|
الله والإلحاد
إبراهيم جركس
الحوار المتمدن-العدد: 3844 - 2012 / 9 / 8 - 18:49
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الله والإلحاد ((إنني فيما يخص الآلهة لا أستطيع أن أجزم لا بوجودها ولا بعدمه مادام أن العديد من الأشياء تعجزنا على معرفة ذلك: أولها غموض المسألة ثانيها قصر الحياة الإنسانية)) [بروتاغوراس]
((حين أرى هذا القدر من البؤس حولي أتساءل غالباً إن كان يمكن أن يوجد إله يسمح بكلّ هذا.)) [ميلان مونديرا]
لو كنتُ كالله لي يدٌ في حركة الأفلاك لمـحــوت مـــــــــا للفلك من آثارِ وخــلقــتُ أفـلاكـاً تـدور مكانــــــــها وتســـير حســــب مشيئة الأحرارِ [عمر الخيام]
عبء البرهان: انطلاقاً من مقولة أنّ ((الحجّة على من ادّعى)) نقول أنّ المتديّنون يؤمنون بالله، أمّا الملحدون فلا يؤمنون به. إلا أنّ العديد من المؤمنين يصرّون بأنّ المسؤولية تقع على عاتق الملحدين بتقديم حجج وبراهين تبرّر عدم إيمانهم بوجوده. لكن هل يمكننا اعتبار مطلب المتديّنين هذا بأنّه مطلب عقلاني؟ هل يقع عبء البرهان على الملحد لتبرير عدم إيمانه بوجود الله؟ أمّ أنّ البرهان يقع على عاتق المؤمن المتديّن الذي يؤمن بوجوده ومن المفروض أنّه لديه أدلّة تثبت وجوده؟ نلاحظ أنّ المؤمن والملحد متفقان حول العديد من النقاط. على سبيل المثال، إنّهما يشتركان في اعتقادهما بوجود عالم فيزيائي مادي مكوّن أساساً وبانتظام من بنى ذرية، ويمكن لهما أن يحملا نفس المعتقدات والمبادئ الأخلاقية. والحال، أنّ المؤمن يرى أنّ هناك معتقد ضروري آخر ينبغي حمله وذلك من أجل تفسير سبب وجود وخصائص تلك الأشياء التي يعتقد وجودها هو والملحد. أول نقطة يمكننا ملاحظتها هي أنّ المؤمن المتديّن قد اعتزم على تفسير مجموعة من الحقائق. والآن إذا قدّم أحدهم تفسيراً لأمر ما، فيجب أن يكون مستعداً لتقديم أسباب وبراهين تدفعنا لقبول ذلك التفسير. تصوّر ماذا يمن أن يحدث إذا لم يكن الأمر يتطلّب أيّة تبريرات وتوضيحات لكافة التفسيرات المقترحة. يمكننا "تفسير" أي شيء بأي شكل يتناسب مع أهوائنا. يمكننا أن نؤكّد مثلاً أنّ الأرض تدور لأنّ هناك أشباح قوية تدفعها. ويمكننا أن الزعم بأنّ الريح تضرب لأنّ أرواح الهواء تسرّي عن نفسها، وأنّ الزلازل تحدث لأنّ الأرض متوضّعة على قرني ثور، وكلّما هزّ الثور رأسه اهتزّت الأرض من تحتنا. يمكننا حتى أن نقدّم تفسيرات غير متوافقة لنفس الحقائق حتى يصبح من الصعب جداً التقرير بينها. الملحد هو شخص لا يزعم بالضرورة أنّه يعرف ما الذي يجعل الأرض تدور لكنّه لا يؤمن البتّة بوجود الأرواح القوية التي تدفعها. بالنسبة لمن يؤمن بوجود هذه الأرواح القوية من المهم جداً أن يقدّم براهين وأسباب تبرّر اعتقاده بهذه الأرواح. وبنفس الأمر، يتوجّب على المؤمن تقديم أسباب تبرّر إيمانه بأنّ الله هو التفسير الوحيد والحقيقي للكون والعالم والأخلاق. الملحد، من ناحية أخرى، لا يقدّم تفسيرات بالضرورة، لكنه وببساطة شديدة لا يقبل بتفسيرات المؤمن. لذلك، الملحد ليس بحاجة إلا أن يبيّن بأنّ المؤمن قد فشل في تبرير موقفه. نقطة أخرى يمكننا ملاحظتها وهي أنّ الملحد يعتقد بوجود الكون ولا يؤمن بأي شيء أكثر أساساً وتطرّفاً. المؤمن يؤمن بوجود الكون وإضافة إلى ذلك، فهو يؤمن بوجود الله. من هنا، المؤمن يؤمن بشيء آخر إضافي عمّا يؤمن به الملحد. فإذا كان لزاماً تبرير كافة المعتقدات، عندئذٍ كلّما آمن الشخص أكثر، كان عليه أن يقدّم تبريرات أكثر حول إيمانه. يتّضح أنّ على المؤمن تبرير معتقدات إضافية للملحد. من ناحية أخرى، إذا لم تكن المعتقدات تستلزم أيّة تبريرات، عندئذٍ نكون قد سلّمنا أنفسنا للفوضى مع اعترافنا باستحالة إقامة أي حوار عقلاني. لننظر إلى المثال التالي الذي يبيّن لنا سبب ضرورة وأهمية تبرير هذه المعتقدات: تصوّر أنّ هناك قضية أزعم فيها أنّ هناك عقد مكتوب مع طرف آخر، في حين أنّ الطرف الآخر ينكر وجود ذلك العقد. وعندما يطلب مني تقديم ذلك إثبات وجود ذلك العقد، فأتراجع القهقرى وأزعم أنّ المسؤولية تقع على عاتق خصمي في إثبات عدم وجود مثل ذلك العقد. من الواضح أنّ هكذا قضايا لا تسير على هذا المنوال. فالشخص الذي يؤمن بوجود العقد يمتلك اعتقاد آخر زائداً على الشخص الذي ينكر وجوده. والمحكم تطالب بتبريرات على مثل هذه الادعاءات، وإلا فالقضية غير قابلة للنقاش هنا. كتوضيح أبعد، افترض أني أتهمت أحدهم بأنّه حطّم نافذة سيارتي. هذا الشخص ينكر التهمة الموجّهة إليه ويطالب بمعرفة طبيعة الدليل الذي يدفعني للإشارة إليه على أنّه المذنب. ويكون ردّي بالإجابة عليه بأنّ تلك مسؤوليته الإتيان بدليل يثبت من خلاله أنّه لم يحطّم النافذة. هنا أنا أعتقد بأمر آخر زائد عمّا يعتقده ذلك الشخص: وهو أنّه هو الذي كسر نافذة سيارتي. عملياً ينبغي عليّ أنا تبرير اعتقادي أولاً. وحتى أقوم بذلك، لا حاجة للمتهم أن يتعب نفسه لإثبات عدم صحّة زعمي. وعندما يقوم في النهاية بذلك، ما عليه سوى أن يعثر على ثغرات في الدليل الذي قدّمته ضدّه. تصوّر أني زعمت أنّ هناك ضفدع عملاق يأكل الناس عند ساقية قريتنا، وصديقي أنكر ذلك. سيتحتّم عليّ أنا إثبات أنّ هذا الشيء موجود، ولا تقع المسؤولية على عاتق صديقي لنفي ذلك. تصوّر أني عالم فيزياء وزعمت بأني اكتشفت شكلاً جديداً من أشكال المادة. زملائي العلماء ينكرون اكتشافي. عندئذٍ عليّ أنا أن أقدّم دليلاً يدعم اكتشافي. وليس عليهم أن يبحثوا عن دليل يثبت أني لم أكتشف شيئاً. لنفترض أني رجل دين، وزعمت أنّ الله قد تحدث معي وأمرني أن أبلّغ تعليماته للبشر وأن آمرهم باسمه للقتال في سبيله إلى درجة الاستماتة، وشخص آخر ينكر حديثي المفترض مع الله ولا يؤمن بذلك إطلاقاً، عندئذٍ ينبغي عليّ أنا أن آتي بأدلة وبراهين تثبت صحّة زعمي، ليس على المنكر أو غير المؤمن إثبات بأني لم أتحدث مع الله. في كل حالة من هذه الحالات، زعمت بأني أمتلك معتقدات إضافية زائدة أنكرها الآخرون. وقد أبديت اعتقادي بأمر إضافي واحد زائد على اعتقاداتهم. كان عليّ تبرير هذا المعتقد الإضافي. أمّا الآخرون فليسوا بحاجة لتبرير اعتراضهم أو إنكارهم, والسبب وراء هذا الإجراء واضح جداً وبسيط: فالمطالبة بالنقض تفضي إلى مواقف يائسة وحلقات مفرغة. إذا كنت قد زعمت أنّ العقد موجود وطالبت المتشكّك أن يثبت عدم صحّة زعمي، فبإمكانه الزعم أنّ هناك دليل يثبت عدم صحّة زعمي لكنّ الأمر عائد إليّ في إثبات عدم صحّة دليله. وأنا بدوري قد أزعم أنّ هناك دليلاً يفنّد دليله لكنّ المسؤولية تقع على عاتقه بأن يفنّد دليلي. وهكذا سندخل في حلقة مفرغة دون أن نصل إلى نهاية. ما لم يوضع حدّ للمطالبة بنفي النقيض، يصبح من المستحيل إثبات أيّة مزاعم. وسيهدر الكثير من الوقت في محاولات عبثية وعقيمة لتقويض الدليل وتكذيبه فقط لإيجاد أدلّة كثيرة مكوّمة مكان الدليل السابق. كيف تعمل طريقة التفكير هذه عندما تطبّق على الخلاف الناشئ بين المؤمنين والملحدين؟ يزعم المؤمن أنّه يجب على الملحد نفي وجود الله. قد يجيب الملحد أنّ هناك دليل قاطع يثبت عدم وجود الله وعندها يجب على المؤمن نفي وجود مثل هذا الدليل. والمطالبة بالنفي تؤدّي حتماً إلى مهزلة غير حاسمة وحلقة مفرغة من العبث واللاجدوى. من ناحية أخرى، إنّ المطالبة بدليل مثبت، قد تكون له نتائج حاسمة. لذلك، الإجراء الوحيد المعقول هو المطالبة بإثبات، وليس بنفي إثبات. إذا كانت هناك معتقدات إضافية، عندئذٍ على المرء أن يتجهّز لتبريرها في ضوء التصريحات عكس ذلك. من ناحية أخرى، إذا لم يكن المرء يمتلك معتقدات إضافية أخرى، عندئذٍ فإنّ موقفه يجب أن يسود وينتصر بشرط إذا كان خصمه غير قادرٍ على تقديم أسباب جيدة له للتخلي عنه. إنّ الموقف الإلحادي ينبغي أن يسود إذا كان المؤمن غير قادر على دعم معتقداته في وجود الله. يمكن الدفاع عن الإلحاد بشكل أكثر إيجابية عن طريق الأسلوب التالي: يمكننا أنّ نزعم بشكل ملائم أنّنا نعرف أنّ الكثير من الأشياء ليست كما هي في الحقيقة إذا لم يتمّ تقديم أسباب مقنعة لدعم الزعم القائل أنها كذلك. على سبيل المثال، أنا قادر على الزعم بأني أعرف أنّ صديقي عبد الله ليس في منزله الآن لأنه ليس هناك دليل للاعتقاد بأنه في منزله. فالمنزل لا يصدر منه أي ضجيج أو صوت حركة، كما أنّ الأضواء مطفأة في الوقت الذي ون فيه مستيقظاً، فراشه فارغ، وهلم جرا. جميع هذه العلامات تدعم اعتقادي ولا تكذّبه. قد أكتشف بأني كنت مخطئاً، لكن احتمال الوقوع في الخطأ موجود عملياً داخل أي زعم معرفي يقدّمه أي إنسان. التناظر بين الاعتقاد بأنّ عبد الله في منزله والاعتقاد بأنّ الله موجود هو تناظر مثالي. فإذا كان عبد الله في المنزل، فسيكون هناك دليل يشير إلى هذه الحالة. من جهةٍ أخرى، إذا لم يكن هناك دليل بأنه في المنزل، فيمكننا الادعاء بأنه ليس في المنزل. بنفس الشكل، إذا كان الله موجوداً، فسيكون هناك دليل على ذلك، إذ ستظهر إشارات تشير إلى هذه النتيجة. بطبيعة الحال، إذا لم يكن هناك دليل على وجوده، عندئذٍ يمكننا القول أن الله غير موجود. قد يقول البعض ببساطة أنّ الله موجود لكنه اختار بألا يترك وراءه دليل على وجوده. لكنّ هذا التصريح سيكون أشبه بالقول أنّ عبد الله في المنزل لكن ليس هناك أي دليل أو إشارة على وجوده. وكلا الزعمين يبدوان غير معقولين. فعبد الله عادةً مرتبط بمنزله بطرق شتى وإذا لم يكن هناك دليل على هذا الارتباط ، عندها يمكننا الافتراض أنّه غير موجود في المنزل. ويفترض أنّ الله حتى أكثر ارتباطاً بالعالم، أكثر من ارتباط عبد الله بمنزله، ففي النهاية, إنّ الله هو الذي خلق العالم وصمّمه كما هو. لذلك، فإنّ الدليل على ارتباط الله بالعالم ليس أكثر إلحاحاً من الدليل على ارتباط عبد الله بمنزله، عندها ليس هناك اختلاف في تبريرنا للقول بأنّ الله غير موجود وتبريرنا للقول أنّ عبد الله ليس في منزله. إذا كنت محقاً، فإنّ القول بعدم وجود إله يمكن تبريره على أساس أنه ليس هناك أي سبب يدفعنا للإيمان بأنه موجود. الذي قيل حتى الآن ليس أكثر مفاجئةً من قولي بأني أعرف أنّ الجن والعفاريت غير موجودة لأنه وببساطة شديدة ليس هناك أي سبب مقنع للإيمان بها.
#إبراهيم_جركس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اختلافات التجربة الإلحادية: بول كليتيور
-
الإله: الفرضية الخاطئة
-
فيروس الإله [4]
-
فيروس الإله [3]
-
فيروس الإله [2]
-
فيروس الإله: مقدمة
-
فيروس الإله [1]
-
القرآن في الإسلام (بحث في معصومية القرآن وموثوقيته)
-
لماذا يتحوّل الدين إلى عنف؟ 3 ترجمة: إبراهيم جركس
-
لماذا يتحوّل الدين إلى عنف؟ 2
-
لماذا يتحوّل الدين إلى عنف؟ 12 ترجمة: إبراهيم جركس
-
المأزق الأخلاقي للحروب
-
القرآن المنحول [1]
-
التاريخ النصي للقرآن (أرثر جيفري)
-
الله: فيروس عقلي مميت [2]
-
الله: فيروس عقلي مميت [1]
-
قفشات -أمّ المؤمنين-: هنيئاً لكم
-
الفكر الحر في العالم الإسلامي ونظرية صراع الحضارات
-
قصة جين الحرية: أميل إيماني
-
الدين السياسي: بديل عن الدين، أم أنه دين جديد؟
المزيد.....
-
مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال الإسرائي
...
-
أجراس كاتدرائية نوتردام بباريس ستقرع من جديد بحضور نحو 60 زع
...
-
الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال الإسرائيلي اقتحم المسجد الأقصى
...
-
الاحتلال اقتحم الأقصى 20 مرة ومنع رفع الأذان في -الإبراهيمي-
...
-
استطلاع رأي إسرائيلي: 32% من الشباب اليهود في الخارج متعاطفو
...
-
في أولى رحلاته الدولية.. ترامب في باريس السبت للمشاركة في حف
...
-
ترامب يعلن حضوره حفل افتتاح كاتدرائية نوتردام -الرائعة والتا
...
-
فرح اولادك مع طيور الجنة.. استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
استطلاع: ثلث شباب اليهود بالخارج يتعاطفون مع حماس
-
ضبط تردد قناة طيور الجنة بيبي على النايل سات لمتابعة الأغاني
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|