابع سياسي، ولا يمكن أن يستند إلى اعتبارات اقتصادية خالصة. وكما شدد أل جور، نائب رئيس الولايات المتحدة، ينبغي الاعتراف بأن "اقتصاد السوق لا ينبغي أن يكون العامل الحاسم الوحيد لاتساع انتشار البنية الأساسية المعلوماتية"؛ وإنما بهذا الروح، من جهة أخرى، دعت الولايات المتحدة إلى توسيع "البنية الأساسية القومية للمعلومات" لتمتد إلى جميع المدارس، والمكتبات، والمستشفيات، والعيادات، من الآن إلى نهاية القرن([37]). ويفرض هذا الواجب الإلزامي نفسه بمزيد من القوة على المستوى العالمي، لأنه، كما شددت البلدان الأعضاء في مجموعة السبعة: "العولمة... يمكن أن تفاقم عدم المساواة في البلدان الفقيرة وكذلك أخطار تهميش بعض مناطق العالم"([38]). ويمكن أن أضيف أنني، شخصيا، متحير جدا فيما يتعلق بنتائج سياسات حرية السوق في هذا المجال. فقد اعتقدت دائما ـ وما أزال أعتقد بصورة متزايدة ـ أن قيم العدل والتقاسم هي التي يجب أن توجه السوق نحو اقتصاد للتنمية المتواصلة. وأعتقد أيضا أن المشكلات الكبرى للتعليم ـ بما في ذلك مشكلة العنف داخل المدارس ـ في الولايات المتحدة وفي كل مكان آخر، لن تحلها أجهزة الكمبيوتر بل المدرسون الجيدون والمقررات الدراسية الجيدة النوعية. إن البشر يجب، قبل كل شئ، أن يسيطروا على أنفسهم لكي يكون بوسعهم بعد ذلك أن يسيطروا على الأدوات التي يستخدمونها.
ويجب أن نستثمر في التعليم للجميع. ولن يفيد في شئ أن يوجد تحت تصرفنا "طريق سريع للمعلومات" إذا لم يكن هناك سوى سائقين قليلين يستخدمون هذا الطريق. وفي فجر القرن الحادي والعشرين، يجب أن نواجه تحديا هائلا: يجب أن نبذل جهدا كبيرا في التعليم، في تدريب السائقين. وينبغي أيضا ـ دون أن ندع المصالح الاقتصادية الخيالية القصيرة الأجل تحكمنا ـ أن نقوم بتشييد "الطرق السريعة للمعلومات" التي تتدفق على الكوكب بأسره، وليس فقط المناطق أو البلدان الأكثر رخاء. وكما يبين مارك غيوم Marc Guillaume فإننا "ما نزال نفكر بلغة ’الطرق السريعة‘ في حين أن ’مفارق الطرق‘ هي التي ترتدى الأهمية... وبالأحرى فإن النصوص الفائقة hypertextes وأجهزة التوزيع هي التي تحول أنماط إنتاج واستهلاك المعلومات"([39]). ويعترف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بحق كل فرد "في أن يبحث عن المعلومات والأفكار ويتلقاها وينشرها، بغض النظر عن اعتبارات الحدود، من خلال أية وسيلة تعبير" (المادة 19). ألا تجعل هذه المادة من واجبنا تأمين الوصول العالمي إلى الإنترنت؟
وفي نفس الوقت الذي يتم فيه تأمين عولمة التعليم للجميع مدى الحياة، لماذا لا يتم أيضا اقتراح أن تلتزم البلدان بربط مدارس الكوكب وجامعاته ومكتباته ومتاحفه عن طريق الإنترنت خلال الجيل المقبل؟ إن هذا يمكن أن يعطى دفعه حاسمة "للتعاون الفكري بين كل البلدان في كل فروع النشاط الفكري" الذي يوصى به النظام الأساسي لليونسكو([40]). أليس من واجبنا أن نبدأ التفكير في إنشاء مكتبة رقمية عالمية، وهذا موضوع سنعود إليه في الفصل التالي؟ ولماذا لا نفكر بإمعان في تكريس مبادرة خاصة مشتركة بين اليونسكو والأمم المتحدة للتعبئة لدعم تكنولوجيات جديدة للمعلومات والاتصالات في البلدان النامية، وفي أفريقيا على وجه الخصوص؟ وما لم تحدث مثل هذه التعبئة فإننا يمكن حقا أن نشهد ـ كما كان هذا وسيظل هو الحال في مجال التعليم ـ تهميش بلدان كثيرة، ومليارات من الناس، وظهور "أبارتهيد [فصل] تقني" من شأنه حقا أن يؤدى إلى مضاعفة آثار الإقصاء الاقتصادي عشرة أضعاف وأن يزيد من انقسام العالم إلى شطرين.
وتماما كما كان بوسع التعليم الإلزامي، في القرن التاسع عشر ـ لو كان عالميا حقا ـ أن يتيح إعداد الأجيال الجديدة لمواجهة تحديات الثورة الصناعية، عن طريق إجراء نوع من "التكييف الثقافي الجماهيري"([41])، فإنه ينبغي أن نفكر من الآن فصاعدا في أن ننشر على أوسع نطاق ممكن المبادئ والشفرات والبلاغة الخاصة بهذا الشكل الجديد لنقل الكتابة. وما لم يبذل جهد لمحو الأمية المعلوماتية وتعليم اللغات "الافتراضية" فإن مجتمعنا سوف يغدو منقسما بين أولئك الذين سوف يتمتعون بالوصول إلى هذه الثقافة الجديدة وأولئك الذين سيبقون على جانب الطريق السريع للمعلومات([42]).
والواقع أن تقنيات الاتصالات والمعلومات شرط ضروري للتوصل إلى إدراك أفضل لأسس ومبادئ المعرفة، وفهم معمق للعلاقات بينها. ولهذا فإن لها تأثيرا حافزا إيجابيا بالغ الأهمية على أولئك الذين يتقنونها، والذين يملكون بالتالي أدوات جبارة للمعرفة والعمل. وبالمقابل فبالنسبة لأولئك الذين لا يملكون هذه الأدوات الجديدة أو لا يتقنون استعمالها بصورة كافية فإن الهوة الثقافية والمناهجية والمعرفية لا يمكن إلا أن تتسع بسرعة، حيث يعمل تأثير الحافز بصورة سلبية بالنسبة لهم.
والواقع أن المفتاح الرئيسي هنا هو ما يلي: إلى أي مدى يكون السكان في موقف يسمح لهم بالمشاركة؟ والآن في هذا الوقت الذي يقوم فيه الكثيرون بالإعداد لبناء طرق سريعة للمعلومات، كم عدد من سيبقون على الممرات الجانبية لـ "حضارة المعلومات" أو ما هو أسوأ: في ممراتها الخفية؟ وفي البداية، سوف يؤدى تشييد بنية أساسية لحضارة المعلومات إلى توسيع الإقصاء الثقافي والازدواجية الثقافية. وفي الحال، سوف يُقصى العائق المزدوج الذي يشكله الفقر وعدم التعليم ضحاياه عن الوصول إلى مجتمع المعلومات. وفي عالم يعانى فيه 25% إلى 30% من قوة العمل من نقص التوظيف، ويعانى فيه 140 مليون عامل على الأقل من البطالة([43])ـ إلى حد كبير نتيجة إحلال الآلة محل البشر ـ يمثل التدريب على استعمال التكنولوجيات الجديدة رهانا رئيسيا.
على أن الهوة المتزايدة الاتساع التي فتحتها حضارة المعلومات لا يمكن اختزالها إلى ظاهرة اقتصادية خالصة. فالإقصاء له جذور عميقة، اجتماعية واقتصادية في آن معا، وله أيضا أبعاد ثقافية رئيسية. وعن طريق حرمان أقسام من السكان من الوصول إلى المعرفة، وإلى أشكال من الثقافة يوفرها التعليم، وإلى التكنولوجيات الجديدة، فإن الإقصاء لا يحرمهم فقط من وسائل رئيسية للتنمية، بل يقوم أيضا بتدمير كل تضامن إنساني عن طريق تغذية ما يسميه جان ﭙرونك Jean Pronk بـ "ثقافة الازدراء"([44]). والحقيقة أن الإقصاء الثقافي يشكل آفة من الآفات الرئيسية التي سوف ينبغي التغلب عليها خلال العقود المقبلة، إذ أن مثل هذه الظاهرة يمكن، إن لم نكن حذرين، أن تنتهي إلى الحرمان الثقافي، وإلى التوسع المأساوي لثقافة العنف والاضطهاد. وسوف ينبغي الحرص على أن يتم تيسير الوصول إلى البنية الأساسية لحضارة المعلومات عن طريق سياسات ملموسة، مدرجة ضمن جهود طويلة الأجل، على المستوى الوطني والعالمي على السواء. فلماذا لا نقوم، عن طريق تدابير جريئة (يمكن أن تتيح تمويلها "عائدات السلام"، على سبيل المثال)، ببناء "شبكات للأمن الثقافي" تماما كما تم بناء شبكات الأمن الاجتماعي، جزئيا على الأقل، في عدد من البلدان؟ وسيكون هدف شبكات الأمن الثقافي هذه تيسير الوصول، للجميع مدى الحياة، إلى التعليم الدائم، وإلى حضارة المعلومات، وإلى أشكال للثقافة معتمدة على التكنولوجيا. كما أنها سوف تيسر "رفع مستوى" السكان الذين يعانون من الإقصاء أو التهميش، خاصة بتوفير الوصول إلى البنية الأساسية الضرورية لمجتمع المعلومات (الوصول إلى البريد الإلكتروني، وإلى منتديات التليماتيك؛ وإلى وحدات خدمة الويب الخاصة بقواعد البيانات؛ وتوزيع منتجات وخدمات المعلومات العلمية والتقنية، والتعليم عن بُعد([45])، والتعاون بين الجامعات ومراكز الأبحاث الكبرى).
اقتصاد اللاّمادّيّ
والواقع أن التطبيقات الاقتصادية والتجارية للإنترنت لا تكف عن النمو. ويستخدم ثلاثة وسبعون في المائة من مستعملي الإنترنت الشبكة Toile للتسوق كل شهر([46]). وبالإضافة إلى إنشاء "شبكات داخل الشبكة" intranets، يسمح التجديد التكنولوجي من الآن فصاعدا باستعمال لشبكة الإنترنت "حسب الطلب"([47]). أما البحث الشخصي على الشبكة Toile ـ الذي تم تعميده باسم Webcasting [البث الحي على الشبكة] ـ فيستعمله بالفعل أكثر من مليون شخص، الذين يتيح لهم ليس فقط إجراء فرز آلي للتدفق الهائل من المعلومات المتوفرة، بل أيضا بتلقي تحديث متواصل لمجالاتهم المختارة. وكان من المتوقع أنه بحلول عام 2000 سيمثل البث الحي على الشبكة ثلث السوق التي خلقها الإنترنت والتي تصل إلى 14 مليار دولار([48]). ويبشر البث الحي على الشبكة بصورة خاصة بأن يصير أداة فعالة جدا لتنظيم وبث المعلومات والصفقات من خلال "الشبكات داخل الشبكة" الخاصة، المالية والتجارية والصناعية([49]).
فهل نشهد الآن إعادة نظر جذرية في أسس التنظيم الاجتماعي ـ الاقتصادي الكلاسيكي؟ ويبدو أن مفاهيم مثل "السعر"([50])أو "العمل" تفقد مغزاها، أو تغير دلالتها تغييرا عميقا. فهل نتجه إلى أن نشهد انتقالا تدريجيا من حضارة تقوم على التحويل المادي وعلى استهلاك الطاقة والمواد الخام، نحو حضارة تقوم بصورة أكبر على الاتصالات والمعرفة؟ إننا مقتنعون بأن مثل هذه الحضارة ينبغي أن تقوم بصورة خاصة على الذكاء والحكمة.
والحقيقة أن من يستفيد بذكاء بظهور نموذج "اللامادي" يمكن حقا أن يقلب أوضاع المجتمع العالمي وأن يغير بعمق، بمعدلات تختلف وفقا للمناطق الجغرافية ـ الثقافية ودرجة التقدم الإنساني والتقني والبشرى، الصورة التي يصنعها الإنسان العاقل homo sapiens لنفسه، والصورة التي يصنعها عن دوره في العالم. وتحل الآلات وسوف تحل بصورة متزايدة محل البشر في مجال الإنتاج الصناعي الكبير: إنها تجبره على أن يبتكر من جديد وعلى أن يبتكر لنفسه غايات أخرى. ويتيح الاستخدام الواسع للإنسان الآلي في الإنتاج وترشيد هذا الإنتاج إشباع الحاجات الاستهلاكية المتزايدة بعدد متناقص بصورة متواصلة من الموظفين: هذه هي الظاهرة المعروفة جيدا باسم "النمو بدون خلق فرص العمل". وكلما صارت التكنولوجيات الجديدة "ذكية" و"تواصلية" أكثر فأكثر فإنها تدفع أيضا عددا متزايدا من الأشخاص "الأذكياء" و"التواصليين" إلى خارج العمل، نتيجة لما تسمح به من قفزات مذهلة في الإنتاجية. وهي تجبرنا بهذه الطريقة ذاتها على تعميق مفاهيمنا عن "الذكاء" و"التواصل" وكذلك على تحديد ما هو بشرى بصورة نوعية في نشاطنا، حتى لا يصيبنا البلى بصورة نهائية، أو تحل محلنا الآلات التي صنعناها بأنفسنا.
ويميل توسع التكنولوجيات الجديدة إلى تفضيل رأسمالية عبر قومية، مترحلة بارعة في الاستغلال بصورة فورية للاختلافات في التشريع والإنتاجية بين مختلف "المناطق العالمية"، التي تتجه على المستوى الاقتصادي إلى أن تحل محل الدول القومية ذات السلطة المتآكلة. وتقترن عولمة الشبكات والانخفاض المتواصل في تكلفة وسائل النقل والاتصالات بتحلل في المناطق الإقليمية وتفكك في البلدان، يتيح إعادات تركيب افتراضية وسريعة الزوال عبر دوائر قصيرة كوكبية في الفضاء العالمي.
وفي حين يهتم اقتصاد السوق بالقطاعات المربحة على وجه الحصر، لا تتوقف بعض الحاجات البشرية الحيوية، ولكن غير "المربحة"، عن النمو. وفي عالمنا هذا المتميز بالوفرة الانتقائية، ما يزال جانب كبير من البشر عاجزين على الحصول على الغذاء الكافي. وتبقى حاجات كامنة ضخمة دون إشباع، في مجالات التعليم، والبحث العلمي، والثقافة، والصحة، والبيئة. وتبدو المفاهيم الاقتصادية الكلاسيكية، مثل مفاهيم "السوق"، و"العرض"، و"الاستهلاك"، غير كافية مطلقا لتحليل تعقيد وتنوع هذه الحاجات. ولم تعد هذه المفاهيم ذاتها تسمح بالفهم الكافي لمنطق اقتصاد اللامادى، ولا سيما آليات خلق وتوزيع "القيمة" التي تشكل أساسه.
وتقيم ثورة الاتصالات والذكاء علاقة جديدة بين الواقعي والافتراضي. وتتقلص الأهمية الاقتصادية لإنتاج السلع الواقعية بالمقارنة مع إنتاج السلع اللامادية، التي تتمثل النقطة المشتركة بينها في أنها تقوم جميعا على المعلومات. ويخضع اقتصاد اللامادي والافتراضي لمنطق مختلف جدا عن اقتصاد المادي. وفي حين يتأثر الاقتصاد "المادي" بمنطق تناقص العائدات، يمثل الاقتصاد الافتراضي اقتصاد عائدات متنامية. وتزداد "القيمة" في نفس الوقت الذي ينتشر فيه برنامج كمبيوتر، أو يتم فيه تعميم نموذج أو معيار، أو تتعولم فيه شبكة، أو تصير فيه "صورة" عالمية. وهذه القيمة ليست عالمية فقط. إنها من نسق آخر، يقع بين ما هو رمزي وما هو خيالي. إنها قيمة موروثة، خفية، مراوغة، تزيد كلما تم اقتسامها بصورة أوسع: إنها بالأحرى أشبه بطريقة ما، بالقيمة المدمرة المتولدة عن الأفكار، التي تدور بسرعة البرق، فتتجسد في كثرة من الأشكال، وتنتمي إليها كلها وليس إلى أيّ منها.
ويميل الاقتصاد الافتراضي إلى أن يوزع بصورة متزايدة الاتساع، وبتكلفة أقل فأقل، ثمار إنتاج لامادي بصورة متزايدة. كما أنه يميل بهذا لصالح تكوين أوليغارشيات (احتكارات قلة) أو حتى مونوﭙولات (احتكارات فردية) ذات نزعة كوكبية، وبصورة خاصة في القطاعات التي تخلق وفورات حجم ضخمة، كما في صناعات البرمجيات، وفي صناعات معالجة ونشر المعلومات، وفي صناعات شبكات البنية الأساسية (وسائل النقل، الطاقة).
والاقتصاد الافتراضي حساس بصورة خاصة للمضاربة. ومن بين ثلاثة آلاف مليار [ثلاثة تريليونات] دولار يتم تداولها يوميا في الشبكات المالية، تصل نسبة صفقات المضاربة الخالصة إلى 99%، في حين تقتصر نسبة الصفقات الاقتصادية "الواقعية" على 1%. وكما يلاحظ ﭙول كينيدي فإن الحجم اليومي لتداولات سوق الأوراق المالية يمثل الآن أضعاف قيمة السلع المتبادلة عدة مئات من المرات([51]). لقد صار رأس المال "عالميا" غير أن صار، على وجه الخصوص، "افتراضيا"، أيْ غير واقعي أو فوق واقعي تماما من نواح عديدة. ويتحدث كثير من الخبراء عن موضوع نشأة "اقتصاد كازينوهات القمار" على نطاق عالمي، الذي تمثلت نتيجته في سلسلة الانهيارات المالية المفاجئة على مدى حوالي الاثني عشر عاما الأخيرة.
ونحن لا نعيش فقط أزمة اقتصادية واجتماعية. إننا نشهد في الواقع أزمة أساسية في التصور. إنها مسألة انقلاب جذري يؤثر في وسائل إدراكنا للعالم ولمجتمعاتنا، وبالتالي في الصورة التي نصنعها لوجودنا في العالم، للغاية العميقة للبشرية. وسوف ينبغي حقا تقديم استجابة ملائمة لهذه الأزمة في التصور: سيكون على البشرية أن تمنح في المستقبل تصورا ملائما أكثر للعالم. ووفقا لعدد من الخبراء، بات من الضروري حتى إنشاء "نوع جديد من الكتابة"، تماما كما حدث قديما في الشرق الأدنى أن حل هجاء التجار الفينيقيين محل هيروغليفية النصوص المقدسة، دافعا في الوقت نفسه إلى نوع من إضفاء الطابع الديمقراطي على الذاكرة والمعرفة. والواقع أنهم يشددون على أنه في كل مرة يفرض نفسه فيها، داخل مجتمع، تغير في نسق الكتابة، فإنه يتغير أيضا نسق تصور العالم [النظرة إلى العالم] Weltanschauung([52]).
والحقيقة أن الاستجابة السليمة لهذا التحدي الجديد ليست شيئا آخر سوى الاستجابة التي سيقدمها كل فرد منا في خصوصيته الفريدة للأسئلة الداخلية الجوهرية. إذ أننا، من فرط النظر إلى صورة العالم الخارجي من خلال ستار، نسينا أن ننظر إلى داخل أنفسنا. وليست المعرفة الخارجية هي التي تضئ لنا السبيل، بل التفكير العميق والحكمة.
ومن جهة أخرى، يبدو أن الثورة الراهنة تقوم في الواقع بإدخال نمط جديد من نقل الكتابة أكثر مما تقوم بإدخال نوع جديد من الكتابة. وبهذا المعنى، يبدو أنه لا يمكن تشبيهها بظهور الألفباء بقدر ما يمكن تشبيهها بالظهور المفاجئ للمطبعة. ويعرف الجميع أن المطبعة ذات الحروف الطباعية المتحركة، وهي اختراع صيني، وجدت رسالتها الثانية في أوروبا، حيث كان لها دور حاسم تلعبه في ظهور النزعة الإنسانية humanisme، ثم التنوير، وفي انتشار حركة الإصلاح الديني والحركة المناهضة لها، وفي تعميم التبادلات التجارية، وفي انتشار التقنيات والعلوم، وفي نشأة الصناعة. وعن طريق إضفاء الطابع الديمقراطي والفردي على الوصول إلى المعرفة وإلى المقدَّس، صار الكتاب ناقل حضارة جديدة، على الأسس التي ما نزال نعيش عليها بعد ذلك بنصف ألفية. ومع الرقمية وشبكات الاتصالات والمعلومات، هل نعيش الآن ثورة في "التصور" بنفس الضخامة، يمكن أن نتوقع أن تنشأ عنها تحولات متناسبة أيضا؟ وإذا كان الخبراء ما يزالون بعيدين عن الاتفاق حول هذا الموضوع فإن أغلبهم يعترفون بأننا دخلنا في عصر جديد من الاكتشافات: استكشاف العوالم الافتراضية. ولا شك في أنه سيكون علينا أن نعلم الجميع الملاحة في بحار المعرفة. وعالم نهاية القرن العشرين يسبح في بحار الثقافة: وهو يملك في آن معا أكثر مما ينبغي وأقل مما ينبغي. ولأن مجتمع المعلومات يبنى، بعيدا فيما وراء مدن الحجر والخرسانة، "مدنا غير مرئية"([53])وعابرة للحدود تمتد إلى كل مكان على سطح الكوكب كله، فإنه يبدو أنه يجسّد حلم عبقري أعمى هو الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، محولا العالم إلى مكتبة لانهائية ولامادية، ولا يمكن استيعابها. وفي حين أنه لا أحد يمكن أن يزعم أنه يملك كل مفاتيحها، فإن أقلية صغيرة فقط تتمتع بالوصول إليها في الوقت الراهن.
جبهة جديدة للبحث وللتعليم
وتقفز أمام أعيننا أهمية التكنولوجيات الجديدة في مجال التعليم: يكفي أن نشير بهذا الصدد إلى المزايا التي يقدمها التعليم عن بعد بالنسبة للبلدان الصناعية والبلدان النامية على السواء. وسوف نعرض الرهانات النوعية للتعليم عن بعد في الفصل المخصص للتعليم على مشارف 2020. غير أنه ينبغي التشديد في الحال على الانقلاب الذي أحدثته التكنولوجيات الجديدة في إنتاج المعرفة وتطوير الأبحاث.
وبطبيعة الحال فإن البحث العلمي لم ينتظر الإنترنت ليأخذ مكانه على الشبكة. بل يمكن حتى إثبات العكس: لأن البحث العلمي عمل بالفعل من خلال الشبكة فإنه كان من عوامل ظهور الإنترنت و"رواجه" الاستثنائي. ومنذ تسعينيات القرن العشرين، تطورت بالفعل "أنماط إنتاج" جديدة للمعرفة([54])، بدعم قوى من حركات موازية عديدة: تنويع مواقع إجراء الأبحاث، تطوير التعاون بين المؤسسات، تجاوز نهوج المعارف المنفردة لصالح النهوج المتعددة المعارف([55]). وقد استفاد هذا الانطلاق إلى حد كبير من الدور المتنامي لتكنولوجيات المعلومات، خاصة الإنترنت، في الأبحاث: تشجع "ظاهرة الإنترنت" على وضع معلومات المعامل على الشبكة وتبدأ الآن في تغيير نظام نشر نتائج الأبحاث تغييرا عميقا([56]). والواقع أن الإمكانية التي يمثلها تدفق حر للمعلومات المتوفرة بصورة فورية تمثل فرصة مواتية لمستقبل المعرفة والتعبير والاتصالات (توجد بالفعل على الإنترنت 700 جريدة "على الشبكة")([57])؛ ويقدم عدد متزايد من المكتبات والجامعات والمتاحف خدمات على الشبكة). وبعد فتحها أمام الجمهور بمائة عام، تعهدت مكتبة الكونجرس بالولايات المتحدة بوضع خمسة ملايين وثيقة على الإنترنت بحلول عام 2000([58]) (انظر أيضا الفصل المعنون "أيّ مستقبل ينتظر الكتاب والقراءة؟"). ورغم أنه لا يجب الخلط بين الحضارة العالمية للمعرفة والمجتمع الكوكبي للمعلومات فإن هذا المجتمع يشكل مدخلا إلزاميا إلى هذه الحضارة، مقترحا حلولا للمشكلة الرئيسية المتمثلة في نشر المعرفة([59]). والحقيقة أن الإنترنت ليس محفوظات لكل علم العالم غير أنه صار من الآن فصاعدا أداة لا غنى عنها لنقله.
وفي الولايات المتحدة، زادت أربعة أخماس الكليات والجامعات نفقاتها على التكنولوجيا المعلوماتية زيادة كبيرة منذ 1996. وتقوم هذه الاستثمارات، المصحوبة بتغيرات مهمة في طرق التدريس، بإحداث تحويل جذري للتعليم والتجربة التعليمية، عن طريق "التجريد من الطابع المادي" للحرم الجامعي التقليدي. وما يزال من الصعب تقييم النتائج المنطقية لهذا النمو السريع، غير أننا نعتقد أن الأدوات لا يمكن أن تحل محل المدرسين: لا ينبغي الخلط بين التدريس وطرق التدريس. وأخيرا فإنه لا يوجد سوى تدريس واحد صحيح حقا ـ تدريس إنساني للقدوة والحب.
ويحيط بوضع المعارف على الشبكة تحديان: الأول هو تحدي التوزيع والوصول، وقد سبق التشديد على حدتهما. "تقترن عولمة الاقتصاد بتطوير غير متكافئ مطلقا للأبحاث والتكنولوجيا على النطاق العالمي: يمثل ’ثالوث‘ الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان وحده 83% من الإنفاق العالمي على الأبحاث والتطوير، و80% من الإنتاج العلمي العالمي من حيث براءات الاختراع"([60]). والتحدي الثاني: تحدي التفتت الكامل للمعارف نتيجة لتشظي نمط إنتاجها. "يمكن، إن لم نكن حذرين، أن ننتهي إلى زيادة بلقنة الأبحاث إلى معارف فرعية، جاعلين بالتالي تكوين التراكيب والنهوج المتعددة المعارف أكثر صعوبة"([61]). ولهذا تفرض نفسها ضرورة رؤية إستراتيجية ونظرة طويلة الأجل تحكم إنتاج وتوزيع المعرفة عبر العالم، في سياق تغير بشدة تحت تأثير التكنولوجيات الجديدة. وفي كثير جدا من الأحيان تقود الآلة الفكر، بدلا من العكس. وقد أسهمت التكنولوجيات الجديدة، كما سبق أن رأينا، إسهاما بالغا في تسريع "الزمن العالمي" وفي انتصار منطق الأجل القصير. إذن ماذا عن الأجل الطويل الذي لا غنى عنه بالنسبة للأبحاث؟ وماذا عن علاقة الأبحاث والرهانات العامة الرئيسية وهي التعليم والصحة وإدارة الموارد الطبيعية؟ وأمام الدولة والجماعات الإقليمية والمجتمعات المحلية دور تجديدي ومبدع تلعبه هنا، باعتبارها "هيئات إستراتيجية" سريعة الحركة لتنمية توحد بين الأبحاث والتكنولوجيا: لهذا سيكون على هذه الجهات أن تتغير بسرعة وبصورة جذرية حتى تكون في مستوى يسمح لها بأن تلعب هذا الدور الذي سيكون، بدون ذلك، احتكارا للقطاع الخاص بمفرده.
ولا شك في أن مدى توافر السلع الثقافية على الشبكة Toile يمكن أن يستفيد في المستقبل من مشاركة خدمات عامة رئيسية مثل المكتبات والمتاحف والمكتبات المسموعة audiothéques، التي سوف تقدم خدماتها في شكل "مكتبات متعددة الوسائط" médiathèques. ويمكن أن تقوم هذه الأخيرة بتثوير وصول الجمهور إلى المعرفة: يوجد في فرنسا ستة ملايين شخص مسجلون بالفعل في مكتبة متعددة الوسائط، أي ثلاثة أضعاف المشتركين في المكتبات، مما يتيح لجمهور جديد وكبير الوصول إلى الكتاب، الذي تعيره أيضا المكتبات المتعددة الوسائط([62]). والحقيقة أن سياسات موجهة نحو تطوير "مكتبات متعددة الوسائط" في متناول الجمهور، بالاستعانة بإمكانات الإعلام المتعدد الوسائط multimédia، يمكن أن تشكل في الأجل الطويل عنصرا هاما من عناصر تقاسُم المعرفة، دون أن ينبغي أن نتخلى لهذا عن الوظائف الكلاسيكية والأساسية للمؤسسات الثقافية. فأيّ خسارة مدمرة للجميع، ولكل شخص منا، وأيّ ضياع إذا اتضح أن "الملاحين الإلكترونيين" cybernautes لم يعودوا يقرأون هيراقليط، أو شكسبير، أو ثيربانتس([63])!
ولهذا فإن التعليم سيكون عليه أن يوفق على كل المستويات بين المعلومات والتفكير العميق. وعلى هذا، يجب أن تعيدنا الوسيلة (الإنترنت والتكنولوجيات الجديدة) بصورة متواصلة إلى المحتوى (الكتب، المعرفة)، والمحتوى إلى الوظيفة (التعليم، وتعلم المعرفة)، والوظيفة إلى الرسالة (تعزيز السلام، وحقوق الإنسان، والديمقراطية). وبين كل عنصر وما يليه تفاعل متواصل وتكرار: على وجه الخصوص، لا يقوم التعليم على الوسيلة وحدها ـ سواء أكانت هذه الأداة التعليمية هي الإنترنت، أم الكتاب الدراسي، أم السبورة.
من الشبكات إلى الطرق السريعة للمعلومات:
الإستراتيجيات المختلفة
ترتبط "معجزة" الإنترنت بوضع معيار صلب وفعال بصورة خاصة (TCP – IP) [بروتوكول مراقبة النقل ـ بروتوكول الإنترنت] يسمح بتكلفة تشغيل منخفضة جدا (يتحدث الخبراء برطانتهم عن "ميثاق" التوزيع بالحزم). وقد سمح هذا الخفض للتكلفة باستخدام تسعيرات جزافية مجزية جدا، تشجع الاستكشاف الفردي والتعلم عن بُعْد، والتقاسُم الجماعي للمعلومات، وإنشاء مراكز لتوثيق المراجع، والاطلاع على المعلومات العامة التي تضعها الحكومات والخدمات العامة على الشبكة. ويسمح معيار الإنترنت من الناحية النظرية بجعل كل الشبكات وكل الوحدات الطرفية شفافة بعضها تجاه بعضها الآخر. إن مجرد خط تليفون وجهاز كمبيوتر شخصي كافيان لإنشاء مركز لوحدات خدمة الويب ومركز لإعادة توزيع تدفقات الإنترنت: وعلى هذا النحو يمكن كسر عزلة بلدان بكاملها عن المجتمع العالمي للأبحاث والمعلومات والثقافة وارتباطها به.
والطرق السريعة للمعلومات ماثلة في قلب الآلية العالمية الضرورية للتأمين، بأفضل الشروط، لتوزيع الصور والأصوات والبيانات، في حين يجرى توفير الوصول إلى وظائف تجديدية مثل التفاعل الفوري مع العوالم الافتراضية التي يمكن تقاسمها، أو المشاركة في مجتمعات افتراضية "موزَّعة"، أو الملاحة الرمزية في مكتبات افتراضية متعددة الوسائط يمكن الاطلاع عليها "على الشبكة". ومن الجلي أن شبكات توزيع المعلومات وتوجيهها في خطوط سيرها تشكل العمود الفقري للمجتمع الافتراضي. ورغم أن هذه الشبكات في طريقها نحو التقارب التكنولوجي المتسارع فإنها مع ذلك ما تزال بالغة التنوع. والحقيقة أن شبكات الأقمار الصناعية ذات المحطات الأرضية أو المتحركة، وشبكات الهيرتس الأرضية، وشبكات الاتصالات المحمولة (التليفونات الخلوية)، والشبكات الكابلية، وشبكات الألياف البصرية، ولكن أيضا الوحدات الطرفية الجديدة([64])، تقدم تركيبات عديدة ممكنة، بعلاقات بالغة التنوع بين الاستثمارات ومستويات الأداء.
ورغم "التقارب"، يمكن أن تتنوع برامج الاستثمار بصورة كبيرة. إن دراسة بالغة العناية للأولويات السياسية والأطر القومية والإقليمية يمكنها وحدها أن تتيح اختيار التوازن السليم بين هذه الوسائل المتباينة. والمسألة الرئيسية هي تقييم ما إذا كان يمكن أن توضع الشبكات والتقنيات الراهنة من الآن فصاعدا في خدمة أهداف التنمية ذات الأولوية (التعليم، الأبحاث، البيئة، الثقافة، الصحة) لفائدة البلدان النامية، أو ما إذا كان من الضروري إقرار استثمارات طموحة جدا، على غرار بعض البلدان الصناعية، التي تطالب على سبيل المثال بالتجهيز العام بالألياف البصرية.
وحول هذه النقطة، أريد التشديد على أن المصلحة الموضوعية للبلدان النامية تتمثل في أن لا تنتظر الموجه التكنولوجية التالية: إنها يجب أن تمسك من الآن بالفرص التي تسنح لها. وعلى سبيل المثال فإن ظهور الإنترنت بالملايين من مستعمليه، وعشرات الآلاف من مراكز وحدات خدمة الويب، والآلاف من قواعد بياناته، وبرامج الكمبيوتر المتوفرة مجانا، يمثل بالنسبة للبلدان النامية فرصة استثنائية للارتباط بتكلفة منخفضة بتدفق عالمي لبيانات وصور ذات هدف تعليمي وعلمي وثقافي. وتتمثل المشكلة الرئيسية في الوصول إلى التكنولوجيا، كما يؤكد روبرتو بيسيو Roberto Bissio، مدير معهد العالم الثالث (أوروغواي)، قائلا إنه في هذا المجال ما زالت الفجوة بين الشمال والجنوب أوسع حتى مما في توزيع الموارد الأخرى، وإن من المحتمل أن يتسع هذا الفارق أكثر فأكثر. ووفقا لنفس الخبير، يحتاج الجنوب بالتالي، لمواجهة هذا التحدي، إلى نهج براغماتي ومنخفض التكلفة "يقوم على القاسم المشترك الأصغر ـ الرسالة المنقولة بالبريد الإلكتروني، وتفاعل ’سماسرة المعلومات‘ داخل شبكة لامركزية"([65]).
وينبغي أيضا أن نلاحظ أن السباق على الأداء التكنولوجي، وهو ما يتجسد في تقادم متسارع للمعدات وتعلية دائمة لأسعار العروض، بعيد عن أن يكون له ما يبرره دائما. والواقع أن الشبكات الحالية في أوروبا (التليفون، والكابل وحتى شبكات الأقمار الصناعية) ناقصة الاستعمال، من الناحية الكمية والكيفية، وما تزال بالتالي مرتفعة الأسعار للغاية: إيجارات الخطوط في أوروبا أغلى مما في الولايات المتحدة بما يتراوح بين عشرة أضعاف وثلاثين ضعفا. وبدلا من مجرد انتظار تنمية بنية أساسية جديدة بالغة الضخامة ومرتفعة التكلفة فإنه سيكون أكثر حكمة أن تتم، كأولوية، تنمية صناعة ابتكارية تتمحور حول خدمات المعلومات والاتصالات، وحول خلق "محتويات" جديدة. ومن المحتمل أن أغلب التطبيقات الراهنة "للطرق السريعة الإلكترونية" ليست لها سوق فعالة بين الجمهور العريض: فمن ذا الذي يحتاج حقا، باستثناء المحترفين، إلى 500 قناة تليفزيون تجارية أو حتى إلى 150 من القنوات المتخصصة؟
وبالمقابل فإن الحاجات إلى الوصول المنتظم والشخصي إلى معلومات جيدة الإعداد ودقيقة ورخيصة الأسعار كبيرة وضاغطة داخل مجالات التعليم، والأبحاث، وترشيد العمل داخل المصالح والمشروعات (خاصة المشروعات الصغيرة والمتوسطة الأساسية جدا للتنمية في الشمال، وما تزال أكثر أساسية في الجنوب). غير أن شبكات التليفون والشبكات الكابلية الراهنة ما تزال غير كافية إلى حد كبير من أجل هذه التطبيقات. وتتمثل المشكلة ذات الأولوية ليس في بناء طرق سريعة للمعلومات تمثل طاقة زائدة بالنسبة لمجتمع على الاستهلاك والأنشطة الترفيهية، بل تتمثل بالأحرى في استعمال الشبكات الراهنة بصورة أفضل من أجل تيسير ظهور مجتمع يتميز بوفرة المعلومات، وتداول المعارف، والملاحة الافتراضية في "ذاكرة العالم".
وبطبيعة الحال فإن حضارة الافتراضي لن تنظم نفسها حول الطرق السريعة للمعلومات فقط تماما مثلما لا تنتقل كل وسائل النقل العالمية عبر طرق سريعة. ومن المحتمل أكثر أن تنشأ تكاملية بعينها بين التقنيات على الشبكة online وخارج الشبكة offline. وعلى سبيل المثال فإن أنظمة للملاحة والبحث عن المعلومات مثل تلك التي تعمل على الإنترنت (Mosaic, Netscape, World Wide Web, VRML, Java, etc.) يمكن أن تتعايش بالطبع مع نظام لتوزيع الصور في شكل أشرطة ﭭيديو أو أقراص سي دي ـ روم مرسلة بالبريد. ومن جهة أخرى، لا مناص من أن يُثبت بث الصور بالطرق السريعة للمعلومات باستعمال الألياف البصرية ربحيته في نهاية الأمر بالمقارنة مع أشكال لتوزيع الصور تبدو أقل تطورا، غير أن هذه الأشكال يمكن أن تغدو أكثر فعالية بكثير وأفضل ملاءمة بكثير مع وسائل أغلب البلدان النامية.
ولهذا فإنه لا يجب أن تنسينا المشروعات الكبرى لتنمية "الطرق السريعة للمعلومات" أن من الممكن منذ الآن بناء طرق سريعة، وطرق فرعية، وطرق ريفية، ومسارات، وممرات للمعلومات بتكنولوجيات مجربة. وفيما يتعلق "بالطرق السريعة" نفسها فإن هناك سياسات كثيرة ممكنة. وعلاوة على هذا فإن البلدان الصناعية إذا اتفقت على العموميات تختلف مع ذلك على إستراتيجيات الاستثمار التي ينبغي تحقيقها، ومعدلاتها، وأولوياتها، وبصورة خاصة على المدى المرغوب فيه من التحرر من السيطرة الحكومية، وعلى دور الدول القومية إزاء شبكات الخدمات ذات الميول عبر القومية. ومع أن إعادة نظر لهذه الإستراتيجيات يمكن أن تكون مفيدة إلا أن هذا يتجاوز إطار هذا الكتاب.
حدود التحرير من السيطرة الحكومية
وكما نعرف، لا تقتصر "الطرق السريعة للمعلومات" على شبكة الإنترنت. وليست شبكة الإنترنت سوى مكون واحد فقط من مكونات الثورة التكنولوجية الجارية. ويجرى إثراء "شبكة الشبكات" كل يوم بشبكات جديدة، ووظائف جديدة، ومستعملين جدد، ووصلات بينية جديدة. ويشتمل الإنترنت على 12000 شبكة مفتوحة أمام الوصول العام. ومثل هذه الشبكات المفتوحة، كما تشدد ساسكيا ساسين، تضاف إلى 28000 شبكة مغلقة خاصة، ولكن موصلة بالإنترنت، تسمى "شبكات داخل الشبكة"([66]). وهكذا يتألف الفضاء الإلكتروني من ثلثي فضاء رقمي خاص، مكون من شبكات بالغة الهيراركية، تعمل مثل النوادي الخاصة بفئة، حيث لا يدخل كل من أراد. ولا غرابة في هذا: إن ثورة التكنولوجيات الجديدة تجلب معها ثورة في الاتصالات وإدارة المعلومات، خاصة داخل الشركات والمصالح. وفي عام 2000، من المقدر أن يوجد مليون وستمائة ألف شبكة عامة وخاصة في كل أنحاء العالم. ومن الآن فصاعدا يتم إجراء كتلة هائلة من المعاملات المالية في الفضاء الرقمي الخاص، بالتخلص على هذا النحو من قواعد ونظم التداولات التقليدية في سوق الأوراق المالية، مما يطرح أسئلة جديدة وصعبة: ما نكسبه في السرعة نخسره في الشفافية. فأيّ منطق سيحكم هذا العالم الرقمي: منطق فتح الشبكات أم منطق إغلاقها؟ ولا مناص من تسجيل أنه، وراء الواجهة الأيديولوجية للشفافية وللاتصالات بلا حدود في كل الاتجاهات، وهي تمثل إن جاز القول أيديولوجية الفضاء الإلكتروني، فإن المنطق الحذر لخصخصة الشبكات وإغلاقها هو الذي يسود اليوم بصورة متزايدة.
ونحن نعرف، على سبيل المثال، أن جيلا ثانيا من الإنترنت (أو "الإنترنت 2")، أنشأته المؤسسة الوطنية الأمريكية للعلوم، باستعمال شبكات من الألياف البصرية التليفونية، يتجه الآن إلى إحراز قصب السبق على الإنترنت التقليدي. ومنذ نهاية 1996، توجد الآن أكثر من مائة من المؤسسات الجامعية ومراكز الأبحاث في الولايات المتحدة، على نفقاتها الخاصة وعلى نفقة رعاتها ومروجيها، على هذه الشبكة العملاقة التي تربط خمسة أجهزة كمبيوتر عملاقة في الجامعات الأمريكية، ويمكن أن تنقل 622 ميجابايت (ميجاأوكتيت mégaoctets) من المعلومات في الثانية ـ أي أكثر من عشرة أضعاف سرعة الإنترنت الكلاسيكي و20000 ضعف طاقة المودمات التي تصل إلى 28000 بايت (أوكتيت octet). وتتيح هذه الشبكة الجديدة إجراء حسابات معقدة للغاية، تصل إلى تيرابايت واحد (تيراأوكتيت téraoctet) [تريليون بايت = تريليون أو تريليار أوكتيت un trilliard octets] لكل عملية، خلال مدد قصيرة جدا، كما تتيح الإظهار على الفور لنماذج محاكاة بالحاسوب ثلاثية الأبعاد للجزيئات أو الدوامات. وتتمثل إحدى مزايا الشبكة الجديدة فيما تحققه من كسب الوقت بالمقارنة مع الإنترنت "الكلاسيكي"، الذي يزدحم بالفعل جدا في كثير من الأحيان ويغدو عاجزا (جزئيا بسبب برامج التطبيق غير الملاءمة، وهذه مشكلة في طريقها إلى الحل) عن تلبية مثل هذه التطبيقات الفعالة إلى هذا الحد([67]). وينبغي أن نأمل في أن تنفتح هذه الشبكة أمام التعاون بين بلدان الشمال وبلدان الجنوب، في مجال البحث العلمي.
وتشترك مختلف سياسات إنشاء "الطرق السريعة للمعلومات" في الإصرار على الضرورة الملحة للاستثمارات الضرورية وضخامتها، وعلى أهمية التحرير من السيطرة الحكومية بهدف ترك أوسع مجال حر ممكن للقطاع الخاص، حتى إذا كان لا مناص من أن تكون هذه الحرية مقيدة بمراعاة مبدأ وصول الجميع إلى "الخدمة الشاملة". غير أن هذا المفهوم الحاسم للغاية لم يكن أبدا دقيق التعريف مع ذلك. وفي أفضل الأحوال فإنه يظل بحاجة إلى "إعادة تعريف بصورة متواصلة"، وإلى التوسيع وفقا للحاجات الجديدة والمقتضيات الجديدة التي تحفزها حضارة في تطور مستمر.
وتبقى مشكلات عديدة بهذا الخصوص دون حل: كيف يمكن تأمين تمويل "الخدمة الشاملة"؟ ومن الذي يجب أن يقدمه؟ ومن الذي يحدد الأسعار؟ وكيف يمكن بصورة فعلية ضمان حرية التعبير والحياة، الخاصة للمستعملين، وأمن المعلومات؟ وكيف يمكن تفادى أن تتم ترجمة التحرير من السيطرة الحكومية إلى بحث عن الربح الأقصى، عندما يفسح المجال الحر لاقتصاد السوق الحرة؟ وكيف يمكن تفادى أن يتجه المضاربون الخاصون، الذين يحلون محل "شركات النقل العامة" common carriers، إلى انتزاع أفضل العملاء ربحا، مثلاً من خلال إنشاء "اتجاهات" استهلاكية مطبوعة بالطابع الشخصي للعملاء، مما يستحضر شبح الأخ الأكبر Big Brother للتسويق؟ وهل يجب أن تكون الطرق السريعة للمعلومات لا مركزية، ورخيصة، ومفتوحة للجميع، أم يجب أن نشجع احتكارات الأقلية وتجزئة الأسواق؟ وهل ينبغي أن ندعم قيام المواطنين بإنتاج وتوزيع المعلومات التي يمكن أن تقود إلى أشكال مختلفة من "الديمقراطية الإلكترونية" التي تناولها من قبل عدد من خبراء المستقبليات، أم ينبغي، على العكس، أن نشجع تطبيقات تجارية مثل أفلام "تحت الطلب" à la demand ["ادفع وشاهد"] والتجارة الإلكترونية؟ وعلى الإجابة على هذه الأسئلة تتوقف اختيارات تقنية واستراتيجيات هندسية، قادرة بدورها على أن تعزز الحياة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية أو أن تكبحهما، على العكس. وما يزال ينبغي قبل كل شيء توضيح الرهانات، والاتجاهات، والمخاطر، والأوراق الرابحة، والسيناريوهات المتوقعة سلفا. وما يزال ينبغي توضيح سياسات عامة يجب أن تخدمها التكنولوجيات الجديدة.
وفي انتظار هذا، تم بالفعل البدء في المناورات الكبرى، ويعبر التحرير من السيطرة الحكومية عن نفسه من خلال التقارب المتسارع بين التقنيات والخدمات، وتحرير الأسواق، وتعزيز عدد من احتكارات القلة العالمية، تحل الآن محل الاحتكارات القومية. ولم يعد هناك مجال للتساؤل عما إذا كانت الثورة ستقع حقا: لقد أصيب النظام القديم بالفعل إصابة مباشرة، ولهذا ينبغي الشروع من الآن في تنفيذ سياسة طموحة "لنوع جديد من تعليم القراءة والكتابة"، وللتدريب على برامج ثقافية ومفاهيمية ناشئة، إذا أردنا أن نتفادى أن تتسع بصورة نهائية هذه الهوة الثقافية القائمة بين الكتبة الجدد، والأميين الجدد، بين "أغنياء المعلومات" info-riches، وفقراء المعلومات info-pauvres.
ولتأمين نجاح هذه السياسة، فإنه لا غنى عن "إعادة تنظيم" حازمة ومتوازنة ويقظة. ويجب أن تقوم هذه السياسة على مبادئ غير قابلة للتصرف مثل حق الإنسان في الوصول إلى المعلومات والمعرفة. وباسم هذا الحق، شبهت محكمة أمريكية، في حزيران/يونيه 1996، الشبكات الرقمية "بمحادثة عالمية متواصلة"، ولهذا فإن هذه المحادثة تشملها حماية أول تعديل للدستور الأمريكي بشأن حرية القول([68]). ولهذا سيكون من الواجب إعلان مبادئ أخلاقية دولية واضحة، وسيكون من الواجب تأمين احترام هذه المبادئ في إطار سيادة القانون. ويجب أن تتناغم الأطر القانونية والقضائية القومية، مع أخذ هذه المبادئ العالمية في الاعتبار. وهناك مشكلات عديدة تحتاج بصورة ملحة إلى حلول: حق الملكية الفكرية، حرمة الحياة الخاصة، حق الوصول إلى المعلومات، حرية التعبير.
الملكية الفكرية والمصلحة العامة
والملكية العامة للمعلومات
يجب أن تسهم التكنولوجيات الجديدة في "صون المعرفة وتقدمها ونشرها"([69])، وفي التداول الحر للأفكار والمعارف، وفي التعليم للجميع مدى الحياة: لهذا يجب أن تكون مصحوبة بإدارة يقظة للملكية العامة للمعلومات والقوانين التي تحكم الملكية الفكرية. والواقع أن الرهانات ليست فقط قانونية أو تجارية، بل هي أيضا أخلاقية وسياسية. وفي الولايات المتحدة، ترجع فكرة الوصول العام إلى المعلومات إلى الآباء المؤسسين وعلى وجه الخصوص إلى توماس جيفرسون Thomas Jefferson، رائد مفهوم "المكتبة العامة" ومبدأ "الاستعمال النزيه" مما أتاح الاستخدام التعليمي للنصوص المحمية والاستشهادات الأكاديمية منها([70]). وقد كتب جيفرسون نفسه يقول: "إن مَنْ يتلقى منى فكرة، يتلقى معرفة لا تُنقص معرفتي؛ تماما كما أن مَنْ يشعل شمعته من شمعتي يتلقى الضوء دون أن يُلقي بي في الظلام. وحقيقة أن الأفكار تستطيع أن تنتشر من شخص إلى آخر عبر العالم، من أجل التهذيب الأخلاقي المتبادل للإنسان، ومن أجل تحسين وضعه، يبدو لي أنها استجابة لتدبير محدد وخيِّر للطبيعة، التي أعطت الأفكار عندما أنشأتها، على صورة النار، القدرة على الانتشار في كل مكان دون أن تقل كثافتها في أي نقطة، وجعلها، مثل الهواء الذي نتنفسه ونتحرك فيه ونعيش فيه حياتنا الجسمانية، غير قابلة للسجن أو للامتلاك الخاص دون الآخرين. وبالتالي فإن الاختراعات لا يمكن أن تكون موضوعا للملكية".
وتميل تطورات راهنة بعينها إلى إطالة لمدة "حق التأليف" على حساب الملكية العامة([71]). فهل تشكل هذه الإطالة للحماية، دون أي موازنة من أجل المصلحة العامة، خطوة أولى نحو اختفاء الملكية العامة لا أكثر ولا أقل؟ وهل تتفق هذه الإطالة مع انتشار وصول شامل إلى المعلومات وتنسجم مع روح القوانين الخاصة بالملكية الفكرية، هذه القوانين التي نصت على عودة الأعمال، بعد مدة بعينها، إلى الملكية المشتركة؟ وعلى هذا النحو صارت مشكلة قواعد البيانات وبيانات القطاع العام موضوعا لجدال لا ينقطع.
والحقيقة أن مشكلة الملكية الفكرية ليس لها حل وحيد الجانب. وبطبيعة الحال فإن الحماية السليمة للحقوق تشجع الإبداع والتجديد. غير أن الحماية الزائدة عن الحد تنقلب ضد مصلحة أصحاب الحق وضد المستعملين. إذ يمكن لحق ملكية فكرية بالغ الصرامة أن يولد إيرادات مضمونة غير مقبولة نظرا لأنها تميل إلى إنشاء احتكارات فعلية، دون أن تدعم المصلحة العامة أبدا. وعلى هذا يمكن أن تنشأ مثل هذه الاحتكارات من الحاجة (الملازمة لحضارة الافتراضي) إلى نماذج ومعايير في مجال برامج الكمبيوتر أو الشبكات. وفي حالات أخرى، تكون ذات طبيعة "الاختراع"، أو طابعه "الأصلي"، هي التي تطرح المشكلة. وفي هذه الحالة، وبعيدا عن أن يكون "تشجيعا للإبداع"، فإن الحق لا يفيد إلا أولئك الذين هم أقوياء بالفعل، ويجد المجتمع الدولي للمستعملين نفسه مرغما على التعرض للإهانات من جانب عدد صغير من احتكارات القلة الفائقة القوة. وفي سبيل النضال ضد هذا الخطر، ينبغي دون شك توسيع مفهوم الملكية العامة ليتسع للنماذج والمعايير الفعلية من أجل تشجيع المنافسة الحرة، والتداول الحر للأفكار، وإبداع كل الثقافات، وكل الفاعلين. وسيكون من الملائم على كل حال، إذا سلكنا هذا الطريق، الحرص على عدم تمييز الأغنياء ـ الذين يمكن، بعد وصولهم إلى الشبكات، أن يصيروا معفون بصورة متزايدة من حقوق الملكية الفكرية ـ إذ يحملون على دفعها الفقراء الذين يمكن، لكونهم في أكثر الأحيان محرومين من هذه الشبكات ذاتها، أن يظلوا مجبرين على دفع الحقوق نظرا لأنهم يظلون معتمدين على الوسائل الكلاسيكية للنشر، مثل الكتاب.
ويجب أن يكون المجال الرئيسي للتدخل هو مجال المعلومات والأعمال التي تتخلص بصورة قبلية a priori من كل مشكلات حقوق المؤلف، إما لأنها صارت بالفعل ضمن الملكية العامة بسبب تاريخ نشرها، وإما لأنها من إنتاج مؤسسات عامة أو أكاديمية مهتمة بصورة أساسية بأن تنشر بأفضل تكلفة هذه المعلومات ذات الأهمية العامة. والواقع أن عددا متزايدا من المؤلفين مستعدون لنشر أعمالهم مجانا بشرط أن تكون أسماؤهم مقترنة بها بوضوح، وأن تكون سلامة نصوصهم مكفولة. ويتفق هذا مع مفهوم copyleft (اقتصار حق المؤلف على الحق الأدبي). ولدى اليونسكو على وجه الخصوص المشروع الخاص بدعم تعميم محفوظاتها من الوثائق والمعلومات التي تنتمي إلى الملكية العامة داخل الدول الأعضاء لجعلها متاحة بحرية على خط الإنترنت، بما يتفق مع مبدأ الوصول الحر تماما إلى المعلومات التي يتم إنتاجها بالأموال العامة، وبتكلفة لا تتجاوز التكلفة الحدية للنسخ أو النشر.
وليست الانقلابات الجارية بدون نتائج فيما يتعلق بمفهوم حق المؤلف والحق المعنوي. وتتيح الرقمية الجمع بين ومعالجة أنواع عديدة من الوسائط (نصوص، أصوات، صور). والحقيقة أن المعلومات يمكن نسخها بصورة لا نهائية، وتعديلها بسهولة، وتوزيعها بصورة فورية، على الشبكات. وينبغي أن نأخذ هذا في الاعتبار وأن نجد توازنا قانونيا ملائما بين حماية المؤلفين وحق المستعملين إلى معالجة وتطويع سيل الإعلام المتعدد الوسائط. ويجب رفع شأن المفهوم الأنجلوساكسوني البالغ الأهمية، مفهوم "الاستعمال النزيه" faire use. وهذا مهم بصورة خاصة بالنسبة لمستقبل المكتبات العامة، وبالنسبة للمحفوظات، وبالنسبة للنظم التوثيقية للخدمة العامة. غير أن هذا مهم أيضا لأن الأمر يتعلق بكفالة الوصول إلى المعلومات والمعرفة للمجموعات الاجتماعية المحرومة وللبلدان النامية.
وعلى كل حال فإنه سيكون لا غنى عن تنسيق دولي. ومن الجدير بالإشارة أن المشكلات القانونية الحاسمة سوف تتمحور في المستقبل ليس حول الأشكال الكلاسيكية للتعبير باستخدام وسائل إعلام جديدة ـ على سبيل المثال، تقدم أقراص سي دي ـ روم متتاليات سمعية بصرية وصورا فوتوغرافية ـ بل حول الحالة الأكثر تعقيدا بكثير للأشكال الجديدة من الإبداع: نُظم موزعة، برامج كمبيوتر على الشبكة، أعمال تطورية، إلخ.
النضال ضد
تصحُّر الثقافات
نظرا لتأثيرها على الصناعات الثقافية، لا يمكن التفكير في التكنولوجيات الجديدة بصورة منفصلة عن السياسات الثقافية، كما أنه لا يمكن تجريدها من استراتيجيات التنمية وضغوط الاقتصاد.
وفي المستقبل فإنه نظرا للرواج الذي لم يسبق له مثيل لتداول الصور، والبيانات، والصوت، ستصير الصناعات الثقافية "ملتهمة للبرامج". ومن الآن، تمثل صناعة الاستجمام والتسلية في الولايات المتحدة القطاع التصديري الثاني بعد صناعة الطائرات ومركبات الفضاء. ولهذا فإن من الأساسي أن تشجع السياسات الثقافية، في عشية القرن الحادي والعشرين، ليس فقط إضفاء الطابع الرقمي على كل التراث الثقافي، ماديا كان أم لا ماديا، بل أيضا مضاعفة طاقات الإنتاج، على المستوى القومي أو الإقليمي، حسب الأوضاع الملموسة والقدرات المتاحة. وفي بلدان صناعية بعينها، مثل فرنسا([72])، يقدر المسئولون أنه سوف ينبغي المضاعفة عشرين مرة لهذه الطاقات إذا أُريد الوصول إلى تلبية الطلب. وإلا فإن العرض سيحتكره بجانبه الأساسي بلد أو بلدان.
وبطبيعة الحال فإنه ما يزال من غير الممكن التكهن بكل يقين بنتائج هذه الثورة. فهل سوف تتيح تقريبنا الواحد من الآخر ثقافيا؟ وفي هذه الحالة يمكن أن تصير "الثقافة عن بُعْد" ثقافة بدون بُعْد (=مسافة). لكن ما هي الثقافة المقصودة إذن؟ ثقافة "المعولِمين" globalisateurs [أصحاب العولمة] المبيعة "للمعولَمين" globalisés [ضحايا العولمة]؟ وهل ستؤدى ثقافة كهذه إلى تآكل الثقافات؟ إلى أشكال من التصحر الثقافي، بتوسيع ثقافة منمطة [موحدة قياسيا]، متحولة إلى مجرد سلعة؟ وبكلمات أخرى، ماذا سيحدث للتنوع الغني للثقافات، في عالم يغدو عالميا بصورة أكثر فأكثر، "مُوَصَّلٍ" بالشبكات ومترابط؟ إننا نهتم بالتنوع الأحيائي، المهدد بخطر كبير جدا. فهل سننجح في المحافظة على التنوع الثقافي، الذي يبدو مهددا بتماثل الرسائل بقدر ما هو مهدد "بالثقافة الأحادية" للتنمية والعقلانية التكنوقراطية؟ وما هو الوجه الذي سيقدمه مستقبلنا؟ وجه التماثل الثقافي؟ أم وجه تعايش وتآلف الثقافات؟
وقد أشار مدخل هذا التقرير إلى العولمة. والواقع أن أغلب الثقافات، رغم اختلافاتها، تعيش من الآن فصاعدا في زمن عالمي واحد، وهي تنتقل "على الفور" على الشبكات ويتم إن جاز القول "اقتلاعها من مكانها". وبهذا المعنى، لم يكن العالم في أي وقت مضى معاصرا إلى هذا الحد. وإنما على الفرد يكون تأثير هذه الظاهرة هو الأكثر مباشرة والأكثر قوة. وبمعنى ما فإن استقلاله يتزايد لأن الثقافة لم تعد تعتمد على مكان واحد أو مجموعة واحدة. وهذا ما كان قد أدركه مارشال ماكلوهان Mrshall McLuhan عندما أشار إلى "القرية العالمية": لقد صمم على هذا النحو ليس الشبكة العالمية للاتصالات ذاتها بقدر ما صمم الشبكة مفهومة على أنها امتداد لروح ووعى كل فرد. كما أن التأثير الإيجابي "للاقتلاع من المكان" للثقافات قوى جدا على "مجتمعات الشتات (الدياسبورا)" التي تتوثق صلاتها نتيجة لاتساع انتشار الشبكات. وبالمقابل فإن من المحتمل أن تشهد المجتمعات البالغة الإقليمية تقلص درجة تماسكها، أمام نمو نوع من الفردية العالمية بأثمان مستقلة à la carte وثقافات عبر قومية عديدة.
ولا تشمل العولمة جوانب سلبية فقط. فمن ذا الذي لا يتمنى أن يرى أن تتم مراعاة حقوق الإنسان في كل مكان بلا قيود، والعلم والطب ينتشران عالميا، والوسائل الحديثة للاتصالات تكسر عزلة 40% من سكان العالم([73])؟ ومن ذا الذي يمكن أن يتذمر إذا قامت التكنولوجيات الجديدة، عن طريق انتشارها على نطاق العالم، بتحويل كل شخص إلى مواطن عالمي؟ ومن ذا الذي يجرؤ على أن يحتج إذا أسهمت هذه التكنولوجيات، كما يشير برنامج الأمم المتحدة للتنمية([74])، في تراجع بعض الممارسات الثقافية الجائرة مثل القنانة والعبودية والإقصاء التقليدي لمجموعات بعينها، والمعاملات الوحشية المحكوم بها على النساء؟
ومع ذلك فإنه لا يمكن التقليل من خطر تآكل الثقافات. وهناك لغات وثقافات موروثة عن الأسلاف تختفي. وما تزال توجد في العالم حوالي ستة آلاف لغة. غير أن حوالي عشرين لغة منها فقط لها جمهور عالمي. ويموت عدد من هذه اللغات كل عام. فهل سنترك تنوع اللغات يختفي إلى الأبد؟ وهل سنترك ثروة هذه اللغات (ربما 360 مليون كلمة إذا اعتبرنا أن كل لغة تملك في المتوسط 60000 كلمة) يتم اختزالها إلى لغة مشتركة Lingua Franca واحدة مستمدة من ثقافة واحدة؟ وقد تناولنا هذه المسألة الحاسمة في فصل آخر من هذا العمل.
ولا يجب أن تؤدى عولمة الرسائل إلى ثقافة أحادية monoculture وحيدة اللغة تسيطر عليها التكنولوجيا. ووفقا لتعبير غاندي Gandhi: "دعوا نوافذ بيتكم مفتوحة ودعوا النسيم يهب من كل الاتجاهات، لكنْ لتكنْ أساسات منزلكم متينة لا تهتز". ولا يمكن أن يكون الامتثال الثقافي حلاًّ عالميا: نتيجة لردود الأفعال التي يثيرها الآن، لا يمكن أن يقود إلا إلى العنف والكارثة الثقافية.
ويعطينا فكرة أولى عن هذا العنف ما نشهده من انفجار النزاعات بين الأقليات والأغلبية، بل حتى فيما بين الأقليات. وقد أشرنا في مدخل هذا العمل إلى أن القرن الحادي والعشرين قد بدأ من الآن، في سياق المفارقة المتمثلة في عولمة تحفز عودة أقصى التفتت وأقصى العنف. والحقيقة أن مجرد بقاء مجموعات بشرية عديدة هو المهدد اليوم بالأخطار، كما يشهد التعرض الدائم للهجوم الذي يصيب حوالي 300 مليون من السكان الأصليين الذين يعيشون في 70 بلدا من بلدان العالم. وفي أحد هذه البلدان، المتقدم جدا مع ذلك من حيث التنمية، يصل معدل انتحار مجتمعات السكان الأصليين الأصليين إلى 40 شخصا من كل 100000 في 1988، أي ثلاثة أضعاف المتوسط القومي. وفيما يتعلق بهنود اليانوماني، الذين يعيشون في غابات الأمازون، فقد كان عددهم ما يزال 10000 في 1986. أما اليوم فإن فرصهم في البقاء تبدو محدودة جدا. والحقيقة أن الإحباط واليأس واحتمال تلاشى ثقافتهم وحتى الأصل الذي ينحدرون منه، تشكل جميعا القدر المأساوي لعدد كبير من المجتمعات المحلية. فكيف يمكن أن تعوض "الثقافة عن بُعْد" عن الإبادة الإثنية لأقرب ثقافة، الثقافة التي تعيش في قلب كل شخص؟
غير أننا نلاحظ علامات تطور تدل على أن التطور التكنولوجي لا يدخل بالضرورة في تناقض مع التنوع الثقافي. وتثبت صحة هذا بصورة خاصة على المستوى اللغوي. ولا شك في أن الإنترنت، نظرا لمنشئه في المكان الأمريكي الشمالي، يستخدم الإنكليزية كلغة رئيسية ناقلة للمعرفة. غير أن اللغة الإنكليزية، التي كانت ما تزال تمثل إلى وقت قريب 90% من مواقع الإنترنت، لم تعد تمثل منذ كانون الثاني/يناير 1997 سوى نسبة 70% منها، وتشترك اللغات الجرمانية والرومانية واليابانية بنسبة 25% من الباقي([75]). ونحن نتناول في فصل آخر مستقبل اللغات، والأهمية التي يحظى بها إنشاء نماذج عالمية تتيح دمج كل نظم الكتابة العالمية (بما في ذلك الرموز الرئيسية للكتابة الصينية)([76]). ولا يقتصر ما يبرر ظهور إنترنت متعدد اللغات على أسباب تتعلق بالوصول والاتصال، بل يتمثل أيضا في أسباب ثقافية. وينبغي الحرص على أن تكون هذه الوسيلة الجديدة للاتصال بمثابة أداة نقل حقيقية للتعليم، والمعرفة، والتدريب، والتبادل، والاتصال، ونشر الثقافات. ويجب بطبيعة الحال أن يكون الإنترنت أول من يسهم في المحافظة على تنوع التراث الثقافي للبشرية.
وفي مواجهة خطر "تصحُّر" الثقافات، لا غنى عن إحياء التراث، والمحافظة على البيئة الثقافية، وتشجيع استمرار مختلف أشكال البث. ومن الآن فصاعدا يمكن أن يسهم إضفاء الطابع الرقمي على التراث بصورة حاسمة في هذا الاتجاه. ويمكن أن تشجع سياسات فعالة لصالح اللغات، تتمحور حول مبدأ "اللامركزية اللغوية"، على تجدُّد التنوع الثقافي، أينما كان مهددا، في إطار تعددي يسوده التسامح والتعايش فى تآلف([77]).
والتراث يجب الحفاظ عليه، غير أنه يجب أيضا معايشته، وإنعاشه، وإحياؤه. ويمكن أن يشمل نضال فعال ضد "التصحر الثقافي" أعمالا واسعة النطاق تجمع بين السياحة الثقافية الرفيعة والتنمية الثقافية، التي تتمحور على سبيل المثال حول إحياء الفنون والصناعات الحرفية والمحافظة على البيئة المبنية والطبيعية. وأعتقد أنه آن الأوان لكي نفكر في إنشاء المتنزهات القومية للتراث الثقافي والطبيعي([78])، التي يمكن أن تشكل أرخبيلات حقيقية للتنمية الذكية. ويمكن أن تشجع مثل هذه السياسات، في مناطق ذات أهمية تراثية كبيرة، على إحياء الفنون المعمارية التقليدية، على سبيل المثال فنون البناء بالطوب اللبن العزيزة على حسن فتحي، بمساعدة السكان المعنيين والتقنيات الحديثة. وتغدو الفكرة دعم التنمية ب الثقافة، ولم تعد التنمية ضد الثقافة.
وتقدم مثل هذه الأعمال، في رأيي، بديلا مقنعا جدا للنماذج القائمة على المحاكاة وغير المتكيفة للتخطيط الحضري والإسكان التي توضع موضع التطبيق بصورة متزايدة في كثير من الأحيان في الجنوب، وكذلك في عدد من البيئات التي ما تزال تقليدية في الشمال. والحقيقة أن إبداع وفن الخروج من الطرق المطروقة ماثلان في صميم المجازفة البشرية: إنها الأسلحة السرية والسلمية للتنمية.
غير أنه ينبغي المضي إلى أبعد من هذا. إذ أنه يوجد شكلان للتنوع الثقافي، وبالتالي "للتعددية الثقافية"، كما يؤكد نسطور جارثيا كانكليني([79]): التعددية الإثنية والتعددية اللغوية اللتان هما من ثمار التاريخ، والتعددية الثقافية النابعة من الأشكال الحديثة لتجزئة وتنظيم الثقافة في المجتمعات الصناعية. أما فيما يتعلق بهذا المفهوم الثاني فإن العولمة والثورة الجديدة لتكنولوجيات المعلومات والاتصالات ليستا في شيء مرادفتين ـ بل على العكس تماما ـ للامتثال الثقافي. إنهما تؤديان على العكس إلى تهجين واسع النطاق للثقافات، جنبا إلى جنب مع التآكل النسبي للثقافات القومية، واتفاقيات التبادل الحر، والأشكال الشديدة التنوع للصدامات، بواسطة وسائل الإعلام، ولكن أيضا بواسطة السياحة أو الهجرات. واليوم، يتخذ الامتزاج الثقافي أبعادا عالمية، كما يشهد رواج the world music [الموسيقى العالمية (موسيقى شعبية رائجة: خاصة أفريقية)] أو حتى الانتشار المتزايد لأساليب الطهي.
ولا شك في أن القرن الجديد سوف يشهد ازدهار ما توقعناه من قبل في "قريتنا العالمية": تدفق تراكيب ثقافية جديدة، وأشكال مهجنة، و"تحولات ثقافية". ومن المؤكد أن تقوم ثورة الافتراضي le virtuel بتسريع هذه الظواهر. وبهذا المعنى فإنني على اقتناع بأننا لم نخسر بعد المعركة في سبيل التنوع. وكما يقول أيضا كارلوس فوينتيس Carlos Fuentes فإن "الثقافة محارة نسمع بداخلها أصواتا صاخبة مبهمة عن ماذا نكون، وماذا كُنا، وماذا نسينا، وماذا يمكن أن نصير". والتنوع الثقافي وحده هو المهدد بالاختفاء، والذي ينبغي أن نحافظ عليه عن طريق سياسات فعالة، وهذا هو الذي، موروثا عن الماضي، يعيش في عنصر اللغة وفي "روح" كل ثقافة.
ويتوافق مجموع هذه الثورات في نهاية المطاف مع ظاهرة أخرى نُلحّ على طابعها الوشيك: غسق [= تدهور] وسائل الإعلام الجماهيرية، التي يقدر عدد من المراقبين أنها أدوات جبارة للتنميط uniformisation الثقافي. ووفقا لجيرالد ليڤين Gerald Levin، الرئيس والمدير العام لمجموعة تايم وارنر Time Warner، فإنه "كلما استخدم مشاهدو التليفزيون أجهزتهم للتسلية بقدر ما يستخدمونها لتحقيق أهداف تعليمية وثقافية، ازداد الطلب على البرامج الممتازة"([80]). ويعمل هذا المنطق الآن في سياق الزيادة الهائلة للمحطات المتخصصة في البلدان الصناعية وفي سياق تدهور شبكات التليفزيون الكبرى العامة في الولايات المتحدة. وكما يوضح ج. ليڤين فإن "التفاعلية تزيح المستهلك من أطراف العالم الإلكتروني نحو مركزه ... و[هي] تضفي الطابع الفردي على كل شخص واضعة إياه أمام عدد لإنهائي من الخيارات". وعند مدخل القرن الحادي والعشرين، سوف نشهد بلا شك تجزئة ثقافية للعرض والطلب لا مناص من أن تؤدى إلى زيادة التنوع: لم تعد المسألة تتعلق بجذب العدد الأكبر من الناس بعرض عدد محدود من البرامج (هذا هو منطق prime time ["الوقت الأكثر جاذبية"])، بل الإشباع بأثمان مستقلة à la carte للأذواق الثقافية وأشكال الطلب الثقافي التي سرعان ما سيتزايد تمايزها.
التكنولوجيات الجديدة:
فرصة أم مخاطرة؟
"هل نستطيع أن نصمد أمام التكنولوجيا؟"، هكذا يتساءل جون فون نويمان John von Neuman، أبو الكمبيوتر الرقمي([81]). وهل الشبكات الجديدة للمعلومات والاتصالات مخاطرة أم فرصة بالنسبة لمجتمعاتنا؟
فرصة، إنها كذلك بالتأكيد: إذا كان الإنترنت مدعوا إلى تغيير أشكال السلطة وشروط التبادل، فهذا قبل كل شيء لأنه يستطيع أن يعمل، في شروط مُلْلَى وما تزال غير متحققة، كنظام مفتوح، يمكن أن تكون فيه هوية المستعمل ومكانته الهيراركية أقل أهمية من قيمة مشاركته، ويمكن أن تكون فيه تأثيرات الجغرافيا ملغاة مؤقتا، ويمكن أن تكون فيه كل أشكال المعلومات (الرقمية، والبصرية، والسمعية)، التي كانت منفصلة من قبل، موحدة داخل نفس أداة النقل، ويمكن أن يكون فيه العدد غير المحدود تقريبا للمشاركين متضمَّنا في عملية واحدة بذاتها. وعلاوة على هذا، ألا ينطوي تبادل المعارف على اعتراف بالآخر، منظورا إليه ليس على أنه موضوع للسيطرة بل على أنه مصدر للإبداع والثروة؟ وعلى هذا النحو، تشجع التكنولوجيات الجديدة، نظريا على الأقل، علاقات مفتوحة، وقائمة على التراضي، وغير هيراركية، بين الأفراد وبين الجماعات.
وكما سبق أن رأينا فإن هذه النظرة بعيدة عن أن تكون متحققة: توجد جغرافيا للإنترنت، وكذلك حدود لسعته التحميلية وللوصول إليه. ووراء الانفصال بين الإنترنت العام والشبكات الخاصة داخل الشبكات، نتبين الآن بالفعل مشروع تخصص للوظائف، أو "المراقبات"، أو "الإغلاقات"، أو "الحدود". وعلاوة على هذا فإن السباق المطلق العنان للتملك الخاص للمعلومات والمعارف مفهومة على أنها مجرد سلع هي مصادر للأرباح القصوى يُبْعِد عنا بسرعة تحقيق يوتوبيا ثقافة إلكترونية مفتوحة، مثالية، وباسمة. وفضلا عن هذا فإن العولمة المعلوماتية تنطوي على مخاطر الإضرار بالحياة الخاصة، وتفتيت الأفراد إلى ذرات منفصلة، وفقدان المعنى الاجتماعي، وإضفاء الطابع الافتراضي على الواقع، وتنطوي بالتالي على مخاطر على مستقبل المجتمعات والديمقراطية.
والإغراء كبير بالنسبة للدول التي تملك في هذا المجال تقدما تكنولوجيا هاما بالنظر إلى التكنولوجيات الجديدة على أنها وسيلة قمعية لعرض قوتها. وعدم المساواة في التوزيع الحالي ـ ألن يسهل في الأجل القصير ظهور أشكال جديدة من العنف والسيطرة والإقصاء؟ وماذا سيكون مدى التأثيرات الثقافية للسيطرة على الإنترنت: ألن يقع مَنْ يسيطر على الوسيلة تحت إغراء السيطرة أيضا على الرسالة؟ وكما أوجز في الآونة الأخيرة خبيران أمريكيان فإن "المعرفة، أكثر من كل عهد آخر في التاريخ، صارت هي القوة"([82]). فهل من الممكن على كل حال، كما يشدد هذان المؤلفان ذاتهما، أن تفتح التكنولوجيات الجديدة عهدا جديدا في ممارسة الدبلوماسية العالمية، حيث تحل الجاذبية التكنولوجية محل القمع الاقتصادي والعسكري، مما يشجع على ممارسة ما يسميه هذان المؤلفان "السلطة الناعمة" soft power؟
"سيداتي، سادتي، التكنولوجيا، هذه إجابتي، ماذا كان السؤال؟"، هذا ما أعلنه بتهكم، في الجلسة الافتتاحية لأحد المؤتمرات، السير جون دانييل Sir John Daniel، نائب مستشار الجامعة المفتوحة للمملكة المتحدة. ويجب أن نقول: الإجابة، هي المحتويات، وهي بصورة خاصة تعميم الوصول إلى المعرفة عن طريق التعليم للجميع مدى الحياة.
ويظل بعيدا ذلك الوضع الذي يمكن أن تتحد فيه المساواة في الوصول وحركة الاستخدام. ولهذا فإن ظهور تكنولوجيات المعلومات يفترض، على المستوى الدولي، تجديد الالتزام بالدعم بصورة ملموسة جدا "لحرية تداول الأفكار، بالكلمة والصورة"([83])؛ وهو يقتضي التضامن والتقاسم، لأن "السوق لن تكفي ... متروكة وشأنها، سوف تواصل السوق، وفقا لكل احتمال، أن يكون لها تأثير غير قانوني بعمق على الوصول إلى الإنترنت"([84]).
ويمكن أن نضيف أن ظهور كل تكنولوجيا جديدة، سواء أكانت الطباعة أم الشبكات الجديدة، يمثل في وقت واحد فرصة ومخاطرة، عامل اضطراب وعدم يقين. ويعلق أحد الخبراء بأن إضفاء الطابع الافتراضي ليس، في حد ذاته، حسنا، ولا سيئا، ولا محايدا. إنه يتقدم باعتباره نفس حركة الإنسان في "التحول إلى آخر" ـ أو ظهور سمات عدم التجانس hétérogenèse. وقبل الخوف منه، أو إدانته، أو الهجوم عليه برعونة، أرجو أن نتحمل مشقة أن ندرس إضفاء الطابع الافتراضي ونفكر فيه ونفهمه بكل رحابته ... إن الافتراضي ليس مطلقا نقيض الواقع. فهو على العكس، أسلوب ملائم لأن يكون خصبا وقويا، ويحرر عملية الإبداع؛ ويفتح آفاقا للمستقبل، ويحفر ينابيع للمعنى تحت سطحية الوجود المادي المباشر"([85]).
وانطلاقا من هذه المعاني الجديدة وهذه الأنماط الجديدة للكون معا (المجتمعات الافتراضية، التبادلات الافتراضية، الشركات الافتراضية، إلخ.)، يجب أن يبنى مجتمع المعلومات في القرن الحادي والعشرين فضاء عاما جديدا يناظر مجتمعا لاماديا. وتقتضي السيبرنيطيقا إعادة تعريف للمبادئ التي ترشد المجتمع. وكما تؤكد مائدة مستديرة لخبراء كنديين فإن "لفظة gouvernance [الإدارة] مشتقة من اللفظتين الإغريقيتين kybernan وkybernetes، اللتين تعنيان على الترتيب "يرشد" و"رائد" أو مُوَجِّه الدفة ... وعملية الإدارة هي العملية التي وفقا لها تدير مؤسسة نفسها أو يدير مجتمع نفسه، ولا جدال في أن ديناميات الاتصالات والتحكم أساسية في هذه العملية"([86]). وتماما كما كانت الديمقراطية الإغريقية مصممة وفقا للنماذج العملية والتقنية للعصور القديمة ـ وبصورة خاصة: الهندسة الإقليدية ـ لا شك في أنه يجب إعادة التفكير في ديمقراطية القرن الحادي والعشرين على ضوء النماذج الجديدة: علم التعقيد والسيبرنيطيقا بصورة خاصة.
وفي إطار هذا المنظور، يجب أن يكون عمل اليونسكو أساسيا. وينبغي، في "القرية العالمية"، بناء وسائل التعبير الثقافي لكل شخص، بتنمية البنية الأساسية للاتصالات وتجديد المفاهيم ونماذج وبرامج المعرفة والتفكير. غير أن "أنابيب" الاتصالات ليست كل شيء. ويجب إعادة التفكير في المحتويات، لأنها في كثير من الأحيان مهملة منذ وقت طويل: إن الاتصال يعنى أيضا التفكير والتوقع. وتشدد إستراتيجية اليونسكو على إعطاء الأولوية لتعزيز التوقع والدراسات المستقبلية، من أجل استكشاف الدروب الجديدة للتفكير والعمل التي تتيح دخول القرن الحادي والعشرين على قدم المساواة. وتساعد اليونسكو على تعزيز قدرات الجنوب في هذا المجال من خلال البرنامج الدولي لتنمية الاتصالات. ولبلوغ هذا الهدف، يمكن أيضا أن يكون إنشاء كراسي اليونسكو الجامعية للاتصالات طريقة مفيدة. والواقع أن الحوار بين الثقافات لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت الثقافات مزودة بوسائل تعبير لا غنى عنها. إذ أن الاتصال يعنى المشاركة. وهذا هو السبب في أن اليونسكو، انسجاما مع المادة الأولى من قانونها الأساسي، ترمى، فيما يتعلق بالاتصالات، إلى ضمان التداول الحر للمعلومات على المستوى الدولي والقومي، وكذلك نشرها على نطاق أوسع وبتوازن أفضل، دون أي عقبة تعترض حرية التعبير.
منطلقات وتوصيات
3 دعم التعليم للجميع مدى الحياة ونظم "الأمن الثقافي" من أجل تدريب مستعملي "الطرق السريعة للمعلومات"، وتربية للقدوة والتفكير وتحويل المعلومات إلى معارف.
3 دعم الوصول الشامل إلى التكنولوجيات الجديدة للمعلومات والاتصالات من أجل تأمين حق كل فرد "في البحث عن المعلومات والأفكار وتلقيها ونشرها بأي وسيلة تعبير، دون النظر إلى اعتبارات الحدود" (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، المادة 19).
3 تشجيع "التعاون الفكري لكل الأمم في كل فروع النشاط الفكري" (القانون الأساسي لليونسكو)، بربط مدارس وجامعات ومكتبات ومتاحف العالم بأسره عن طريق الإنترنت، خلال جيل من الآن.
3 إعداد المجتمعات للسيطرة على بيئة الإعلام المتعدد الوسائط عن طريق نشر المعارف والخبرات الضرورية لاستخدام المعلومات الرقمية.
3 النضال ضد "الأبارتهيد التكنولوجي"، وبصورة خاصة بتطوير مشروعات للتعاون بين الشمال والجنوب فيما يتعلق بتكنولوجيات المعلومات.
3 التفكير في إقامة مبادرة مشتركة خاصة لليونسكو والأمم المتحدة مخصصة للتعبئة لصالح التكنولوجيات الجديدة للمعلومات والاتصالات في البلدان النامية، وخاصة في أفريقيا.
3 إعطاء الأولوية، في مشروعات التخطيط الإقليمي، لتنمية المعلومات ولسياسات الأشغال الكبرى في هذا المجال، في أكبر عدد ممكن من البلدان.
3 تشجيع التعبير عن التنوع الثقافي واللغوي وكذلك التعددية على الإنترنت.
3 تأمين تنمية مهام "الخدمة العامة" للإنترنت (مكتبات وسائل الإعلام، الوصول إلى قواعد البيانات، إلخ.).
3 مواصلة التشاور الدولي الذي يرمى إلى تأمين التوازن الأكثر عدلا بين "الاستعمال النزيه" وحقوق مبدعي وناشري المعلومات.
3 مواصلة الأبحاث بشأن المحافظة على المعلومات الرقمية وحفظها.
3 تأمين تنمية الإطار القانوني والقضائي على المستوى القومي والدولي ("القوانين الإلكترونية" cyberlois) بما يتيح مواجهة "الجرائم الإلكترونية" (وبصورة خاصة الاستغلال الجنسي للأطفال عن طريق الإنترنت).
14
أيّ مستقبل ينتظر
الكتاب والقراءة؟
في 1972، عُهد إلى اليونسكو بمهمة تنظيم أعمال العام الدولي للكتاب، التي أتاحت جذب اهتمام الجمهور إلى مستقبل الكتاب والقراءة. وبعد هذا بجيل تقريبا، أبرزت الثورة السيبرنيطيقية ملامح مجتمع جديد للمعلومات، وبدا أن وضع الكتاب قد تغير بصورة جذرية. وفي هذا السياق من التحول الكامل، ورغم النبوءات التي تعلن نهاية عصر غوتنبرج، والزوال الوشيك للكلمة المطبوعة، فإنني مقتنع بأن الكتاب ما يزال، وسوف يظل، أداة أساسية لتعليم الأجيال المقبلة، ولتقدم المعارف، وللتداول الحر للأفكار. والواقع أن الكتاب ما يزال يشكل أداة لا بديل لها ـ بلا منازع في معظم أنحاء العالم ـ للمعلومات والمعرفة، للحلم والهرب، وليس هناك ما يسوغ الإعلان عن اختفائه الوشيك.
ولا شك في أن التكنولوجيات الجديدة للاتصالات المسموعة والمرئية والإعلام المتعدد الوسائط تتجه بسرعة إلى تغيير سياق إنتاج واستقبال الكتابة والمعلومات. ويتطلب هذا المنظور من جانبنا تفكيرا جديدا حول نشر المعرفة وتقاسُمها. غير أنه يبدو لي أن من المهم أن نناضل ضد تلك الفكرة الزائفة، وغير الصحيحة تاريخيا، القائلة بأنه لا مفر من أن يحل نمط جديد من الاتصالات محل الأنماط السابقة له وأن يحكم عليها بالزوال: إن اختراع المطبعة لم يحل مطلقا محل الاتصال الشفاهي والنقل الشفاهي. ولهذا فإنه ينبغي أن نفكر في مختلف أنماط الاتصال من حيث التكامل، وليس من حيث التنافس بينها.
وبالتالي فإنه لا ينبغي أن تؤدي بنا الثورة التكنولوجية الراهنة إلى أن نقلل من دور الكتاب؛ بل ينبغي بالأحرى أن تحفزنا إلى إعادة تعريف وظيفة الكلمة المكتوبة في مجتمعاتنا وفي الإطار الجديد لوسائل الاتصال. وهذا التفكير في الطابع المستقبلي ضروري بصورة خاصة لأن الكتاب يظل الوسيلة المفضلة لكل فكر نقدي وإبداعي. وبدون قارئ لا يوجد كتاب: ولكي يلعب الكتاب دوره بصورة كاملة فإنه يفترض تنوعا لا نهائيا من القراء الذين يعطونه، بفعل القراءة ذاته، كامل معناه وتعددا في المعاني. والكتب، كما كتب أفلاطون في بروتاغوراس Protagoras، "لا تستطيع أن تجيب ولا أن تسأل". ذلك هو امتياز البشر، فالقراءة حقا هي ذلك الفعل الذي يأتي في سياقه، في مجابهة مع الآخر، بدء حوار صامت، وعلاقة تضامن فكري، وبداية احترام الآخرين، وبادرة تأسيس ثقافة سلام وتسامح. والحقيقة أن النظم الشمولية لا تسئ فهم هذا مطلقا، فهي لا تكاد تفرض سيطرتها إلا وتواصل بلا انقطاع إحراق الكتب وفرض رقابة دائمة في هذا المجال.
الكتاب: أداة الحرية
وحامل التراث الثقافي العالمي
ذلك أن القراءة أيضا فعل من أفعال الحرية يفتح أمامنا أبواب المعرفة ويعطي لكل منا قوة إضافية للتأثير على العالم. وتبين دراسة للعالم اللغوي ألان بنتوليلا Alain Bentolila عن شبه الأمية أن كلام شبه الأميين الصغار يحتوي بالكاد على 0.5% من الكلمات المجردة ـ وهذا "قصور يتركهم عاجزين بصورة مفزعة إزاء فرض هذا المفهوم أو ذاك عليهم إذ يقدم لهم على أنه المبدأ التفسيري الوحيد والشامل"([87]). والقراءة، على العكس، تشكل إحدى أوثق ضمانات "البحث الحر عن الحقيقة الموضوعية" و"التبادل الحر للأفكار والمعارف" والتي تتمثل مهمة اليونسكو بحكم نصوص قانونها الأساسي في دعمها. ولهذا فإنه لا غنى عن المزيد من تعزيز النضال ضد الأمية التي، وإن كانت قد انخفضت من حيث قيمتها النسبية، إلا أنها ما تزال تصيب أكثر من 880 مليون من الكائنات البشرية. ويجب أيضا إعطاء دفعة جديدة لمكافحة شبه الأمية، هذا الشكل من الإقصاء الجذري، الذي يصاحب ويغذي في كثير من الأحيان أشكالا أخرى من العزل. ويجب أن يشكل الوصول الشامل إلى الكتاب وإلى القراءة، مدى الحياة، إحدى أولوياتنا للقرن الحادي والعشرين.
ونحن على اقتناع بأن الكتاب يمثل من الناحية الجوهرية أداة للتحرر. غير أنه يمكن في الممارسة العملية الانحراف به عن غايته ووضعه في خدمة الاضطهاد والتمييز والعنف. والحقيقة أن إجلال الكتاب، عندما يكون محصورا، يمكن أن ينتهي إلى التعصب ورفض كل شكل آخر للمعرفة حالما يشوه التراث ويحيله إلى أيديولوجية للإقصاء. وبهذا الخصوص ينبغي أن نعير اهتماما بالغا للكتب المدرسية، التي يجري الانحراف بها في أغلب الأحيان عن غاياتها ويتم استخدامها بالتالي في تمجيد ثقافة للحرب والانغلاق، وتقيم حواجز لا يمكن عبورها بين الثقافات بدلا من تقريبها، وتطمس الدور الذي يلعبه الشعب، والنساء، والأقليات، وعامة الناس، في التاريخ، فلا تحتفي في أغلب الأحيان إلا بالأمراء والأقوياء والفاتحين. وهذا هو السبب في أن تنقيح المقررات المدرسية يشكل الخطوة الأولى نحو هذه الثقافة للسلام وهي أسمى أماني اليونسكو؛ ثقافة تقوم، دون إنكار للتاريخ القومي، بوضع المعرفة في خدمة الأيديولوجية. ويجب بحث هذا التنقيح للكتب المدرسية عن طريق مفاوضات ثنائية بين الأمم التي كثيرا ما وضعها التاريخ في مواجهات أو عن طريق تدابير متكاملة على المستوى الإقليمي حيثما أتاحت ذلك إنجازات التعاون. تلك هي المهمة الضخمة التي تطرح نفسها علينا: أن نشجع في كل مكان ظهور أشكال متعددة للقراءة والكتابة والكلام تعكس تعقيد العالم وثراءه وتعدديته.
وتعبر هذه التعددية عن نفسها في المحل الأول في تنوع اللغات، وهي مصدر تعددية النظرة إلى العالم Weltanschauungen. وعلى العكس، كما يشدد جاك ديريدا Jacques Derrida، "مع لغة واحدة، تفرض نفسها دائما، بدون مناقشة ممكنة، فلسفة واحدة، مجموعة واحدة من بديهيات الخطاب والتوصيل الفلسفيين"([88]). على أنه في الوقت الحالي، تختفي لغات عديدة بمعدل من المحتمل أنه لم يسبق له مثيل([89]). ومع اختفائها يغدو التنوع الثقافي للعالم هو المهدد بالانقراض. ويجب أن تعمل اليونسكو في هذا المجال، وآمُل أن تكون حماية التنوع اللغوي إحدى أولوياتها: لهذا فإن توزيع الكتاب وتشجيع القراءة بأكبر عدد ممكن من اللغات يمثلان محورين أساسيين يجب أن نواصل تطويرهما.
ومع ذلك فإنه لا يمكن لسياسة فعالة لدعم الكتاب أن تقتصر على تشجيع القراءة في المرحلة الأخيرة. إذ ينبغي أيضا، وسوف نعود إلى هذه النقطة، تشجيع الإنتاج الأدبي والكتابة كشرط مسبق للقراءة. ويمكن أن يكون إنشاء جوائز أدبية على المستوى القومي، ولكن أيضا على المستوى الإقليمي والدولي، مفيدا بهذا الصدد؛ وعلى وجه الخصوص فإنه ينبغي إدخال ممارسة الكتابة منذ المراحل الأولى للتعليم الابتدائي وطوال التعليم الثانوي، وإدخال دورات الكتابة الأدبية creative writing في المستوى الجامعي. ويسهم تشجيع التعبير الشفاهي، وبصورة خاصة عبر المسرح، في تعزيز هذا المنطق نفسه. والتحدي هائل: تشكل اللغات جانبا فريدا وثمينا من تراث البشرية. وإذا نجحنا فقط في حمايتها فإن الكلمات ستصير، وفقا لعبارة كاميلو خوسيه ثيلا Camilo José Cela، "أبقى من الحجر".
إشباع الجوع للكتب:
نحو وصول شامل إلى الكلمة المكتوبة
لا ينبغي أن يعمينا ظهور وانطلاق الإنترنت عن حقائق أساسية: في أغلبية البلدان في مختلف أنحاء العالم يبقى الوصول إلى التكنولوجيات الجديدة هو الاستثناء وما يزال الكتاب امتيازا نادرا. وفي حين أنه، في عدد كبير من البلدان الصناعية، يواجه عرض وافر من الكتب طلبا متراجعا على القراءة، فإن الأغلبية الساحقة من البلدان النامية تجد نفسها في الوضع المعاكس: إن "الجوع للكتب" هناك يمثل وباءً ويتفاقم نتيجة للزيادة الديموغرافية: نقص الكتب المدرسية والتقنية أو كتب الأطفال، عجز في شبكات المكتبات، أسعار فاحشة. ووفقا لبحث أجرته اليونسكو([90])، فإنه في 22 بلدا من أصل 93 بلدا أجابت على الاستبيان، لم يكن لدى حوالي 60% من تلاميذ المرحلة الابتدائية كتب مدرسية بالعدد الكافي.
ويُنشر حوالي 900000 عنوان كل عام في العالم. غير أن الإنتاج موزع بصورة غير متكافئة مطلقا: ثلاثة أرباعها (73.6%) ما تزال في البلدان المتقدمة([91]). وبطبيعة الحال فإننا قد نعتقد أننا إزاء تطور مشجع، إذ أن هذه النسبة كانت 86.6% في 1970. غير أن التفاوت، في علاقته بالسكان، بين عدد العناوين المنشورة في البلدان الصناعية وفي البلدان النامية مذهل أكثر بكثير: إنه يصل إلى حوالي 10 ـ 1 على الترتيب([92]). وبعض المناطق محرومة بصورة خاصة: وفقا لأحدث الأبحاث المتوفرة، نشرت أفريقيا 1.5% من العناوين التي ظهرت في العالم مقابل 12.3% من سكان العالم، ونشرت منها آسيا 24.9% من العناوين مقابل 58.9% من السكان. وفي تناقض صارخ مع هذا فإن أوروبا بنسبة 9.3% من السكان نشرت 46.7 من العناوين، وأمريكا الشمالية بنسبة 5.2 من السكان نشرت 11.8% من العناوين([93]). وأخيرا فإن توزيع المكتبات ـ القومية، وغير المتخصصة، والعامة، والجامعية، والمدرسية ـ في العالم يثبت ويكثف هذا الاتجاه العام: نقص التجهيز في البلدان الفقيرة والوفرة في البلدان الغنية. وبطريقة مماثلة، يتباين عدد المجلدات المتوفرة في المكتبات العامة بصورة كبيرة حسب البلد: 7 لكل 1000 نسمة في بنين مقابل 7226 لكل 1000 في فنلندا([94]).
ويكشف حجم المشتريات السنوية للمكتبات العامة، بدقة أكثر أيضا، الفوارق الإقليمية الهائلة فيما يتعلق بالوصول إلى الكتاب، ويرسم الحدود الجغرافية "للجوع للكتب". وفي حين أن المشتريات تُعدّ بالملايين في البلدان المتقدمة، فإنها تصل، في أفضل الأحوال، إلى بضع عشرات الآلاف في البلدان النامية([95]). وفي غالبية من البلدان عبر العالم، وبصورة أساسية في أفريقيا، وأمريكا اللاتينية والجنوبية، وجنوب آسيا، والعالم العربي، تشتري المكتبات العامة كتبا أقل من عدد الأطفال الذين يولدون فيها. وبعبارة أخرى فإن الاستثمارات العامة في مشتريات الكتب في تلك البلدان تقل عن مجلد واحد لكل طفل جديد في السنة! ويجب مضاعفة هذه الاستثمارات على الأقل من الآن وحتى عام 2010، لكي ينخفض، نوعا ما، عدم المساواة الهائل الذي يؤثر في الوصول إلى الكتاب وفقا لمستوى تنمية البلدان. وهذه الاستثمارات أساسية للتنمية، ولكن أيضا للسلام والديمقراطية. ومن المؤسف أن جمود الميزانيات القومية وضخامة النفقات العسكرية ـ التي تبدأ من جديد في الارتفاع هنا وهناك ـ يشكلان قيدا على مثل تلك الاستثمارات التي يمكن أن تتيح لسكان البلدان النامية القيام ببداية جديدة، إذا أدرك أصحاب القرار وإنْ قليلا، في البلدان الأكثر غنى كم يمكن أن تكون مساعدة حتى متواضعة في هذا المجال حاسمة بالنسبة للتقدم في البلدان المعنية.
والرهان ليس كميا فحسب. وعلى سبيل المثال فإن عدد العناوين الجديدة المنشورة في 1995 تحت فئة "التاريخ ـ الجغرافيا" تباين تباينا مذهلا وفقا للبلدان بتفاوت يتراوح بين 1 و 11493([96])! وبوضع هذه الأرقام في علاقاتها بالسكان فإنها تكشف عن وجود شبه احتكار للبلدان المتقدمة على إنتاج كتاب التاريخ والجغرافيا. ومثل هذه الاختلالات (التي نلاحظها، ببعض التباينات، في كل فروع المعرفة) لا مناص من أن تكون لها تأثيرات على العلاقة التي تحتفظ بها شعوب العالم بثقافاتها الخاصة وبالثقافات الأخرى، وعلى قدرة البلدان النامية على المحافظة على تراثها الثقافي.
ويمكن الاعتراض على هذا، وليس بدون حق، بأن التراث الشفاهي، في المجتمعات التقليدية، قد تدارك وعالج مثل هذه الاختلالات منذ عهد بعيد عن طريق تأمين نقل المعارف والخبرات التقنية التي لا غنى عنها، مثل التراث الثقافي اللامادي أو الرمزي، من جيل إلى جيل. ولا شك في أن الكلمة المكتوبة ليست الوسيلة الوحيدة للمعرفة أو الوسيلة الوحيدة لنقلها؛ غير أن الكتاب يدوم وقتا أطول من الكلام، كما تدل العبارة الشهيرة لأمادو هامپاتيه با Amadou Hampâté Bâ: "في أفريقيا، عندما يموت رجل مسنّ، تحترق مكتبة!". وعلاوة على هذا، يمثل الكتاب نمطا مفضلا ولا يمكن تفاديه للوصول إلى المعرفة الحديثة. ولهذا فإنه لا غنى عن توزيعه الواسع النطاق لتأمين أن يتمتع الجميع بالحق الذي يكفله الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادة 27) "في المشاركة في التقدم العلمي وفي الخيرات التي تنتج عنه". فكيف يمكن، بدون الوصول إلى الكلمة المكتوبة، تطوير التعليم والتدريب؟ وكيف يمكن تأمين تدريب المهندسين والباحثين هناك حيث تخلو المكتبات الجامعية من أحدث المجلات العلمية أو التقنية؟ ويشكل هذا النقص عقبة رئيسية أمام التنمية، إذ أنه يشجع على "نزوح الأدمغة" من البلدان المحرومة إلى البلدان الغنية، حيث يتيسر الحصول على المراجع وحيث يمكن أن يتم الحوار العلمي من الآن فصاعدا بصورة فورية. ولهذا يمثل الوصول الشامل إلى الكلمة المكتوبة أولوية من أولويات التنمية، إذ أنه، فيما وراء التعليم الأساسي، يتيح شكلا للتدريب ما بعد تعليم القراءة والكتابة، ويشكل جسرا نحو معارف أخرى. وهو أيضا أولوية من أولويات اليونسكو، التي تتمثل إحدى مهامها الرئيسية على وجه التحديد في المساعدة على نشر المعرفة "بتيسير وصول كل الشعوب إلى ما يطبعه كل شعب منها، عن طريق أساليب دولية ملائمة للتعاون"([97]).
وتتيح القراءة، حالما يتم إتقانها، بشكل من التثقيف الذاتي يتواصل طوال الحياة ويحول القارئ إلى مؤلف لتثقيفه الخاص. وعندئذ ينشأ حوار بين المؤلف والقارئ. ويصير القارئ، إن جاز القول، مؤلفا مشاركا. وبدون تشجيع للقراءة، لن يوجد تعليم للقراءة والكتابة أو التدريب بصورة دائمة للسكان. فالقراءة هي الوسيلة التي لا غنى عنها "للتعليم للجميع مدى الحياة"، الذي وضعته اليونسكو في مركز استراتيجيتها التي حددتها في 1995. وأنا ألحّ على هذه النقطة لأن القراءة، للأسف، ليست قدرة يمكن اكتسابها مرة لتستمر مدى الحياة. ومنذ تنفيذ البرنامج التجريبي العالمي لتعليم القراءة والكتابة، الذي تم طرحه في 1967، ظهر تدريب ما بعد تعليم القراءة والكتابة كضرورة حقيقية. وهو يقوم على وصول كل فرد، في كل لحظة من حياته، إلى مواد القراءة([98]). ومن هذا المنظور، يجب تنفيذ سياسة أصيلة للقراءة في كل مستويات التعليم، وفي كل مراحل حياة الأفراد، بما في ذلك المجال المهني: بهذا الخصوص، يجب التشديد على أهمية مكتبات العاملين في الشركات والمؤسسات. ومن الأساسي علاوة على هذا إعادة الوصول إلى الكلمة المكتوبة إلى مركز كل إصلاح لنظم التعليم وكذلك إعطاء الأولوية في خطط العمل الدولية والقومية للأطفال، والنساء، والبلدان الأقل نموا.
ولكن فيم يفيد الوصول إلى الكتاب بدون القراءة، بدون معرفة القراءة والكتابة التي تشكل أساس القراءة؟ ولا جدال في أنه تحققت إنجازات كبيرة في هذا المجال. وتقدر اليونسكو أن أربعة من كل خمسة من البالغين صاروا الآن قادرين على القراءة والكتاب([99]). غير أن فوارق خطيرة ما تزال مستمرة: حوالي ثلثي الأميين بين البالغين من النساء، وهذه نسبة ناتجة عن عقود من إهمال تعليم البنات([100]). ويمثل معدل الأمية الوظيفية موضوعا آخر خطيرا مثيرا للقلق، يقتضى أن نأخذ بشيء من الاحتياط الإحصائيات الرسمية لمعرفة القراءة والكتابة. وتؤكد حكومات عدد من البلدان الصناعية أن معدلات معرفة القراءة والكتابة لسكانها البالغين تصل إلى 99%. فهل تعكس هذه الأرقام الواقع؟ والحقيقة أن خبراء التعليم يشكون في هذا ويشددون على استمرار، بل حتى اتساع نطاق، شبه أمية وظيفية تصيب الصغار والكبار على السواء. ويبدو أن ضخامة هذه الظاهرة، التي لا تظهر في الإحصائيات إلا بصورة ناقصة، صارت الآن مفهومة بصورة أفضل: تؤكد التقديرات، على سبيل المثال، أن حوالي 20% من السكان البالغين في الولايات المتحدة يعانون من شبه الأمية الوظيفية؛ ووفقا لعدد كبير من الخبراء فإن ما يتراوح بين عُشْر وخُمْس السكان البالغين تشملهم هذه الظاهرة في غالبية البلدان الصناعية.
والحقيقة أن النضال من أجل تعليم القراءة والكتابة، وهو حجر الزاوية في التنمية، يمكن أن تستفيد بصورة كبيرة من السياسات التعليمية والثقافية التي تكفل وصول الجميع إلى الكلمة المكتوبة، وبصورة خاصة إلى الكلمة المطبوعة في اللغة الأم للقارئ. ولكن ما هي الوسائل التي ينبغي استعمالها للاستجابة لنقص الكتب وإشباع الجوع للقراءة والمعرفة الذي يعاني منه الشباب في عدد كبير جدا من البلدان النامية؟ وهل يمكن استخدام القدرات الكامنة للتكنولوجيات الجديدة لتعزيز الكتاب؟ دعونا نبدد في الحال كل غموض: ليس من الوارد المناداة بعودة إلى الطرق التعليمية للأكاديمية الكلاسيكية العتيقة، التي تقوم على هيمنة الكلمة المكتوبة والمطبوعة. إذ أن مبدأ التعددية الثقافية وكذلك التطور الذي لا مناص منه للتكنولوجيات يقوم باستبعاده. ولم يعد من الوارد أيضا أن نشجع، باسم ثقافة أحادية للكلمة المكتوبة، التخلي عن أشكال أخرى للتعبير الثقافي، وبصورة خاصة الأشكال الشفاهية أو الفنية. كما أنه لم يعد من الوارد من باب أولى أن نحاول الإثناء عن المساعدة التي ينبغي توفيرها لتنمية تكنولوجيات جديدة للاتصالات.
والهدف جليّ: يجب تضييق الفجوات المستمرة الباقية، باستعمال كل الوسائل التي تتيحها الشبكات القائمة والتكنولوجيات الجديدة. ويجب أن نبدأ بعلاج الاختلالات الكمية الكبرى: سوف ينبغي تغيير حجم إنتاج الكتب في البلدان النامية وتحسين طرق توزيعها. وهناك منطلقان عمليان يستحقان البحث بعناية. ويتمثل الأول في تشجيع وتوزيع كتب معتدلة السعر جدا. وهو يستند إلى حقيقة بسيطة: أسعار الكتب ما تزال مرتفعة جدا بالنسبة لشرائح السكان الفقيرة أو المتواضعة. والواقع أن تكاليف صناعة الكتب تحدد بصورة كبيرة مدى اتساع نطاق توزيعها. وعلى العكس فإنه يمكن تأمين توزيع أوسع كثيرا للمراجع عن طريق نشرها في طبعات "جيب" بأسعار منخفضة جدا، وهذا ما جعلته التجديدات التقنية العديدة ممكنا. ومن جهة أخرى فإن هذه الصيغة، التي تعطي انطلاقة جديدة لطبعات الجيب، حقق بالفعل نجاحا كبيرا في البلدان الصناعية([101]). ويتمثل حل آخر في تشجيع طبع أعمال في شكل حلقات دورية مسلسلة في الصحافة، بالاقتداء بمبادرة مشروع Périolibros "كتاب في جريدة" الذي بدأ بمساعدة اليونسكو، مما يتيح لشبكة من الصحف الكبرى أن توزع في أمريكا اللاتينية أعمالا ذات نوعية عالية بملايين النسخ([102]).
ومن وجهة نظر أكثر نوعية، ينبغي تشجيع القراءة بين الأطفال والصغار. وفي البلدان الغنية، تبين الدراسات والأبحاث الدورية تراجُعا تدريجيا في القراءة، مصحوبا، بصورة خاصة بين الصغار، بالولع المتزايد بوسائل الإعلام الجديدة. ولا مناص من الإقرار بأن إنجازات التعليم وزيادة وقت الفراغ لا تتم ترجمتها إلى تعميق عادات القراءة. ولهذا فإنه يبدو لي من الضروري بصورة ملحة أن نقوم، في الوقت الذي نشجع فيه تطوير تكنولوجيات جديدة، باستعادة مكان الصدارة للكتاب والقراءة، وبإبراز الثروة الهائلة التي تنطوي عليها القراءة: القراءة في آن معا وسيلة أساسية للتعليم، ومتعة، وتزجية لوقت الفراغ، ومصدر للمعلومات العامة والمتخصصة، السياسية والعملية، ووسيلة للتدريب المهني وكذلك للازدهار الشخصي والفني والروحي([103])، وأداة للتعلم الدائم للحرية والمواطنة والفكر النقدي ـ وهي جميعا أحجار زاوية للديمقراطية. ولهذا فإنني حريص على تحية العمل النموذجي للمنظمات غير الحكومية التي تدعم إنتاج الكتب للأطفال أو تعمل بصورة أعم على نشر القراءة عن طريق مشروعات مكتبات ريفية أو متنقلة. ومن الطبيعي تماما أن تتمثل إحدى مهام اليونسكو في دعم هذه الجهود.
تحولات الكتابة والقراءة:
الرقمية، النص الفائق، الوثيقة الفائقة
لكنْ أليس موقفا عتيقا أن نظل ندافع عن الكتاب في عصر التكنولوجيات الجديدة للاتصالات؟ إن المفارقة ظاهرية ليس إلا. ويعلمنا تاريخ البشرية أن الأنماط القديمة والجديدة للاتصالات تتراكب فوق بعضها، وتكمل بعضها، وتجتمع معا دون أن يلغي بعضها البعض، بل إنها أيضا مصدر للإثراء المتبادل فيما بينها. وعلى سبيل المثال فإن النقل الشفاهي للمعرفة لم يختف بظهور غوتنبرج Gutenberg، ولا اختفت الصحف اليومية للمعلومات مع ظهور التليفزيون. كما أن الفاكس والبريد الإلكتروني لم يقضيا على المراسلة المكتوبة (أو المطبوعة)، بل يوجهان المراسلة وجهات جديدة، ويعطيان في حد ذاتهما انطلاقة جديدة لتبادل الرسائل، بل إنها في كثير من الأحيان مكتوبة بخط اليد في حالة النقل بالفاكس، بعد أن كان تبادل الرسائل قد تراجع أمام اتساع انتشار التليفون.
فماذا يعني بالنسبة للكتاب والقراءة ظهور تكنولوجيات جديدة للاتصالات؟ وهل ستؤدي إلى اختفاء تدريجي للكتاب، وإلى تضاؤل للدور الفردي للمؤلف، وإلى تحول جذري في أنماطنا للقراءة (والكتابة)، والمعلومات، والاتصالات؟ وبالفعل فإن الأشكال الجديدة لإنتاج وتوزيع الكتاب تعتمد بصورة أقل على أدوات النقل التقليدية، والمادية، كالكتاب والمكتبة، وبصورة أكبر على الوسائل المعلوماتية informatiques التي تفتح طرقا جديدة أمام نقل وتوزيع المعلومات والمعرفة.
وتقدم هذه الثورات آفاقا لم يتم استكشافها بعد أمام تقدم المعرفة ونقلها. والواقع أن الحملة من أجل القراءة، وبالتالي من أجل تعليم القراءة والكتابة، والتعليم، تمتد من الآن إلى مناطق أخرى صارت اليونسكو مدعوة فيها إلى أن تلعب دورا رئيسيا. والحقيقة أن حوسبة المعلومات لا تحل محل التعليم: إنها ببساطة تغير حقل تطبيقه. كما أنها لا تلغي اللغة، التي تحول وجهتها نحو أشكال أخرى للتعبير والتمثيل. غير أن هذه الفرص تنطوي أيضا على مخاطر: أولا وقبل كل شئ، لأن الوصول إلى هذه الوسائط الجديدة يكشف عن فوارق مثيرة للقلق، كما أوضحنا في الفصل الخاص بالتكنولوجيات الجديدة للمعلومات والاتصالات. ومن جهة أخرى، هناك اختلاف جوهري، وربما غير قابل للتوفيق بين استهلاك المعلومات، من ناحية، والقراءة من ناحية أخرى([104]). والحقيقة أن اليوتوبيا الآلية الحديثة، في شكلها الأكثر تطرفا، لا يمكن إلا أن تنتهي إلى شراهة لا يمكن إشباعها للمعلومات التي يُستبعد منها الفكر النقدي، والحكم (الرأي) البشري، والذاكرة. فهي تقضي على أشكال التوصيل الشفاهي للمعرفة والحكمة، الأساسيتين لتنمية الكائن البشري، ولا غنى عنهما للعلاقة التربوية، والحيويتين للمحافظة على تنوع الثقافات.
والواقع أن ظهور "حضارة اللامادي" الذي أشرتُ إليه في الفصل السابق، أحدث تحويلا جذريا في علاقتنا بالكلمة المكتوبة، كما غير بصورة كبيرة طرق إنتاجها وتوزيعها واستهلاكها. كذلك فإن الإضفاء المتزايد للطابع الرقمي على الكلمة المكتوبة وظهور وسائل جديدة (بنوك البيانات الإلكترونية، البريد الإلكتروني، برامج النشر، إلخ.) صارا بالفعل مصدرا لنشوء أشكال جديدة من الكتابة والقراءة، ولكنْ أيضا من طباعة وتوزيع النصوص. وصارت أعداد متزايدة من الصحف اليومية للمعلومات متوفرة الآن على الإنترنت حتى قبل طبعها؛ أما الرسالة المكتوبة فقد صار من الممكن اليوم تحريرها وإرسالها وقراءتها على الفور عن طريق البريد الإلكتروني؛ وانخفضت بشدة تكلفة إرسال الوثائق عن طريق تحويل ملفات الكمبيوتر أو نقل أقراص الكمبيوتر؛ ويغدو إنتاج المطبوعات معالجا آليا بصورة متزايدة؛ ويصير الكتاب مادة أولية قابلة للمعالجة بصورة لانهائية.
ويتوقع بعض الخبراء بالفعل "إضفاء الطابع اللامادي" على الكتاب ويعلنون أنه سرعان ما سيكون من الممكن الوصول إلى كل المكتبات على شبكة عالمية مُحوسبة. ويتم الآن بنجاح تطوير "القراءة بمساعدة الكمبيوتر" وهي تبشر الباحثين بفرص هائلة للوصول إلى المصادر وتحديد ومعالجة النصوص([105]). وهناك من يتوقعون الآن ظهور "الكتاب الوحيد" الذي تُعاد كتابته: ستكون صفحاته، التي تتألف من خلايا صغيرة، قابلة للحذف وإعادة الكتابة كما يشاء المرء. وسيكون بوسع قارئ ضعيف النظر حتى أن يقرر تكبير حروفه؛ وسيكون بوسع شخص يريد أن يسجل ملاحظات توسيع هامشه، والكتابة على نفس الصفحة باستعمال قلم مدبب صغير، واسترجاع ملاحظاته على الكمبيوتر. وسوف يصير كل قارئ محررا لنفسه وسوف يؤلف الكتب لنفسه حسب الطلب، انطلاقا من نصوص متناثرة على شبكة الإنترنت([106]).
ويشير بعض الخبراء بالفعل في هذا الصدد إلى ظهور أنماط جديدة من القراءة، و"مزاوجة جديدة" (بين الآلة والفكر وليس بين الكتاب والفكر)، ونشأة "نسق قراءة" يربط الإنسان والشبكة، نظام "أكثر اجتماعية، وأكثر عالمية، وأقوى ذاكرة، وأكثر سياسية بالتأكيد"([107]). ويشدد خبراء آخرون على أن التكنولوجيات الجديدة سوف تقود إلى "ثورة كوبرنيقية" حقيقية تجعل الكتاب يدور حول القارئ والمعرفة حول الناس، فيما كان الكتاب التقليدي يجعل القارئ يدور حول النص والناس حول المعرفة.
وعن طريق التفاعلية، سيكون لدى القارئ من الآن فصاعدا، فيما يتعلق بالنص، فرصة لانهائية تقريبا من الخيارات. وعلى هذا النحو، سوف تصير القراءة جمعية وتعددية حقا. وكما يتصور ريجيس دوبراي Régis Debray فإنه "من المحتمل أن يصير النص الفائق [نظام الإحالة الإلكترونية من داخل نصوص مترابطة إلى معلوماتها المشتركة] hypertexte نصًّا فوق ديمقراطي، لا أب له ولا صاحب، بدون حدود أو جمارك، يمكن أن يعالجه الجميع وأن يتم نشره في كل مكان"([108]). وسوف يجلب انطلاق الإنترنت معه انطلاق "الأدب الرمادي"، تلك "الكتابات التي ليس لها إلى الآن مكانة المطبوعة"، "الأعمال التلقائية"([109])، التي لا يعرف أحد منشأها، ولا صفات مؤلفها. ونحن نشهد بالفعل ظهور "وسائل" تربوية جديدة تربط النص برسوم بيانية أو صور، أصوات أو متتابعات موسيقية، وتعرض مراجعه أو تعمق معالجته. وفي نهاية المطاف فإن طبيعة ومكانة ومورفولوجيا النص هي بالتالي التي سوف تتعرض للانقلاب.
وعلاوة على هذا فإن التكنولوجيات الجديدة سوف تؤدي إلى تغيرات ملموسة في تكوين ونقل المعرفة. وعن طريق إتاحة الحوار بين مختلف أشكال التعبير وبين فروع مختلف المعارف، سيكون على إضفاء الطابع الرقمي الإسهام في فتح منطلقات جديدة للبحث العلمي وفي الإثراء المتبادل لمختلف أشكال التراث الثقافي، الملموس وغير الملموس. أما الكتب المدرسية للقرن الحادي والعشرين، والأعمال ذات الطابع التعليمي بصورة أعم، فإنه ينبغي تصميمها من منظور تفاعلية أوسع بين مختلف حقول المعرفة للتلاؤم مع التلميذ وميوله الخاصة، ولتشجيع ازدهار التربية الذاتية والتعليم الذاتي. وفيما يتعلق بالصور الافتراضية التي لم يعد يتم استنساخها بل يقوم المستعملون بخلقها بصورة كاملة، فإن لها بالفعل استعمالات عملية أو شخصية أو تجارية. والواقع أن عرض الكتب الإلكترونية والوسائط المتعددة التفاعلية "للوثيقة الفائقة" [نظام للتعاون الواسع المتواصل لتطوير وتدقيق الوثيقة الإلكترونية] hyperdocument يمكن أن يبدو، بتغير مفاجئ فريد لما بعد الحداثة، أنه يقوم بإحياء تقاليد الكلمة المنطوقة والحوار فيما قبل تعلم القراءة والكتابة، ويؤكد حدس پول كلوديل Paul Claudel عندما كتب: "العين تُصغي".
وبصورة مماثلة، وفقا لتأكيد يانيك مانيان Yannick Magnien، فإنه في نفس الوقت الذي تتغير فيه طبيعة النص، "ينشأ نمط جديد من القارئ. فهو يمكن أن يستكشف بسرعة الطابع الخطي للمكتبات ولكنْ أيضا العمق الافتراضي الذي فتحته الارتباطات المتعددة التي تتصل بمحتوى وطبيعة الوثيقة. ولا شك في أننا هنا بالفعل إزاء ممارسة جديدة للقراءة بمعنى أنه تبعا للاهتمامات المبينة أو المتبعة (من ألعاب الكمبيوتر إلى البحث الموسوعي، مرورا بمتابعة اتجاهات السوق على الشاشة)، يكون القارئ هو الذي "يوجه" عن طريق التفاعل مسار أبحاثه، وهذا داخل عالم خيالي منطلق من القيود المادية المرتبطة تقليديا بالكلمة المطبوعة([110]). وعلى هذا النحو يظهر نمط جديد للقراءة، لم يعد مساره خطيا بل صار متعرجا ويمكن وصفه على أنه ملاحة Navigation، "بكل ما تقتضيه من المرور الحر ـ العشوائي أو الموجه ـ ضمن حيز يشترط وجود أدوات تحديد الموقع، وعرض المنظورات، والتذكير بكل حيز تم المرور به بالفعل"([111]).
غير أنه إذا تغيرت أنماط القراءة، تغيرت بدورها مؤسسات القراءة. وسرعان ما سوف نشهد تطور مكتبات "الوسائط المتعددة" على أساس تكاملية أكبر بين مجموعة أنظمة المعلومات المتوفرة، ودمج للخدمات المنعزلة تقليديا (المكتبات والشبكات الإلكترونية). وعلى هذا النحو فإن المكتبات التقليدية سوف تتحول إلى "مراكز معرفة" مفتوحة أمام كل المصادر الرقمية للمعلومات والأبحاث. وعندما يتم جمعها في شبكات فإنها ستقوم بتأمين إعداد ثقافي أفضل للأرض. وسيكون التزام الدول حاسما في هذا الخصوص، غير أنه سيتعين أيضا على المكتبات الكبرى في البلدان الغنية أن تسهم، من خلال مشاركات، في تطوير مكتبات البلدان النامية. إنها يمكن، على سبيل المثال، أن تخصص جانبا من ميزانية مشترياتها لتبرعات بالكتب، ومواد القراءة، وأنظمة الوصول إلى الشبكات الإلكترونية المتخصصة. وأخيرا فإنه سيكون من الضروري العمل على تأسيس مكتبة رقمية على نطاق الكوكب. وتجعل التكنولوجيا الآن من الممكن ربط المكتبات القومية الرئيسية وإنشاء مجموعات عالمية ضخمة على أقراص الكمبيوتر البصرية العالية الكثافة([112]). وسوف يتعين على هذه المكتبة الرقمية على نطاق الكوكب أن تقدم للطلاب والباحثين في العالم أجمع، ولكن أيضا إلى السكان، فرصة الوصول إلى المصادر الرقمية للمعلومات التي لا غنى عنها لتقدم المعرفة، والتعليم، والديمقراطية. ولهذا يجب أن يدعم التعاون الدولي هذا الجهد؛ كما يجب أن نساعد البلدان النامية التي تفتقر إلى مقار ملائمة ومرافق تدريب متخصصة في إنشاء مجموعاتها الخاصة من المحفوظات بالاستعانة بأحدث التقنيات اللازمة لحفظ المخطوطات والكتب القديمة. والواقع أن حفظ الوثائق المكتوبة ضد الرطوبة والحشرات والتحمض باهظ التكلفة ويحتاج إلى الاستعانة بتقنيات متزايدة التعقيد([113]).
فهل سيقود إضفاء الطابع الرقمي على النصوص، بصورة أعمق، إلى حوار أفضل بين فروع المعرفة، وإلى الإقرار بتنوع طرق التعبير عن الفكر الإنساني، وإلى تقدير متبادل أفضل بين الثقافات؟ على أن هذا السيناريو المتفائل بعيد عن أن يكون مستبعدا. إذ أن الكلمة المكتوبة يمكن أن تفتح الباب على هذا النحو إلى "قراءة العالم" هذه التي أشار إليها پاولو فريرى Paulo Freire، وبكلمات أخرى إلى صرح للمعرفة دائم التجدد والحركة. ذلك أن المعرفة لا تقوم على اليقين بل على التساؤل، على ما يسميه إرنستو ساباتو Ernesto Sábato "فضيلة التعجب"([114]). وكما قال فيلسوف من اليونان القديمة فإن العلم هو ابن الدهشة.
وتفتح هذه الثورات آفاقا لم يتم بعد استكشافها أمام ازدهار المعرفة وتقدم نشرها. ونتيجة لها فإن حملة القراءة، وبالتالي تعليم القراءة والكتابة، والتعليم، سوف تمتد إلى حقول جديدة يجب أن توجه إليها اليونسكو عملها من الآن. وعلى كل حال فإن هذه الوعود لا تستبعد أيضا مخاطر حقيقية تماما. فمن جهة يقترن الوصول إلى وسائل الإعلام الجديدة بـ، وحتى يُفاقم، الفوارق الإقليمية والاجتماعية ـ الاقتصادية التي أشرنا إليها من قبل فيما يتعلق بالكتاب. ومن جهة أخرى فإن هذه الأدوات الجديدة للمعلومات تنطوي على عيوب مثيرة للقلق. وفي حين أن الكتب حافظت على المعرفة الإنسانية سليمة على مدى قرون عديدة فإن من المقدر أن "عمر الوسائط البصرية المنتمية إلى أسرة أقراص الليزر (سي دي روم) CD-ROM يصل إلى ثلاثين عاما على الأكثر". وعلاوة على هذا فإن "الإجراءات الراهنة للسيطرة الإلكترونية على الصور الثابتة والمتحركة لا تتيح الحصول على وضوح للصورة في التوعية يضارع وضوح الفيلم أو الميكروفيلم"([115]).
فماذا، على وجه الخصوص، ستكون نتائج تحولات الكلمة المكتوبة على أنماط الفكر وعلى النشاط المعرفي ذاته. وكما أوضح مارشال ماكلوهان فإن استقبال وفهم رسالة يتوقفان إلى حد كبير على الوسيلة التي تنقلها. والواقع أن الوسيلة، التي تبدو محايدة، تفرض نسق قيمها وإطار تفكيرها على المتلقي، مهما كان محتوى الرسالة. وإذا اختفت الكلمة المكتوبة والوسيلة ـ الكتاب، ألن يكون هناك تهديد بالغ الخطورة بأن يحل محل القراءة العقلانية المتسلسلة شكل سلبي وعفوي من استهلاك المعلومات([116])؟ والواقع أن عددا كبيرا من المثقفين عبروا عن قلقهم من أن يروا الذاكرة البشرية، هذا الركن من الأركان الأساسية للعقل والحكم (الرأي)، تضمر في عصر الوسائط المتعددة. وهم يخشون أيضا أن يضعف التفكير النقدي والحكم (الرأي) المنطقي مع تزايد اعتمادنا إزاء أجهزة الكمبيوتر: الحقيقة أن اليوتوبيا الآلية الحديثة، في شكلها الأكثر تطرفا، لا يمكن إلا أن تقود، إذا وقفنا مكتوفي الأيدي، إلى شراهة لا سبيل إلى إشباعها إلى البيانات التي تستبعد التأمل النقدي والحكم (الرأي) البشري، والذاكرة. وسوف يكون علينا أيضا أن نحرص على أن لا تؤدي إنجازات المعالجة الآلية للمعلومات إلى تقلص أشكال التوصيل الشفاهي للمعرفة والحكمة، اللتين ما تزالان وسوف تظلان لا غنى عنهما بالنسبة للعلاقة التربوية وبالنسبة للمحافظة على تنوع الثقافات.
إضفاء الطابع الرقمي على الكلمة المكتوبة:
التحديات الثقافية
من الجلي أنه سيكون من الضروري إعداد السياسات المستقبلية للكتاب والقراءة في إطار تفكير شامل ـ ما يزال اليوم في مرحلة جنينية ـ حول الأبعاد الثقافية للعولمة والانتشار الواسع للتكنولوجيات الجديدة. ويشكل الظهور السريع لهويات ثقافية ما بعد حداثية ذات طابع عبر إقليمي تحدّيا لم يسبق له مثيل لكل الثقافات، وبصورة خاصة للثقافات الشفاهية، خاصة وأن الوصول إلى نقل المعرفة عن طريق وسائل جديدة موزع بطريقة غير متكافئة على الإطلاق. وفي وقت يتعرض فيه أكثر من نصف حوالي 6000 لغة في العالم لخطر الاختفاء، يغدو مثل هذا التفكير لا غنى عنه وبالغ الإلحاح. وسوف يتعين أن يقوم على فكرة النشر العالمي للمعرفة ومشاركة الجميع في تلك المعرفة.
وبين التحديات التقنية المباشرة التي تفرض نفسها علينا، يفترض إضفاء الطابع الرقمي على الكلمة المكتوبة تحديد معايير عالمية تتيح استعمال كل أنظمة الكتابة على الإنترنت. والواقع أن إعداد شفرة رموز عالمية Unicode [شفرة رموز موحدة] يشكل بالفعل خطوة أولى هامة لأن هذه الشفرة تتيح تمثيل غالبية أنظمة الكتابة هذه (بما في ذلك صور ورموز الكتابة الصينية). ولهذه النقطة أهمية استراتيجية، لأنه فقط منذ اللحظة التي يوجد فيها اتفاق على شفرة رموز مشتركة يمكن أن تعبر كل اللغات عن نفسها بدون إبهام، وبفرص متكافئة على الشبكة العالمية. وإذا لم يكن هذا هو الحال فإن أنظمة كتابات الأقليات سوف تكون مجبرة على اختراع تشفيرات رموز محلية لا يمكن التعرف عليها في أي مكان آخر.
وما ينطبق على نظام الكتابة ينطبق على تشفير الصورة (خاصة الألوان)، والأصوات، وطرق الطباعة (لغة بوستسكرپت في الطباعة langage postscript). وينطبق الشيء نفسه على ما يتصل بالنقل بين الآلات، وتخزين البيانات، والتليفزيون الفائق الوضوح. وتشكل هذه المسائل الآن موضوعا لمعارك هائلة تتعلق بالمعايير ـ التي تُحسب رهاناتها بمليارات الدولارات ـ بين مصممي البرامج وشركات صناعتها. وتؤخر هذه الصراعات وصول الجمهور إلى الأدوات الجديدة للثقافة وتجعله أكثر تكلفة. ولهذا فإن من المهم العمل، في إطار مفاوضات واسعة النطاق، على إنشاء معايير عالمية يتم تحديدها بالإجماع([117]).
النشر وحق المؤلف
أحدثت التكنولوجيات الجديدة أيضا انقلابا عميقا في القنوات التقليدية لتوزيع الكتاب. فقد أدت إلى ظهور "النشر الإلكتروني" كمهنة وأتاحت إضفاء الطابع الرقمي على الصور والنص باستعمال الوسائل الاستاتيكية أو الديناميكية. والواقع أن استعمال "النشر المكتبي" desk-top publishing، و"المحول الرقمي" scanner (محول رقمي موصل بجهاز كمبيوتر) [للإدخال والتخزين]، ومعالجة الألوان بمساعدة الكمبيوتر، والتحكم في مراحل النسخ عن طريق البرامج، قد قامت جميعا بتثوير الطباعة وأتاحت تحقيق خفض في تكلفة إنتاج الكتب. ويفتح هذا الانقلاب التكنولوجي آفاقا اقتصادية جديدة: على سبيل المثال، تطوير العمل من المنزل télétravail في مجال النشر([118]).
على أن الكتاب سوف يتعرض، في الوقت نفسه، لخطر داهم إذا فقد شكله التقليدي نتيجة تكنولوجيات الجيل الأخير: بنوك المعلومات المؤتمتة، والأقراص المضغوطة التفاعلية، وتطبيقات الوسائل المتعددة. والآن تقدم بعض المكتبات، بالإضافة إلى المراجع الببليوغرافية، النص الكامل لبعض الأعمال. ويمكن استشارتها على الشاشة أو على الورق (باستعمال طابعة)، ما لم يفضل المرء تسجيلها على قرص كمبيوتر مرن خفيف. وعلاوة على هذا، فنظرا لأن من السهل من الآن فصاعدا أن تترابط المكتبات من خلال شبكات قومية أو دولية، فإنه لا مناص من أن يرتفع بصورة كبيرة وسريعة عدد العناوين المتوفرة في شكل المعلومات المعالجة آليا. وفي هذا السياق، يتعرض الكتاب للتغير في طبيعته ذاتها: بعد أن كان من قبل منتجا نهائيا، يصير منتجا أوليا لبنوك البيانات. كما أن مكانته الصناعية مهددة أيضا. والواقع أن الاستعمال الواسع النطاق للنسخ الضوئي كان قد ألحق الأضرار بشدة، منذ وقت طويل، بتجارة الكتاب، عن طريق تسهيل النسخ غير المشروع للنصوص وأضعف القدرة على رقابة تداوله. غير أن تطور قدرات شبكة الإنترنت يجعل هذه المشكلات تكتسب مزيدا من الحدة. فالعمل المحظور طبعه في بلد، يمكن نسخه إلكترونيا وتداوله في العالم كله عن طريق قناة الإنترنت؛ ومثل هذا المصدر للمعلومات المكتوبة الذي كان من الصعب الوصول إليه حتى الآن صار من الآن فصاعدا متوفرا عن طريق وحدة كمبيوتر طرفية بسيطة. وقد وصفت المحكمة العليا للولايات المتحدة الإنترنت بأنه "محادثة عالمية لا تنقطع". ومهما يكن من شئ فإنه يشكل أيضا مجالا جديدا لقراءة عالمية لا تنقطع.
فماذا سيكون مصير حقوق المؤلفين والناشرين؟ وبطبيعة الحال فإنه قبل "النص الفائق" hypertexte يوجد النص texte، وقبل القارئ يوجد المؤلف. وتبذل اليونسكو جهودا متواصلة من أجل حماية الملكية الأدبية والفنية في كل أنحاء العالم في تعاون وثيق مع المنظمة العالمية للملكية الفكرية ومؤسسات وتجمعات أخرى مثل الرابطة الأدبية والفنية الدولية؛ وقد أسهم هذا الجهد في عرض وتوضيح مختلف التقاليد القانونية التي تنظم حق المؤلف وفي توفيق هذا الحق بصورة أفضل مع مقتضيات الحياة الاجتماعية المعاصرة، وفي إطلاق حركة تشريعية كبرى لحماية حق المؤلف والحقوق الوثيقة الارتباط به في العالم([119]). وتفكر اليونسكو في توفيق هذه الحقوق مع المقتضيات الجديدة للتكنولوجيا الرقمية لكي يتم، في السياق الجديد للإنتاج والتخزين والتداول الناشئة عن هذه التكنولوجيات، تأمين تحديد الحقوق المشروعة للمؤلفين وغيرهم من حائزي الحقوق. وهذا بهدف بلورة القواعد التي تنظم علاقات المؤلف مع عمله ومع الأطراف المسئولة عن إنتاج وتوزيع هذا العمل. ويمثل حق المؤلف في آن معا حقا من حقوق الإنسان وعاملا من عوامل التنمية الثقافية؛ ولهذين السببين فإنه يشكل جانبا من الشواغل الرئيسية لليونسكو، التي يقع عليها واجب أن تخلق، بما يتفق مع الحقائق الجديدة لعصرنا، أفضل الشروط ملاءمة لأن تمارس أعمال العقل كامل تأثيرها. ومن المهم بصورة خاصة حماية مبدأ "الاستعمال النزيه" fair use، وهو مبدأ جوهري إذا أردنا أن تكون المكتبات وخدمات المحفوظات قادرة على أن تلعب دورها وعلى أن تكفل للجمهور الوصول المنصف إلى المعلومات في مجتمع حديث، في الوقت الذي تتفادى فيه تجاوزات سوق حرة يمكن أن تفضي إلى إلغاء كل فكرة عن حقوق الملكية الفكرية في الفضاء الإلكتروني. وتلعب حماية هذه الحقوق دورا مهما في ازدهار روح الإبداع، تماما كما أن التداول الحر للآراء أمر أساسي لنشأة مجتمع ديمقراطي ومتعلم([120]). ولهذا فإنه سوف يتعين تصميم حلول تجديدية لكي يتم التوفيق بين حماية حق المؤلف ووصول الجميع إلى المعلومات وإلى الثقافة في الفضاء الإلكتروني: يجب أن نتذكر أن الشبكة العالمية للمعلومات كان قد قام أصلا بتطويرها تيم بيرنرز ـ لي Tim Berners-Lee لتسهيل تبادل المعلومات والبيانات بين الباحثين. ويجب تعزيز هذه الوظيفة: ينبغي تسهيل وضع كل النصوص والوثائق والمخطوطات المنتمية إلى المجال العام على الإنترنت. وعبر خلق مجال للخدمة العامة في الفضاء الإلكتروني، "سوف يتسع نطاق وصول كل الشعوب إلى ما ينشره كل فرد من أفرادها" و"التداول الحر للأفكار بالكلمة والصورة" كما تطالب اليونسكو في قانونها الأساسي.
فرصة للصحافة المكتوبة
الواقع أن الاختلافات هائلة بين الوضع السائد في البلدان الصناعية، حيث تحفز وفرة الصحافة الدورية (اليومية، الأسبوعية، الشهرية) إلى الممارسة اليومية للقراءة، والوضع السائد في البلدان النامية، حيث تكون الصحافة أقل حضورا في حياة كل يوم، وإذا كان لنا أن نحكم بمعدلات توزيع الصحف اليومية لكل 1000 نسمة، فقد تم تسجيل فجوة بنسبة 1 إلى 6.5 في 1994 بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية، أي بنفس نسبة 1980([121]). وإذا كان ينبغي الحكم باستهلاك الصحف الورقية، وهو ضخم بصورة خاصة في البلدان الغنية، فإن الفجوة تزداد اتساعا: إلى 14.4 في 1995 لصالح البلدان المتقدمة، وهي فجوة لم تتغير كثيرا (1 إلى 20.3 في 1970) ([122]). وصحيح أن أنماط القراءة تتباين من بلد إلى آخر: القراءة المشتركة [قراءة عدة أشخاص لصحيفة واحدة] للصحف اليومية، وهي ممارسة واسعة الانتشار في مناطق مثل أفريقيا، تكفل للصحف توزيعا حقيقيا أعلى بكثير مما توحي به أرقام التوزيع. ويبقى أن وصول الأفراد إلى صحافة مكتوبة يشكل فعل اعتياد على الكلمة المكتوبة يصعب إحلاله. وهو أيضا العنصر المؤسس للحياة الديمقراطية. وقد أشار إليه توماس جيفرسون بهذه الكلمات "لأن حكومتنا تقوم على أساس رأي الشعب فإن أول هدف يجب أن يتمثل في المحافظة على هذا الأساس. ولو كان لا مناص لي من أن أفصل في مسألة أن تكون لنا حكومة بدون صحف أم صحف بدون حكومة، فإنني لم أكن لأتردد للحظة واحدة في اختيار الأمر الثاني".
وإذا كانت الصحافة مدعوة إلى أن تلعب هذا الدور التحرري، فإننا يجب إذن أن نجد الوسائل اللازمة لاستعمال وسائل الإعلام الجديدة لكي نكفل لها، خاصة في البلدان النامية، توزيعا أوسع. ويبدو أن العملية قد انطلقت بالفعل. وكما يشدد جيرار تيري Gérard Théry، فإن "الشبكات الإلكترونية الجديدة وسيلة ناجحة للصحافة". فهذه الأخيرة سوف تستخدم الشبكات الجديدة بصورة متزايدة حالما يتم إضفاء الطابع الرقمي بصورة كاملة على عملية إنتاجها، وسرعان ما سيحدث هذا"([123]). والواقع أن التكنولوجيات الجديدة تتيح الوصول إلى الصحافة الدولية والقومية على الإنترنت، وأحيانا حتى قبل ظهورها في مراكز التوزيع. ويتسع الآن بصورة كبيرة نطاق الصحف المتاحة كما أن سُكّانا كانوا معزولين من قبل يمكن من الآن فصاعدا أن يعتادوا أساليب جديدة للتحقيقات والتعليقات الصحفية، والحصول، بشأن بلدهم أو قارتهم، على وجهات نظر خارجية، والممارسة بنشاط للمناقشات التي تدور حول الأحداث الجارية. وبهذا الخصوص، هناك مبادرات أصيلة تستحق التحية، مثل إنشاء الوكالة الإعلامية لكل أفريقيا (پانا) في 1997، التي بدأت نشاطها في 1983 وتلقت دعم اليونسكو؛ وتقدم هذه الوكالة فرص الوصول على موقعها على الإنترنت إلى الجانب الأكبر من مراجع الصحافة الأفريقية الرئيسية.
نهاية الكتاب
أم تحول الكتابة؟
على مدى قرن ونصف، كم من المرات تنبأ المتنبئون بموت الكتاب؟ وقد أعلنوا علينا من قبل اضمحلاله المحتوم عند ظهور الصحافة الكبرى إلى الوجود؛ ثم السينما والإذاعة والتليفزيون. غير أن الكتاب بقي بعد كل أولئك الذين ظلوا يتنبأون بموته. وأنا على اقتناع بأن الكتب كما نعرفها سوف تستمر في الوجود طوال القرن الحادي والعشرين. غير أنني مقتنع أيضا بأن الكلمة المكتوبة توشك على تحول حقيقي: إنها سوف تصير هجينة، سوف تقيم علاقة تكافلية مع التقنيات المسموعة والمرئية وسوف يحدث انقلاب في توزيعها في نهاية المطاف نتيجة للطبع الإلكتروني. وبطريقة غير مباشرة، ستتم إعادة تشكيل شاملة لبنية الكتاب، وسوف يتطور معها محتوى الكتب وطبيعة القراءة ذاتها.
وهذا هو السبب، حتى لا نتجمد في نزعة ماضوية عقيمة، في أننا ينبغي أن نواكب بحزم تنويع وسائل الكلمة المكتوبة وأن نستفيد على أفضل نحو من التكنولوجيات الجديدة للاتصالات. واليوم، في عصر الإنترنت والقمر الصناعي، صار من الممكن من الناحية التقنية أن نتطلع إلى الطباعة أو إعادة الطباعة محليا لصحف يومية أو أعمال تم إنتاجها في مكان بعيد، وبالتالي أن نخفض، بصورة كبيرة، في نهاية المطاف، تكلفة ومدة النقل. والواقع أن مدة النقل ما تزال أطول مما ينبغي ويؤدي إلى تأخيرات في توزيع الدوريات والأعمال، التي تعاني بصورة متزايدة من التقادم السريع للمعرفة والمعلومات. ولأن النقل السريع للكلمة المكتوبة يقدم منطلقات واعدة للتنمية التعليمية والاقتصادية والثقافية فإنه يجب بالتالي أن يشغل مكان الصدارة في السياسات الحكومية. وكما سبق لي أن أوضحت فإن إمكانات البحث عن بعد في الكتب والمجلات عن طريق ربط المكتبات بشبكات، تقدم آفاقا جديدة للتعليم عن بعد، وـ على نطاق أوسع ـ لتبادل المعرفة بين البلدان الصناعية والنامية. ولا شك في أن جيلا جديدا من التجهيزات الثقافية مدعو إلى أن يحل محل مكتباتنا العتيقة نتيجة للإمكانات المستحدثة التي تفتحها الوسائط المتعددة والأنماط الجديدة للاطلاع على الكلمة المكتوبة: ستكون مثل هذه التجهيزات، لأنها متعددة الإمكانات، منظمة في شبكات أو مجمّعة معا داخل مراكز متعددة المعارف للنشاط الثقافي. وفي البلدان الأكثر حرمانا يمكن أن تكون هذه التجهيزات خفيفة ومتنقلة لكي تخدم مجموع المنطقة كما ينبغي([124]). وسيكون من المفيد هنا أن نستلهم تجارب مشجعة في التعليم غير الرسمي تجري في الوقت الحالي في مناطق عديدة من العالم: إنني أفكر على وجه الخصوص في برنامج "المدرسة الجديدة" Escuela Nueva في كولومبيا الذي اعتمده مدرسو نصف المدارس الريفية هناك([125]).
وكنت قد شددت من قبل على واجبنا الخاص المتمثل في أن نرحب بدون آراء مسبقة بالتغيرات التكنولوجية المعاصرة للاستفادة منها بأفضل صورة. غير أن روح الانفتاح لا يجب أن يتحول إلى جنون التكنولوجيا؛ كما أنه لا يجب من باب أولى أن يمنعنا، في سياق نشوة تجارية مفرطة، من إدراك حدود التقدم السيبرنطيقي. والحقيقة أن أقلية صغيرة فقط هي التي تستفيد منه في الوقت الراهن، ومن الصعب أن نرى كيف يمكن أن يتمتع الثلاثة مليارات من الفقراء ـ أي نصف البشرية ـ الذين يعيشون على أقل من دولارين في اليوم، أو الأربعة مليارات ونصف من البشر الذين لا يملكون وسائل للاتصالات السلكية واللاسلكية الأساسية، بالوصول إلى التقدم السيبرنطيقي في الأجل القصير أو المتوسط. وسيكون من الضروري، في هذا المجال، بذل جهد كبير وطويل النَّفَس ـ على مدى جيل أو جيلين ـ يتسم ببعد النظر وبالإرادة السياسية، لجعل هذا الشعار الدعائي ـ عالم مترابط ـ حقيقة واقعة عالمية.
وعلى هذا النحو فإنه في مواجهة التكنولوجيات الجديدة للاتصالات، سوف يكون من الضروري أن تشجع المؤسسات القومية والدولية تدريب السكان على الجسور الجديدة، والتكامليات، والتفاعليات، التي أدخلتها وسائل الإعلام الجديدة. ولو كان لا مناص من أن يفضي تطور التكنولوجيا الجديدة إلى إهمال العمل التعليمي الأساسي، لانتصر العالم "الافتراضي" بالتالي حقا على "العالم الواقعي"، ولصارت "حضارة اللامادي" ليس فقط غير مجدية بل محالة. وسيكون التغلب على هذا التناقض الكامن أحد التحديات الرئيسية التي سيكون علينا جميعا أن نواجهها في القرن الحادى والعشرين.
غير أننا نظل واثقين. فإذا كان الكتاب، الذي ظل على مدى قرون أداة الأفكار والمعارف، يواجه الآن منافسة، بين الأجيال الشابة، من الكتابة الإلكترونية فإنها تمثل، أكثر مما قد نعتقد، دوافع جديرة بالثناء. إذ أنه جنبا إلى جنب مع التجاوزات التي تفسح هذه الوسيلة الجديدة المجال أمامها أحيانا (مواقع تثير الكراهية العنصرية أو الدينية، وكراهية الأجانب ومعاداة السامية، واستغلال الأطفال في أغراض إباحية، إلخ)، هذه التجاوزات التي يجب العقاب عليها في ظل سيادة القانون والقوانين المعمول بها، أودّ التذكير بصورة أولئك الشباب الصربي والكرواتي الذين يتصلون ببعضهم البعض عن طريق البريد الإلكتروني ويتخلصون، عن طريقه، من طائفية المجتمع الذي يحيط بهم. وأنا لا أعتقد أنه يوجد حقا تنافس بين الوسيلتين (الكتاب والكتابة الإلكترونية) بل أعتقد أنه يوجد بالأحرى شكلان من الاتصالات في وقت واحد، حيث يكون أحدهما، في ظروف خاصة، ملائما أكثر من الآخر للتعبير الحر عن الفكر. فلنرحب، إذن، بهذه الأشكال الجديدة للتعبير كمرحلة جديدة في مسيرة تقدم الاتصال البشري وأداة إضافية للمعرفة والبحث. والحقيقة أن التكنولوجيا ليست إلا ما سوف نصنعه بها ويمكن تشبيهها بلغة جديدة يتعين علينا اكتشاف، أو بالأحرى، اختراع، نحوها وقواعدها ومفرداتها.
ويقول بعضهم إننا نعيش في عصر "المعلومات". غير أن هذه "المعلومات" التي تكون في كثير من الأحيان، أولية وغازية، لن تكون مفيدة لنا مطلقا ما لم يتم تحويلها إلى معرفة. والكتاب والقراءة أساسيان للتطور الفكري: ليس هناك أدنى شك في أن المعرفة يتم اكتسابها و"الكتاب في اليد"، من خلال القراءة وإعادة القراءة، اللتين تتيحان لنا أن "نتناقش" مع النص، وأن نعيد كتابته ذهنيا. ولن يختفي الكتاب أبدا. بل على العكس، ستصير أهميته محورية بصورة متزايدة في عالم (فضاء) إلكتروني ستصير فيه كل وسائل الإعلام في حالة انقلاب. وإذا نجحنا في السيطرة على الأدوات الجديدة للاتصالات دون أن تتلاعب هي بنا فإنها سوف تساعدنا في صياغة ثقافة الديمقراطية والحرية والسلام والتسامح التي تمثل أسمى أمانينا للقرن الحادي والعشرين. وبطبيعة الحال فإن الاستثمار في القراءة استثمار في إذكاء التفكير وروح المواطنة: إنه بالتالي استثمار في توطيد الديمقراطية في القرن الحادي والعشرين. وعندئذ ستكون الاتصالات قادرة أخيرا على تحقيق المثل العليا "لحرية الفكر والضمير والدين" و"حرية الرأي والتعبير"، التي نادى بها الإعلان العالمي في 1948 والمواثيق الدولية بشأن حقوق الإنسان.
منطلقات وتوصيات
3 تأمين الوصول الشامل إلى الكتاب والقراءة عن طريق تنمية التعليم الأساسي، والنضال ضد الأمية الوظيفية، وإعلاء شأن التراث المكتوب والأدبي.
3 تشجيع ورفع شأن القراءة، وبصورة خاصة بين الأطفال والصغار، كعمل من أعمال الحرية، ومدخل إلى التفكير النقدي، ومعرفة الآخر.
3 تشجيع إنتاج وتوزيع الكتب المنخفضة الأسعار و"الكتب في جريدة" periolibros (في شكل حلقات مسلسلة في الصحافة المكتوبة)؛ وتشجيع إنشاء مكتبات متنقلة ومراكز للقراءة تتلاءم مع حاجات السكان الريفيين أو المحرومين.
3 دعم استعمال التكنولوجيات الجديدة للاتصالات، كوسيلة للكلمة المكتوبة، وتخصيص قسم من مساعدة التنمية المخصصة للتكنولوجيات الجديدة للمحافظة على التراث المكتوب وتنميته.
3 تشجيع إنشاء مكتبة رقمية عالمية وتأمين تكاملية أكبر بين مجموع أنظمة المعلومات المتاحة، عن طريق دمج الخدمات المنفصلة تقليديا (المكتبات والشبكات الإلكترونية). وتشجيع استخدامها في إطار الأنظمة التعليمية والثقافية.
3 تحويل المكتبات إلى "مراكز معرفة"، مفتوحة على كل المصادر الرقمية للمعلومات والبحث. ومساعدة البلدان النامية في إنشاء مكتبات ومجموعات محفوظات وتمويل تدريب عاملين ذوي كفاءة. وتشجيع حماية وحفظ ومقرطة الوصول إلى مجموعات المحفوظات وإلى المكتبات.
3 تطوير أدوات معرفة وتعلم اللغات (المعاجم وكتب القواعد)، والبحث في المجال اللغوي، وجمع التراث الشفاهي في الشكل المكتوب، ومشروعات النشر التاريخي التي تلفت الأنظار إلى قيمة التراث المكتوب العالمي.
3 تشجيع تنقيح الكتب المدرسية، عن طريق المفاوضات الثنائية بين البلدان، أو عن طريق إجراءات متكاملة على المستوى الإقليمي تأخذ في اعتبارها أحدث نتائج البحث التاريخي والتفكير في مجال العلوم الاجتماعية، من أجل دعم ثقافة للسلام والتسامح والقضاء على التحيزات القائمة على "العرق"، أو الجنس، أو اللغة، أو الديانة، أو النظرات القومية الضيقة جدا إلى التاريخ.
3 تشجيع تطوير معايير عالمية محددة بالإجماع تتيح بصورة خاصة استخدام كل لغات العالم على الإنترنت.
3 دعم الإبداع الأدبي عن طريق إنشاء المزيد من المسابقات والجوائز على المستوى القومي والإقليمي والدولي وعن طريق الحفز إلى الكتابة، من التعليم الابتدائي إلى التعليم العالي؛ ومواصلة الجهود التي بدأت فيما يتعلق بحماية حقوق الملكية الفكرية، مع أخذ المشكلات المستحدثة التي تطرحها التكنولوجيات الجديدة للاتصالات في الاعتبار.
15
تراث مهدد بالانقراض:
اللغات
من المحتمل أن يختفي على الأقل نصف ما يتراوح بين 5000 و6700 لغة يُنطق بها الآن([126]) في كل أنحاء العالم؛ من الآن وحتى نهاية القرن الحادي والعشرين. كما أن الموت الذي يهدد بدرجات متباينة هذه اللغات التي يصل عددها إلى حوالي 3000 لغة لن يوازنه ظهور لغات جديدة ليس من المتوقع أن يكون عددها كبيرا([127]). وكل أسبوعين، تنقرض لغة ما في مكان ما في العالم. ويتعلق الأمر في أغلب الأحوال بلغات غير مكتوبة يفضي اختفاؤها في الوقت ذاته إلى تلاشي أدبها الشفاهي. ومن المحتمل أن يصيب الانقراض أسرا لغوية بكاملها، مثل اللغات الخويسية في جنوب أفريقيا أو لغات السكان الأصليين في أستراليا. والحقيقة أننا لا نعرف بعد إلا بصورة ناقصة جدا الآليات والمدى الحقيقي لهذا الانقلاب الثقافي الهائل جدا، المماثل بحكم أبعاده للاختفاء الواسع النطاق للأنواع الحيوانية والنباتية الذي يصيب المحيط الحيوي في الوقت الحالي([128]). ووفقا لعدد من اللغويين، يمكن حتى أن تتخذ عملية انقراض اللغات أبعادا أكبر كثيرا مما يتنبأ به أغلب المتخصصين: في نهاية المطاف، لن يكون نصف بل 95% من اللغات المنطوق بها الآن محكوما عليها بالانقراض([129]).
وسوف تعاني كل مناطق العالم، بطرق متفاوتة، من هذه الظاهرة التي تصيب قبل الجميع الأقليات والسكان المحليين، وبكلمات أخرى الجماعات المحلية الأكثر تهميشا. ووفقا لكل الاحتمالات، ستكون معدلات الانقراض مرتفعة بصورة خاصة في المناطق التي تقدم أكبر تنوع للغات. والواقع أن التراث اللغوي للعالم موزع بصورة غير متكافئة مطلقا: وفقا لتقدير ما يزال ناقصا فإنه من بين 6703 لغة ما يزال يُنطق بها في العالم، توجد نسبة 15% منها في القارة الأمريكية (1000 لغة)، و30% في أفريقيا (2011 لغة)، و32% في آسيا (2165 لغة)، و19% في منطقة المحيط الهادي (1302 لغة)، و3% في أوروبا (225 لغة)؛ وعلى هذا فإن حوالي نصف اللغات التي ما تزال حية اليوم توجد في آسيا ومنطقة المحيط الهادي. ومع ذلك فإن هذه ليست الأرقام الدقيقة بل هي بالأحرى تقديرات ما تزال غير دقيقة لحالة التراث اللغوي العالمي (انظر فيما بعد تعليقاتنا حول بعض التفاوتات الإقليمية) ([130]). وظاهرة الانقراض اللغوي متفاقمة في مختلف المناطق إلى هذا الحد أو ذاك: إنها أحدث في شمال شرق آسيا، على سبيل المثال، منها في أوروبا، التي كانت أول منطقة تعاني من التآكل اللغوي. وعلاوة على هذا، لا تتطابق خريطة لغات العالم مع خريطة سكان العالم. ووفقا لأوساهيتو مياأوكا Osahito Miyaoka، الأستاذ بجامعة طوكيو فإن 96% من اللغات ينطق بها 4% فقط من سكان العالم([131]). ووفقا لويليام ف. ماكي William F. Mackey فإن "1% فقط من لغات العالم ينطق بها أكثر من نصف مليون فرد، و10% فقط ينطق بها أكثر من 100000 فرد، في حين أن نسبة تتراوح بين 20% و30% لم يعد ينطق بها الصغار، و10% منقرضة تقريبا"([132]).
كما تتباين التقديرات الراهنة تباينا كبيرا حسب تباين طرق الإحصاء، التي تعكس أحيانا نقص المعلومات الإحصائية وتعكس أحيانا تحيزات المؤلفين([133]). وبدلا من الحديث عن "لغة" (هي عادة اللغة "الأولى")، سيكون من الأفضل دون شك، في بعض الحالات، أن نتحدث عن "أسر" لغات ليست مفهومة تماما بالضرورة بصورة متبادلة، بل تنتمي إلى نفس الأسرة اللغوية. وعلى كل حال، ورغم اختلاف التقديرات، فإن حوالي نصف سكان العالم يعبرون عن أنفسهم في واحدة من اللغات الثماني التي ينطق بها أكبر عدد من سكان العالم (الصينية، والإنكليزية، والهندية، والإسبانية، والروسية، والعربية، والبرتغالية، والفرنسية) ([134]).
وتؤدي إلى تسارع انقراض اللغات مجموعة متنوعة جدا من العوامل المرتبطة بالعولمة و"الثورة الصناعية الثالثة": التصنيع، والحضرنة، وأشكال جديدة من الاستهلاك، ونفوذ وسائل الإعلام المسموعة والمرئية. فهل يجب أن نقف مكتوفي الأيدي إزاء سرعة هذه الظاهرة واتساع نطاقها؟ وهل يمكن، كما يفعل بعض العلماء المتخصصين، أن ننظر إلى هذا الانقراض على أنه حتمية خالصة شبه دارونية، باعتبار أن اللغات "الأصلح"، في سياق بعينه، هي المدعوة للبقاء؟ وهل تكون العولمة مصحوبة بالضرورة بسحق التنوع الثقافي واللغوي للعالم تحت تأثير هيمنة لغة أو لغتين أو ثلاث لغات مشتركة؟ أم أنها قابلة على العكس للتوفيق مع تعددية لغوية حقيقية، هي الوحيدة القادرة على أن تعطي صوتا وفرصة لكل ثقافات العالم؟ وهل تمثل التكنولوجيات الجديدة للمعلومات والاتصالات خطرا على التنوع اللغوي، أم أنها على العكس أمل جديد في تعزيز اللغات وانتشارها؟ وهل سيشهد القرن الحادي والعشرون ازدهار تلاقُح مثمر بين اللغات، وتعميم لطابع اللغات المشتركة ("الكريولية")، وذلك "التهجين" الذي يجري تبنيه بصراحة والذي يذكره الكاتب إدوارد غليسّانت Eduard Glissant؟ وهل سيكون التهجين والترحل الثقافي مصحوبين، كما يأمل العالم اللغوي كلود آجيج Claude Hagège في كتابه الحديث المعنون: Le soufle de la langue [احتضار اللغة]، بتهجين لغوي وترحل لغوي، بانتشار معمم للتعددية اللغوية؟ وما هي السياسات اللغوية التي سوف تطبق في القرن الحادي والعشرين([135])؟ وبصورة خاصة، هل توجد، وهذا ما تقتنع به اليونسكو، علاقة وثيقة بين تعليم اللغات، والحوار بين الثقافات، وظهور ثقافة للسلام؟
لغات مهددة بالانقراض
لمعظم اللغات المهددة بالانقراض سمتان مشتركتان: عدد صغير من الناطقين بها (عدة مئات، بل حتى عدة آلاف) وهرم عمري غير متوازن، يكون فيه أصغر الناطقين بها منخفضي التمثيل إلى حد كبير. ويتفق كل العلماء اللغويين على أن عُشر لغات العالم، التي ينطق بكل منها في الوقت الحالي أقل من مائة شخص، هي في وضع مزعزع للغاية وتوشك على الاختفاء([136]). وليس من السهل تحديد خط محدد بدقة لعدد الناطقين الذين تكون اللغة تحته في خطر، لأن هذا الخط يمكن أن يتباين من منطقة إلى أخرى: في منطقة المحيط الهادي، قد تكون اللغة التي ينطق بها سكان يتراوح عددهم بين 500 و1000 شخص مستقرة بصورة كافية، أما في أوروبا أو في أفريقيا فإن لغة سكان مماثلين عدديا يمكن دون شك اعتبارها في خطر. غير أن من المهم أن نلاحظ أن حوالي 90% من لغات العالم ينطق بالواحدة منها عدد أقل من 10000 فرد([137]).
وعلى هذا النحو يغدو من الممكن تمييز عدة مراحل أو مستويات في الطريق إلى الانقراض، كما يفعل مؤلفو the Red Book [الكتاب الأحمر] (شمال شرق أسيا؛ أوروبا)، الذين يميزون خمسة مستويات، من لغات "محتضرة" (المستوى 1) إلى لغات "مستقرة" (المستوى 5) ([138]). كما يتباين المعدل الراهن للانقراض: في شمال شرق آسيا، نجد نسبة اللغات المهددة بالانقراض مرتفعة جدا (60% في الفئتين 1 و2 المهددة أكثر بالانقراض)؛ أما في أوروبا فإن اللغات أكثر استقرارا (تقع 71% منها في الفئات من 3 إلى 5)، رغم أنه ما يزال عدد اللغات المحتضرة كبيرا جدا([139]). ومن الجلي أن المنطقتين تمران بطورين تاريخيين مختلفين. أما في أوروبا فإن ظاهرة الانقراض قديمة، وهناك لغات قليلة محرومة من الأدب ولغات كثيرة تعتمد على دول: وبالتالي فإن عددا كبيرا جدا من اللغات في موقف يسمح لها بالبقاء. وعلى العكس من هذا فإنه في شمال شرق آسيا، يبدو أن ظاهرة تآكل اللغات أحدث كثيرا وأنها تهاجم رأسا منطقة لا تملك لغات كثيرة جدا فيها السمات المميزة الضرورية (لغات أدبية، لغات دول) لمقاومة التغيرات الناشئة عن التحديث. فهل يمكن إذن أن نقوم بصياغة فرضية مؤداها أن الوضع الأوروبي يستبق الحالة المستقبلية للعالم اللغوي، ويبشر بالاستقرار النسبي اللاحق لعملية انقراض اللغات؟
والوضع الراهن للغات متناقض للغاية. وإذا كان من المستحيل أن نرسم هنا لوحة دقيقة للتطورات الإقليمية، فإن بعض الاتجاهات الرئيسية تبرز بكل وضوح: لا مناص من أن تظل أفريقيا وآسيا، وهما في الوقت الحالي المنطقتان المتميزتان بأشد تنوع لغوي في العالم، محتفظتين بهذا الوضع حتى حوالي عام 2100 حيث أن نسبة كبيرة جدا من الانقراضات المتوقعة سوف تصيب منطقة المحيط الهادي والأمريكتين. غير أنه لا مناص أيضا من أن تشهد آسيا وأفريقيا حدوث انخفاض كبير في تنوعهما اللغوي. ومن المحتمل أن تتطور الأمريكتان في اتجاه وضع مماثل لوضع أوروبا: حيث لن يواصل البقاء هناك سوى عدد صغير من اللغات، لكل لغة منها عدد كبير جدا من الناطقين بها وقاعدة مؤسسية. كما أن من المرجح أن تعزز التغيرات الجارية اللغات السائدة اليوم وكذلك اللغات المشتركة linguae francae الراهنة، التي يتكلمها الناس في سياق ثنائي اللغة في مناطق واسعة متنوعة لغويا. وتسمح بعض المعطيات الأكثر دقة بقياس التنوع وحجم التحديات([140]):
· في أفريقيا، وفقا لبعض الخبراء، توجد 222 لغة مهددة بالاختفاء خلال القرن الحادي والعشرين (أقل من 500 ناطق بها) ([141])، من أصل مجموع كلي يتباين عدده وفقا للتقديرات بما يتراوح بين 700 و2000 لغة. إن القارة بأسرها سوف تتأثر([142]). وتضم أفريقيا الجنوبية ككل 48 من الانقراضات الجارية أو المتحققة، وتتعلق انقراضات كثيرة منها بلغات الأسرة الخويسية (البوشمان ـ الهوتنتوت)، التي توشك على الاختفاء كلية خلال القرن الحادي والعشرين. وسوف يؤثر المتغيران الديموغرافي والاقتصادي تأثيرا شديدا على سياق تلاحق الظاهرة، هناك كما في كل مكان آخر. وفي حالة حدوث تقدم اقتصادي له وزنه في القارة، يمكن أن يكون عدد الانقراضات أكبر بوضوح. كما أن تواصل النمو الديموغرافي الأفريقي، الذي يمكن توقعه على الأقل في جزء من القرن الحادي والعشرين، سوف يكون في البداية لصالح بقاء اللغات المهددة بالانقراض. غير أن تسريع الانتقال الديموغرافي يمكن أن يطلق موجة ثانية من الانقراضات الواسعة النطاق. ويعتقد بعض الخبراء أن اللغات المشتركة الأفريقية (أولوف والسواحيلي، إلخ.)، بالإضافة إلى اللغات التي تتمتع بمكانة لغة الدولة أو اللغات الإقليمية، هي التي ستكون ـ أكثر من لغات القوى الاستعمارية الكولونيالية القديمة ـ في وضع يسمح لها بالصعود كلغات سائدة بحلول نهاية عام 2100([143]). غير أن هذه الفرضية بعيدة عن أن تحقق إجماعا، نظرا لأن منطقة انتشار هذه اللغات المشتركة هي في أفضل الأحوال منطقة فرعية، كما أن العولمة تهدد بأن تكون، في السياق الأفريقي المتسم بالتفتت اللغوي الكبير، لصالح الاحتفاظ باللغات الواسعة الانتشار الموروثة من العهد الاستعماري.
· وفي أمريكا، باستثناءات قليلة فقط، تُعتبر كل اللغات المهددة بالانقراض لغات محلية أو كريولية. وفي أمريكا الجنوبية([144])، يمكن اعتبار ما بين ثلث ونصف ما يتراوح بين 470 و500 لغة هندية موجودة الآن، لغات مهددة بالانقراض بسبب العدد الهزيل للناطقين بها، وبصورة خاصة في البرازيل، حيث أن ما يتراوح بين 170 و200 من لغاتها المحلية ينطق بها بجانبها الأكبر جماعات محلية ضئيلة العدد إلى حد أنها لا تكاد تملك فرصة لنقلها إلى الأجيال المقبلة([145]). وفي تلك المنطقة، يمكن تقدير أن ما يتراوح بين 150 و200 لغة محلية يمكن أن تبقى على مشارف عام 2100 إلى جانب الإسبانية، والبرتغالية، والإنكليزية، والفرنسية، والهولندية. ولا مناص من أن يكون انخفاض التنوع هو الأشد في البرازيل. ويجدر بنا أن نشدد على الجهود الراهنة لحماية اللغات داخل أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي: على سبيل المثال، تدعم منظمة اليونسكو البرامج الرامية إلى إعداد المعاجم للغات منها الناهواتل، والآيمارا، والمايا، والغاراني، وتقدم الآن دعمها ل"دار الكاتب المحلي" في المكسيك. وكانت الولايات المتحدة وكندا هما اللتان شهدتا أسرع نقص: يحصي المتخصصون حوالي 200 لغة محلية هناك([146]) ويسجلون معدلات الانقراض المثيرة للقلق: ووفقا لأوفيليا زبيدا Ofelia Zepeda وجين هيل Jane Hill فإن 51 لغة واردة في تعداد 1962 باعتبار أنه ينطق بها عدد يتراوح بين 1 و10 من الناطقين([147]) صارت الآن منقرضة. وتعتبر هاتان الخبيرتان أن كل اللغات المحلية في أمريكا الشمالية مهددة الآن بالانقراض، حتى تلك التي تُعدّ الأبعد جغرافيا (الإسكيمو) أو الأكبر عدديا (ناڤاجو)، وإن كان هذا الخطر ليس فوريا بالنسبة لهذه اللغة الأخيرة([148]).
ومن المحتمل أن يبقى عدد صغير جدا من اللغات المحلية في أمريكا الشمالية، منها الناڤاجو، والكرى، والأوجيبوا، إلى جانب الإنكليزية والفرنسية والإسبانية. ولن يتم تعويض هذه الخسارة الفادحة للتنوع اللغوي إلا بصورة جزئية جدا باللغات المهاجرة (الصينية، الكورية، إلخ.)، بافتراض أن تنجح هذه اللغات في الانتقال إلى الأجيال المقبلة.
· ويمكن إحصاء ما بين 600 و700 لغة في جنوب شرق آسيا (بما في ذلك جنوب الصين)، أكثر من 40 لغة منها مهددة بالانقراض([149]). وسوف يتوقف مستقبل هذه اللغات على سياسات الدول. وإذا كان لسياسة قمع الأقليات المتبعة في عدد من البلدان المعنية أن تستمر فإن نتائجها المنطقية من وجهة نظر التنوع اللغوي لا يمكن إلا أن تكون خطيرة. ونظرا للكثافة السكانية المحلية والمتوسط المرتفع نسبيا لعدد الناطقين بكل لغة، يبدو من المتوقع بقاء عدة مئات من اللغات. ولا شك في أن اللغات الرسمية لهذه المنطقة الفرعية ـ الڤيتنامية، واللاوسية، والتاپية، والكمبودية، والبورمية، والصينية، إلخ ـ ستكون من بينها. وسوف تعزز هذه اللغات نفسها على حساب اللغات الأقل انتشارا، وبصورة خاصة على حساب لهجاتها هي ذاتها. ومع ذلك فإن عددا كبيرا من اللغات سوف يختفي. وفي الصين فإن "اللهجات" الصينية الكانتونية، والوو، والمين، والهاكا، والخيانج، إلخ، التي يشبه تنوعها، المتركز في الربع الجنوبي الشرقي من البلاد، تنوع اللغات اللاتينية الأصل فيما بينها، هي في الواقع المهددة بالانقراض أكثر من لغات الأقليات القومية، بسبب تعميم اللغة الصينية المشتركة، لغة الپوتونغوا.
· ومن بين 47 لغة تم إحصاؤها في شمال شرق آسيا (باستثناء روسيا)؛ 20 لغةً تحتضر الآن، و8 لغات قريبة من الانقراض، و13 لغة مهددة بالانقراض([150]). ومن المحتمل أن تكون اللغتان التتارية والبورياتية مهددتين بالانقراض. أما الياكوتية، والمنغولية (على الأقل لهجتها الفصحى)، والتوڤية، والأواراتية، فهي لغات قابلة للحياة. ويقدر الخبراء أن عددا صغيرا فقط من اللغات (ربما ست لغات) سوف تبقى إلى جانب الروسية، التي لا مناص من أن تدعم مكانتها كلغة مشتركة للمنطقة.
· وفي أوروبا، وفقا لأحد التقديرات، من بين 123 لغة يُنطق بها حاليا، تُعتبر 9 لغات محتضرة، و26 لغة قريبة من الانقراض، و38 لغة مهددة بالانقراض، و50 لغة مهددة بانقراض محتمل أو غير مهددة بالانقراض([151]). وفي كثير من الأحيان، توجد اللغات المهددة بالانقراض في أطراف أوروبا أو في المناطق الجزرية: لغات منطقة البلطيق، واللغات الفريزيانية، واللغات الغالية في الجزر البريطانية، والبريتانيية، والباسكية، والسردينية، وبعض أنماط اللغة الكرواتية. ويقدر بعض الخبراء أن 50 إلى 70 من اللغات ستبقى على مشارف نهاية القرن الحادي والعشرين. وسوف يتم تعزيز كل لغات الدول، وكذلك في بعض الحالات لغات ذات أهمية محلية، خاصة في أوروبا الجنوبية (الغاليسية، اللومباردية، الكورسيكية)، أو لغات رسمية إقليمية (الكاتالانية). ويجب أن نشير إلى أن عدد اللغات التي تم تحديدها في أوروبا يمكن أن يتباين بمعدل من 1 إلى 2 تقريبا (من 123 إلى 225) وفقا للمعايير المستعملة في التعريف.
· وفي الهند، يتراوح عدد اللغات المنطوق بها الآن بين 200 و381 لغة وفقا للتقديرات([152]). وما تزال المعطيات الإحصائية غير مستقرة تماما ومازال من غير الممكن تقدير مخاطر الانقراض بصورة كاملة([153]).
· ويتميز الوضع في جنوب شرق آسيا ومنطقة المحيط الهادي بتنوع لغوي كبير جدا. ويحصي ر. م. و. ديكسون R. M. W. Dixon 1830 لغة ما يزال يُنطق بها في هذه المنطقة (وقد حدد المسح الذي أجراه 1980 لغة، منها 150 من لغات سكان أستراليا الأصليين صارت اليوم منقرضة) ([154]). وفي كل غينيا الجديدة (الإقليم الإندونيسي إيريان جايا وپاپوا غينيا الجديدة) وحدها، يعتقد أنه توجد 960 لغة، أيْ ما بين سُدْس وسُبْع كل لغات العالم. ويعكس هذا التنوع الاستيطان القديم جدا لجزيرة غينيا الجديدة (بين 70000 و50000 سنة قبل الميلاد وفقا للتقديرات) وكذلك التطور اللاحق للغات في بيئتها in situ في منطقة جغرافية وعرة للغاية. ومن حيث التنوع، تمثل لغات غينيا الجديدة ما يعادل 50 إلى 60 من الأسر اللغوية في أوروبا.
وإذا كان متوسط عدد الناطقين بكل لغة في الفليبين وإندونيسيا مرتفعا جدا فإن هذا لا يصدق على أوقيانوسيا (بما في ذلك غينيا الجديدة) أو على أستراليا، حيث السكان مبعثرون جدا. وفي كل مكان يقل متوسط عدد الناطقين بكل لغة محلية عن 8000 شخص ويقل الناطقون بلغة من نصف لغات المنطقة تقريبا عن 1000 شخص([155]). وينتج عن هذا خطر الانقراض البالغ الارتفاع في كل هذه المنطقة.
وفي حالة أستراليا، حيث يُفترض وجود 100 لغة ينطق بها السكان الأصليون اليوم (250 لغة في لحظة وصول الأوروبيين)، كان التناقض هائلا: يقدر ديكسون عدد لغات السكان الأصليين التي يمكن أن يظل منطوقا بها في نهاية القرن الحادي والعشرين بـ 25 لغة، غير أنه يعتبر هذا تقديرا متفائلا. وهو يتوقع أن تمتد عملية الانقراض اللغوي إلى أراض أخرى من منطقة المحيط الهادي (أوقيانوسيا، غينيا الجديدة) خلال القرن الحادي والعشرين بنفس نتائجها في أستراليا. وسوف يتسارع انقراض اللغات نتيجة للحجم الهزيل للمجتمعات المحلية، وازدهار الاقتصاد التجاري، وانتشار اللغات المشتركة (الإندونيسية، التاغالوغ، التوك پيسين، الإنكليزية، الفرنسية، إلخ). وهو يقدر أنه على مشارف عام 2100، سوف يتراوح عدد اللغات التي سيظل منطوقا بها في منطقة المحيط الهادي بين 20 إلى 30 و200 لغة. ومن المحتمل أن تكون خسارة التنوع اللغوي أضخم في شرق المنطقة أكثر مما في غربها (إندونيسيا ـ الفليبين). غير أنه حتى في الغرب، من المرجح تماما أن تختفي لغات عديدة: يهدد خطر الانقراض بصورة خاصة لغات "نيغريتو" في الفليبين، كما أن معظم لغات السكان الأصليين في تايوان سوف تكون مهددة بالانقراض بصورة خاصة أيضا.
اللغات والعولمة:
انقراض وتنوع وبقاء اللغات
عندما تنقرض لغة فإنها، في الغالبية الساحقة من الحالات، تنقرض إلى الأبد. وهناك استثناءات قليلة: شهد العالم على سبيل المثال إحياء بعض اللغات التي لها تراث مكتوب، وحتى بعض اللغات التي لها تراث شفاهي وكان من المعتقد خطا أنها انقرضت (أمريكا اللاتينية، غينيا الجديدة). وإحياء لغة قديمة مثل العبرية هو المثال الذي يُستشهد به مرارا وتكرارا على إحياء اللغات. غير أن هذه تبقى حالات منعزلة، ففي أغلب الحالات، تختفي لغة مع آخر الناطقين بها.
وتتباين بشدة أنماط ظواهر الانقراض هذه وجدولها الزمني: قد ينتج اختفاء لغة عن تغيرات كارثية في البيئة العامة للجماعات اللغوية المعنية ـ الإبادة الجماعية([156])، احتلال منطقة لغة من جانب الناطقين بلغة أخرى([157])، الكارثة الطبيعية([158])، الوباء. ووفقا لعدد من الخبراء، قد يسهم ارتفاع عدد الكوارث الطبيعية الناتجة عن دفء الغلاف الجوي الملحوظ في العقود الأخيرة في انقراض اللغات التي ينطق بها سكان قليلون يستغلون نظما إيكولوجية خاصة (لغات غينيا الجديدة، لغات الأمازون، اللغات الأسلية asliennes في وسط ماليزيا). وعلاوة على هذا، من المحتمل أن يشكل ظهور ومعاودة ظهور الأمراض تهديدا مباشرا بصورة أكبر للغات تنطق بها مجتمعات تقليدية صغيرة: قد يهدد وباء الإيدز في المستقبل بالانقراض عددا لا يستهان به من اللغات الأفريقية أو الآسيوية الصغيرة.
ومع ذلك فإن انقراض اللغات ينتج في أغلب الأحيان عن تغيرات متعاقبة تؤثر في بيئتها البشرية والاقتصادية والثقافية والسياسية. وتحدث الحالة الأكثر شيوعا عندما تدخل لغتان في اتصال، بصورة خاصة نتيجة للتبادلات الاقتصادية والثقافية أو نتيجة للهجرات([159]). ويفضي مثل هذا الوضع على أقل تقدير إلى الثنائية اللغوية: على سبيل المثال، استطاعت المالاوية في ماليزيا، والتوك پيسين في غينيا الجديدة، والسواحيلية في أفريقيا، أن تصير اللغة الثانية لعدد كبير من المجتمعات المحلية، دون أن تحل على كل حال محل اللغات الأم. غير أنه عندما يكون وضع الثنائية اللغوية مصحوبا بالضغط السياسي والثقافي القوي، كما هو الحال في أغلب الحالات، فإن المحصلة المتوقعة تتمثل في تهميش اللغة الأصلية للجماعة، مما ينتهي إلى أن لا تكون معروفة إلا لأكبر أفرادها سنا، وتختفي معهم. وتفسر هذه الآلية الواسعة الانتشار للغاية تدهور اللهجات الفرنسية، التي كانت ما تزال قوية في بداية القرن العشرين، وكذلك تدهور العديد من لغات الأقليات في الاتحاد السوڤييتي السابق، والبر الصيني، وتايوان (رغم وجود سياسة تشجيع).وتسهم هذه الآلية نفسها في تدهور أو اختفاء لغات السكان الأصليين في أستراليا، والعديد من اللغات الهندية الأمريكية، ولغة الأنيو في اليابان، والمانتشو في شمال شرق الصين، والغالية في اسكتلندا. وقد تبقى اللغة الأصلية حية بصورة جزئية في شكل كريولي([160])(اللغات الكريولية الكاريبية، وإنكليزية السكان الأصليين في أستراليا، إلخ) أو من خلال ثنائية لغوية إضافية: لا يتكلم أبناء الجماعة المسودة اللغة الأصلية لجماعتهم إلا في ظروف هامشية أو في لحظات خاصة من الحياة الاجتماعية([161]). وعلاوة على هذا، تمارس اللغة الأصلية في كثير جدا من الأحيان تأثيرا قويا ليس فقط على مفردات اللغة السائدة، بل أيضا على نحوها وصرفها([162]).
وتتعارض مع عوامل التآكل والانقراض هذه عوامل أخرى تساعد على النقيض على الاحتفاظ بالتنوع اللغوي: ينبغي أن نستشهد قبل كل شئ بالميل إلى انقسام اللغات إلى لهجات، وهذا ميل عميق ماثل في صميم مبدأ التنوع الهائل للغات البشر. وتتجلى هذه الدينامية في أعلى نقطة لها حيث يكون الاتصال الجغرافي أو السياسي لجماعة لغوية ضعيفا؛ على سبيل المثال في المناطق الجبلية التي تكون فيها المواصلات بين الوديان صعبة، أو عندما تنقسم جماعة لغوية نتيجة لهجرة قسم من الناطقين بها، أو أيضا عندما تنعدم السلطة السياسية المركزية أو تُوازنها قُوًى سياسية محلية واسعة النفوذ. وعلى سبيل المثال فإن المناطق الجبلية تبدى في كثير من الأحيان تنوعا لغويا أكبر من السهول المجاورة لها (القوقاز، البيرينيس، فوجيان، غينيا الجديدة، إلخ.)؛ وقد تنوعت اللغة الإنكليزية نتيجة للهجرة إلى مجموعة من لهجات المستعمرات (الولايات المتحدة، أستراليا، نيوزيلندا، إلخ.)؛ وتمايزت الإنكليزية الأمريكية نفسها إلى أنماط إقليمية نتيجة قوة الخصوصيات المحلية. غير أن هذا الاتجاه العام يعمل في الأمد الطويل، في حين أن الآثار المدمرة الموصوفة من قبل تفعل فعلها في كثير من الأحيان بسرعة بالغة. وهذا هو السبب جزئيا في أن رصيد نشأة وانقراض اللغات كان سلبيا إلى حد كبير، في الفترة الأخيرة، وفي أنه سيظل سلبيا خلال القرن الحادي والعشرين.
وإلى جانب هذا الاتجاه، تسهم عوامل أخرى عديدة في بقاء اللغات المهددة بالانقراض. وينبغي أن نذكر قبل كل شئ العزلة الجغرافية (الوضع الجزري، المناطق الجبلية)، والتي تقلل الاتصال مع لغات في حالة توسع، والتي يمكن أن تحمي نسبيا مناطق معزولة (لغات القوقاز، وأطلس، والأنديس، والهيمالايا، ومنطقة المحيط الهادي، إلخ.)، ولكن التي يمكن في مستقبل قريب جدا أن يوازنها إلى حد بعيد اتساع انتشار الاتصالات السلكية واللاسلكية البعيدة المدى والسياحة. والعامل الثاني: وجود نظام كتابة وأدب متنوعين يجري تعليمهما في المدارس. وسوف يحمي هذا العامل اللغات التي تملك تراثا مكتوبا أساسيا([163])، غير أنه ليس من المحتمل أن يحمي اللغات التي تم إدخال نظام للكتابة فيها مؤخرا جدا، والتي لا يوجد فيها أدب متنوع. ويشكل وضع اللغة القومية عاملا ثالثا من عوامل البقاء. وأخيرا، يبدو أن اللغات التي ينظر إليها الناطقون بها على أنها رمز للهوية تقاوم بصورة أفضل من اللغات الأخرى الاتصال مع لغات في حالة توسع (الموري في نيوزيلندا). غير أنه يجب التسليم بأن لغات قليلة جدا تملك واحدة أو أخرى من هذه السمات المميزة: وعلى سبيل المثال فإن أقل من 15% من الدول لها أكثر من لغة رسمية واحدة، وعدد قليل منها لها أكثر من لغتين؛ وعلاوة على هذا فإن هذه اللغات الرسمية القليلة العدد (حوالي مائة)، حيث تستعمل 125 دولة ذات سيادة كلغة لها إحدى اللغات الأربع التالية: الإنكليزية (45 دولة)، والفرنسية (30 دولة)، والإسبانية (30 دولة)، والعربية (20 دولة) ([164]).
وعلاوة على هذا فإن اللغات لا هي مستقرة ولا هي جامدة: إنها تنشأ بصورة متواصلة وتتكيف بلا انقطاع مع بيئتها. وترتبط اللهجات المحلية عادة بمجتمع فلاحي يمر في الوقت الراهن في كثير من أنحاء العالم بتحول كامل، إن لم يكن بسبيله إلى الانقراض. وينعكس كل انقلاب اجتماعي أو اقتصادي بسرعة في اللغة: على سبيل المثال، الاختفاء شبه الكلي، من الذاكرة الجمعية، لمفردات حِرَف عفى عليها الزمن ـ على سبيل المثال، في أوروبا، الأدوات الزراعية، أدوات نجار العربات، تقنيات صانع القباقيب ـ وظهور ألفاظ جديدة في السياقات المتعددة الثقافات.
ونلاحظ في كثير من الأحيان ظواهر التهجين اللغوي في مناطق مختلفة. وهناك لغات شفاهية مشتركة، وهي أدوات للتفاهم فيما بين المناطق ـ يمكن أن تعمل داخل إطار نظام واحد لقواعد اللغة، غير محتفظة، على وجه الإجمال، إلا بالأساس المشترك لكل اللغات المعنية: لغة الكانجيه، على سبيل المثال، صورة مبسطة من لغة الماندنغو (وهي لغة في غرب أفريقيا موجودة في بلدان عديدة: السنغال، غامبيا، بوركينا فاسو، كوت ديفوار، غينيا، سيراليون، غينيا بيساو، غانا) التي يفهمها كل الناطقين بمختلف لهجات الماندنغو، مهما كان النمط اللغوي الذي ينطقون به باعتباره لغة الأم. كما يمكن أيضا أن تكون لغات مشتركة صورا مبسطة من لغة أحد الشعوب في منطقة وأن تقوم بوظيفتها داخل مجتمعات ذات لغات أم مختلفة: تُستعمل لغة أولوف، على سبيل المثال، في كل أنحاء السنغال كأداة للتفاهم الشفاهي، وقد هاجرت اللغة المالاوية المشتركة انطلاقا من ماليزيا إلى الموانئ الإندونيسية([165]).
اللغات من أجل السلام:
رهانات التعددية اللغوية
ما تزال أهمية التنوع اللغوي بعيدة عن أن يتم الاعتراف لها بنفس أهمية التنوع الأحيائي. وقد عانى التنوع اللغوي، وما يزال يعاني في كثير من الأحيان، من عدد من التحيزات اجتمعت نتائجها فأسهمت في التقليل من شأن أهمية تعليم اللغات والمحافظة على التراث اللغوي العالمي.
وبهذا ارتبط التنوع اللغوي، منذ وقت طويل، بالفكرة السلبية عن عدم إمكانية الاتصال بين الثقافات، هذه الفكرة التي رفع من شأنها التصور التوراتي عن العالم بعد برج بابل، الذي حكم عليه العقاب الإلهي ببلبلة الألسن وعدم التفاهم. وترتبت على هذا التحيز، الذي فاقمته الدينامية الراهنة للعولمة، نتائج جسيمة: نتيجة لانحراف غريب، بدا منذ وقت طويل أن القضاء على التنوع اللغوي يشكل المقدمة التي لا غنى عنها لإقامة اتصال ووفاق بين الثقافات والكائنات البشرية. بل حتى أشار بعضهم إلى أن بناء سلام عالمي يجعل من الضروري اللجوء إلى لغة عالمية واحدة. غير أن كل التجربة البشرية تشهد ضد هذا التحيز: صحيح أن الهوة اللغوية يمكن أن تكون من أسباب عدم التفاهم بين المجموعات البشرية التي تنطق بألسنة مختلفة. غير أن الأمر يتعلق عندئذ بمشكلات يمكن حلها بجانبها الأكبر عن طريق تنمية الاتصال والتعاون بين الثقافات. وبعبارة أخرى فإن اللغات ليست هي عامل الانقسام بل إن عدم الاتصال بين الثقافات هو الذي يخلق حواجز بين البشر. أما أولئك الذين يخشون "البلبلة البابلية" اللغوية في القرن الحادي والعشرين فإنه ينبغي أن نرد عليهم بأن عدم إمكانية الاتصال ليس ما يجب أن نخشاه، بل هو بالأحرى عدم الاتصال. ويثبت وجود لغات مشتركة شائعة وممارسة الثنائية اللغوية، المنتشرة في كل أنحاء العالم، أنه لا وجود لقدرية تقود من التنوع اللغوي إلى عدم إمكانية الاتصال.
وقد تمثل تحيز آخر، وهو مرتبط جزئيا بالأول، في إقامة هيراركية (تراتبية) للغات: تم اعتبار بعض اللغات (خاصة تلك اللغات التي لها تراث مكتوب) "متفوقة" وحاملة "للحضارة"، في حين أن اللغات الأخرى (وهي غالبا تلك اللغات التي لها تراث شفاهي) تم اعتبارها "بدائية"، ومحكوما عليها بالاختفاء مع التقدم الصناعي والاقتصادي أو مع توسع الديانات السائدة. والحقيقة أن هذا التحيز، الذي كان مبنيا في كثير من الأحيان على فكرة التفوق المفترض لثقافات بذاتها على ثقافات أخرى، في سياق استعماري (كولونيالي) أو تبشيري في بعض الأحيان([166])، أسهم بكل قوة في تدهور تعليم ونشر لغات الأقليات واللغات الإقليمية، وكذلك تعليم لغات السكان الأصليين في العصر الاستعماري الكولونيالي، غالبا ضمن إطار يتسم بالتمييز العرقي. وإذا كان هذا التحيز بعيدا عن أن يكون قد تلاشى فإن كل الخبراء متفقون الآن في الاعتقاد بأن فكرة الهيراركية اللغوية زائفة بصورة عميقة: ليس هناك أيّ لغة "متفوقة" بصورة ملازمة على أيّ لغة أخرى: تقوم كل لغة بدورها في سياق ثقافي واقتصادي واجتماعي وإيكولوجي وسياسي نوعي؛ وتُصور كل لغة بطريقتها الخاصة المتميزة بيئة مختلفة. ولهذا فإن اختفاء اللغات ليس ظاهرة لغوية المنشأ: إذ لا يمكن تفسيره بالدونية اللغوية المفترضة للغة بالمقارنة مع لغات أخرى، بل بعوامل أخرى، مثل تغير عنيف في البيئة العامة التي يجري استعمال لغة فيها، أو تطور أنماط الحياة التي ترتبط بها اللغة، أو غياب تراث مكتوب قادر على تعويض نواحي قصور النقل الشفاهي: اللغات ذات التراث الشفاهي التي ترتبط في كثير من الأحيان بنمط للحياة الريفية، هي الأكثر تعرضا في الوقت الراهن لأن يتم التخلي عنها.
وقد تمثل تحيز ثالث وأخير، وهو معاصر إلى حد كبير لظهور الدول القومية، في دعم تأسيس دولة موحدة عن طريق تعزيز لغة رسمية وحيدة. وقد أفضت هذه السياسة مرارا وتكرارا إلى تثبيط التعددية الثقافية واللغوية وتشجيع الأحادية اللغوية، التي اعتُبرت ضمانة للوحدة القومية والتماسك القومي. وكان وما يزال يجري في كثير من البلدان، وباسم عدم قابلية الجماعة القومية للتقسيم، إثارة الشكوك حول وجود وتعليم اللهجات واللغات الإقليمية، بل حتى مقاومتها بنشاط عن طريق وسائل سياسات الاحتواء اللغوي الإجباري: يُنظر إلى التعددية اللغوية بالتالي على أنها عقبة أمام التنمية. وقد ساد هذا الموقف طويلا في بلدان أوروبا الغربية ولكن أيضا في مناطق عديدة أخرى من العالم، حيث كانت السياسات اللغوية تميل إلى تحبيذ سيادة لغة قومية. وفي الإطار الاستعماري الكولونيالي، كان تعليم اللغات الكولونيالية المشتركة مفروضا في كثير من الأحيان على حساب تعليم اللغات المحلية. وفي مناطق عديدة تمثل فيها التعددية اللغوية([167])القاعدة وليس الاستثناء، تشكل هذه السياسة عائقا أمام تعلم الأطفال الصغار وتفضي إلى أوضاع تكون فيها لغات الأم، التي ينطق بها في بعض الحالات غالبية السكان، لا يتم تعليمها ولا تستعملها وسائل الإعلام.
والحقيقة أننا إزاء رهان يتجاوز رهان المصير المحدد لهذه اللغة أو تلك: إن ما يتعرض للخطر هو تكوين المجتمعات التي تعكس ثقافاتها، بتنوع تعبيراتها، هذه القيم الماثلة في أساس الديمقراطية الحقيقية. وعلاوة على هذا، من الجوهري الاعتراف بأن لغات العالم ليست منتجات استهلاكية عادية يمكن تصنيعها وإحلالها بلا انقطاع: اللغة والمجتمع ظاهرتان لا تنفصمان، بل لا تنفصلان مثل وجه وظهر ورقة واحدة. ولهذا فإن موت لغة يُفقرنا جميعا إذ أنه في كثير من الأحيان الفصل الأخير في اختفاء نمط للحياة، وثقافة، ونظرة إلى العالم تمثل هذه اللغة أداة نقلها الممتازة: حيث أنه لا يتم في أغلب الأحيان عمل شئ للمحافظة على أيّ أثر لها، تختفي المعارف التاريخية، ولكن أيضا تجارب آلاف السنين. وقد حدث هذا مع الوصفات العلاجية، ومع أسماء النباتات وخصائصها، وناهيك بأسماء الأماكن والذكريات التاريخية التي تستدعيها إلى الأذهان بصورة مباشرة. وعندما يكون هذا الانقراض، بالإضافة إلى هذا، مفروضا من جانب الآخرين، فإن ما يختفي هو حرية وكرامة جماعة بشرية. ووفقا للشاعر الصقلي إجنازيو بوتيتا Ignazio Buttita، فإن أيّ "شعب يغدو فقيرا ومستعبدا / عندما تُسلب منه لغته / التي ورثها عن أسلافه: / إنه يضيع إلى الأبد"([168]).
وكثيرا جدا ما ننسى أن اللغات ذاتها تحتوي على جانب كبير من سجلات التاريخ غير المدونة للإنسانية: إنها تحتوي في مفرداتها، وفي صرفها، وفي نحوها، على بقايا أصلها المشترك مع لغات أخرى، بعيدة جدا عنها أحيانا، وكذلك آثار الاتصالات الثقافية التي احتفظ بها الناطقون بها مع الناطقين بلغات أخرى. صحيح أن فك شفرة هذه المعلومات ليس بالشيء السهل، غير أن المعلومات اللغوية، تمثل مع علم الآثار وعلم الوراثة، إحدى النوافذ التي يمكن أن نفتحها على الماضي([169])، كما تشهد المعارف التي أتاحت الدراسات الهندوأوروبية جمعها حول التاريخ المبكر لشعوب أوروبا وآسيا الجنوبية. كما أن اللغات المهددة بالاختفاء تكون في كثير من الأحيان هي اللغات الأكثر هامشية والأكثر تباعدا. والحقيقة أن اختفاء اللغة التسمانية، دون أن يكون بالمستطاع وصفها حتى بصورة مختصرة، خسارة لا تقل فداحة عن تدمير موقع أثري مهم.
وفي كثير من الأحيان، يعكس الإفقار الثقافي الذي يمثله اختفاء لغة وضعا أوسع وأعقد: تخلف وإقصاء وتبعية وتهميش مجتمعات محلية بأسرها يُنكر عليها "الحق في أن تكون مختلفة، وفي أن تنظر إلى نفسها وفي أن يُنظر إليها على أنها مختلفة"، وفقا لتعبير إعلان اليونسكو بشأن العرق والتحيزات العرقية (1978) ([170]). وتكتب الفيلسوفة حنة أريندت Hannah Arendt: "أينما ساد العنف بصورة مطلقة، لا تصمت القوانين وحدها، وفقا لعبارة الثورة الفرنسية، بل يجب أن يلزم أيّ شخص والجميع الصمت"([171]). ويعني النضال من أجل التنوع اللغوي أيضا العمل من أجل حرية التعبير والسلام: "إنك تفهم الناس بالكلام معهم"، كما يذكّرنا بحق مثل إسباني يدعونا إلى حل النزاعات عبر الحوار. وتتيح ممارسة الكلام اللقاء بالآخر على قدم المساواة في الكرامة، مع التجاوز في وقت واحد للميول نحو إضفاء طابع التجانس والميول نحو العزلة. كما أن النضال ضد التحيزات اللغوية هو أيضا نضال ضد الانكفاء على الذات وضد الجهل، ونضال في سبيل هذين المفهومين ـ السلام والكلام ـ الأثيرين لدى الشاعر بلاس دي أوتيرو Blas de Otero. كما يقتضي هذا النضال تعليما متعدد اللغات وانتهاج سياسات لغوية وثقافية نشطة تتوافق مع الأطر المحلية والقومية والإقليمية، سياسات ينبغي أن تكون موضوعا لمفاوضات للتوصل إلى اتفاقات إقليمية يقدم الميثاق الأوروبي بشأن اللغات الإقليمية ولغات الأقليات نموذجا أول لها. وهذا هو هدف مشروع السلام اللغوي Linguapax الذي طرحته اليونسكو([172]).
الحقوق اللغوية
كانت الحقوق اللغوية موضوعا لوثائق دولية عديدة:
تنص المادة 27 من العهد الدولي بشأن الحقوق المدنية والسياسية على أنه "في الدول التي توجد فيها أقليات إثنية، أو دينية، أو لغوية، لا يجوز حرمان الأشخاص الذين ينتمون إلى هذه الأقليات من حق التمتع، بصورة مشتركة مع الأعضاء الآخرين في مجموعتهم، بحياتهم الثقافية الخاصة، أو المجاهرة بديانتهم الخاصة وممارستها، أو استعمال لغتهم الخاصة".
وتشدد الاتفاقية الخاصة بالنضال ضد التمييز في مجال التعليم، التي اعتمدتها اليونسكو في 1960، على أنه "ينبغي الاعتراف لأعضاء الأقليات القومية بحق ممارسة أنشطة تعليمية خاصة بهم، بما في ذلك إقامة المدارس و، وفقا لسياسة كل دولة بشأن التعليم، استعمال أو تعليم لغتهم الخاصة، ولكن بشرط [...] عدم القيام بممارسة هذا الحق بطريقة تمنع أعضاء الأقليات من فهم ثقافة ولغة المجتمع ككل ومن الاشتراك في أنشطته أو بطريقة تعرض السيادة الوطنية للخطر [...]" (المادة 5، الفقرة 1. ج).
ويبقى المرجع الرئيسي هو الإعلان الخاص بحقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو إثنية، ودينية، ولغوية، الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 18 كانون الأول / ديسمبر 1992. وتوسع المادة الأولى نطاق العناصر المأخوذة في الاعتبار بالنص على أن "الدول تحمي وجود الأقليات وهويتها القومية أو الإثنية، والثقافية، والدينية، أو اللغوية، على الأراضي الخاصة بها، وتدعم تحقيق الأوضاع التي تساعد على تعزيز تلك الهوية". وتهدف تدابير متنوعة، لا تخلو من قيود وتوازنات، إلى تعزيز الحقوق الثقافية: "2. تتخذ الدول تدابير لتهيئة أوضاع ملائمة لتمكين الأشخاص المنتمين إلى أقليات من التعبير عن خصوصياتهم المميزة ومن تطوير ثقافتهم، ولغتهم، وتقاليدهم، وعاداتهم، إلا في حالة ممارسات نوعية تشكل خرقا للتشريع الوطني وتتناقض مع الأعراف الدولية. 3. على الدول أن تتخذ تدابير ملائمة، بقدر الإمكان، لكي تتوفر للأشخاص المنتمين إلى أقليات فرصة تعلم لغتهم الأم أو لتلقي التعليم بلغتهم الأم. 4. على الدول أن تتخذ تدابير في مجال التعليم من أجل تشجيع معرفة تاريخ وتقاليد ولغة وثقافة الأقليات التي تعيش فوق أراضيها. وينبغي أن تتوفر للأشخاص المنتمين إلى أقليات فرصة معرفة المجتمع ككل".
وقد شدد الإعلان العالمي للحقوق اللغوية (برشلونة، 1996) على أن "لغات عديدة لا تستطيع أن تبقى وتتطور ما لم تؤخذ في الاعتبار الأهداف الأساسية التالية: • من منظور سياسي، ابتكار تنظيم للتنوع اللغوي يتيح المشاركة الفعالة للجماعات اللغوية في هذا النموذج الجديد للنمو. • من منظور ثقافي، جعل نطاق الاتصال العالمي متوافقا تماما مع المشاركة المنصفة لكل الشعوب، وكل الجماعات اللغوية، وكل الأفراد، في عملية التنمية. • من منظور اقتصادي، إقامة تنمية مستديمة على مشاركة الجميع، وعلى احترام التوازن الإيكولوجي للمجتمعات، وعلى علاقات منصفة بين كل اللغات والثقافات" (الديباجة).
نحو ثقافات متعددة اللغات
في القرن الحادي والعشرين
والحقيقة أن الأحادية اللغوية بعيدة عن أن تتطابق مع واقع العالم: وفقا للخبراء، يساوي عدد الأفراد ذوي الثنائية اللغوية نصف سكان العالم([173])، ولا يكاد يوجد بلد بدون شكل من أشكال الثنائية اللغوية. وفي كثير من البلدان والقارات، ليست الأحادية اللغوية بل الثنائية اللغوية (وأحيانا التعددية اللغوية) هي القاعدة (على سبيل المثال في أفريقيا، في الهند، في جنوب غرب المحيط الهادي، في إندونيسيا، في الفليبين، في سويسرا، في فنلندا، في پاراغواي، إلخ.). وهذه الثنائية اللغوية أو التعددية اللغوية التي تجعلها الاتصالات الثقافية شائعة بصورة متزايدة، يمكن اكتسابها بدون صعوبة كبيرة خلال الطفولة المبكرة، ويمكن استمرارها طوال الحياة، حيث تلعب كل لغة دورها في إطار اجتماعي ووظيفي خاص. ومن جهة أخرى فإن الواقع اللغوي يتحرك بسرعة متزايدة: في وسط لندن فقط، تم إحصاء أكثر من 175 لغة أم في المدارس التي يديرها مجلس مدينة لندن([174]).
وعلاوة على هذا، يتفق كل الخبراء على الإقرار بأن "الأشخاص ذوي الثنائية اللغوية يملكون بصورة عامة مرونة وسلاسة معرفيتين متفوقتين على نظيرتيهما عند الأشخاص ذوي الأحادية اللغوية"([175]): وكما شدد، منذ عصر التنوير، المفكر الإنساني الفرنسي شارل رولان Charles Rollin، فإن "فهم اللغات هو بمثابة المقدمة لكل العلوم"([176]). كما اعتبر العالم اللغوي ر. جاكوبسون R. Jakobson الثنائية اللغوية الموضوع الأكثر أساسية لعلم اللغة([177]). وفي مواجهة التحديات اللغوية والثقافية للقرن الحادي والعشرين، يجب من الآن أن تشجع المدرسة الازدهار، داخل ما سماه روبرتو كانيرو Roberto Caneiro بـ"جماعات تعليمية تعددية"([178])، لثقافة حقيقية متعددة اللغات، عربونا لتقارب جديد بين الثقافات، ولمشاركة ديمقراطية حقيقية. ويفترض هذا، على وجه الخصوص، أن تتكيف المدرسة مع الظروف اللغوية لكل مجتمع وأن تبحث بطريقة منهجية سبل تقارب وتنسيق بين تعليم لغة "الأم" وتعليم لغات أخرى عديدة([179]). وعلى هذا فإن لغة "الأم"، التي يُعتبر قمعها ضارا بصورة عميقة بتنمية الأنشطة المعرفية للطفل، والتي تعتبر، وفقا لكل المتخصصين، أفضل أداة ناقلة أكيدة لتعليم القراءة والكتابة([180])، يمكن بالتالي أن تلعب دورها بالكامل كوسيلة نحو مهارات أخرى([181]).
ويفترض تعليم ثنائية اللغة أو ثلاثية اللغة إجراء تنسيق بين اختيارات، كفن تعليمي مبني على التكامل([182]). ويجب أن يبدأ تدريس اللغات الأجنبية بصورة مبكرة جدا: يشدد العالم اللغوي كلود آجيج، بهذا الخصوص، على أن العام الحادي عشر لطفل يسجل نهاية "الفترة الحرجة"، العام الذي يحدث فيه أن "الأُذن، التي كانت إلى ذلك الحين العضو الطبيعي للسمع، تصير قومية"([183]). ويجب التمسك بتدريس اللغة ليس كعلم أكاديمي أشبه بالعلوم الأخرى بل كأداة للاتصال، والتعبير، والإبداع، واللعب. ويجب اللجوء إلى الانغماس اللغوي الذي ربما كانت تيسره تبادلات واسعة النطاق للمعلمين داخل نفس المنطقة الواحدة من العالم، بل حتى بين المناطق. وينبغي أن يتاح تعليم لغات الأقليات أو اللغات التي يتم تدريسها بصورة غير كافية. ويجب أن يتواصل هذا من المستوى الابتدائي إلى المستوى الثانوي لتأمين العناية الدائمة بالمعارف المكتسبة والجديدة.
وعلى كل حال، يبدو من المرغوب فيه أن نتجه في القرن الحادي والعشرين إلى تعليم متعدد اللغات ـ ثنائي اللغة على الأقل و، بقدر الإمكان، في كل البلدان التي يكون فيها هذا ممكنا، ثلاثي اللغة ـ يقوم على الإتقان، وفقا لصيغ ينبغي إعدادها محليا، للغات عديدة مختارة من بين اللغات القابلة أكثر للإسهام في التعليم والتنمية (لغة "الأم"، اللغة القومية، اللغة القومية المجاورة، اللغة المشتركة الدولية، إلخ.) ([184]). ويجب أن يبدأ هذا التعليم المتعدد اللغات من التعليم الابتدائي. وسوف يتباين بالضرورة اختيار اللغات التي يتم تعليمها وكذلك طرق تعليمها وفقا للسياقات اللغوية الإقليمية. وفي مستوى التعليم الابتدائي، يبدو من المرغوب فيه استعمال لغات ذات جمهور دولي واسع، يمكن أن تكون لغات إقليمية مجاورة؛ وقد أوضح بعض الخبراء أنه إذا كان المراد تشجيع التنوع اللغوي، فإن اللغة الإنكليزية لا تفرض نفسها بالضرورة في هذه المرحلة، ويمكن إدخالها، مع لغات أخرى غير إقليمية، في مستوى التعليم الثانوي أو كلغة أجنبية ثانية في التعليم الابتدائي([185]). ولهذا ينبغي أن يكون التعليم في القرن الحادي والعشرين ليس فقط متعدد اللغات بل أيضا مفتوحا في مفهومه على كل غنى التراث اللغوي العالمي.
وينبغي أيضا أن تنفتح التكنولوجيات الجديدة للمعلومات والاتصالات بصورة أوسع على التنوع اللغوي. واليوم، توجد نسبة 60% من أجهزة الكمبيوتر المتصلة بالإنترنت في الولايات المتحدة؛ وخارج أوروبا وأمريكا الشمالية، تعتبر التوصيلات بالإنترنت بجانبها الأكبر حديثة ومحدودة (انظر الفصل المعنون "ثورة التكنولوجيات الجديدة: المعلومات والاتصالات والمعرفة"). ووفقا لبرنارد أوديت Bernard Oudet([186])، تظل المشكلات التقنية التي يطرحها نقل اللغة المكتوبة عبر الإنترنت مهمة([187]). ولا شك في أن النموذج الموحد الرموز، الذي يتيح تدوين كل كتابات العالم تقريبا، ينتشر بالتدريج. غير أنه، كما يشدد ب. أوديت، ما يزال الطريق طويلا قبل أن يكون بالمستطاع استعمال متعدد اللغات حقا، "سيكون فيه مؤلف ما قادرا على تضمين استشهاد باليونانية في نص بالروسية قابل للقراءة على جهاز كمبيوتر في أمريكا اللاتينية". وتنتشر بسرعة الترجمة بمساعدة الكمبيوتر، الواسعة الاستعمال في اليابان، وأوروبا، والولايات المتحدة، غير أنها لا يمكن أن تستغني عن المراجعة البشرية، كما أنها لن تحل أبدا محل الاهتمام بالتصوير الصادق لمشاعرنا وتأملاتنا ـ هذا التصوير الذي يغدو أكثر صدقا كلما كانت المفردات أكثر غنى.
تشجيع البحث اللغوي
وإنقاذ اللغات المهددة بالانقراض
أغلب اللغات المهددة بالاختفاء لغات شفاهية أو لغات مكتوبة منذ وقت أحدث من أن تكون قد استطاعت أن تدون أدبها. كما أن موت هذه اللغات سوف يفضي أيضا إلى تلاشي كل أدبها الشفاهي.
وهناك حاجة إلى التفكير العميق عبر فروع المعرفة على المستوى الدولي حول مفهوم "اللغة" ذاتها، و ـ بصورة بعدية a fortiori حول مفهوم "اللغات المهددة بالانقراض" ـ، وحول العمليات المعقدة التي تهدد بقاء اللغات، وحول الحقوق اللغوية للأقليات. ويمكن أن يستند هذا الجهد من التعاون الفكري إلى عقد مؤتمرات إقليمية على مستوى المجموعات القارية الكبرى وأن ينتهي إلى لقاء بين المتخصصين ذوي الخبرة على المستوى العالمي الذين سيكون عليهم أن يعتمدوا توصيات ملموسة بشأن تعليم اللغات واستعمالها في وسائل الإعلام وفي الحياة الاجتماعية والاقتصادية.
ومن الملائم، في مدخل القرن الحادي والعشرين، إجراء تحليل صارم للتنوع اللغوي العالمي يتيح إجراء جرد لغوي عالمي موثوق به. وهذا الجرد الذي يقدم في شكل تقرير دوري بشأن اللغات يمكن نشره بصورة منتظمة ـ كل ثمانية إلى عشرة أعوام على سبيل المثال ـ ينبغي أيضا أن يشتمل على قائمة بحالات الاضطهاد الذي يستهدف الأشخاص لأسباب لغوية وقائمة بالقوانين والنصوص ذات الصلة في هذا المجال وبيان عن مختلف التجارب الجارية حاليا لصالح الدفاع عن اللغات وتعزيزها؛ وينبغي تشجيع الوعي بالتراث اللغوي، والإسهام في رصد تطوره، والتوصية بالوسائل الملائمة لحماية اللغات الحية. وينبغي أن يتيح هذا الجرد إعداد خريطة لغوية عالمية، وصفية وتفسيرية في الوقت نفسه، يتم تحديثها بصورة منتظمة، وتتمثل أهدافها الإجرائية في المحافظة على اللغات الحالية وحمايتها([188]). ومن الآن تقوم بتنفيذ هذا المشروع العلمي اللجنة الدولية للسلام اللغوي LINGUAPAX، التي عينتها اليونسكو، والتي تقوم الآن بإعداد تقرير عن لغات العالم وخريطة لغوية للعالم عام 2001.
كما أن المجتمع الدولي بحاجة أيضا إلى أدوات قانونية ونصوص خاصة هدفها حماية الثروة اللغوية التي تهددها في كثير من الأحيان المصالح السياسية أو الاقتصادية وظواهر الهيمنة الثقافية. وأعتقد أن اتفاقية دولية بشأن الحقوق اللغوية يمكن أن تساعدنا ليس فقط في إنقاذ عدد كبير من اللغات الأكثر عرضة لخطر الانقراض بل أيضا في تشجيع ازدهار ممارسات عبر ثقافية تتفادى الهيراركيات الجائرة. ويمكن أن تتيح هذه الاتفاقية تعزيز ثقافة متعددة اللغات والتفكير على مستوى الدول والمناطق في التجديد الضروري لمعايير التخطيط اللغوي وتطوير وسائل تعليمية ملائمة. واللغات والثقافات، مثل الأشخاص، متساوية في الكرامة. ويجب الاعتراف بحق الطفل أو الطفلة في النمو بصورة منسجمة في لغة أمه أو أمها، مهما كانت هذه اللغة، وحق كل فرد في الانفتاح على الآخرين أو المساهمة في الثقافة العالمية عن طريق تعلم لغتين أخريين على الأقل([189]). ويمكن أن ترتكز هذه الاتفاقية على الإنجازات الأساسية، مثل الإعلان العالمي للحقوق اللغوية (برشلونة، 1996) ([190])، وعلى مبادرات إقليمية مثل الميثاق الأوروبي بشأن اللغات الإقليمية أو لغات الأقليات (1992).
ويمكن أن يستفيد إعداد جرد لغوي عالمي من دراسات عديدة في طور التنفيذ([191]). وفي المؤتمر الخامس عشر لعلماء اللغة، المنعقد في كويبيك في آب / أغسطس 1992، دعت اللجنة الدولية الدائمة لعلماء اللغة اليونسكو إلى "القيام بتعزيز ـ وإن أمكن برعاية ـ برامج المنظمات اللغوية الرامية إلى وصف اللغات في صورة كتب قواعد، ومعاجم، ونصوص، بما فيها الأدب الشفاهي للغات غير مدروسة أو موثقة بصورة غير كافية إلى الآن ومهددة بالانقراض أو بسبيلها إلى الانقراض" وفي تشرين الثاني / نوفمبر 1993، اعتمد المؤتمر العام لليونسكو برنامجا يحمل عنوان صندوق اللغات المهددة بالانقراض. ويتيح هذا البرنامج دعم تسجيل اللغات المهددة بالانقراض وآدابها الشفاهية. وفي علاقة بهذا البرنامج، تم تأسيس المركز الدولي لتبادل المعلومات بشأن اللغات المهددة بالانقراض بجامعة طوكيو لإجراء أبحاث عن اللغات المهددة بالانقراض في آسيا ومنطقة المحيط الهادي ولتنسيق جهود المنظمات المحلية([192]).
وتتمثل الضرورة الأكثر إلحاحا في الاحتفاظ للأجيال المقبلة بأكبر قدر من المعطيات بشأن اللغات والثقافات الموشكة على الانقراض. والمهمة ضخمة للغاية وهي تفرض تحديد الأولويات: وفقا لأحد الخبراء فإن من المأمول فيه القيام بدراسة اللغات المهددة بالخطر "حسب مدى الطابع الوشيك لاختفائها، ومكانها في شجرة أنساب اللغات، وعزلتها المادية"([193]). وعلى السلطات السياسية أن تشجع بكل الوسائل التي في متناولها الأعمال المتعلقة بوصف اللغات وكذلك بتسجيل الآداب والتراث الشفاهي. وحيثما كان عدد مرتفع جدا من اللغات محتضرة، أو في طريقها إلى الانقراض، أو مهددة بالانقراض، كما في شمال شرق وجنوب شرق آسيا، أو في أمريكا، أو في أفريقيا، فإنه يمكن التفكير في برنامج محلي لتدريب اللغويين. وإذا كان معدل الانقراض أسرع من أن يسمح بوصف كامل للغات المعنية، فإنه يمكن إجراء تسجيلات صوتية، مصحوبة بالترجمة: وبوضعها في شكل رقمي، يمكن الاحتفاظ بها، بنوعيتها الصوتية الأصلية، فتكون بمثابة "أحجار رشيد" لعلماء اللغة في قرون مقبلة. وتقع على عاتق سلطات البلدان ذات التنوع اللغوي الكبير مسئولية خاصة في هذا المجال، غير أنه يجب أن يكون بوسعها الاعتماد على مساعدة المنظمات القائمة الآن التي ترمي إلى المحافظة على المعطيات وكذلك على تطوير برامج تعليمية معدلة.
وحيثما كان مثل هذا الإنقاذ ممكنا فإنه ينبغي أن يلقى الدعم من جانب السلطات السياسية. وتتمثل مهمة ملحة جدا في إنشاء محفوظات تتيح المحافظة على آثار اللغات والحضارات الآخذة في الاختفاء. وهذا واجب إزاء الأجيال المقبلة. ويمر إنقاذ لغة عبر إنشاء نظام للكتابة (إن لم يوجد نظام كهذا من قبل)، يعطي الأولوية لكتابة هجائية خالية من الرموز النادرة بحيث يتم تيسير طباعة النصوص بقائمة حروف طباعية مستعملة على نطاق واسع واستخدامها بالكمبيوتر. ويجب تدريس اللغة في المدارس، ويجب أن تصير، إن أمكن، وسيلة للتدريس، مما يفترض، إن لم يكن الناطقون بها قليلي العدد للغاية، إنتاج مقررات دراسية. وإذا أمكن، يجب الشروع في برنامج نصوص أدبية كبرى([194]). ولكي يملك برنامج إنقاذ كهذا فرصا للنجاح فإنه لا مناص من أن تجتمع عدة شروط. ويجب قبل كل شئ أن تكون اللغة موصوفة بصورة سليمة، بحيث تتيح إعداد مقررات دراسية. كما يجب أن لا يكون الهيكل العمري للناطقين بها متهالكا أكثر مما ينبغي: يجب أن تكون اللغة ما تزال لغة الحديث داخل الأسر. وأخيرا، ينبغي أن يوجد طلب قوي على الناطقين باللغة المعنية. وعندما تتوافر هذه الشروط، ينبغي أن تشجع الدول الأعمال التي يتم الشروع فيها، أولا على مستوى المبادئ (يقدم الميثاق الأوروبي بشأن اللغات الإقليمية ولغات الأقليات مثالا لافتا للنظر بهذا الخصوص)، ثم على المستوى العملي. والمقصود هو السماح ببقاء اللغات المهددة بالانقراض، في سياق من الثنائية اللغوية إلى جانب اللغات القومية. وفي معظم الحالات فإنه لا أساس للمخاوف من أن تحل هذه اللغات محل اللغة القومية أو حتى أن تنافسها.
ويتوقف على كل واحد منا أن يبذل قصارى جهده من أجل المحافظة على اللغات: هناك كنز مخبوء في كل لغة منها.
منطلقات وتوصيات
3 إنشاء تقرير عالمي عن اللغات وخريطة لغوية للعالم، من الآن وحتى 2001، وتحديثه بصورة منتظمة، بهدف التيسير من وجهة نظر إجرائية للمحافظة على اللغات الحية وحمايتها (مشروع السلام اللغوي لليونسكو).
3 التفاوض للتوصل إلى اتفاقية دولية بشأن الحقوق اللغوية وأيضا إلى اتفاقات على المستوى القومي والإقليمي في سبيل حماية التنوع اللغوي من زاوية سياسات لغوية وتعليمية وثقافية ملائمة.
3 تعزيز الأبحاث اللغوية من خلال تدريب اللغويين، ونشر كتب قواعد اللغات والمعاجم، والنصوص، وإعداد مقررات دراسية، وتسجيل اللغات المهددة بالانقراض، وآدابها الشفاهية، وإنشاء محفوظات للمحافظة على آثار لغات وحضارة آخذة في التلاشي.
3 التشجيع في المدارس ومنذ الطفولة المبكرة، للمرة الأولى، للثنائية اللغوية، وبقدر الإمكان الثلاثية اللغوية منذ التعليم الابتدائي؛ والتعزيز الفعال للتعددية اللغوية من خلال مواصلة التدريس اللغوي من التعليم الابتدائي إلى التعليم الثانوي؛ واستعمال طرق الانغماس اللغوي، الذي يمكن أن تسهله تبادلات واسعة النطاق للمدرسين داخل نفس المنطقة الواحدة من مناطق العالم.
3 تعزيز تدريس لغات الأقليات أو اللغات التي يتم تدريسها بصورة غير كافية.
3 تشجيع نشر اللغات عن طريق وسائل الإعلام المطبوعة والمسموعة والمرئية وكذلك عن طريق الإنترنت، الذي يجب أن يغدو الإنترنت المتعدد اللغات حقا.
16
التعليم على مشارف 2020:
عن بُعْد أم بدون بُعْد؟
سيكون التعليم للجميع مدى الحياة التحدي الرئيسي الذي يتعين على القرن الحادي والعشرين أن يواجهه، والذي حددته اليونسكو لنفسها من الآن فصاعدا في الاستراتيجية التي اعتمدتها منذ 1995. وسيكون الهدف الأساسي هو تأمين سيطرة كل فرد على مصيره. ومن هذه الزاوية، سوف يتعين على التعليم في المستقبل أن يستهدف كأولوية، أولئك الذين هم الأكثر ضعفا والأكثر حرمانا ـ وباختصار أولئك الذين منعهم ضعف وسائلهم أو ظروفهم غير المواتية، من الحصول على المعرفة. ويتمثل الهدف في دمج أولئك الذين تم إقصاؤهم والوصول إلى أولئك الذين صاروا مرفوضين وغير مرغوب فيهم.
وبطبيعة الحال، فإن إتاحة الفرصة للجميع للحصول على تعليم أساسي والنضال ضد الأمية وشبه الأمية، ما يزالان يشكلان، حتى في أيامنا، أولوية أساسية تقتضي تعبئة متواصلة. وعلى هذه الجبهة، ما يزال كسب المعركة بعيدا عن أن يكون قد تحقق، وإنما في ضوء هذه الحقيقة تجدر التكنولوجيات الجديدة باهتمام خاص: الواقع أن هذه التكنولوجيات الجديدة لا تمثل، كما يسود الاعتقاد عادة، اختراعات مقصورة على بعض المحظوظين بل تمثل أملا وسلاحا في خدمة التعليم ككل، سواء أكان تعليما أساسيا أم تعليما مدى الحياة. والتعليم عن بعد هو المثل الأقوى رمزا لهذه التكاملية الممكنة بين التقدم التكنولوجي وضرورة تأمين تعليم أساسي للجميع. وبالجمع بين الهدف التربوي وأدوات الحداثة، يسهم التعليم عن بعد في تحقيق المهمة الأولى لكل تعليم: تحرير الكائن البشري، حيثما كان هذا ممكنا، من الإكراه والجهل.
ومن الجلي أنه يوجد إلحاح في هذا المجال: لأن النظم والأشكال التقليدية للتعليم لم تعد تتماشى من الآن فصاعدا مع الحقائق الاقتصادية والاجتماعية. والحقيقة أن المهمة التعليمية الكبرى التي حددها لنفسه القرن العشرون على المستوى العالمي ـ أيْ محو الأمية ـ كانت لها نتائج طيبة من حيث النسب المئوية غير أنه كانت لها نتائج أقل إقناعا من حيث الأرقام المطلقة ـ الأمر الذي يرتبط بصورة خاصة بالارتفاع في العمر المتوقع عند الولادة. وفي 1999، تم تقدير عدد الأميين فوق الخامسة عشرة من العمر بـ 880 مليون ـ وكان ثلثاهم من النساء. وبالتالي فإن الأمية تناقصت بشدة، من حيث الأرقام النسبية، غير أنها واصلت الارتفاع، على مدى جيل واحد ـ من حيث الأرقام المطلقة: على سبيل المثال، في حين انخفضت النسبة المئوية للأميين من 30.5% في 1980 إلى 22.7% في 1995، ارتفع عدد الأميين من 877 مليون في 1980 إلى 884 مليون في 1995. وعلى كل حال فإن أحدث التقديرات والإسقاطات تشير وجود انقلاب في الاتجاهات. وعلى سبيل المثال فإن من المتوقع أنه في عام 2000 سيكون العدد الإجمالي للأميين في العالم قد انخفض إلى 876 مليون، وأنه سوف يستقر عند 840 مليون في 2010. كما أن النسبة المئوية للأميين يمكن أن تنخفض بالتالي من 22.7% من سكان العالم في 1995 إلى 16.8% في 2010([195]).
ومهما يكن من شيء فإنه سوف يتعين علينا، خلال الجيل التالي، أن نواجه في آن واحد، تحديات القرن العشرين التي لم تحل وكذلك تحديات القرن الحادي والعشرين. والواقع أن ظاهرة الأمية الوظيفية وعدم تكييف التعليم الأساسي لتنمية القدرات اللازمة للمشاركة وللاندماج الاجتماعي والاقتصادي والثقافي تميل إلى الانتشار بصورة متزايدة. والواقع أن شبه الأمية الوظيفية، أيْ عدم القدرة على القراءة والكتابة بفهم كاف لوصف بسيط وموجز للحقائق في علاقتها بالحياة اليومية، يمثل ظاهرة أكثر شيوعا بكثير مما تحملنا الإحصائيات الرسمية للتعليم المدرسي على الاعتقاد، حتى في البلدان المتقدمة. وفي المملكة المتحدة، تبين دراسة أعدها المكتب القومي للإحصائيات أن مواطنا بريطانيا واحدا من كل خمسة على وجه التقريب يعاني من مستوى ناقص جدا من معرفة مبادئ القراءة والكتابة، وتشير إلى أن 22% ممن تتراوح أعمارهم بين 16 سنة و65 سنة "عاجزون عن المقارنة بين خبريْن مكتوبين، أو قراءة جريدة، أو فهم جدول مواعيد، أو ملء استمارة"([196]). وتبين أغلب الدراسات التي أجريت حديثا أن ما بين عُشْر وخُمس السكان متأثرون بوجه عام بظاهرة شبه الأمية في مختلف البلدان الصناعية.
والحقيقة أن عدم تكيف الأشكال الكلاسيكية للتعليم مع رهانات تعليم الكبار وتعليم القراءة والكتابة، ومقرطة المجتمعات، والتطور الاقتصادي والتقني، قد تفاقم نتيجة لسرعة وعمق التغيرات التي حدثت لصالح ظهور تكنولوجيات جديدة وعدد من التجديدات العلمية. ومن وجهة النظر هذه فإن من المحتمل جدا وجود ارتباط وتبادل صارم بين تغير الاقتصادات، وتحول المجتمعات، وأزمة النظم التعليمية. وفي الوقت الذي يتزايد فيه بصورة مستمرة دور المعلومات في إنتاج السلع والخدمات، والذي يتم فيه الاستخدام الواسع النطاق للتكنولوجيات الجديدة للمعلومات والاتصالات لخفض تكلفة الإنتاج، يُعاد طرح التعليم للمناقشة بصورة عميقة. وتبين الأزمات التي مرت بها النظم التعليمية القومية الصعوبة الماثلة في التوفيق بين المهمة التقليدية التي تقع على عاتق المدرسة، مهمة دوام المعارف ونقلها والمقتضيات الجديدة التي لا مناص من مواجهتها: أيْ تقديم إطار وتدريبات بما يتلاءم مع الاستجابة للرهانات الجديدة وبصورة خاصة للمقتضيات الجديدة لسوق العمل([197]). وسوف يتمثل أحد التحديات الرئيسية التي تواجه التعليم في القرن الحادي والعشرين في وضع التكنولوجيات الجديدة للمعلومات والاتصالات في خدمة تداول المعرفة والخبرات. وتتيح هذه التكنولوجيات نقلا ماديا للمعرفة إلى مواقع جديدة، عن طريق وضعها في شبكة. وبالتالي فإن المعرفة في المستقبل لن تعود متركزة بالضرورة في أماكن متميزة لا يمكن الوصول إليها. كما أن إزالة العقبات المادية من طريق المعرفة لا مناص من أن تفضي إلى خفض في كل المسافات الرمزية، وكل الحواجز التي أقامتها الهياكل الاجتماعية، ومختلف العمليات "التلقينية" التي تلازم الوصول إلى المعرفة. ويتمثل الرهان في جعل التعليم عن بُعْد، الممكن ماديا، تعليما بدون بُعْد، وديمقراطيا وملائما لكل فرد، تعليما سوف يتم توفيره في كل مكان للجميع.
وفي مواجهة هذه التحديات، شددت اليونسكو على أهمية وصول شامل إلى التعليم، ضمن نظام عالمي لتعليم مفتوح يشكل "الأساس لتعليم مفتوح وبدون حدود، عالمي، وإنساني، وغير تمييزي، وأخلاقي [....]، لا يبدأ بالضرورة من مركز لتوزيع المعرفة، بل يسعى إلى الاستجابة لحاجات طلاب المعرفة والعلم والتكنولوجيا"([198]). والأمر الملح في هذا المجال هو النجاح في التغلب على عدم المساواة في الوصول إلى التكنولوجيا، نتيجة لتكلفة البنية الأساسية وكذلك لعدم تجانس البيئات الثقافية التي تشجع استخدامها بصورة غير متكافئة. وبطبيعة الحال فإن تزويد كل فرد بالتعليم الأساسي الذي هو حق من حقوقه يبقى في بلدان كثيرة أولوية الأولويات وكذلك هدفا ليس فقط من الصعب تحقيقه، بل يجري دائما طرحه للمناقشة. ويشكل التدريب السمعي ـ البصري المكثف في اللغة الشائعة الاستعمال طريقة فعالة بصورة خاصة لتعليم القراءة والكتابة، لأنه يتيح للطالب التقدم بسرعة مكتسبا المزيد من احترام النفس. كما أن التقارب بين المدارس والمكتبات والمتاحف ومنشآت التعليم المفتوح يمكن أن يشكل فرصة حاسمة بالنسبة للبلدان الأقل نموا، التي سيكون بوسعها في آن واحد أن تنفتح من وجهة النظر التربوية، وأن تقوم بتحسين نوعية التعليم، وأن توفره لعدد أكبر بتكلفة أقل.
وفي هذا السياق، لماذا لا يجري الاتجاه إلى نهج تعليمي جديد يقدم فرصة للتوجه إلى أكبر عدد ممكن من التلاميذ أو الطلاب، بتكلفة أقل من التعليم التقليدي؟ تلك هي الفكرة التي ينادي بها الفيلسوف ميشيل سير: "في البلدان الغنية أو الفقيرة، يمكن القول، على الأقل من الناحية المالية، أن المشكلات التي تطرحها البطالة والمجاعة والعنف والأمراض والأزمات الاقتصادية والانفجار الديموغرافي [....] تتوقف إلى حد كبير على التنمية العلمية والثقافية للأشخاص والمجموعات: الواقع أن التجديد يقود الاقتصاد. وبالفعل فإن كل بلدان العالم بما في ذلك البلدان الأكثر غنى تشهد بالتالي ارتفاع طلبها على التدريب كل عام بنسبة العُشْر على الأقل، في حين أن ميزانية التعليم والتدريب، العام والخاص على السواء، المركزي والإقليمي كلاهما، صارت مشبعة ولا يمكن أن تزيد [...]، والواقع أن التعليم المفتوح، بفضل التكنولوجيات الراهنة، أقل تكلفة من التعليم الكلاسيكي، الذي لا تجد تكلفته المرهقة في كل مكان سوى موارد لاهثة"([199]).
ولهذا فإنه لا ينبغي أن ننسى أن المدرس يبقى أساس التعليم. والحقيقة أن المدرسين كانوا، وهم الآن، وسيبقون مفتاح التعليم على كل المستويات. أما التكنولوجيات الجديدة فإنها أداة، وسيلة يمكن في نفس الوقت الذي تقدم فيه حلولا، أن تُفاقم عدم المساواة مع ذلك. وهي تسهم بالفعل في إضفاء متزايد لطابع الازدواج بين البلدان وداخل كل بلد، بين مجموعة صغيرة من الخبراء، من حائزي شفرات البرمجة الضرورية للمشاركة في مجتمع بلا حدود، مجتمع أعرض وأكثر تنوعا، وجمهور ضخم من المحرومين الذين لا يملكون مفتاح الوصول إلى هذه الشفرات. وقد أدى انتشار التكنولوجيات الجديدة إلى ظهور شكل جديد من الأمية، "الأمية المعلوماتية"، التي تميل إلى أن تكون أيضا منتجة للتمييز تماما كالأمية التقليدية، إذ أنها تؤدي إلى نفس النوع من الإقصاء وعدم التكيف. والحقيقة أن رهان الثورة الصناعية الثالثة، الذي تتمثل قوته الدافعة في الثورة المعلوماتية، يرتبط بصورة جوهرية بنوع تنظيم العمل الذي سيؤدي إليه وبالبنية الاجتماعية الناشئة عنه. وفي حين أن العمال المهرة في وضع يتيح لهم أكثر مواجهة الحاجات الجديدة وضمان اندماج في سوق للعمل المتغير الموقع، فإنه يفرض نفسه في كل من البلدان النامية والغنية، الخوف من أن لا تتشكل في الوقت نفسه، مجموعة من المحرومين، و"فاقدي المهارة حديثا"([200]) والأشخاص غير المهرة، الذين يتم اعتبارهم بصورة خاطئة "غير قابلين للتوظيف". وبالفعل، تثبت الوقائع هذه الظاهرة. وفي حين أنه في بلدان ديمقراطية كثيرة، تسعى المدرسة ـ أو بالأحرى: ظلت تسعى ـ إلى توفير مكان للامتزاج االاجتماعي، ولخلق ثقافة مشتركة، ومعرفة أساسية، وللترقية بالمؤهل، فإنها تشهد الآن تنامي عملية "التقسيم التمييزي الانتقائي appariement sélectif([*]) بداخلها، مماثلة لتلك التي لوحظت في تنظيم العمل. وبالفعل فإن الارتفاع الكلي في مستوى معرفة القراءة والكتابة وفي مستوى الكفاءة يُحْدث، وفقا لبعض المحللين([201])، تأثيرا عكسيا، والواقع أن النقص في عدد العمال غير المهرة، بعيدا عن أن يتيح لهم الحصول بسهولة أكثر على عمل يتفق مع كفاءتهم يقوم، على العكس، بزيادة المهارات حتى في القطاعات التي كانت إلى الآن أقل مطالبة بها. ولهذا نشهد الإقصاء النهائي للعمال غير المهرة وإعادة تجميع الناس الذين لهم نفس المستوى من المهارة. ويوجد، في الوقت الحالي، وسط الأسر المنتمية إلى الشرائح العليا من الطبقة المتوسطة، ضغط شديد جدا نحو تقوية عملية الانتخاب التعليمي المدرسي. عن طريق الاختيار المتعمد للمنشآت التعليمية المعروفة بنتائجها الممتازة ـ هذه المنشآت التي يتم، بصورة متزايدة، إقصاء الأطفال الذين لا ينتمون إلى نفس الخلفية الاجتماعية الثقافية منها.
ومع الاختفاء المتسارع لتركيبة اجتماعية ثقافية وظهور أشكال مموهة إلى هذا الحد أو ذاك من الأبارتهيد التعليمي، فإن التعليم ـ الذي تتمثل مهمته، وفقا للمفهوم الديمقراطي، في تقليل عدم المساواة ـ من المحتمل، في حالة عدم الحذر والاحتياط، ليس فقط أن يعيد إنتاج هذه الصور من عدم المساواة إلى مدى أضخم، كما كان الحال في الماضي، بل أيضا أن يزيد منها. والواقع أن الانتشار المتزايد الاتساع للمعارف الأساسية سواء أكانت تتمثل في التدريب الأساسي، أم في معرفة القراءة والكتابة، أم في إتقان اللغات الأجنبية، وفي المعلوماتية، سرعان ما يفضي إلى إقصاء أولئك الذين لا سبيل أمامهم للوصول إليها. وحتى أولئك الذين أمامهم فرصة الوصول إليها فإن من المحتمل بصورة متزايدة أن يتم فصلهم، منذ عمر مبكر جدا، وبصورة عامة حسب المكانة الاجتماعية ـ الاقتصادية للوالدين، إلى فئات تعليمية موجهة نحو مصائر دراسية ومهنية تتباعد بصورة متزايدة. ولا يعني هذا مطلقا أننا بحاجة إلى تعليم أقل، بل يعني أننا بحاجة إلى المزيد منه، وبنوعية أفضل ـ وللجميع: وبعبارة أخرى، ينبغي أن نعيد إلى التعليم معناه الكامل كمشروع ديمقراطي. وبالتالي فإن اكتساب المزيد من الكفاءة عن طريق تقنيات جديدة، عن طريق معارف جديدة، ينبغي أن يصير أولوية للجميع: يجب من الآن فصاعدا تعليم اللغات الحاسوبية والتقنية كنظم لشفرات البرمجة ووسائل للاندماج االاجتماعي وليس كمجرد عناصر من المعرفة. وإلا فإن من المحتمل أن نشهد انتشار نظام تعليمي متعدد السرعات لن يظل يعطي للكل نفس الفرص وسيفضي إلى عدم مساواة أعمق وإلى التفكك االاجتماعي. ولتشجيع استخدام أحدث الوسائل التعليمية، لا غنى عن تحديث كفاءات المدرسين بصورة دائمة: إن الوظيفة التقليدية المتمثلة في نقل المعارف والقيم وصياغة مواقف وسلوكيات إيجابية يجب أن تحل محلها من الآن فصاعدا قدرة على مواصلة الاتصال مع التطورات الراهنة وكذلك الاستجابة بسرعة على ظهور حاجات جديدة.
رهانات التعليم في 2020
سوف تشكل رهانات عديدة عبئا ثقيلا على مستقبل التعليم خلال العشرين سنة المقبلة. وسيكون الرهان الأول هو توافر التحديث الدائم لكفاءات المدرسين على كل المستويات. واليوم أكثر من أي وقت مضى، من الجلي أن نوعية التعليم تتوقف على نوعية المدرس وتفانيه وعلى علاقاته بالطالب والأسرة. وسيكون الرهان الثاني هو رهان المحتوى التعليمي في كل فروع المعارف، غير أنه سوف ينبغي توجيه اهتمام خاص إلى التعليم المدني وإلى القيم الضرورية لتشكيل سلوكيات مواطنين مسئولين، وسوف يتمثل رهان ثالث في رهان إدخال الشبكات الإلكترونية كأدوات تساعد على التدرب. وسيكون الرهان الرابع هو رهان تصميم السياقات التعليمية التي تأخذ في الاعتبار مساهمة المعارف الجديدة ـ البيولوجيا بصورة خاصة ـ في دراسة العمليات المعرفية وإتقانها. وسوف يتمثل رهان خامس في رهان الملاحظة اليقظة للمعارف المعاصرة السريعة التطور وترجمتها إلى عناصر تساعد على التدرب. وسوف ينبغي إيلاء أولوية من هذا المنظور للمعارف العلمية وكذلك للمعارف التاريخية والاجتماعية التي تشكل السمات الثقافية والأخلاقية والأشكال المتعددة للمواطنة (المحلية، القومية، الإقليمية، العالمية). وسيتمثل الرهان السادس في تنظيم التشابك طوال الحياة بين الوقت المخصص للتعليم والتعلم والوقت الذي سيخصص للعمل والفراغ. وسيتمثل رهان سابع في رهان التطوير التدريجي للمؤسسات التعليمية نحو تنظيم مرن وغير هيراركي سيقوم بتحويلها إلى مشروعات تعليمية أكثر استقلالا (سواء أكانت عامة أم خاصة أم غير هادفة للربح) ولكنْ مع استخدام معايير تعليمية مشتركة لكي تكون قادرة على التوصيل والإعداد لمعارف المستقبل وأشكال المواطنة فيه. ويتمثل الرهان الثامن في رهان تدخل السلطة العامة، التي يجب أن تضع استراتيجيات للنظم التعليمية، عامة كانت أم خاصة، وأن تصمم أنماط تمويل جديدة وأن تعقد مشاركات أو اتفاقيات مع النظم التي تكون في كثير من الأحيان خاصة ومرتبطة بالتعليم، مثل الاتصالات والنشر. ويتمثل الرهان التاسع، في رهان تطور مختلف المؤسسات التعليمية (التعليم الرسمي، وغير الرسمي، والتعليم عن بُعْد، والتناوبي [في المدرسة ومنشأة العمل])، التي سوف يجب أن تستفيد من تنوع مداخلها في سبيل الإثراء المتبادل ومواجهة تحدي عدم المساواة المتزايد في مجال الوصول إلى الموارد وإلى التكنولوجيات الجديدة.
والواقع أن التعليم، في أشكاله الكلاسيكية، قد استفاد إلى الآن بالموارد البشرية على وجه الخصوص، وما يزال يستهلك القليل من رأس المال. وفي 1992، تم تخصيص حوالي 80% من النفقات المخصصة للتعليم في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية للعاملين([202]). ويظل تنظيم المؤسسات المدرسية مرتكزا دائما بصورة كاملة تقريبا على نموذج "الأربعة"، المتماثل تقريبا في كل مكان: مدرس، مقرَّر، حصة، فصل. وبطبيعة الحال فإنه توجد تنويعات على هذا النموذج، مثل نموذج التعليم الابتدائي الذي يتكفل فيه مدرس بتلقين كل المقررات، المجمعة في هذه الحالة المحددة كتدريبات أساسية. وبطبيعة الحال فقد شهدنا منذ وقت طويل ظهور فرق تعليمية من طراز جديد ومدارس تجريبية، غير أن النموذج العام ظل من الناحية الأساسية دون تغيير. غير أنه تجري ممارسة أشكال أخرى للتعليم في سياقات أخرى: سياق التعليم غير الرسمي (والمتحف التفاعلي مثال عليه)، أو التعليم عن بُعْد (ويقدم التعليم المفتوح مثالا له في المملكة المتحدة) أو التعليم التناوبي (في المدرسة وفي مكان العمل). وفي كل حالة، من الجلي أن إدخال أدوات للتدريب (التشغيل الماهر للأجهزة في المتاحف، وأدوات اتصال وشبكات للتعليم من بُعْد، وأدوات عمل في التعليم التناوبي)، قد أفضى إلى تعديلات في نموذج "الأربعة" الأساسي وإلى تنويع في العمل التعليمي.
ولهذا فإن من المحتمل أن يسير نمو الشبكات، في القرن الحادي والعشرين، جنبا إلى جنب مع إعادة تنظيم لسير عمل التعليم وبالتالي التدريب. وبهذا الخصوص، يجدر بنا أن نأخذ في الاعتبار ثلاثة عناصر أساسية أخرى. والعنصر الأول هو الضغط الاقتصادي، الذي وصل بالفعل إلى حده الأقصى في أغلب البلدان الصناعية وسوف يصل إليه دون شك، خلال الجيل المقبل، في عدد كبير من البلدان النامية. والواقع أن النفقات التعليمية بلغت حوالي 6% من الناتج المحلي الإجمالي، وحتى أكثر من هذا أحيانا في البلدان الغنية، وقد اجتازت بلدان نامية عديدة هذه العتبة بالفعل أو سوف تجتازها خلال الأعوام المقبلة. ومن الصعب أن نتصور كيف يمكن تجاوز هذه النسبة المئوية ـ 6% ـ من الناتج المحلي الإجمالي بصورة ملموسة في الوقت الذي تُلْقِي فيه زيادة النفقات الصحية، وإطالة العمر المتوقع عند الولادة، وتكلفة نظم المعاشات، عبئا ثقيلا جدا على الاقتصادات، وفي الوقت الذي تبذل فيه معظم البلدان الصناعية قصارى جهدها للحد من تزايد النفقات العامة في هذه المجالات. ويتمثل عنصر آخر سوف يدفع إلى إعادة تنظيم سير عمل التعليم وأنماط التدريب في الجمع بين الطلب على التعليم من جانب الأسر والثورة الصناعية الثالثة التي تعطي، من خلال زيادة حدة المنافسة الاقتصادية، ميزة نسبية للبلدان التي تملك قوة عمل أفضل تدريبا. ويتمثل العنصر الثالث في إدارة المؤسسات التعليمية، التي سيكون عليها أن تتطور تحت تأثير المنافسة التي تزايدت بين المؤسسات والنظم التعليمية: من المحتمل أن تنتقل أشكال التنظيم الإدارية الحكومية إلى أنماط تنظيم تجعل من المؤسسات التعليمية مشروعات تدريب حقيقية، عامة كانت أو خاصة أو غير هادفة إلى الربح، حيث سيتم تقييم النتائج وفقا للوسائل المستخدمة.
ولا مناص في الأجل الطويل من أن يفضي تأثير هذه المؤشرات الأربعة، أيْ الصعود المفاجئ لشبكات عالية الجهد من ناحية التدريب والمعرفة، والضغط الاقتصادي، والطرق الجديدة لإدارة المؤسسات التعليمية، وطلب المجتمع على نتائج أفضل إزاء رهانات عالم العمل والمنافسة الاقتصادية العالمية وسلوك الطلاب (العنف وعدم الانضباط في المراكز التعليمية يشغلان الأذهان بصورة خاصة في البلدان الغنية) ـ ربما على مدى فترة أطول من فترة العشرين سنة المقبلة ـ إلى تغيرات عميقة في تنظيم المؤسسات التعليمية، ولا شك في أن هذه التغيرات سوف تتسارع في البلدان الأكثر غنى نتيجة لثورة اقتصادية، نلاحظ الآن بداياتها: ثورة ارتفاع إنتاجية الخدمات.
إقامة البنية الأساسية
إذا كان لنا أن نأمل في أن يصير التعليم للجميع واقعا فعليا فإنه يجب قبل كل شيء منح المدرسين المكانة الاجتماعية والدخول التي يستحقونها. والواقع أن إيلاء اهتمام أكبر للمدرسين شرط مسبق لكل تحسين للعملية التعليمية. وفي الوقت نفسه، ينبغي تأمين حد أدنى من التجهيزات في حقل التكنولوجيات الجديدة. والحقيقة أن تكلفة الاستثمار في البنية الأساسية يتم تعويضها إلى حد كبير بثروة المعلومات التي يمكن أن تنقلها مثل هذه البنية الأساسية وبذات واقع أن الشبكات الجديدة يمكن أن تنقل إلى كل مكان ما كان ينبغي إلى يومنا هذا أن نذهب للبحث عنه في مراكز مرفهة. وبطبيعة الحال، فإن مثل هذه الاستثمارات أقل ضخامة، وأقل وضوحا، من الاستثمارات التي ينفذها تشييد المباني وطرق السيارات، غير أن تأثيرها أطول وأعمق. وبكلمات أخرى فإن الاستثمار في التعليم يعني الاستثمار في التنمية: إن هذه الاستثمارات اللامادية وغير المنظورة إلى حد بعيد، هي التي تقوم بتأمين الأسس الصلبة لكل سياسة للتنمية.
ويمكن أن تلعب المراكز العامة التي تجمع بين التكنولوجيات والعاملين الأكفاء دورا تكامليا بالغ الأهمية. والواقع أننا، بفضل إقامة الشبكات، يمكن أن نأمل في إعادة توزيع أفضل انطلاقا من المراكز الأكثر ازدهارا نحو المناطق الأقل رفاهية. والتجارب الراهنة في هذا المجال مشجعة. ونقدم مثالا ملموسا للفرص التي تقدمها التكنولوجيات الجديدة للتعليم عن بُعْد: في جامعة بيركلي، كاليفورنيا، يهدف مشروع الشبكة الإلكترونية لموارد الرصد والتدريس والمعلومات إلى توفير فرصة الوصول عن طريق الكمبيوتر إلى موارد الجامعة لكل المدرسين والطلاب في كاليفورنيا، بإعطاء الأولوية لوصول الأقليات والمعاقين والطلاب المحرومين على كل المستويات([203]). ويعرض هذا المشروع مجموعة كبيرة متنوعة من الخدمات تبدأ من التوجيه الأكاديمي وتصل إلى قيام أعضاء الكلية بإعطاء الدروس الخصوصية. وأمام المدرسين أيضا فرصة الوصول عن طريق الكمبيوتر إلى كل المواد التعليمية بالجامعة والحصول على المعلومات فيما يتعلق بالمحاضرات والحلقات الدراسية التي يمكن أن يحضروها عن طريق الوسائل الإلكترونية. بل إن علماء الفيزياء الفلكية في جامعة بيركلي قد تنبأوا أيضا بتعليم المدرسين كيف ينقلون عن طريق أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم صُور وكالة ناسا للأرض والمريخ لاستخدامها في دروسهم.
الاستقلال، المسئولية، اللامركزية:
حركة "المدارس الميثاقية"
غير أن المسألة تتعلق أيضا بتأمين أن تكون الثقافات والمجتمعات المحلية قادرة على أن تلعب دورا نشيطا في وضع هذا النظام التعليمي العالمي، وأن تستطيع كل جماعة إسماع صوتها بنفس القوة كالجماعات الأخرى. ولهذا ينبغي تكييف التعليم لحاجات الأفراد والثقافات والخصوصيات الاجتماعية بالتطلع إلى أشكال لا مركزية مرنة لإدارة الهياكل التعليمية. وعلى سبيل المثال فإن المدارس الميثاقية Charter Schools التي تنتشر في الولايات المتحدة يتم تمويلها بأموال عامة غير أنها تدار بصورة مستقلة من الناحية المالية ومن ناحية إعداد البرامج التعليمية. والواقع أن هذه المدارس التي تتوجه في المقام الأول إلى سكان محرومين، تفسح مجالا أوسع كثيرا للتجديد والمشاركة والاستقلال لكل شخص، كما تُقدم ميزة تكييف الاختبارات مع حاجات ومطالب التلاميذ، وتُكلف هؤلاء الأخيرين بمسئوليات في إدارة التعليم. ولا شك في أن هذه المبادرة تشكل حلا للمستقبل ما دامت قد تمت ترجمتها إلى الآن إلى نتائج مدرسية جيدة وفي تقليص للتغيب، وبصورة خاصة في المناطق الأكثر حرمانا. وكما شددت اللجنة التي يرأسها جاك ديلور فإنه "يبدو أن اللامركزية الإدارية واستقلال المؤسسات يمكن أن يؤديا، في أغلب الحالات، إلى تطوير وتعميم التجديد"([204]).
المدارس الميثاقية: تجربة تُحتذى
نشأت ظاهرة المدارس الميثاقية في الولايات المتحدة. وقد ظهرت في أوائل التسعينيات، تشمل اليوم حوالي 150000 تلميذ. وهي تقدم نفسها كبديل موثوق به لكل من التنميط الجامد أحيانا للتعليم العام والنخبوية الانتقائية للمؤسسات التعليمية الخاصة. والواقع أن هذه المدارس تتمتع بمكانة خاصة طالما كانت تستفيد بقدر ما من استقلال تربوي شبه كلي (بشرط تحقيق نتائج مدرسية مُرْضية) في حين أنها تتلقى تمويلا عاما يكفل لها مجانية التعليم.
وتتيح هذه الخصائص للمدارس الميثاقية نشر تعليم بديل، متخلص من الهيئات التربوية القومية، وكذلك من تأثير نقابات المهن التعليمية. كما أن الحجم المتواضع عادة للمؤسسات ـ 200 تلميذ في المتوسط ـ يوفر أيضا مرونة تربوية أكبر بالإضافة إلى المشاركة النشطة للتلميذ والوالدين في تحديد توجهات المؤسسة. وتحدد كل مؤسسة بصورة مستقلة طرقها التربوية ومقرراتها، ومن هنا تعدد الصيغ المطروحة: تشدد بعض المؤسسات على أهمية التكنولوجيات في حين تؤكد مؤسسات أخرى بالأحرى على تكوين بيئة محمية وموحية بالثقة. وفي مدرسة سيتي أون أهيل City on a Hill، في بوسطن، يتم التشديد على مشاركة التلاميذ في "المناقشات المرتبطة بالمواطنة" التي يناقشون خلالها موضوعات تتعلق بالمصلحة العامة، من أكثرها محلية إلى أكثرها عمومية، وحيث يكتسب كل تلميذ خبرة الدفاع عن وجهة نظره أمام اجتماع. وفي مدرسة شافيز Chavez، في واشنطن، يتمثل الهدف الرئيسي للتعليم في إعداد المراهقين القادمين من أحياء محرومة للخدمة في المصالح الحكومية. وفي مدرسة رينيسانس Renaissance، يرتكز التعليم على استعمال واسع للتكنولوجيات الجديدة للاتصالات كتكملة للمقررات الدراسية التقليدية. ويعمل التلاميذ بصورة جزئية في المنزل، باستعمال أجهزة كمبيوتر يتم توصيلها بشبكة المدرسة، وبهذا يعمقون الموضوعات المعروضة في الفصل الدراسي. وعلاوة على هذا فإن المدرسة تصر على أنواع تعليمية "متكاملة" يتم فيها، على سبيل المثال، تقديم دروس الرقص بالفرنسية كما يتم الجمع فيها بصورة متواصلة بين الفنون والعلوم. ويوسع التنوع الكبير لهذه المدارس اختيارات التلاميذ ويتيح الاستجابة للتوقعات أو الحساسيات لبعض الفئات الإثنية أو اللغوية أو الاجتماعية ـ الاقتصادية) من السكان.
ومع المدارس الميثاقية ننتقل من نظام يحكمه العرض إلى نمط أكثر مرونة من التعليم يشترك فيه "صاحب الطلب" في اختيار وإعداد التعليم الذي يتلقاه. وبطريقة غير مباشرة، يمكن أن تكون التجارب التربوية الواعدة أكثر بمثابة نماذج لإصلاح التعليم العام ومعمل أفكار لتحديد التوجهات الرئيسية للتعليم في المستقبل.
وقد عبر الرئيس بيل كلينتون Bill Clinton عن تمنيه أن تتضاعف هذه المؤسسات ليصل عددها إلى 3000 بحلول بداية القرن الحادي والعشرين.
المصادر:
The Economist, 22 février 1997; 17 Octobre 1998.
The Center for Education Reform: Charter Schools, Highlights and Statistics, 1997.
وهناك مثال آخر للتجديد التعليمي يقدمه برنامج شيلكوم Shelcom، الذي طوره المركز القومي لتعليم الكبار، ويوجد مقره بجامعة بنسلڤانيا، وهو مثال على الدور االاجتماعي الذي يمكن أن تلعبه التكنولوجيات الجديدة في دمج السكان المحرومين عن طريق نشر التعليم. وهذا البرنامج، الذي يتوجه في المحل الأول إلى المشردين، يقدم حلقات دراسية لتعليم القراءة والكتابة للكبار على شبكة موصلة بالإنترنت، ويمكن أن يصل الأشخاص المعنيون إلى هذه الشبكة باستخدام أجهزة كمبيوتر مقامة في مراكز. ويتيح برنامج من هذا النوع للمشردين ليس فقط الحصول على المعارف الأساسية بل أيضا، في كثير من الأحيان، استعادة تقديرهم لأنفسهم، وعلى فرص أفضل للاندماج في المجتمع.
ازدهار التعليم عن بُعْد
في البلدان الصناعية، لم يكفّ التعليم عن بُعْد عن التطور، مسهما على هذا النحو في هدف التعليم للجميع مدى الحياة، وعلى سبيل المثال، صارت الجامعة المفتوحة The Open University، في لندن، الآن أضخم مؤسسة تعليمية في المملكة المتحدة. ويتابع حلقاتها الدراسية أكثر من 200000 طالب، وتقوم الجامعة باستعمال واسع للتكنولوجيات الجديدة: يتم تقديم "الدروس الافتراضية"، جنبا إلى جنب مع المناقشات الجماعية وتصحيح الواجبات المنزلية عن طريق الشبكة. وفي 1997، استطاع الطلاب أن يقرأوا، بصورة يومية، حوالي 150000 رسالة إلكترونية خلال أكثر من 5000 محاضرة قدمتها الشبكة.
غير أن البلدان الصناعية ليست، ولا يجب أن تكون، البلدان التي يخصها وحدها تطور هذا النوع من البرامج، وينبغي، في المقام الأول، أن تستفيد البلدان التي يجب أن تتكفل بتعليم عدد ضخم جدا من الكبار من الأشكال الجديدة لوسائل الإعلام، بالجمع بينها وبين الطرق التقليدية ـ والتي تظل أساسية ـ لنشر المعرفة. وليس المقصود أن تحل محل الطرق الكلاسيكية للتدريب ونقل المعلومات الطرق الجديدة، بل النظر إليها في تكامليتها وتمكين كل البلدان من التطور بإيقاعها الخاص. وهل ينبغي التذكير، بأنه وفقا لتقرير برنامج الأمم المتحدة للتنمية لعام 1993، كان متوسط الوصول إلى الطرق الكلاسيكية للاتصال في البلدان النامية في علاقتها بتوافرها في البلدان الصناعية 5% بالنسبة للتليفون، و25% بالنسبة للخدمة البريدية، و10% بالنسبة للكتب والتليفزيون، و16% بالنسبة للصحف والإذاعة؟ ولهذا تحظى بالأولوية استثمارات كبيرة فيما يتعلق بالتكنولوجيات "الكلاسيكية"، التي تكون في كثير من الأحيان أقل تكلفة من التكنولوجيات الجديدة. وعلى كل حال فإنه في سياقات من الانعزال الاقتصادي والجغرافي، يمكن أن تسهم التكنولوجيات الجديدة للمعلومات، بمساعدة نظام سليم للتدريس، في تلبية الحاجات في مجالات المعلومات، والتعليم الأساسي، والتعليم الدائم.
وتبين المبادرات العديدة التي تم القيام بها في بلدان الجنوب أن هذه الأخيرة قد أدركت بالفعل كل المكاسب التي كان بوسعها أن تجنيها من التعليم عن بُعْد ومن استخدام ذكي للبنية الأساسية الحديثة للاتصالات لأغراض تعليمية. وتستحق هذه التجارب أن يتم التأكيد عليها إذ أنها تبرز نقطة مهمة: إن أفقر السكان هم الذين تقدم إليهم التكنولوجيات الجديدة أكبر نفع وتكون واعدة لهم بصورة خاصة. وبهذا الصدد، تبدو لنا المبادرة المشتركة بشأن التعليم عن بُعْد التي طرحتها اليونسكو في 1993 في قمة التعليم للجميع في نيودلهي بالغة الدلالة بصورة خاصة. فقد أتاحت لتسعة بلدان ذات كثافة سكانية مرتفعة من الجنوب (بنغلاديش، والبرازيل، والصين، ومصر، والهند، وإندونيسيا، والمكسيك، ونيجيريا، وباكستان) تبادل خبراتها وتوحيد جهودها في حقل التعليم عن بعد.وقد أدركت هذه البلدان التي تضم 70% من السكان شبه الأميين في كوكبنا وأكثر من نصف الأطفال الذين لا يتعلمون في المدارس في العالم، مدى التقدم الذي يمكن أن يحققه تعليم بلا حواجز ـ خاصة باستخدام الأقمار الصناعية من أجل نشر المعرفة حتى في القرى النائية للغاية([205]). ويضاف هذا التعاون بين الجنوب والجنوب إلى الأشكال المتعددة للتعاون بين الشمال والجنوب في مجال التعليم عن بُعْد، وبصورة خاصة بين بلدان الكومنولث وداخل العالم الفرنكفوني (من خلال عمل الأورستروم).
وباستثناءين تقريبا، طورت البلدان المذكورة أعلاه برامج للتعليم عن بُعْد مستخدمة أيضا وسائل أكثر تقليدية (توزيع المادة التعليمية المطبوعة أو الشرائط المسموعة والمرئية، وبرامج للبث الإذاعي والتليفزيوني، أو عن طريق الجمع بين استخدام وسائل الإعلام الكلاسيكية والجديدة. وفي الهند، على سبيل المثال، قدمت المدرسة المفتوحة القومية National Open School بسخاء تعليما أساسيا وأتاحت لأكثر من 250000 طالب الحصول على مؤهلات مهنية. وفي 1996، قدمت 35 جامعة تقليدية وخمس جامعات مفتوحة حلقات دراسية للتعليم عن بُعْد في الهند([206]). وفي الصين وباكستان ونيجيريا ومصر، يمثل التعليم عن بُعْد أداة أساسية بصورة خاصة في برامج تدريب المدرسين. وفي المكسيك، تبث تليسيكونداريا Telesecundaria برامج تعليمية في كل أنحاء الأراضي المكسيكية عن طريق نظام القمر الصناعي سوليداريداد Solidaridad [التضامن]. وبصورة مماثلة، يهدف البرنامج التعليمي في البرازيل "قفزة نحو المستقبل" Um Salto para o futuro، إلى تدريب المدرسين ودعمهم بالجمع بين بث البرامج بالقمر الصناعي ومداخلات مباشرة عن طريق التليفون. وعلاوة على هذا، قامت جامعة پارا الاتحادية في البرازيل بإقامة برنامج للتعليم عن بُعْد للوصول إلى جماعات السكان بمنطقة الأمازون، التي يفصل الواحدة منها عن الأخرى، في كثير من الأحيان، أكثر من 1000 كيلو متر. وهناك حقيقة لافتة للنظر: من أصل أضخم إحدى عشرة مؤسسة للتعليم عن بُعْد في العالم (تلك التي كانت تضم في 1996 أكثر من 100000 طالب مسجل في الحلقات الدراسية لشهادات التخرج)، تقع ثماني مؤسسات في البلدان النامية([207]).
والتعليم عن بُعْد ذو أهمية خاصة بالنسبة للبلدان الأفريقية. وعلى سبيل المثال فإن البلدان الناطقة بالبرتغالية في أفريقيا (أنغولا، وكيپ ڤيردي، وغينيا پيساو، وموزمبيق، وسان تومي وپرنكيپي) قررت أن تطور بصورة مشتركة مشروعا بعنوان التعليم التفاعلي بالإذاعة بهدف تحسين نوعية التعليم بالمدارس. وبصورة مماثلة، أقامت بلدان أفريقيا الجنوبية والشرقية قاعدة التعلم المتعددة القنوات Multi-Channel Learning Base من أجل تطوير حلول بديلة لنمط التعليم الكلاسيكي وتقود جمهورية جنوب أفريقيا هذا التطور من خلال مشرع كوليسا Colisa (اتحاد مؤسسات التعليم المفتوح في جنوب أفريقيا). ويتعلق الأمر باتفاق معقود بين ثلاث مؤسسات جنوب أفريقية للتعليم ما بعد الثانوي للتطوير المشترك للتعليم عن بُعْد وإنشاء مركز للتكنولوجيا يمكن الوصول إليه من أي مكان في العالم. وتضم المؤسسات الثلاث، معا، حوالي 250000 طالب، مما يجعل من مشروع كوليسا إحدى أضخم عشر مؤسسات للتعليم ما بعد الثانوي في العالم. وهذه استجابة أصيلة لتزايد عدد الطلاب ولضرورة تعزيز الوصول الشامل إلى التعليم. وبطبيعة الحال فإن اليونسكو تدعم هذه الحركة وتشجعها بأنشطة ملموسة: على سبيل المثال، اقترحت اليونسكو في الآونة الأخيرة إنشاء شبكات لتدريب المدرسين الأفارقة بهدف تدريبهم على الإنترنت وتسهيل وصولهم إلى الشبكة. وسوف يربط المشروع بالإنترنت معاهد المعلمين في البلدان الأفريقية من أجل لإنشاء شبكات محلية وقومية وإقليمية.
التعليم للجميع مدى الحياة
يتطلب استيعاب التكنولوجيات والمعارف العلمية المتجددة دوما مقدرة على التكيف ورغبة في المعرفة، وهذا ما يجب أن تعززه النظم التعليمية. ومن الآن فصاعدا، صار تراكم المعلومات أقل أهمية من تنمية ملكات التعلم. ولكنْ، ألم تكن هذه دائما الوظيفة الجوهرية للتعليم؟ إن التعليم يجب أن يدرب الأفراد القادرين على التعلم بأنفسهم، الذين تعلموا كيف يتعلمون. وهذا أساسي للغاية نظرا لأن أغلب خبراء التوقعات يتنبأون بـ"سرعة تقلب" كبيرة في المهن. ونحن لا يمكن أن نعرف على وجه الدقة ما هي المهن الواعدة بعد 10 سنوات أو 20 سنة من الآن.
ولهذا فإن نظام التعليم يجب أن يحقق توازنا بين المعرفة النظرية التي راكمتها ثم نقلتها الجماعة وتطبيق الأفراد لهذه المعرفة في سياقات محددة. والواقع أن عدم ملاءمة النظم التعليمية التقليدية يرجع إلى الفجوة القائمة بين التعلم النظري والتطبيقات العملية. وسوف يفضي انسجامهما خلال العقود المقبلة إلى إعادة تنظيم أوقات التعلم الذي يمكن أن يحدث جانب منه داخل بيئات عمل ملموسة. وينبغي إذن التخلي عن المقابلة التقليدية بين "وقت الدراسات" و"وقت العمل"، وهذا ما سوف يطرح بصورة لا يمكن تفاديها مشكلات إدارية وتنظيمية. وقد صار تمييز التعلم عن تطبيقه المهني مستحيلا في مجتمع تتلاحق فيه اكتشافات عملية وتطبيقات عملية لهذه الاكتشافات بمعدلات متسارعة، أقصر كثيرا من مدة حياة أو خدمة مهنية. وهذا هو السبب في أن المدرسة لا يجب أن تقدم لكل فرد تخصصا بل القدرة على تغيير مجرى حياته التخصصية ومواجهة التحولات الاقتصادية والاجتماعية. ولهذا فإن المدرسة يجب أن تلتزم بأن تكون متعددة المعارف، ليس فقط بتوفير حدود دُنيا من المعارف الأدبية والعلمية، بل أيضا بأن تغدو تعليما يقوم بالإعداد لحياة المدنية، للحياة الثقافية، للحياة الاجتماعية، للحياة الأسرية. وكما كتب پول ڤاليري في 1935 في Bilan de l’intelligence فإن "الآلات الأكثر ترويعا ليست مادية، بل تتألف من أفراد متخصصين، إنها مبنية على نسق عقل، من حيث ما هو غير شخصي فيه".
ولتحقيق هذا الهدف، لم يعد ينبغي النظر إلى التعليم على أنه فترة محدودة من التدرب، بل على أنه عملية تتواصل مدى الحياة. والحقيقة أن أيّ معالجة اجتماعية على وجه الحصر لم تعد كافية للنضال ضد البطالة. بل ينبغي التأكيد على علاج من نمط تعليمي إذا أردنا تخفيف خسائر المهارات التي ستتكرر بصورة متزايدة في اقتصاد ومحيط تكنولوجي يتحولان بصورة متواصلة. وينبغي أن يصير التدريب ما بعد المدرسي بكل أشكاله البديلة أولوية، وذلك في آن معا لتعويض العجز في التعليم المدرسي للقراءة والكتابة ولمنع انتشار الأمية اللاحقة، وانخفاض قيمة المعارف المكتسبة. وينبغي تشجيع التجارب الدراسية في مكان العمل أو بالتكامل مع مكان العمل، بطريقة لا يتحول معها الفشل في الفترة الأولى من التعليم المدرسي "لعنة" تلاحق الفرد طوال حياته. وفي هذا الإطار، يجب أن تشجع الحكومات تعليم الكبار كما شدد عليه في 1977 مؤتمر هامبورج الذي نظمته اليونسكو حول هذا الموضوع. وعلى سبيل المثال فإن التعليم عن بُعْد بجامعة فوينكس، في ولاية أريزونا، تضم الآن 32000 طالب من الكبار، يلتحق أغلبهم بفصول دراسية مسائية في 36 حرما جامعيا تقع في إحدى عشرة ولاية وفي بويرتوريكو([208]).
ولتأمين هذا الوصول الحاسم إلى التدريب والتعليم مدى الحياة، اقترح جاك ديلور على وجه الخصوص إنشاء ائتمان ـ زمن، كنوع من "قسيمة ـ تدريب" تعطي كل شخص الحق في عدد من سنوات التعليم يستعملها بما يتفق مع اختياراته، ومساره الشخصي، وتجربته المدرسية، والتوقيت الذي يلائمه. وسوف يتيح هذا الحل لكل فرد أن يقرر بنفسه طبيعة ومدة دراساته، وكذلك أوقات تسجيل هذه الدراسات، وفقا لمنطق يتفق مع حاجاته النوعية.
وتعني هذه النظرة إلى التعليم إعادة تحديد دور الجامعة على وجه الخصوص([209]). فالجامعة لم يعد يمكن أن تعمل في عزلة. بل ينبغي أن تتحرر من المتلازمة المزدوجة لمصنع الشهادات والبرج العاجي لكي تصير، من جهة، موردا محليا للتنمية، ومن جهة أخرى، مركزا للإشعاع الثقافي. وكما شدد إدواردو پورتيلا Eduardo Portella، رئيس المؤتمر العام لليونسكو، في كلمته الافتتاحية في المؤتمر العام بشأن التعليم العالي، فإن "التعليم على مستوى عال يعني تدريس نظرية وممارسة العلاقة بالآخرين عن طريق توطيد التعددية الثقافية"([210]). وستكون جامعة القرن الحادي والعشرين بالضرورة جامعة للمواطنة، كما ستكون مدعوة إلى أن تلعب دورا حاسما في تعميق الديمقراطية. وينبغي أيضا أن تنفتح الجامعة على العالم المهني وأن تأخذ في اعتبارها الحاجات الحقيقية للمجتمع. وتقدم جامعات عديدة بالفعل حلقات دراسية في إطار تدريب متواصل، يستهدف الكبار الذين يرغبون في صقل مهاراتهم أو في اكتساب مهارات جديدة. ويمثل التدريب المتواصل التجسيد الملموس للتعليم مدى الحياة: ينبغي أن يكون المقرر التعليمي الجامعي ممتدا على مدى الحياة. كما ينبغي أن يكون في متناول الجميع، لأنه كما تنص المادة 26-1 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فإن "الوصول إلى التعليم العالي يجب أن يكون متاحا للجميع على قدم المساواة وفقا لجداراتهم". فهل سيقوم القرن الحادي والعشرون بتجديد الارتباط بعقل الفيلسوف الإغريقي سقراط، الذي وضع، منذ العصور القديمة، مبدأ أن التعليم إنما هو قضية ممتدة مدى الحياة بأسرها؟
مسيرات حياة فردية وقيم مشتركة
بصرف النظر عن الطرق التعليمية والتربوية، لا ينبغي أن يفقد التعليم رسالته الإنسانية والتعددية. وإعلان المؤتمر الدولي بشأن التعليم المنعقد في جنيڤ في 1994 بليغ بهذا الخصوص: "إذا أردنا حقا أن نحمي التنوع وأن نحفز قدرتنا الكامنة على أن نصير سادة حياتنا، بحيث نخطط مستقبلنا بأنفسنا، لا ينبغي أن يكون النظام التعليمي نمطيا وجامدا، بل ينبغي أن نستعين، إلى أقصى حد ممكن، بنهج ذي طابع شخصي يجب أن يكون لدينا معلمون يتابعون تقدم كل طفل ويعززون القدرات الكامنة لكل طالب، لأن كل واحد منهم فريد من نوعه"([211]). ويجب أن تطور المدرسة القدرات والمواهب الخاصة لكل فرد، مُحْدثة بهذا قطيعة مع نموذج المدرسة النمطية التي تفرض مسيرة متماثلة تقريبا على كل التلاميذ انطلاقا من نظرة ذات بُعْد واحد إلى الذكاء. ويجب أن تقدم المدرسة مجموعة متنوعة أوسع من المواد الدراسية وأساليب التدريس بالإضافة إلى فرص للتدريب خارج المدرسة. وعندئذ يمكنها الوصول بالقدرات الكامنة لكل فرد إلى الحد الأمثل، مانحة إياه إمكانية أن يصقل أقوى سمات شخصيته([212]).
ولهذا، سيكون على التعليم في القرن الحادي والعشرين في آن معا أن يتكيف مع الفرد وأن يبني القيم الثقافية والمرجعيات الأخلاقية لمجتمع المواطنين. كما أن دينامية المعرفة والتكنولوجيا التي تقوم بتحويل العالم لا ينبغي أن تفضي إلى انفجار للمعارف وإلى عجز عن إدارة الصراعات بصورة سلمية عن طريق الديمقراطية والتفاوض. ومن المهم أن لا يتحول هذا البرج من المعرفة الذي يشيده البشر إلى برج بابل يتكلم فيه كل فرد لغة يمكنه وحده أن يفهمها. وينبغي أن توجه مجتمعاتنا تفكيرا متواصلا ونقديا يهدف إلى تحديد معارف مرجعية للجميع: ينبغي التشديد بهذا الخصوص على أهمية الفلسفة والتاريخ المفهومين باعتبارهما فرعين من الفروع العلمية. ومن وجهة النظر هذه فإن التدريب النظري الذي تكفله النظم التعليمية النقدية يلعب دورا أساسيا في تشكيل مخيلة جمعية وتصورات مشتركة تضمن هوية المجموعات الثقافية، ولكنْ أيضا في تعلم التفكير النقدي، الذي لا تكون الديمقراطية بدونه سوى كلمة جوفاء. ولهذا فإن من الجدير بنا، في القرن الحادي والعشرين، ليس تقليص تدريس الفلسفة والتاريخ بل توسيعه وتحسينه: على وجه الخصوص سوف ينبغي إدخال الفلسفة في السنة النهائية أو، ويظل هذا أفضل، في السنتين الأخيرتين من التعليم الثانوي في البلدان التي لا يتم إلى الآن تدريسها فيها. وفيما يتعلق بالتاريخ فإنه سيكون من الواجب، دون التنكر للتاريخ القومي، أن ينفتح أكثر كثيرا على التاريخ الإقليمي والعالمي.
وعبر التاريخ والفلسفة، تنعكس بالفعل القيم الأساسية التي ينقلها البشر إلى أطفالهم من خلال التعليم. وترتدي الثقافة العامة أهمية بالغة عندما ننظر إليها ليس على أنها موسوعية كُتُبية وذاتية بل على أنها وسيلة لفهم المشكلات والعلاقة بالآخر، وأساس لإعادة التأهيل للأجل الطويل ولأخلاق المستقبل. ويجب أن يتيح تعميم المعرفة تأسيس مجتمع بشري على نطاق قومي، وقاري، وعالمي. ألم تعتبر لجنة ديلور أن أحد الأعمدة الأربعة للتعليم يتمثل في أنه يجب أن يعلمنا ليس فقط أن نعرف، وأن نفعل، وأن نكون، بل أيضا أن نعيش معا؟ وبوضع هذا الهدف نصب أعيننا، يشكل التعليم المدني أولوية للمدرسة: منذ التعليم الابتدائي، يجب تخصيص حصة أو حصتين له في الأسبوع، كما يجب تدريسه طوال التعليم الثانوي.
والواقع أن المدرسة تلعب دورا أساسيا في بناء روح المواطنة. ولا ينبغي التخلي عن هذه المهمة التقليدية في وقت يقل فيه بصورة متواصلة قيام الهياكل الأسرية والاجتماعية بنقل القيم والسمات الثقافية. ولهذا فإنه ينبغي إعادة بناء خطاب المواطَنة، مع أخذ الخصوصيات النوعية لمختلف المجموعات ومظاهرها الجديدة في الاعتبار: مواطَنة قادرة على أن تشمل في آن معا الأفق المحلي، والقومي، والإقليمي، والعالمي. ومن هذا المنظور، تشدد اليونسكو على ضرورة إجراء إصلاح في البرامج التعليمية، بحيث تعطي مجالا أوسع لنشر ثقافة للسلام، وبحيث لا تظل مهتمة على وجه الحصر بالهويات القومية، في زمن يتميز بالتداخل الثقافي المتزايد: بدون تجريد التعليم من الطابع القومي، آن الأوان لإضفاء الطابع العالمي عليه، بكل معاني الكلمة، في سبيل إعداد الشباب لأن يعيشوا التعددية ويضطلعوا بالتهجين الثقافي. ويجب أن يشجع التعليم ممارسة للحوار داخل المجتمع أو بين المجتمعات للإسهام في وفاق بشأن الأهداف التعليمية المشتركة، في عالم يغدو في آن معا أكثر عالمية، وأكثر تنوعا، وأفضل اطلاعا.
علاقة جديدة بالمعرفة
تعني إعادة التفكير في التعليم، قبل كل شيء، كثرة وتنوع المعارف، وبصورة خاصة المعارف المرتبطة بالعلوم والتكنولوجيات. ويجب أن تُدمج البرامج الدراسية الجديدة هذه المعارف الجديدة، وعلى سبيل المثال التطورات في مجال البيولوجيا والفيزياء الفلكية. وما تزال طرق تدريس وتقييم المعارف في أغلب الأحيان بعيدة عن الواقع الفعلي وعن تلبية أماني الناس، وبصورة خاصة في علاقتها بتطور سوق العمل، والتكنولوجيا، والشركات. كذلك فإنها لا تأخذ في اعتبارها دائما الصعوبات التي يواجهها أضعف الطلاب. ولهذا فإنه يجدر بنا إبراز دور الخيال في إعداد البرامج الجديدة بحيث تنفتح على مواد دراسية جديدة وتأخذ في الاعتبار تنوع التلاميذ الذين تتوجه إليهم هذه البرامج([213]).
ومن هذا المنظور، ينبغي مواصلة التفكير في مناهج وممارسات بناء المعرفة، أي ما يمكن أن نسميه "ما بعد الإدراك" méta-cognition([214])، أو، ببساطة أكثر، المعرفة الانعكاسية، التي تتيح لنا أن نتعلم كيف نتعلم. وأنْ نعرف طرق استيعاب المعرفة، يعني القدرة على السيطرة، بصورة واعية وإرادية، على العمليات الخاصة باستيعابها، وهو ما يتباين من مجال أو نوع من المعرفة إلى آخر، وهو يعني القدرة على امتلاك ناصية منطقها ونشاط ذاكرتها، ويعني إثراء وتنويع طريقتها في التعلم. والحقيقة أن تعلم المعارف وتطبيقها وكذلك مواصلة التعلم مدى العمر، تتوقف بصورة وثيقة على إمكانية امتلاك ناصية العملية المعرفية وتكييفها مع موضوعها. وفي هذا يكمن أحد شروط التخلص من الخوف من الجديد، هذا الخوف المسئول عن معوقات عديدة، وبصورة خاصة بين الكبار. وتوجد بالفعل نماذج للحل الفعال لمشكلات تبرز أهمية المعالجة الأصلية للمسألة وتقديم المعطيات التي يتم الانطلاق منها. وتتيح هذه النماذج تخطيط حلول بالربط بين معطيات المسألة وصناع المعرفة، والمجاهيل التي تحتاج إلى تفسير. وهذه مرحلة مهمة، لأنه وفقا للعملية المعرفية، يكون الدرب الذي نسير عليه أهم في كثير من الأحيان من الهدف الذي نحققه. أليس استبطان واستيعاب ما تم تعلمه هو المعنى العميق لفعل التعلم؟
والحقيقة أن المبادئ التي يستند إليها استخدام التكنولوجيات الجديدة هي نفس تلك المبادئ التي تميز عملية التعلم. فمن جهة، تقيم هذه العملية علاقة بين الفرد والفرد، وعلاقة متبادلة بين المدرس والتلميذ، ومن جهة أخرى، يكون التعلم أضمن إذا تم بمبادرة التلميذ، مسترشدا بنظم تعليمية جيدة التصميم، وبمدرسين متمرسين على هذه النهوج الجديدة وعلى آليات تقييم يُعتمد عليها. على أن التحول الجديد الذي تُدخله التكنولوجيات الجديدة في طرق التعليم تستند، على وجه التحديد، إلى أداة حاسمة: الشبكات مبنية وفقا لمبدأ المبادرة الشخصية وتتيح التفاعلية مع الأفكار أو البيانات وكذلك مع الأشخاص. ولا تكتفي الشبكات بأن تتيح لكل فرد الاستكشاف، والملاحقة، والمراجعة، والإقرار، بل تشجع أيضا التعاون في إنتاج المعرفة بين المدرسين والتلاميذ. وعلاوة على هذا فإنها تسمح بعروض وبيانات للعملية المعرفية، يمكن عن طريقها فهرسة المعارف، وتجميعها، واسترجاعها، عند الحاجة. ومن الآن فصاعدا يقدم الجمع بين الكمبيوتر والشبكة بشرط الاستفادة من إطار سليم ـ قدرة كبيرة جدا على دعم وتوسيع العمليات المعرفية التي تقدم، فيما وراء القدرة على الوصول إلى قواعد وبيانات، إمكانية الملاحظة وبصورة خاصة إمكانية التحادث بين الطالب والمدرس.
ومع ذلك فإن العلاقة الجديدة بالمعرفة التي ستفرض نفسها في القرن الحادي والعشرين سيكون عليها أن تمضي إلى أبعد من مجرد مُسايرة aggiornamento تكنولوجية وعلمية للتقدم. إنها تفترض تحولا أكثر جذرية، أو، إذا استعرنا تعبير إدجار مورين، "إصلاحا للفكر" بصورة حقيقية، يتميز باهتمام أكبر بتعقيد المشكلات، وبالعالمية، وبتعدد أبعاد التطورات، ويستطيع أن يبني جسورا بين مختلف أحوال الواقع ومختلف أشكال المعرفة. وهذا "الإصلاح للفكر" ضروري إذا أردنا تعريف التعليم بطريقة مختلفة عن تعريفه من خلال معايير كمية بصورة صارمة. وبطبيعة الحال فإن هذا لا يعني إهمال الوسائل المادية التي لا غنى عنها لتأمين عمل النظام التعليمي بصورة ملائمة. غير أن هذا لا يكفي. بل ينبغي أيضا تشجيع أفكار جديدة مع المخاطرة بضرورة مضاعفة الإصلاحات التي لن يكون لها، في كل مرة، سوى دور مُسَكَّن، دون أن يكون بالمستطاع تغيير أسس العملية التعليمية. وقد وصف إدجار مورين بوضوح بالغ الحلقة الشريرة للإصلاح التعليمي عندما كتب: "لا يمكن أن نصلح المؤسسة دون أن نكون قبل كل شيء قد أصلحنا العقول، غير أننا لا يمكن أن نصلح العقول إن لم نكن قبل كل شيء قد أصلحنا المؤسسات". ويستند هذا الإصلاح إلى إصلاح للفكر يفتح الباب أمام إصلاح للمشاركة يتيح السماح لكل مواطن بالمساهمة في اتخاذ القرار وبالحصول على حق في الرقابة عليه. وبعبارة أخرى فإن إصلاح الفكر يمثل المفتاح إلى المشاركة في ديمقراطية معرفية تقوم على نشر التعليم للجميع مدى الحياة([215]).
علاقة جديدة بين المدرس والتلميذ:
التعليم كحلقة اتصال تفاعلية
يقال أحيانا إن جمود النظم التعليمية يرتبط بوظيفتها التقليدية المتمثلة في إعادة الإنتاج والمحافظة أكثر منها في التجديد. على أن المدرسة يجب أن تكون مكان التجديد بلا منازع. وإنما بهذا الشرط، سوف تستجيب المدرسة بصورة فعالة لعدم التوافق بين المقتضيات التي تتجلى الآن وغياب إصلاح الهياكل والتدريبات. وتقدم النشأة التدريجية لمجتمع تعليمي فرصة لتجاوز صورة تعلُّم يتمحور في زمن، زمن الشباب، وفي مكان، أيْ المدرسة، والذي يُعهد به إلى مدرس واحد أو مجموعة متعاقبة أو متزامنة من المدرسين الأفراد. والحقيقة أن تهجين طرق الوصول إلى المعرفة وتنويع الفاعلين في التعليم أساسيان في تحقيق تعليم بدون بُعْد، وهو الضمانة لمجتمع بدون بُعْد. والحقيقة أن تشجيع الجميع بين الممارسات والاستعارة المتبادلة لها بين القطاعات الوثيقة الارتباط للتعليم الرسمي والتعليم غير الرسمي (مثل المتاحف وكل القوى الفاعلة في الحياة الثقافية) والتعليم عن بُعْد، أو التعليم التناوبي، يمثل رهانا حاسما للعقود المقبلة.
وبطبيعة الحال فإن المدرسة يجب أن تحتفظ بوظيفتها كمكان للتجمع، والتعليم، وإضفاء الطابع االاجتماعي، بالمنظور المزدوج لنشر المعارف وبناء المواطن. إنها ليست مسألة مجرد دخول في "شبكة معلوماتية"، بل هي أيضا دخول في شبكة اجتماعية، حيث يمكن ربط المدارس فيما بينها في شبكة مع الوسط القريب، مع الأسر، والانفتاح بهذا على مصادر جديدة للمعلومات، وعلى موارد جديدة للاتصالات، وعلى مجالات جديدة للتحادث. ومن الآن فصاعدا، ستكون المدرسة ملتقى لمجموعة واسعة من وسائل المعلومات والاتصالات والتعلم. وسوف تصير منطلقا لهذه الشبكة، بتوفير الوصول إلى الموارد المحلية، وإرشاد المساعي الفردية، وإجراء التقييم المتواصل للنتائج.
ومع ذلك فإن دمج التكنولوجيات الجديدة في عمليات التعلم لا ينبغي أن يتم على حساب العلاقة الشخصية بين المدرس والتلميذ. ويظل التعليم بصورة أساسية تفاعلا بين أشخاص، بين نظرتهم إلى العالم، ومهاراتهم، ومجموع القيم التي يتبنونها. ويمكن أن تقوم التكنولوجيات الجديدة بتوسيع وتنويع هذه العلاقة. والحقيقة أن أنصارها الأكثر حماسا، مثل أولئك المسئولين عن الجامعة المفتوحة في المملكة المتحدة، يقرون بأن التعليم عن بُعْد الذي صار ممكنا بفضل الإنترنت لا يمثل بديلا عن الكتب أو عن العلاقة المتميزة بين المدرس والتلميذ([216]). وذلك لأن "الكمبيوتر لا يمكن أبدا أن يحل محل المدرسين الذين يعيشون بجوار تلاميذ"([217]). وفي لحظة تاريخية تتميز بتسارع الاختراعات والابتكارات، من المهم أن نكون قادرين على نقل المعارف، خاصة العلوم، بطريقة حية، في كل من المدرسة وخارج المدرسة. وأنا أعلق أهمية كبيرة على جهود العلماء، الذين مثل عالم الفلك التشيكي جيري جريغار Jiri Grygar أو عالم الفيزياء الفلكية جاڤانت ڤي. نارليكار Javant V. Narlikar، الحائزيْن في 1996 على جائزة كالينغا لتبسيط العلوم التي تنظمها اليونسكو، يقومون بتقريب العلم إلى أذهان الجمهور الواسع من الناس، خاصة الشباب، عن طريق أعمال التبسيط وبرامج الراديوفون والتليفزيون. ويبدو لي نموذجا يُحتذى بصورة مماثلة عمل العالم البريطاني روبرت سوان Robert Swann (المبعوث الخاص لليونسكو لشئون البيئة وأول إنسان وصل سيرا على القدمين إلى القطبين)، الذي قام ببعثة استكشافية إلى المنطقة القطبية الجنوبية مع 35 مستكشفا تترواح أعمارهم بين 16 و24.
كما يعني تغيير وجه المدرسة وتنويع وظائفها طرح مسألة دور ـ وبالتالي تدريب ـ هذه الشخصية الأساسية، أيْ المدرس. فلا شك في أن المدرس لن يكون بعد الآن الناشر المنعزل الوحيد لمعرفة متخصصة، بل يمكن أن يجد دوره يتنوع ويثرى، بشرط أن يعطيه التدريب والاعتراف الاجتماعي المتفق مع مستوى مسئوليته، واللذين تدعمهما أجور ملائمة، القدرة والإرادة. وسوف تظل وظيفته الرئيسية نقل المعارف، غير أنه سيكون مطالبا بأن يشرح أهداف ومعنى فعل التعلم، وبأن يرشد مسيرات تلاميذه، وبأن يخلق ديناميات جمعية في المجموعات التي سوف يُعهد بها إليه، وبأن يقوم بتقييم التلاميذ بصورة متواصلة، وبأن يفهرس مصادر التعلم. وسوف يجمع نطاق اختصاص المدرس عندئذ بين إتقان مجالات المعرفة، والتعرف على المتعلمين، والقدرة على تصميم وإدارة بيئات للتعلم. وأكثر حتى مما كان في الماضي، لا يمكن أن يقتصر تدريسه على مجرد نقل المعارف.
والحقيقة أن تدريب المدرسين معيار حاسم لتدريب الأجيال الجديدة. ويجب بذل جهود ضخمة في هذا المجال، مع عقد شراكات بين القطاع العام والقطاع الخاص، خاصة فيما يتعلق بإتقان التقنيات الجديدة المرتبطة بمعالجة المعلومات ونشرها. وإذا كان هنا فرد يجب أن يكون التدريب بالنسبة إليه متواصلا أكثر من أي وقت مضى، فإنه حقا المدرس، قبل الجميع. وقد آن الأوان للاعتراف والإقرار بصورة إيجابية بالمسئولية المتزايدة التي تقع على كاهل المعلم في تدريب المواطن، والمهنيين، والكائن البشرى، في وقت صارت فيه الهياكل الاجتماعية والأسرية أقل قدرة على مواجهة هذه التحديات.
تحوُّل نظم النشر
علاوة على هذا، يفرض نفسه تفكير متفحص في طرق إدارة الشبكات كمصادر للمعارف وبالتالي في التوفيق بين نظم المعلومات وعمليات الشبكة. والواقع أن نظم النشر تلعب الدور الإستراتيجي لنظام مرتبط بالنظام التعليمي، الذي لا غنى له عنه لكي يعمل بصورة صحيحة والذي يتجاوز كثيرا النشر المدرسي. ومن الجلي أن تكييف نظم النشر سوف يتخذ شكل ما يسمى بالنشر الإلكتروني، مع نمو نظم سي دي ـ روم CD-ROM [قرص الليزر] وقريبا دي ڤي دي DVD [قرص الليزر الرقمي]: تتيح هذه الوسائل الجديدة تسجيل المعلومات وتخزينها واسترجاعها في أشكال مجمعة (صور، أصوات، بيانات)، أكثر تنوعا من الأشكال التي يقدمها الكتاب المطبوع وقابلة بصورة خاصة للتنقل على الشبكات، وأسهل في الحفظ وإعادة المعالجة.
غير أن الوظيفة الحقيقية للنشر لا تتمثل في اختيار وسيلة بقدر ما تتمثل في انتقاء محتوى. فالنشر يعني تصنيف النصوص والمعلومات وإلغاءها وتأليفها وإعادة تأليفها. على أن أحد الانتقادات الرئيسية الموجهة اليوم إلى الإنترنت هو أنه يزدري وظائف النشر. وربما كان يكمن في هذا قصوره. وبالفعل فإن المواقع الجادة، التي سيكون محتواها موضوعا للتمثيل النقدي، مع أخذ الإمكانات التي لم يتم بعد استكشافها إلى حد كبير لهذه الوسيلة في الاعتبار، مدعوة إلى أن تبرز وتدوم ـ فيما وراء فترة التشوش الغريب الذي تشهده الشبكة في الوقت الحالي: بصورة خاصة، سيتم تعزيز المواقع الممتازة بوظائف الانتقاء والاستدلال (عن طريق ارتباطات النص الفائق، يمكن لموقع جاد أن يُحيل بسهولة إلى موقع جاد آخر) وإضافة التعليقات. والواقع أن هذا الصعود لمواقع جادة يؤدي منذ الآن إلى ظهور تنوع كبير وليس إلى تماثل بالتناسخ clonage، كما كان يمكن أن يُخشى. وينبغي تشجيع هذه الإبداعية وهذا التنوع في الامتياز، كضمانة حقيقية لتعددية ثقافية، دون إحالة إلى نموذج سائد.
وسوف يقتضي ازدهار التعليم في القرن الحادي والعشرين شبكة "تحريرية" édité بصورة جزئية على الأقل ـ في حين يتوافق باقي الشبكة مع وظائف التحادث المكملة للوظائف التي تتعلق بالوصول إلى البيانات. والواقع أن إحدى العقبات أمام هذا الدخول للنشر في شبكة الإنترنت تمثل واحدة من فضائله وخصوصياته الأساسية: طابعه غير الاقتصادي non économique. ولن يحدث التدخل الواسع النطاق للنشر في هذا القطاع إلا عندما تكون هذه الشروط "اللااقتصادية" a-économiques قد تطورت. وبالمقابل فإن مثل هذا التطور ذاته لن يغدو ممكنا إلا عندما ستقدم مشروعات الاتصالات السلكية واللاسلكية البعيدة المدى معادلات أسعار تشجع حركة المرور. وسوف يتمثل أحد الرهانات الرئيسية خلال العشرين سنة المقبلة في امتلاك ناصية هذا التطور المشترك لنظم التعليم، والنشر، والاتصالات البعيدة المدى. ويمكن أن تشجع سياسات عامة هذا الاستثناء التعليمي. ولهذا فإنه يمكن العثور في المشاركات بين القطاع العام والقطاع الخاص في هذه القطاعات الهامشية بالنسبة للتعليم ولكنْ الأساسية بالنسبة للمجتمع على أحد المفاتيح الرئيسية إلى تطوير النظم التعليمية وبالتالي إلى ممارسات التعلم.
دور السلطة العامة
ماذا يجب أن يكون الدور الذي يتحتم على السلطة العامة أن تلعبه خلال عشرين سنة مقبلة؟ نظرا لضخامة الاستثمارات التي سوف تتطلبها مواصلة السعي وراء الرهانات المشار إليها من قبل، ومع أخذ واقع أن ربحية هذه الاستثمارات سوف تظل إلى حد كبير جدا غير مباشرة في الاعتبار، ونظرا لأن التعليم يجب أن يظل مجالا للتضامن يتمتع بالأولوية، سيكون على السلطة العامة مواصلة التمويل على نطاق واسع لقطاع التعليم ـ الأمر الذي لا يتناقض مع ضرورة أشكال لا مركزية ومرنة لإدارة المشروعات التعليمية. وسوف يمثل إرشاد هذا الإصلاح للإدارة التعليمية أحد الرهانات الرئيسية للعقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين.
كما سيكون على السلطة العامة أن تتكفل بإصدار الضوابط التعليمية، التي يمكن إحالة مسئوليتها الفنية، عند الحاجة، إلى مؤسسات مرجعية مستقلة قادرة على أن تتابع بصورة أفضل تطورات المعارف التقنية للمجتمع وحاجاته وأمانيه، والمعارف المرتبطة بعمليتي الإدراك والتعلم.
وأخيرا فإن السلطة العامة يجب أن تقود عمليات يتم القيام بها بالمشاركة الإستراتيجية مع قطاعي النشر والاتصالات البعيدة المدى. والحقيقة أن هذه الأعمال المشتركة سوف تتيح، في الوقت الذي تحترم فيه طبيعة هذه المشروعات، وهي بصورة عامة هادفة إلى الربح، إعداد لوائح للحماية ضد تجاوزات الشبكات (الحفز إلى العنف، العنصرية، اللواط بالأطفال) وكذلك إعداد سياسات تسعير مستهدفة من شأنها تطوير أدوات للتعليم تقوم بتحسين نوعية التعليم وإنتاجيته. وفي هذا المجال، سيكون اختيار السياسات الاقتصادية البعيدة النظر حاسما لنجاح أو فشل تحويل نظم التدريب. والحقيقة أن تلك البلدان التي يمكن أن تقوم بالاختيارات الإستراتيجية الصحيحة، في الوقت الذي تأخذ فيه تقاليدها في اعتبارها كما ينبغي، سوف تحوز وسائل نجاح هامة من وجهة النظر الاقتصادية. وستكون هذه البلدان قادرة على أن تساعد ليس فقط شعوبها بل أيضا الشعوب الأقل حظا في بناء سماتها، وتعزيز تماسكها، والبلورة بصورة أفضل لتعددات المواطَنات التي صار كل فرد منا مدعوا إلى أن يشير إليها بصورة متزايدة خلال القرن الحادي والعشرين.
فهل سننجح في خلق تعليم يلغي البُعْد [= المسافات] بين الشعوب وداخل كل بلد، مع النجاح في الوقت نفسه في المحافظة على السمات، والمعنى، والانتماء، والقيم، التي يختفي بدونها أيّ مفهوم للتماسك الأخلاقي؟ وتملك البشرية من الآن فصاعدا أسلحة هذا الاختصار للبُعْد [= للمسافات]: ينبغي استخدام هذه الوسائل وتقاسُمها بصورة منصفة. ويجب دعم تنويع أشكال المعرفة، وتوسيع فِعْل التعلم إلى مدى حياة بأسرها، والجمع بين كل أشكال التعليم، رسمية كانت أم غير رسمية، عن طريق ثقافة للتعلم، تنظر إلى المعرفة ليس على أنها هدف في حد ذاته بل على أنها مرحلة في معرفة البشرية الحقيقية، في سياق بحث يمثل السير فيه هدفه الحقيقي. وتتغذى ثقافة التعلم هذه على التنوع الثقافي للمجموعات، والأمم، والقارات. إنها ثقافة لطرح الأسئلة، وللعمل، وللتجربة، ولغياب الخوف من الخطأ، وللتلمس، وللتطلع، ثقافة تقنية تتمحور حول حل المشكلات. غير أن هذه الثقافة هشة وقابلة لأن تجف، وأن تصير مجرد تقنية، وأن تتفتت بين مجموعات منعزلة بشفرات برمجتها الخاصة وطقوس تكريسها الخاصة. وسوف يتمثل أحد التحديات الرئيسية لعقود قادمة في تعميم ثقافة التعلم هذه، وجعلها حية حقا، ولدعمها في الأجل الطويل. وستكون هذه مهمة عبقرية الشعوب وسخاء الأفراد.
وسيكون التعليم للجميع مدى الحياة الرهان الحاسم للقرن الحادي والعشرين لأنه منذ الآن مفتاح للسلام، والنمو، والتنمية، والديمقراطية، وصداقة البيئة والثقافات.
منطلقات وتوصيات
3 تعزيز التعليم للجميع مدى الحياة: إعطاء الأولوية، من هذا المنظور، لتعليم الكبار، وبصورة خاصة لتعليم النساء، من خلال تدريب تقني ومهني مكثف بلغتهم الخاصة، وتعميم التعليم الأساسي ودمج أولئك الذين تم إقصاؤهم.
3 تشجيع التدريب المتواصل للمدرسين وتحديث معارفهم من أجل خلق محيط تفاعلي للتعلم مدى الحياة، على كل المستويات.
3 تصميم كل نظام تعليمي على قطبية مزدوجة: تشجيع كل مبادرة شخصية لاكتساب المعارف، والمناهج المتاحة، وتقديم تعليم أساسي للجميع كمصدر للازدهار الشخصي، والسمات الثقافية والأخلاقية، ومسئولية المواطنة؛ ويجب أن يقوم التعليم في آن معا ببناء المجتمعات وتدريب الأفراد؛ ويجب إيلاء أولوية، في مجموع البرامج التعليمية، لتعليم مدني يعاد تعريفه من هذا المنظور.
3 إرساء المحلي في العالمي، والفردي في الجمعي والمدني: تأكيد العلاقات بين الأشخاص في تبادل المعلومات، وإفساح مجال للتعبير عن كل الخصوصيات النوعية المحلية والإقليمية داخل الشبكة العالمية، دون السماح بتوطيد ثقافة هيمنة.
3 تصميم النظام التعليمي في تعدديته: تعددية المناهج، تعددية مسيرات الحياة، تعددية الوسائل التقليدية والجديدة، تعددية القوى الفاعلة، تعددية الأماكن (المدرسة لكن أيضا المكتبة، المتحف، الجماعات والمجتمعات المحلية، المشروعات، الأسرة)، تعددية الأزمنة (الطفولة، عمر التدريبات المهنية، لكن أيضا الحياة المهنية وفترات الفراغ أو التقاعد).
3 إثراء مفهوم المعرفة: الانتقال من فكرة المعرفة عن طريق التراكم إلى فكرة إدراك واع بمناهجه وأهدافه. ولم يعد ينبغي أن نتعلم فقط بل أن نتعلم كيف نتعلم. ويجب أن يشكل تدريب هيئة تدريس متمرسة بالتكنولوجيات الجديدة والمقتضيات الجديدة للمجتمع أولوية.
3 تشجيع كل مبادرة ترمي إلى وصول شامل إلى التكنولوجيات الجديدة للمعلومات، ليس فقط داخل كل بلد بل أيضا فيما بين البلدان الصناعية والبلدان النامية، بطريقة تؤدي إلى الحد من أشكال إضفاء الطابع المزدوج. وفيما يتعلق بالتعليم، يجب أن يكون الهدف هو إنشاء شبكة عالمية للتعليم متاحة للجميع، بدون حدود دولية أو بُعْد [ = مسافات] من أي نوع.
3 تطوير سياسات على المستوى القومي وعلى المستوى الدولي لتشييد بنية أساسية للاتصالات، تقليدية كانت (مكتبات، معدات مسموعةـ مرئية ومعلوماتية) أم جديدة (الإعلام المتعدد الوسائط، سي دي ـ روم CD-ROM ، الاتصال بشبكة الإنترنت)، مع الإصرار بصورة خاصة على المناطق المحرومة والمنعزلة والمحافظة على الوصلة البينية interface لهذه البنية الأساسية.
3 تحويل الجامعات إلى مراكز بلا منازع للتعليم للجميع مدى الحياة، بما يتفق مع المادة 26-1 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي ينص على أن "الحصول على التعليم العالي يجب أن يكون مفتوحا على قدم المساواة أمام الجميع على أساس جدارتهم".
3 منح كل فرد "قسيمة ـ تدريب" مع منح الحق في الحصول على عدد من سنوات التعليم يمكن أن يستخدمها حسب اختياراته، وخط سيره الشخصي، وخبرته المدرسية، والأوقات الملائمة له.
إشارات
[*] ) اتجاه راهن لمجتمعاتنا نحو إشعال صور عدم المساواة داخل كل مجموعة اجتماعية ثقافية، وداخل كل فئة عمرية، وكل فئة شهادات تعليمية، وكل قطاع من قطاعات الاقتصاد. وتنطلق هذه الفكرة من تأكيد أن الفوارق الصغيرة في المؤهلات، في عالم العمل، بين عامليْن تتم ترجمتها إلى تفاوتات كبيرة في الأجور والإنتاج. وينشأ عن هذا تقسيم تمييزى un appariement للعمال، وفقا لمستوى كفاءاتهم وانقسام بين النخب وبقية العمال على كل مستويات عملية الإنتاج؛ وبطريقة مماثلة فإن الفوارق في المرتبات والإنتاجية تكون ضخمة بين البلدان التي تختلف فيها مستويات التأهيل؛ Michael Kremer, “The O-Ring theory of economic development”, The Quarterly Journal Of Economics, vol. 58, no3, août 1993; Daniel Cohen, Richesses du Monde, Pauvreté des nations.
الفصل 13
[1] ) Daniel Cohen, Richesse du monde, pauvretés des nations, Paris, Flammarion, 1997.
[2] ) Voir Jean-Paul Fitoussi et Pierre Rosanvallon, Le Nouvel Âge des inégalités, Paris, Seuil, 1996.
[3] ) Daniel Cohen, op. cit., p. 85 sq.
[4] ) حول مفهوم "التقسيم التمييزي الانتقائي" انظر: Daniel Cohen, op. cit., chapitre V. : وكما يشدد دانييل كوهن، فإن "الفروق الطفيفة في الأداء الفردي يمكن أن تفسح المجال لفوارق كبيرة في الدخل":op. cit., p. 77 : وهذا المفهوم مرتبط بنظرية "O-Ring" عن التنمية التي وصفها مايكل كريمر في: Michael Kremer dans "The O-Ring theory of economic development", Quarterly Journal of Economics, août 1993.
[5] ) Ethan B. Kapstein, “Workers and the world economy” Foreign Affairs, mai-juin 1996, vol. 75, n° 3.
[6] ) انظر حول هذا الموضوع فصل "التعليم على مشارف 2020: عن بُعْد أم بدون بُعْد؟".
[7] ) Javier Pérez de Cuellar, allocution de présentation des travaux par le président de la Commission à la réunion inaugurale, reproduite dans le document de l UNESCO “Rapport du directeur général sur la Commission de la culture et du développement”, octobre 1993 (27C/INF.11).
[8] ) Voir à ce sujet Sherry Turkle, Life on the Screen: Identity in the Age of the Internet (Simon and Schuster, novembre 1995 ; Touchstone paperback, 1997) et Ana Maria Nicolaci da Costa, Na malha da Rede: Os impactos intimas da Internet, Rio de Janeiro, Editora Campus, 1998.
[9] ) Jean Baudrillard, Le Crime parfait, Paris, Galilée, 1995.
[10] ) Voir à ce sujet Pierre Lévy, Qu est-ce que le virtuel ?, Paris, La Découverte, 1998.
[11] ) José Joaquí Brunner, “Postmodernidad y Globalización”, Faculdad Latino Americana de Ciencias Sociales, Santiago de Chile, mayo 1996, p. 51.
[12] ) قانون تأسيس اليونسكو، المادة 2، الفقرة الفرعية ج.
[13] ) José Joaquí Brunner, op. cit., p. 6.
[14] ) Brunner, op. cit., p. 35.
[15] ) يأخذ أغلب المراقبين هذه الفرضية في الاعتبار: Voir Joseph Coates, “L avenir hautement probable. 83 hypothèses sur l année 2025”, Futuribles, avril 1996, n° 208, p. 30.
[16] ) انظر، حول هذا الموضوع، خلاصات الاجتماع الذي نظمته اليونسكو، في 18 يناير 1999، للخبراء بشان الاستغلال الجنسي للأطفال، والإباحية باستغلال الأطفال، واللواط بالأطفال على شبكات الإنترنت.
[17] ) انظر بصورة خاصة وثائق المؤتمر الدولي بشأن العنف على الشاشة وحقوق الطفل: Lund, Suède, septembre 1995: وكذلك اجتماعات حقوق المعلومات INFODROITS ، وأخلاق المعلومات INFOÉTHIQUE، والتي نظمتها اليونسكو (موناكو، 10-12 آيار/مايو 1997، وأول تشرين الأول/أكتوبر 1998).
[18] ) Jérôme Bindé, “Prêts pour le XXIe siècle ?”, Le Monde. 29 juillet 1998.
[19] ) Thomas L. Jacobson, “Les messageries électroniques et les services dans les pays du tiers-monde”, Revue Tiers Monde, t. XXXV, n° 138, avril-juin 1994, p. 343-355.
[20] ) Voir Michel Elie, “Internet et le développement: un accès à l information plus équitable ?”, Futuribles, n° 214, novembre 1996, p. 43-64.
[21] ) Chiffres cités par The Economist, 24 mai 1997, p. 114.
[22] ) Source: Network Wizards, juin 1999.
[23] ) 1997 State of the Future, American Council for the United Nations University — The Millenium Project, co-direction Jerome C. Glenn et Theodore J. Gordon, p. 6.
[24] ) Michel Elie, loc. cit., p. 55-56.: وفقا لتقدير تقريبي قدمته مؤسسة نوا Nua Internet Surveys، كان توزيع عدد مستعملي الإنترنت كما يلي: 171.25 مليون مستعمل (الإجمالي العالمي)، منهم 1.14 مليون مستعمل في أفريقيا، و26.97 مليون مستعمل في آسيا/المحيط الهادي، و40.09 مليون مستعمل في أوروبا، و0.88 مليون مستعمل في الشرق الأوسط، و97.03 مليون في كندا/الولايات المتحدة، و5.29 ملايين مستعمل في أمريكا اللاتينية. ومن المحتمل أن يصل عدد مستعملي الإنترنت في العالم، وفقا للتقديرات ذاتها، إلى 350 مليون مستعمل في عام 2005 (الأرقام خاصة بحزيران/يونيه 1999).
[25] ) 40.000 في آيسلندا مقابل 35650 في كل أفريقيا جنوب الصحراء: International Telecommunication Union, World Telecommunication Development Report 1998, et African Telecommunication Indicators, 1998, ITU, Genève, 1998. : ما تزال الاستثمارات في الاتصالات السلكية واللاسلكية بالأسعار الحقيقية تؤكد الفوارق القائمة: استقرت عند 2.9 مليار دولار بالنسبة لمجموع أفريقيا في 1996، وهو التاريخ الذي استثمرت فيه اليابان 37.9 مليار دولار والولايات المتحدة 23.6 مليار دولار.
[26] ) Federico Mayor, “L enseignement supérieur et les nouvelles technologies”, Chronique, Le Courrier de l UNESCO, décembre 1996.
[27] ) Dan Schiller, “Les marchands du "village global"“, in Le Monde diplomatique, mai 1996.
[28] ) Bilan du Monde 1997, p. 23.
[29] ) Michel Elie, op. cit.
[30] ) “Internet: l information sur un plateau”, Les Échos, 14-15 mars 1997.
[31] ) Entretien pour le journal Le Monde, 1er février 1997.
[32] ) “Le savoir va-t-il détrôner le travail et le capital ?”, in Bilan du Monde, édition 1996, Paris, éditions Le Monde, p. 176.: لا مناص من أن تؤدي الاتفاقية العالمية في 15 شباط/فبراير 1997 بشأن الاتصالات السلكية واللاسلكية التي وقعتها ثمانية وستون بلدا في إطار منظمة التجارة العالمية إلى انخفاض في أسعار المكالمات الدولية بنسبة 80% وإلى تسهيل التجهيز بالشبكات للبلدان التي لا يستطيع العمال الفنيون المحليون القيام بتشغيلها بصورة كاملة: voir Le Monde, 18 février 1997.
[33] ) Conférence de Midrand sur la Société de l information et le développement (ISAD, Midrand, Afrique du Sud), “Conclusions de la Présidence”.
[34] ) Loc. cit.
[35] ) Carlos-Alberto Alfonso, Le Monde, diplomatique., juillet 1994.
[36] ) Voir Jean-Louis Guigou, “Le mythe des grands travaux. Des infrastructures de transport à la société de l information”, Futuribles, n° 225, novembre 1997.
[37] ) Vice-Président Al Gore, Remarques devant l International Telecommunications Union, 21 mars 1994.
[38] ) Sommet de Lyon, Communiqué économique, “Réussir la mondialisation au bénéfice de tous” (Lyon, 28 juin 1996).
[39] ) Marc Guillaume, “Une société commutative”, Quintesciences, n° 10, mai 1997.
[40] ) قانون تأسيس اليونسكو، المادة 2.
[41] ) Voir le “Projet d esquisse préliminaire du rapport mondial sur la culture et le développement”, Commission mondiale de la culture et du développement, document CCD-III/94/DOC.2, UNESCO, février 1994, et 2100; Récit du prochain siècle, Thierry Gaudin dir., Paris, Payot, 1990, notamment le chapitre 20 ; voir aussi Thierry Gaudin, 2100, Odyssée de l espèce, Paris, Payot, 1993.
[42] ) Le rapport de la Commission européenne “L Europe et la société d information globale” (“Rapport Bangemann”, 1994) met l accent sur ce risque majeur.
[43] ) Chiffres du Bureau international du travail (World Employment Report 1998-1999, Genève, 1998).
[44] ) Jan Pronk, Culture as a Mainstream, 1994.
[45] ) انظر حول هذا الموضوع فصل "التعليم على مشارف 2020: عن بُعْد أم بدون بُعْد؟".
[46] ) Voir par exemple The Economist, 10 mai 1997, “Survey: electronic commerce”.
[47] ) أضيفت الآن إلى برامج "البحث" عن معلومات الإنترنت browsers، برامج بحث نوعية turners, transmitters تستجيب لمجموعة موضوعات يحددها المستعملون أنفسهم.
[48] ) Amy Cortese, “A way out of the Web Maze”, Business Week, 24 février 1997, p. 44. Voir aussi Le Monde, 16 septembre 1997 (“Internet, le grand supermarché”).
[49] ) عبر تكنولوجيات جديدة مثل البرامج الصغيرة على الخط applets، يقوم فاعلون جدد "بتوحيد طلب وليس عرض و.... يخلقون "جماعة بتجريد المستهلكين"، ويكافئون أنفسهم بشأن المحتوى المقدم للمستعملين: Voir Entretien avec Xavier Dalioz, Les chos, avril 1997. : والميزة الممنوحة للمحتوى رئيسية: إنها تعني ميزة ممنوحة للتعليم والثقافة.
[50] ) كتب الشاعر الإسباني الكبير أنطونيو ماتشادو Antonio Machado ("سيكون من الخطأ الخلط بين القيمة والثمن").
[51] ) Paul Kennedy, Préparer le XXIe siècle, 1993, p. 74.
[52] ) حتى إذا لم تكن نظم الكتابة الألفبائية قد حلت محل أنواع أخرى من نظم الكتابة، مثل الكتابة برموز الأفكار، فقد فرضت نفسها على الأقل بصورة متزايدة، بالتنافس مع لغة الرياضيات، في عالم العلم، وأسهمت في تعميم نموذج ديمقراطي للنشر العام للمعرفة، التي قامت بدورها بتعديل استعمال الكتابات برموز الأفكار.
[53] ) هذا التعبير الجميل مقتبس من الكاتب الإيطالي إيتالو كالڤينو Italo Calvino.
[54] ) Michael Gibbons, The New Production of Knowledge, Londres, Sage, 1994.
[55] ) يُبرز يوشيكو أوكوبو Yoshiko Okubo كذلك بالنسبة للولايات المتحدة، وألمانيا، وبريطانيا العظمى، واليابان، أن، "الوزن النسبي للتعاون في الأعمال العلمية ... تضاعف على الأقل بين 1976 و1986 ويواصل الزيادة خلال التسعينيات": “L internationalisation de la science. Une analyse bibliométrique”, Futuribles, juin 1996, n° 210, p. 45.
[56] ) Voir sur ce thème Pierre Papon, “Un New Deal pour la recherche et la technologie", Futuribles, février 1997, n° 217, p. 33-52.
[57] ) Iver Peterson, “700 on-line newspapers, but only one charges for every-thing”, International Herald Tribune, 11 février 1997.
[58] ) R. W. Apple, Jr., “Everyman s Internet”, International Herald Tribune, 21 février 1997.
[59] ) Cf. Jérôme Bindé, “Communication et intelligence ; l éducation et la culture à distance ?”, contribution au Colloque sur “La Société de l information: approches technique, économique, juridique et culturelle des autoroutes de l information” du 22 février 1996, publié dans Les Petites Affiches, n° 134, 6 novembre 1996, Paris. Traduction anglaise: “Communication and intelligence: distance education and culture ?” Futures, vol. 30, n° 8, 1998.
[60] ) Pierre Papon, op. cit., p. 36.
[61] ) Ibid. p. 45.
[62] ) Le Monde, 24 octobre 1996.
[63] ) انظر الفصل "أي مستقبل ينتظر الكتاب والقراءة؟".
[64] ) Antennes VSAT, communicateurs personnels: PDA, PHS. Voir par exemple “The scramble to set up satellite phone services”, International Herald Tribune, 9 juin 1997.
[65] ) Roberto Bissio, Le Monde diplomatique, juillet 1994.
[66] ) Voir en particulier Saskia Sassen, The Global City: New York, Londres, Tokyo, Princeton University Press, Princeton, 1991: وقد يكون هذا الرقم ما يزال مرتفعا وفقا لـ: Dan Schiller, professeur au département de communication de l Université de Californie à San Diego (États-Unis): "وفقا لمصادر مطلعة جيدا، توجد "شبكات مخبأة" موصلة بالإنترنت تصل إلى أربعة أضعاف الشبكات ذات التوصيل المفتوح": “Les marchands du "village global"“, Le Monde diplomatique, mai 1996.
[67] ) International Herald Tribune, 28 janvier 1997.
[68] ) “Free cyber-speech”, International Herald Tribune, 15-16 juin 1996 ; “An unfettered Internet”, International Herald Tribune, 28-29 juin 1996.
[69] ) قانون تأسيس اليونسكو، المادة الأولى.
[70] ) منذ أكثر من قرنين، أرسى قانون شاپلييه Le Chapelier المبدأ الأساسي "حرية النسخ" بغرض تشجيع حرية التجارة والمشروعات وتعزيز المنافسة وتفادي الاحتكارات المرتبطة "بامتيازات" حق حصري للملكية الفكرية.
[71] ) في 1998، صوت الكونغرس الأمريكي على قانون جديد رفع مدة حق التأليف من 75 إلى 95 عاما بعد وفاة المؤلف.
[72] ) Discours de Jacques Toubon, alors ministre de la Culture de la France, au Sénat, 6/12/93.
[73] ) Federico Mayor, Cultures in the Global Village, New Delhi, mai 1995.
[74] ) PNUD, HDR, 1994.
[75] ) Le Monde, 10 mai 1997.
[76] ) انظر الفصل "أي مستقبل ينتظر الكتاب والقراءة؟"، وفصل اللغات.
[77] ) لهذا السبب تم دمج شعبة اللغات باليونسكو "Linguapax" من الآن في دائرة تعليم وثقافة السلام، على نفس مستوى التعليم من أجل السلام، وحقوق الإنسان، والتفاهم الدولي، والتسامح.
[78] ) Voir à ce sujet le Projet d esquisse préliminaire du rapport de la Commission mondiale de la culture et du développement (CMCD), document CCD-III/94/DOC.2, UNESCO, février 1994, présenté par Javier Pérez de Cuéllar (para. 274). : وقد استلهم هذا الفصل جزئيا عددا من تحليلات هذا النص.
[79] ) Nestor Garcia Canclini, “L avenir des sociétés multiculturelles”, UNESCO, Commission mondiale pour la culture et le développement. Consultation régionale pour l Amérique latine et les Caraïbes, 1994.
[80] ) Déclaration à la 31e réunion de la National Association Television Programme Executive (NATPE), 24-28/1/94, Miami, États-Unis.
[81] ) Cité dans Jacques Robin, “Les dangers d une société de l information planétaire”, Le Monde diplomatique, février 1995
[82] ) Joseph S. Nye, Jr., et William A. Owens, “America s information edge”, Foreign Affairs, mars-avril 1996, p. 20-36.
[83] ) قانون تأسيس اليونسكو، المادة الأولى.
[84] ) Nye et Owens, op. cit., p. 34.
[85] ) Pierre Lévy, Qu est-ce que le virtuel ?, Paris, La Découverte, 1995, p. 10.
[86] ) Steven A. Rossell, “Changing maps: scenarios for Canada in an information age”, International Affairs, 72, 4 (1996), p. 675-690.
الفصل 14
[87] ) Alain Bentolila, De l illettrisme en général et de l école en particulier, Paris, Pion, 1996, p. 66.
[88] ) Jacques Derrida, Le Droit à la philosophie du point de vue cosmopolitique, éditions UNESCO, 1997, p. 38.
[89] ) انظر الفصل "تراث مهدد بالانقراض: اللغات".
[90] ) “Special survey on primary education: school fees and school books in state schools” (UNESCO, Division des statistiques), novembre 1991.
[91] ) UNESCO, Annuaire statistique 1995: بلغ عدد عناوين الكتب المنشورة في العالم 863000 في عام 1991، مقابل 521000 في عام 1970.
[92] ) وصل المتوسط العالمي في 1991 إلى 160 عنوانا لكل مليون نسمة. وكان هذا المتوسط في التاريخ ذاته 513 في البلدان المتقدمة، و55 في البلدان النامية، و20 في أفريقيا، و802 في أوروبا: Source: ibid.
[93] ) UNESCO, Annuaire statistique 1995. Chiffres pour 1991,
[94] ) Rapport mondial sur l éducation 1998, UNESCO, Paris, 1998, Tableau 2.
[95] ) Voir Rapport mondial sur l information 1997-1998, UNESCO, Paris, 1997, p. 78-90.
[96] ) Source: Annuaire statistique 1998 de l UNESCO.
[97] ) قانون تأسيس اليونسكو، المادة الأولى، الفقرة 2، الفقرة الفرعية ج.
[98] ) Voir en particulier Ali Hamadache, Savoir lire, et après ? Produire les matériels de lecture pour la postalphabétisation: Guide pratique illustré, collection “La bibliothèque de formation professionnelle”, UNESCO et Agence de la francophonie, Paris, 1997.
[99] ) Projections pour l an 2000. Source: Statistics on Adult Illiteracy: Preliminary Results of the 1994 Estimations and Projections (Division des statistiques de l UNESCO, octobre 1994).
[100] ) Rapport mondial sur l éducation, 1995, UNESCO, Paris, 1995.
[101] ) Voir “Books for a Buck”, Newsweek, 4 décembre 1995: في مصر، أتاح مشروع "القراءة للجميع" بدعم قوي من السيدة سوزان مبارك نشر كتب تعليمية بأسعار منخفضة جدا.
[102] ) استؤنفت هذه المبادرة الآن في البلدان العربية عن طريق تجربة "كتاب في جريدة"، التي تشترك فيها 21 جريدة يومية كبرى، توزع مجانا في شكل ملاحق شهرية الأعمال الأدبية لكبار المؤلفين في العالم العربي.
[103] ) Voir A. Hamadache, Savoir lire, et après ? Produire les matériels de lecture pour la postalphabétisation: Guide pratique illustré, op. cit. ; Alvaro Garzon, La politique nationale du livre: un guide pour le travail sur le terrain, The Professional Training Library/UNESCO Publishing, 1997; H. S. Bhola, A Source Book for Literacy Work Perspective from the Grassroots Paris, UNESCO/Jessica Kingsley Publishers, 1994; Ralph C. Staiger, Roads to Reading, UNESCO, 1979. Voir aussi le bulletin International Literacy and Education for All Watch.
[104] ) Yannick Maignien, “Lector ex machina”, Le Débat, septembre-octobre 1995, n°86. =
[105] ) Voir à ce sujet André Zysberg, Yannick Maignien, Jean-Didier Wagneur, Bruno Blasselle, “La lecture assistée par ordinateur”, Le Débat, septembre-octobre 1995, n° 86, p. 152-164. La PLAO a été ainsi introduite à la Bibliothèque de France en 1989 (op. cit., André Zysberg, “Deux ou trois choses que je sais d elle”, p. 152-155.
[106] ) “Le livre perpétuel”, Libération, 15 juillet 1998.
[107] ) Y. Maignien, loc. cit.
[108] ) Pierre Lévy, L Espace du savoir, éléments de cartographie anthropologique, Neuropelab, International Business Park, 1993 ; Michel Authier et Pierre Lévy, Les Arbres de la connaissance, Paris, La Découverte, 1992. Citation de Régis Debray, “Dématérialisation et désacralisation: le livre comme objet symbolique”, Le Débat, septembre-octobre 1995, n° 86, p. 27.
[109] ) Blaise Cronin et Geoffrey McKim, “L Internet”, Rapport mondial sur la communication 1997-1998, UNESCO, Paris, 1997, p. 266.
[110] ) Y. Maignien, loc. cit., p. 156,
[111] ) Ibid.
[112] )Voir le Rapport mondial sur l information 1997-1998, UNESCO, Paris, 1997, p. 236 sq.
[113] ) Voir Le. Monde., 3 mai 1998.
[114] ) Voir Ernesto Sábato, Les entretiens du Courrier de l UNESCO, UNESCO, Paris, 1994, p. 235-236 (reproduction d un entretien publié dans le Courrier de l UNESCO d octobre 1990)
[115] ) Rapport mondial sur l information 1997-1998, UNESCO, Paris, 1997, p. 235-236.
[116] ) Yannick Maignien, op. cit.
[117] ) Cf. “Projet d esquisse préliminaire du rapport mondial sur la culture et le développement”, Commission mondiale de la culture et du développement, document CCD-III/94/DOC.2, UNESCO, février 1994.
[118] ) Voir Milagros del Corral et Alvaro Garzón, “L avenir du livre”, Commission mondiale de la culture et du développement, document CCD-III/94/SEC.l, 1994.
[119] ) انتهى هذا التفكير الدولي إلى إضفاء انسجام أكبر على التشريعات القومية وإلى توسيع للإجماع الدولي الملحوظ عن طريق التزام عدد من الدول باتفاقية بيرن Berne والاتفاقية العالمية بشأن حق المؤلف.
[120] ) Voir en particulier les conclusions du Congrès international sur les aspects éthiques, juridiques et sociétaux de l information numérique (INFOÉTHIQUE), organisé par l UNESCO à Monte-Carlo en mars 1997.
[121] ) “Journaux quotidiens: nombre et tirage”, UNESCO, Annuaire statistique 1997. Publishing & Bernan Press: هذه النسبة تقترب بعض الشيء من النسبة التي تفصل بين هذه البلدان فيما يتعلق بالبث الإذاعي (فارق بالنسبة لعدد أجهزة استقبال البث الإذاعي الصوتي: 1 إلى 5.4)، أرقام خاصة بعام 1993.
[122] ) Op. cit., “Production et consommation de papier journal".
[123] ) Gérard Théry, Les Autoroutes de l Information, Rapport au Premier ministre, Paris, La Documentation française, 1994, p. 61-65.
[124] ) “Projet d esquisse préliminaire)..”, op. cit.
[125] ) Emesto Schiefelbein, Redefining Basic Education for Latin America: Lessons to be Learned from the Colombien Escuela. Nueva, UNESCO, International Institute for Educational Planning, Paris, 1992.
الفصل 15
[126] ) تتراوح متوسطات التقديرات بين 5000 (Stephen Wunn) و 6703: (Ethnologue 1996, mise à jour de février 1999). Pour une discussion des méthodes de comptage, cf. infra.
[127] ) Source: Endangered Language Fund.: يجب اعتبار هذا العدد تقديرا أكثر منه يقينا علميا: مع ذلك، أثبته مهنيون جادون ويشكل تقديرا مقبولا وغير مبالغ فيه.
[128] ) إذا كان كل اللغويين متفقين اليوم فيما يتعلق بالإقرار بضخامة ظاهرة موت اللغات فإنه لا يوجد تعريف إجرائي مشترك لمفهوم اللغة المهددة بالانقراض. ومن جهة أخرى لا توجد أية قائمة مقبولة لكل اللغات المنطوق بها حاليا في العالم ولعدد الناطقين الذين يتكلمون بها. وكلمة لغة langue تشمل وقائع بالغة الاختلاف، تبدأ من الكلام العامي المحلي وتصل إلى اللغة الناقلة أو الإقليمية وإلى اللغة القومية: من هنا الاختلاف حول العدد الإجمالي للغات المنطوق بها في العالم.
[129] ) Estimation du professeur Michael Krauss, de l Université d Alaska à Fairbanks.
[130] ) Source: Ethnologue 1996 (mise à jour de février 1999).
[131] ) Intervention au symposium de la société japonaise de linguistique (The Linguistic Society of Japan), Seisen University, Tokyo, 3-4 octobre 1998, citée dans le Daily Yomiuri, 10 octobre 1998.
[132] ) William F. Mackey, “Politiques linguistiques, alphabétisation et culture: contextes, contenus et contraintes” Politique linguistique, alphabétisation et culture (Table ronde, Conférence internationale de l éducation, Genève, 18 septembre 1992), UNESCO, 1992, p. 11.
[133] ) على سبيل المثال، يقسم بعض اللغويين اللغة العربية المنطوق بها تقسيما تعسفيا إلى أكثر من ثلاثين من اللغات المتمايزة، دون توضيح درجة الفهم المتبادل، وفي حين أن اللغة العربية يتحدث بها قرابة 220 مليون من الناطقين بها: يذهب بعض الخبراء إلى حد تأكيد أن 30 مليونا فقط من أصل 58 مليونا من الإيطاليين يتحدثون باللغة "الإيطالية" كلغة أولى، فيما يتحدث باقي السكان بلغة أولى أخرى ـ اللومباردية (8.7 ملايين)، والنابولية ـ الكالابرية (7 ملايين)، إلخ.: (voir Ethnologue 1996)! : وتبدو هذه التقديرات إشكالية للغاية.
[134] ) تختلف الأرقام وفقا لطرق الإحصاء: Millenium Family Encyclopedia (Dorling Kidnersley, Londres, 1997 ; Encyclopédie Millenium, Paris, Nathan, 1998): "يعبر شخص من كل شخصين تقريبا عن نفسه بلغة من الثماني لغات المنطوق بها أكثر في العالم": الصينية (1.2 مليار)، الإنجليزية (478 مليون)، الهندية (437 مليون)، الإسبانية (392 مليون)، الروسية (284 مليون)، العربية (225 مليون)، البرتغالية (186 مليون)، الفرنسية (125 مليون). وتقدم: Ethnologue 1996 : بيانات مماثلة بصورة واضحة إذا جمعنا بالنسبة لهذه اللغات الناطقين بها "كلغة أم" و"كلغة ثانية".
[135] ) Voir sur ce thème Language Policies for the World of the 21st Century: Report for UNESCO, World Federation of Modern Language Associations (FIPLV), août 1993.
[136] ) في كل مكان في العالم، نشهد لغات لم يعد يتحدث بها سوى أشخاص من كبار السن: الكريناك، في جنوب شرق البرازيل، على سبيل المثال، لم يعد يتحدث بها سوى بعض الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 70 عاما.
[137] ) من المحتمل أن 52% من اللغات يتحدث بها سكان يتراوح عددهم بين 1000 و10000 شخص؛ وتتحدث بـ 28% من اللغات جماعات يتراوح عددها بين 100 و1000 شخص؛ ويتحدث بـ 10% من اللغات أقل من 100 شخص (تقدير مبني على بيانات L Ethnologue : 6700 لغة). ويتم التحدث بـ 83% من أصل الـ 6700 لغة هذه في بلد واحد، وتعتمد بالتالي على سياسة حكومة واحدة.
[138] ) UNESCO Red Book on Endangered Languages: Europe, et Northeast Asia.: أيْ: (1) لغات شبه منقرضة nearly extinct languages: يتحدث بها عدة عشرات على الأكثر من الناطقين بها، وكلهم من كبار السن؛ وهذه اللغات ليست لها عمليا أية فرصة للبقاء، وسوف تختفي خلال جيل أو جيلين، أيْ خلال 25-50 عاما؛ (2) لغات مهددة بشدة بالانقراض seriously endangered languages، ويتحدث بها عدد أكبر من الناطقين بها، غير أنها محرومة من أطفال يمارسونها؛ (3) لغات مهددة بالانقراض endangered languages، تشمل أطفالا بين الناطقين بها ولكن بأعداد متناقصة؛ فالمقصود لغات ليست مهددة بالاختفاء المباشر غير أن تطورها الديموغرافي مثير للقلق؛ (4) لغات من المحتمل أن تغدو مهددة بالانقراض potentially endangered languages، ويتحدث بها عدد كبير من الأطفال من بين الناطقين بها غير أنها لا تتمتع بأيّ نفوذ أو وضع رسمي؛ ويتوقف مستقبل هذه اللغات على موقف الحكومات وكذلك على موقف الناطقين بها أنفسهم؛ (5) لغات مستقرة not endangered languages (غير مهددة بالانقراض)، ونقلها إلى الأجيال القادمة مؤكد على الأقل بالنسبة للحاضر. وفي غياب عمل للإنقاذ يهدف إلى إضفاء حيوية على بعض اللغات المهددة بالانقراض، من المحتمل أن تجد اللغات التي ستكون ما تزال حية في نهاية القرن الحادي والعشرين مكانها على وجه الحصر في المستويات الراهنة من (3) إلى (5). وبعض هذه اللغات، حتى وإن لم تكن اليوم مهددة بالانقراض ـ بصورة خاصة تلك اللغات التي ليست لغات أدبية، أو يتم تدريسها في المدارس، أو لغات دولة أو إدارة ـ ستجد نفسها بدورها مهددة بالانقراض على مشارف عام 2100.
[139] ) انظر الصورة العامة العددية لانقراضات اللغات في شمال شرق آسيا وفي أوروبا وهي واردة في: le Livre rouge (UNESCO Red Book).., op. cit. :
المستويات
1
2
3
4
5
شمال شرق آسيا
20
8
13
6
47
أوروبا
9
26
38
50
123
إجمالي
29
34
51
56
170
[140] ) Les données et références qui suivent sont tirées, d une part, de l ouvrage collectif intitulé Endangered Languages (Robert H. Robins and Eugenius M. Uhlenbeck, éd., Oxford and New York, Berg., 1991), et, d autre part, de l Atlas des langues en péril dans le monde (Stephen Wurm, éd., cartes de Theo Baumann, UNESCO/Pacific Linguistics, Paris, 1996).
[141] ) Matthias Brenzinger, Bernd Heine et Gabriele Sommer, “Language death in Africa”, in Robins et Uhlenbeck, éd., Endangered Languages, Oxford et New York, Berg., 1991, p. 19-44. : هذه البيانات متماثلة جدا مع تلك التي قدمها: l Atlas des langues en péril [أطلس اللغات المهددة بخطر الانقراض] التي تعتبر قائمتها ـ غير الشاملة ـ حوالي 150 من اللغات الأفريقية مهددة بالانقراض.
[142] ) البلد الأكثر تأثرا هو نيجيريا (17)، وهو أيضا البلد الأفريقي الذي يملك أكبر تنوع لغوي. وتأتي بعدها تنزانيا (6)، وبعدها كينيا (5).
[143] ) Brenzinger et al., op. cit., p. 40-41.
[144] ) Adelaar présente une discussion pays par pays (Willem F. H. Adelaar, “The endangered languages problem: South America”, in Robins et Uhlenbeck, éd., Endangered Languages, op. cit., p. 45-91).
[145] ) في أمريكا الوسطى، بالنسبة للمكسيك، يقدم غارثا كارون ولاسترا: Garza Cuaron, Beatriz, et Yolanda Lastra, “Endangered languages in Mexico”, in Robins et Uhlenbeck, éd., Endangered Languages, op. cit., p. 93-134: رقم 58 لغة محلية منها 13 يتحدث بها أقل من 500 من الناطقين بها. والمقصود على وجه الخصوص اللغات الموجودة بالقرب من الحدود مع الولايات المتحدة.
[146] ) بالنسبة للولايات المتحدة، يصل تقدير Zepeda وHill لعدد اللغات المحلية إلى أقل من 150 لغة: voir Ofelia Zepeda, et Jane H. Hill, “The condition of native languages in the United States”, in Robins et Uhlenbeck, éd., Endangered Languages, op. cit., p. 135-155: وبالنسبة لكندا، يعطي Kinkade رقم 50 لغة سيكون نصفها قد انقرض خلال 50 عاما، ولثلث هذه اللغات فرصة معقولة للبقاء، و4 لغات منها قابلة للاستمرار في الأجل الطويل: M. Dale Kinkade, “The decline of native languages in Canada”, in ibid., p. 157-176.
[147] ) فيما يتعلق بمجموع الولايات المتحدة وكندا يقدم تشيف:Wallace L Chafe, “Estimates regarding the present speakers of North American indian languages”, International Journal of American Linguistics, 1962, 28, p. 162-171: توزيع اللغات حسب عدد الناطقين بكل لغة. كالتالي:
عدد الناطقين
1-10
10-100
100-1000
1000-10000
+10000
عدد اللغات
51
35
75
43
9
[148] ) مثلا، البومو في الشمال، إحدى اللغات الـ 50 المحلية في كاليفورنيا، توقفت عن الانتقال بوفاة آخر ناطق بها في بداية نيسان/إبريل 1995.
[149] ) Selon James A. Matisoff, “Endangered languages of Southeast Asia”, in Robins et Uhlenbeck, op. cit., p. 189-228.
[150] ) Source: Tapi Salminen, UNESCO Red Book on Endangered Languages: Europe.
[151] ) Ibid.
[152] ) Sources respectives: Mahapatra, “An appraisal of indian languages”, in Robins et Uhlenbeck, op. cit., p. 177-188 ; Ethnologue.
[153] ) Mahapatra, op. cit.
[154] ) R. M. W. Dixon, “The endangered languages of Australia, Indonesia and Oceania”, in Robins et Uhlenbeck, op. cit., p. 229-255.
[155] ) Dixon, op. cit., p. 253: انظر الأرقام التي يقدمها ديكسون: Dixon, (p. 230) : باستثناء أستراليا: 260 لغة يتحدث بها من 1 إلى 200 ناطق بها؛ 750 لغة يتحدث بها من 1-1000 ناطق بها؛ 1400 لغة يتحدث بها من 1-10000 ناطق بها؛ 430 لغة يتحدث بها أكثر من 10000 ناطق بها.
[156] ) التسمانية، مثل عدد من اللغات الهندية الأمريكية التي وقعت ضحية للاستعمار، اختفت في أعقاب إبادة جماعية أو أوبئة. وفي أوروبا، صارت الييدية الإيطالية والييدية اليونانية، والييدية القرمية مهددة اليوم بشدة بالانقراض نتيجة للإبادة الجماعية الهتلرية. ولا يشير: Brenzinger et al. (op. cit., p. 21): إلى أي حالة لاختفاءات مماثلة بالنسبة لأفريقيا.
[157] ) انتهى هذا الاحتلال عادة في الماضي إلى تعزيز لغة الشعب الفاتح. وكانت تلك تقريبا سياسة القوى المستعمرة في مستعمراتها في أفريقيا وآسيا وأستراليا وأمريكا. ونجاح مثل هذه السياسة ليس مؤكدا مع ذلك ـ والشاهد هو إخفاق الفاتحين المغول، ثم المنشوريين في فرض لغتهم على سكان الصين.
[158] ) في جزر السوند La Sonde، اختفت تماما، على سبيل المثال، لغة للسومباوا، التامبورية، في أعقاب ثورة بركان في 1815.
[159] ) انظر مثال الهجرة الصينية إلى التيبيت، وإلى الكينغاي؛ والإنجليزية إلى بلاد الغال؛ والفرنسية إلى كاليدونيا الجديدة؛ والروسية إلى آسيا الوسطى وإلى سيبيريا.
[160] ) اللغة الكريولية رطانة صارت لغة أولى للناطقين بها.
[161] ) هذه هي حالة البريتونية، والأيرلندية وعدد كبير من اللغات في الصين: مياو ـ ياو، توجيا، شي، إلخ.؛ وفي الاتحاد السوڤييتي السابق حالة لغات مختلفة مثل الخانتية، والمانسية (وهما لغتان أوغريتان)، أو لغات تونغوسيكية (ناناي)، أو پاليو ـ سيبيرية (إيتلمين).
[162] ) Source: S. G. Thomason, et T. Kaufman, Language Contact, Creolization, and Genetic Linguistics, Berkeley et Los Angeles, University of Califomia Press, 1988 : مثلا، تأثرت التركية والفارسية والسواحيلية تأثرا شديدا بالعربية؛ ولغات جنوب شرق آسيا مثل البيرمانية، والتايية والخميرية والتبيتية، بالسنسكريتية؛ وفي وقت أقدم: الڤييتنامية والبيرمانية والتيبيتية بالصينية.
[163] ) على سبيل المثال، لغات جنوب شرق آسيا، البيرمانية، والتايية، والكمبودية، و الڤييتنامية.
[164] ) William F. Mackey, op. cit.
[165] ) هذه اللغات الناقلة قلما تكون مكتوبة: الدلائل على لغة مشتركة lingua franco مستعملة خلال وقت طويل في موانئ البحر الأبيض المتوسط نادرة رغم الأهمية التي لهذه اللغة الناقلة فيما يتعلق بالتجارة. وإذا انتقلت اللغات الناقلة إلى مرحلة الكتابة فإنها تغير مكانتها وتتحول إلى لغة "معيارية" (هذه حالة رطانة ميلانيزيا، على سبيل المثال)، بل وحتى إلى نموذج (على سبيل المثال صارت البحاسا ـ إندونيسيا اللغة الرسمية لإندونيسيا).
[166] ) يشدد بعض الخبراء على أن تأثير الحملات التبشيرية التي قامت بها المنظمات الإرسالية يظل مبهما: من جهة، تقوم بتسجيل اللغات المحلية بهدف ترجمة الأدب المسيحي (تركت لنا الإرساليات إضفاءات مفيدة للطابع الروماني، وأناجيل، وتعاليم مسيحية، وكذلك معاجم وكتب قواعد نحو لمختلف لغات آسيا، ومنطقة المحيط الهادي، وأفريقيا، وأمريكا، اختفت بعضها اليوم)؛ غير أن هذه النتائج يتم الحصول عليها في كثير من الأحيان لقاء إخفاء المعتقدات الدينية والتقاليد الشفاهية لشعوب بذاتها، وبالتالي فإن تدمير الثقافات المحلية وأدبها الشعبي الذي يوقع الاضطراب في التنظيم الاجتماعي ويشجع على هذا النحو في نهاية المطاف انقراض لغات. وبالتسهيل للمنظمات الإرسالية الوصول إلى السكان المحليين، بل حتى منحهم وصولا حصريا، يمكن أن تعمل بعض الحكومات في الواقع على تفتت لغات وثقافات هؤلاء السكان.
[167] ) تدل "التعددية اللغوية" plurilinguisme هنا على تعايش عدة لغات في حيز جغرافي أو سياسي بعينه؛ أما "التعددية اللغوية" multilinguisme فإنها تشير إلى معرفة فرد واحد للغات متعددة: cf. Claude Hagège, L Enfant aux deux langues, Paris, Odile Jacob, 1996, p. 11..
[168] ) “A un populo/mittitilu a catina/spugghiatillu/attupatici a vucca,/é ancora libiru//Livatici u travagghiu/u passaportu/a tavula unni mancia/u lettu unni dormi/é ancora riccu.//Un populu,/diventa poviru e servu,/quannu ci arrobbanu a lingua/addudata di patri:/é persu pi sempri.” : "استعبدوا / شعبا / انهبوه / كمموه / إنه سيظل حرا. // احرموا هؤلاء الناس من عملهم / اسحبوا جوازات سفرهم / اسرقوا المائدة التي يأكلون عليها، / السرير الذي ينامون عليه، / إنهم سيظلون أغنياء. // إن شعبا / يغدوا فقيرا ومستعبدا / عندما تسرق منه لغته / التي ورثها عن أسلافه: إنه يضيع إلى الأبد": I. Buttitta, Lingua e dialetu.
[169] ) سواء أكان أصل نوعنا حديثا جدا (100000-150000 سنة كما يؤكد العديد من علماء اللغة وعلماء الأنثروبولوجيا من أنصار النظرية "الأفريقية" مثل م. رولين M. Ruhlen و أ. لنغاني A. Langaney) أم أقدم من هذا، كما يصر المدافعون عن نظرية التطور الإقليمي (مثل ڤولپوف Wolpoff)، ليس من غير المعقول أن نتصور أن صقل مناهج علم اللغة المقارن سوف يتيح، في نهاية المطاف، بصورة موثوق بها إلى حد ما، بالرجوع بأبحاثنا إلى ما قبل الآلاف القليلة من الأعوام التي كانت تشكل أفق المنهج المقارن لعلماء اللغات الهندو أوروبية في القرن التاسع عشر، وأن نتصور أن الاستغلال المنهجي للتراث اللغوي للبشرية سوف يلقي الضوء على ما قبل تاريخ نوعنا لفترات تمتد عدة عشرات من آلاف السنين.
[170] ) Texte “à portée générale”, comme l a souligné N. Rouland. Cf. N. Rouland (dir.), Manuel de droit des minorités et des peuples autochtones, Paris, PUF, 1996.
[171] ) Voir Hannah Arendt, Essai sur la Révolution, Paris, Gallimard, 1967.
[172] ) Voir Linguapax, séminaire international sur les politiques linguistiques, UNESCO ETXEA, Bilbao, 1997.
[173] ) F. Grosjean, Lifo with Two Languages: An Introduction to Bilingualism, Cambridge (Mass)., Harvard University Press, 1982.
[174] ) William F. Mackey, op. cit. : ويضيف ماكي Mackey أن "مدنا بدرجة اختلاف ياأوندي، أو نيويورك، أو ريو، أو لوس أنجلوس، أحصت أكثر من مائة لغة أم في مدارسها الابتدائية".
[175] ) C. Hagège, op. cit., p. 10. Voir sur ce point Stephen Wurm, “Quel avenir pour les langues minoritaires et les langues menacées ?”, communication faite lors des Dialogues du XXIe siècle organisés par l Office d analyse et de prévision de l UNESCO, Paris, 16-19 septembre 1998 ; B. Bain, “Bilingualism and cognition: Towards a general theory”, in S.T. Carey, éd., Bilingualism, Biculturalism and Education, Edmonton, University of Alberta Press, 1974, p. 119-128 ; J. Cummins, “Metalinguistic development of children in bilingual education programs: Data from irish and canadian ukrainian-english programs”, in M. Paradis, éd., Aspects of Bilingualism, Columbia (S.C.), Hornbeam Press, 1978, p. 127-138.
[176] ) Dans son Traité des études (1726-1728), cité dans Hagège, L Enfant aux deux langues, p. 99.
[177] ) R. Jakobson, Essais de linguistique générale, Paris, Minuit, 1963.
[178] ) Roberto Carneiro, “Éducation et communautés humaines revivifiées: une vision de l école socialisatrice du siècle prochain”, in L éducation: un trésor est caché dedans, Rapport à l UNESCO de la Commission internationale sur l éducation pour le XXIe siècle, présidée par Jacques Delors, Paris, Odile Jacob-UNESCO, 1996, p. 235-239.
[179] ) تستعمل عبارة "لغة الأم" بمعناها الواسع: يفضل بعض الخبراء مفاهيم مثل "اللغة الأولى"، "اللغة المحلية الأصلية"، "اللغة العائلية"، إلخ.: (voir Hagège, L Enfant aux deux langues, op. cit.). Voir Joseph Poth, L Enseignement d une langue maternelle et d une langue non maternelle, Guide pratique Linguapax n° 4, Centre international de phonétique appliquée, Mons, 1997 ; id., L Aménagement linguistique en contexte éducatif plurilingue, Guide pratique Linguapax n° 1, Centre international de phonétique appliquée, Mons, 1997.
[180] ) يوجد مثال جيد هو مثال برنامج محو الأمية الإثيوبي الذي شمل استخدام خمس عشرة لغة، والذي أفضى إلى تراجع الأمية من 93% في 1974 إلى 24% في 1989: Ayo Bamgbose, “Les options en matière d éducation de base et leurs incidences sur la formulation de politiques linguistiques”, in Politique linguistique, alphabétisation et culture, op. cit. p. 20-27.
[181] ) J. Poth, in R. Renard et D. Peraya, éd.. Langues africaines et langues d enseignement, Paris, CIPA, Mons, 1986.
[182] ) J. Poth, L Enseignement d une langue maternelle..., p. 11.
[183] ) C. Hagège, L Enfant aux deux langues, p. 34. Voir aussi Stephen Wurm, op. cit.
[184] ) جرت محاولات عديدة لخلق لغات وضعية على مدى التاريخ. وقد حققت لغات منها، مثل لغة ڤولاپوك volapük، نجاحا هائلا قبل أن تسقط في زوايا النسيان. ولم تحقق لغة الإسپرانتو espéranto النجاح الذي كان يرجوه لها واضعوها؛ ومع ذلك فإنها تلعب دورا، ويمكن القول إنه توجد الآن جماعة عالمية ناطقة بالإسپرانتو.
[185] ) Ces recommandations s inspirent en partie de celles proposées par Claude Hagège dans L Enfant aux deux langues, chapitres v à IX.
[186] ) Bernard Oudet, “Multilingualism on the Internet”, in Scientific American, mars 1997.
[187] ) حتى في حالة الحروف اللاتينية، التي فرض نفسه بالنسبة لها نموج يسمح باستخدام علامات كتابة أو طباعة (بروتوكول نقل البريد البسيط الممتد Extended Simple Mail Transport الذي يتيح 256 حرف، مقابل 128 كان يسمح بها الأرپانت Arpanet، سلف الإنترنت). فإن الاتصال بواسطة كمبيوتر مزود ببرامج غير متوافقة مع هذا النموذج يجعل الاتصال غير مفهوم بصورة مستعصية: Voir Bernard Oudet, ibid.
[188] ) Voir Joseph Poth, L enseignement d une langue maternelle et d une langue non maternelle: la mise en application d une pédagogie convergente, Guide pratique Linguapax n° 4, Centre international de phonétique appliquée, Mons, 1997. : انظر أيضا ماكي: Mackey, op. cit., p. 12: الذي يوصي بإعداد "قائمة شاملة باللغات الممثلة داخل الحدود السياسية للدولة، وبتوزيعها الجغرافي والاجتماعي، وبوضوحها المتبادل، وبدرجة توحيدها المكتوب والشفاهي، والفارق بين الأنماط المحلية والنموذج المكتوب، ونسبة ونوع ودرجة الثنائية اللغوية للناطقين بكل نمط".
[189] ) Raymond Renard, “Approche Linguapax de la politique linguistique”, in Linguapax, op. cit., p. 143-153.
[190] ) هذا الإعلان هو ثمرة المؤتمر العالمي للحقوق اللغوية (برشلونة، حزيران/يونيه 1996)، المنظم بدعم من اليونسكو.
[191] ) De grands chantiers concernant l établissement d atlas linguistiques sont en cours: citons l Atlas Linguarum Europae, l Atlas linguistique roman (tous deux publiés par l Istituto poligrafico dello Stato, à Rome) et divers Atlas nationaux dans le monde. De nombreuses autres ressources existent, telles que le Fonds des langues en danger (Endangered Language Fund), la Fondation pour les langues en danger (Foundation for Endangered Languages), et plusieurs sites Internet.
[192] ) شدد تاكيشي نارا: Takeshi Nara, professeur à l Université de Seisen et président du comité des langues en danger de la Société linguistique du Japon (Linguistic Society of Japan): على أن أغلب اللغات المهددة بالانقراض تتركز على حافة منطقة المحيط الهادي، وتشمل سيبيريا وآلاسكا، كما شدد على الأهمية الحاسمة للأبحاث في النضال ضد هذا الوضع المتأزم: Daily Yomiuri, 10 octobre 1998.
[193] ) William F. Mackay, op. cit., p. 18.
[194] ) سيكون من الضروري أن يتم نشر هذه النصوص بطريقة بريل Braille حتى يؤخذ في الاعتبار العميان الذين يمثلون ما بين 23 إلى 40 مليون شخص في العالم: source: Ethnologue, 1996.
الفصل 16
[195] ) Estimations et projections d analphabétisme, Division des statistiques, UNESCO, 1999.
[196] ) Le Monde, 20 novembre 1997.
[197] ) Jérôme Bindé, L analphabète, Condorcet et l ordinateur: formation, société d information et transformation sociale. Tendances et problèmes de l éducation dans les pays industrialisés. Communication inédite, UNESCO, 1988.
[198] ) Rapport du forum de réflexion sur l éducation à distance, présenté à la 142e session du Conseil exécutif de l UNESCO, document 142 EX/37, 1993.
[199] ) M. Serres, Atlas, 1995, propos repris par l auteur dans un article du Monde de l éducation, mars 1997.
[200] ) Daniel Cohen, Richesse du monde, pauvreté des nations, Paris, Flammarion, 1997
[201] ) Michael Kremer et Eric Maskin, Segregation by Skill and the Rise of Inequality, 1996, MIT.
[202] ) L Observateur de l OCDE, n° 199, avril-mai 1996.
[203] ) The Futurist, juillet-août 1995.
[204] ) L éducation. Un trésor est caché dedans, Rapport à l UNESCO de la Commission internationale sur l éducation pour le XXIe siècle, présidée par Jacques Delors, Paris, UNESCO Odile Jacob, 1996.
[205] ) J. Visser, Distance Education for the Nine High-Population Countries, UNESCO, 1994.
[206] ) S. Manjulika, V. Venugopal Reddy, Distance Education in India: a Model for Developing Countries, Vikas Publishing, New Delhi, 1996.
[207] ) J. S. Daniel, Mega-Universities and Knowledge Media: Technology Stratégies for Higher Education, Kogan Page, Londres, 1996.
[208] ) Joseph Rosenbloom, “On US campuses, a rush to click on to computerized learning”, International Herald Tribune, 11 février 1997.
[209] ) Voir la Déclaration et le Plan d action de la Conférence mondiale sur l enseignement supérieur, UNESCO, Paris, 5-9 octobre 1998.
[210] ) Eduardo Portella, “La Troisième université”. Conférence mondiale sur l enseignement supérieur, UNESCO, 5 octobre 1998.
[211] ) Déclaration de la 44e session de la Conférence internationale de l éducation (1994).
[212] ) Voir en particulier Howard Gardner, “Encourager la diversité en personnalisant l éducation: les conséquences d une nouvelle approche de l intelligence humaine”, Perspectives, vol. 28, n° 3, septembre 1997.
[213] ) Voir “Redéfinir le curriculum: un enseignement pour le XXIe siècle”, document OCDE, 1994 (notamment la contribution de Roberto Carneiro, “Un programme scolaire pour le XXIe siècle").
[214] ) Voir Goéry Delacôte, Savoir apprendre. Les nouvelles méthodes, Paris, Odile Jacob,1996.
[215] ) Jérôme Bindé, “Complexité et crise de la représentation”, in Représentation et Complexité, 2e réunion de l Agenda du Millenium, Educam/UNESCO/ISSC, Rio de Janeiro, 1997.
[216] ) Barry James, “Online lessons: defining limits — jury is still out on role of the new technology”, International Herald Tribune, 11 février 1997.
[217] ) Jacques Delors, intervention lors de la 45e session de la Conférence internationale de l éducation à Genève (30 septembre-5 octobre 1996).
#خليل_كلفت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟