|
دولة مؤسسات أم دولة أجهزة؟
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1120 - 2005 / 2 / 25 - 09:57
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
سوريا دولة أجهزة وليست دولة مؤسسات. أما اعتبارها دولة مؤسسات فيصدر عن عدم التمييز بين مفهومي الجهاز والمؤسسة من جهة، وعن اختلاط النقاش حول الدولة وهياكلها وسياساتها بالوجوه المختلفة للصراع على السلطة من جهة ثانية. وفي هذا الصراع الإيديولوجي والسياسي الذي يشهده المجتمع السوري في السنوات الأخيرة تشحن المفاهيم، ذات الدلالة التقريبية أصلا، بقيم ومعان تفيد في تعزيز موقع متداوليها بها وإضعاف وعزل خصومهم. إنها، هنا كما في كل مكان، أدوات غير بريئة في معركة اجتماعية وسياسية غير مضمونة النتائج. لكن ما الفرق بين الجهاز والمؤسسة؟ الجهاز قوة أو قدرة على الفعل والتأثير، سلطة أو آلة للسلطة. أما المؤسسة فجهاز يخضع لقواعد مطردة ومستقرة، قوة منضبطة الفعل بنواظم وقوانين، سلطة مقيدة بدستور. ولا تقتصر وظيفة القواعد على مأسسة الجهاز أو ترويضه بل تتعداه ضمان استقلاله كذلك. فاستقلال أية مؤسسة ينبني على اختصاصها بأمورها وانفرادها بتحديد مجال عملها وتميز قواعد ومعايير أدائها عن غيرها. فالاستقلال بـ(قواعد ذاتية) هو ما يؤسس للاستقلال عن (أجهزة وسلطات أخرى او خارجية). بالمقابل إن الاستقلال السلبي عن أية سلطة خارجية هو شرط الاستقلال الإيجابي بسلطة ذاتية. وبدروه يتأسس التمييز بين مفهومي الاستقلال هذين على ازدواج مفهوم القاعدة أو الناظم لفاعلية المؤسسة. ثمة قواعد الاختصاص التي تحدد وظيفة المؤسسة وتشكل دستور سلطتها الذاتية. وثمة قواعد السلطة التي تضبط نطاقا لا تتعداه ممارسة هذه المؤسسة لوظيفتها. ومن الواضح ان الاستقلال بـ، المنتج لسلطة ذاتية، ينهض على قواعد الاختصاص؛ فيما تسند قواعد السلطة الاستقلال عن السلطات الخارجية. الجامعة، كمثال، معنية بالتعليم والبحث العلمي والتأهيل المهني والسلطة فيها للجامعيين. استقلالها بالوظائف النابعة من مفهومها يؤسس سلطتها الذاتية واستقلالها عن سلطات اخرى، وبالخصوص السلطات السياسية والأمنية والحزبية والعقيدية ( وهي سلطات متداخلة في سوريا). والإعلام مختص بنقل وتداول الأخبار والمعلومات، والسلطة فيه للإعلاميين، ومعيار أدائه ذاتي يحدده أهل الصنعة وليس جهات خارجية، أمنية او عقيدية. مقابل ذلك يفضي استتباع المؤسسات، أي منح السلطة في الجامعة والإعلام للموالين والأمنيين والحزبيين مثلا والاحتكام إلى معايير غريبة عن وظيفتيهما، إلى نزع مؤسسيتها وردها إلى أجهزة مفرغة من مضمونها، ما يعني أيضا تخريب السلطة والنظام الذاتي لكل منها. على هذا الأساس نقول: سوريا دولة اجهزة لا دولة مؤسسات. لدينا "مجلس شعب"، لكن ليس تمثيلا اجتماعيا صحيحا؛ "جبهة وطنية تقدمية"، لكن ليس تعددية سياسية ديمقراطية؛ أجهزة أمن، لكن ليس امنا وطنيا واهليا حقيقيا؛ تعليم لكنه جهازي، بلا إعداد معرفي وثقافي ومهني جدي؛ جهاز قضائي، لكن بلا عدالة، جهاز إداري، لكن بلا عقلنة ومضاد للعقلنة. وبالنتيجة الكثير من الأجهزة والقليل من المؤسسات، الكثير من القوة والقليل من القانون، والكثير جدا من العقيدة الوطنية والقليل جدا من المواطنة والحقوق المتساوية. وأساساً الكثير من السلطة والقليل من الدولة، وفقا لتمييز شائع في اوساط المثقفين والناشطين السوريين في بضع السنوات الأخيرة. فالدولة تتكون بمأسسة السلطة، أي بإخضاعها لقواعد ثابتة تحد من المزاجية والعشوائية والشخصنة والارتجال، بكلمة واحدة لدستور؛ ( نقول: إخضاع السلطة لدستور وليس اخضاع الدستور للمشيئة العارية للسلطة). وإذا صح هذا التحليل فإن الدولة الجهازية أو غير المؤسسية هي دولة مطعون أصلا بصفتها كدولة، إنها أقرب إلى سلطة "غلبة وشوكة"، سلطة تنضبط بحدود قوتها فقط. تستجيب مأسسة السلطة وميادين النشاط الاجتماعي المختلفة للحاجة إلى التوقع الرشيد وحسن التخطيط، اي الربط بين الأفعال والنتائج، بين البذل والنيل، بين اليوم والغد، ما يبث الثقة في المجتمع وبين الأفراد والأمن في النفوس والتفاؤل بالمستقبل. خلافا لذلك ترتبط الدولة الجهازية، كما نعرفها في بلادنا، باستحالة التوقع والعجز عن التخطيط واختلال الثقة وزعزعة الأمن وانتشار الفوضى. فالدولة الجهازية لا تنزع أمن رعاياها بالخوف وحده، بل كذلك بتعطيل قدرتهم على التوقع وعقل الأمور. إضافة إلى ضبط السلطة ومنعها من السقوط الحر على رؤوس الناس، وإلى الوظيفة التوقعية، تشكل مأسسة الأجهزة ضمانا للاستقرار والتراكم المادي والسياسي والمعنوي. فالجامعة المستقلة بأمرها، التي لا تخضع لغير قانونها الخاص، يمكن أن تطور وظائفها العلمية والبحثية والتعليمية وتراكم تقليدا تنفرد به وتبلور شخصية ذاتية. وإذا كانت جامعاتنا معدومة الشخصية مفتقرة لتقاليد خاصة فلأنها غير مستقلة لا بقواعد الاختصاص ولا عن السلطة غير الجامعية. والواقع أن النمط الجهازي لممارسة السلطة السياسية مضاد لمبدأ الاختصاص ذاته. لم يكن صدام حسين روائيا فقط وإنما كان يحدد لكتاب العراق كيف تكتب الروايات. وكان مخططا عسكريا دون أي تأهيل خاص، ما افضى إلى نتائج كارثية في حربي الخليج الأولى والثانية. الاختصاص خطر لأنه مصدر سلطة اجتماعية وحصانة ذاتية لا يمكن تقليصها. إن وجود روائيين ومخططين عسكريين "رؤساء" في قطاعاتهم، مثلما هو صدام حسين رئيس للسلطة السياسية العراقية، امر يقلص من حرية الدكتاتور المطلقة. أما معمر القذافي فهو منظر عالمي وروائي وكاتب أغاني ("لا لأنك جميلة" التي يغنيها المطرب اللبناني ملحم بركات من تأليفه). وبموازاة قمع النتائج الاجتماعية للاختصاص تكف السلطة ذاتها أن تكون اختصاصا او نشاطا نوعيا لتغدو، في آن معا، اختصاص من لا اختصاص له و"أم" كل اختصاص، منبع كل علم وحكمة وكفاءة وثروة وخلود. لنتذكر انه لا انتخابات عامة وحرة هنا تعوض عن فقد الاختصاص السياسي. تتمتمع الدولة الجهازية كذلك بنوع مميز من الاستقرار: استقرار بلا تراكم. إنه استقرار جهازي لا مؤسسي، استقرار السلطة لا الدولة ولا المجتمع. ونمط الاستقرار هذا يفسر أن بلادنا في العصر الجهازي لم تحقق تقدما يذكر على الصعد الاقتصادية والحضارية، فوق خسراننا الحريات وفقداننا الأمن. وللتوضيح فإن العصر الجهازي السوري هو ذاته العصر العقيدي الذي يمتد منذ عام 1963. فالدول الجهازية تستغني عن القوانين والدساتير والتقاليد بالعقائد الحزبية المتفوقة. والفرق المهم بين العقيدة والقاعدة أن الأولى تديم تخارج السلطة والفكرة لأنها خارجية على جهاز السلطة، فيما تحول القواعد والدساتير شخصية السلطة ذاتها وتنزع خارجيتها. لذلك لا دستور للدول العقيدية. المشكلة الأخيرة في الدولة الجهازية تتمثل في استحالة إصلاح اي قطاع عمومي، إنتاجي او أمني أو إداري أو تشريعي..، دون مخاطر على النظام السياسي كله. فالأجهزة متداخلة ومتشابكة، والحزب متماه مع السلطة، والسلطة مع الدولة، والدولة المجتمع الأهلي، إلى درجة أن إصلاح الجزء غير ممكن دون إصلاح الكل. هذا يفسر ثقل الحركة المميز للنظام، والحصيلة المحدودة للإصلاح السوري خلال بضع السنوات الأخيرة، وبالخصوص بقاء طريق الماضي مفتوحا أكثر من طريق المستقبل. يلتقى في مفاقمة جهازية الدولة في سوريا ودول عربية كثيرة عاملان. أولهما نموذج التحديث العربي وهو تحديث جهازي، وفوقي، وفئوي؛ وثانيهما تكوين ومصالح نخبة السلطة المضادة لأية قواعد مستقرة أو دستور. لا مجال للتوسع في هذه القضية. الغرض أن نشير إلى أن دمقرطة التحديث، أي توسيع قاعدة المشاركة في القرار السياسي والرقابة الاجتماعية على القوى والأجهزة التي تضعها الحداثة بتصرف السلطات والنخب الحاكمة، هي المدخل إلى مأسسة السلطة وبناء الدولة الحديثة في بلادنا. ولذلك، اي لأن مأسسة السلطة عملية مرتبطة بدمقرطة التحديث، فإنها ليست إجراء إداريا أو تقنيا او قانونيا أو أيديولوجيا، إنها صراع سياسي وثمرة صراع سياسي مرير. وهي في كل مكان حصيلة جهد المجتمع والطبقات والأحزاب السياسية للجم وترويض وحش السلطة الفتاك.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في ذكرى انتفاضة الجولان: الشجاعة وحدها لا تكفي!
-
موجتان لنزع العقيدية في الثقافة السياسية السورية
-
نظام اللاسياسة: العنف الطليق والعقيدة المطلقة
-
ضد الحرية وليس ضد -الحرة-
-
عشر أطروحات حول السلطة والندرة
-
موقع الثقافة في مشروع الإسلاميين السوريين
-
من يهين سوريا؟
-
اصول تناقضات السياسة الخارجية السورية
-
تعاقد سوري لتقاسم تبعات سلام مفروض
-
لبنان المستقبل لا يبنيه لبنانيو الماضي!
-
السوريون والسياسة الأميركية: هل من جديد؟
-
محددات السياسة الأميركية في الشرق الأوسط
-
نقد ثقافة الضحية
-
بين النقد والاتهام
-
نقد ذاتي
-
معاناة -السيد ياسين- ومغامراته في عالم -الصحيح الواقعي-
-
مفهوم لخط الفقر السياسي
-
عن الحرب العادلة والإرهاب والدولة
-
سوريا ممكنة دون معتقلين سياسيين!
-
قانون الأحزاب وتحرير الحياة السياسية في سوريا
المزيد.....
-
ويتكوف: وفد أمريكي سيتوجه إلى السعودية لإجراء محادثات مع وفد
...
-
إيطاليا.. الجليد والنار يلتقيان في مشهد نادر لثوران بركان إت
...
-
كيف يبدو مستقبل اتفاق وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل؟
-
روبيو ونتنياهو يحملان إيران عدم الاستقرار في المنطقة، ويؤكدا
...
-
فيديو: مناوشات مع مؤيدين لإسرائيل أثناء مظاهرة مؤيدة لفلسطين
...
-
رئيس دولة الإمارات يستقبل النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء ال
...
-
سوريا.. هجوم على دورية تابعة لوزارة الداخلية في اللاذقية يسف
...
-
سيناتور أمريكي يوجه اتهاما خطيرا لـ USAID بتمويل -داعش- والق
...
-
السعودية.. القبض على 3 وافدات لممارستهن الدعارة بأحد فنادق ا
...
-
الخارجية الروسية تعلق على كلمات كالاس حول ضحايا النزاع الأوك
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|