أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالله اوجلان - الدفاع عن الشعب الفصل الرابع الظاهرة الكردية ، القضية الكردية في فوضى الشرق الاوسط -2 الصراع والحرب والارهاب على كردستان -3





الدفاع عن الشعب الفصل الرابع الظاهرة الكردية ، القضية الكردية في فوضى الشرق الاوسط -2 الصراع والحرب والارهاب على كردستان -3


عبدالله اوجلان

الحوار المتمدن-العدد: 1119 - 2005 / 2 / 24 - 10:16
المحور: القضية الكردية
    


أما السياسة الممارسة في الظاهرة الكردية خلال القرن العشرين، فكانت بنحو لا مثيل له – حقاً – في أي بقعة من العالم. حيث تتمثل في "الحبس في القفص، والوصول بها إلى حالة الحيوان المدجَّن". إذ ما من إشارة تدل على اعتبار الكرد من البشر، كظاهرة اجتماعية. حتى السياسات الاستعمارية المطبقة على أفريقيا وُجِدَت أنها كثيرة على الكرد. بل وحتى الأشكال الإثنية والقومية والاستعمارية القمعية المعاصرة للسياسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية، وحتى العسكرية؛ وُجِدَت أنها – هي أيضاً – كثيرة على الكرد، فلم تُطَبَّق. في الحقيقة، يتمثل أحد أخطر الأشكال الفاشية في مفهوم الإنكار والدحض الذي يفيد بالتالي: "سيتم قبولك بقدر ما تكون منتمياً للقومية والمذهب الحاكمَين، وبقدر إنكاركَ ذاتك". (وما قول رئيس الوزراء الجديد رجب طيب أردوغان: "إذا لم تَعتَبِر نفسَكَ كردياً، فلن تكون هناك مشكلة كردية"، في حقيقته سوى قول استظهاري محفوظ عن ظهر قلب، من صُلْب حقيقة الدولة الخفية). إن شكل الإرهاب المطبَّق على اليهود علني وحاسم. في حين أن شكل الإنكار خفي ومبهم ومظلم. إذاً، سيكون في محله تسمية ما يطبَّق على الكرد بـ"الإرهاب الأسود".
يتم اقتفاء أثر سياسة خطيرة ومتناقضة في كردستان والمنطقة التي انفتحت جيداً للتأثيرات الأمريكية في نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين. إذ من المستحيل التفكير في الفيدرالية الكردية من جانب، والتصفية المطبَّقة على PKK وعلى الكرد القاطنين في أكبر أجزاء كردستان في تركيا (الحرب الدائرة ونتائجها) من جانب آخر؛ من دون ربطها بالتأكيد بأمريكا والاتحاد الأوروبي. حيث يمكن التلاعب بكردستان وبين جوارها بشكل أنكى مما هو عليه في اللعبة الفلسطينية – الإسرائيلية. بالمقدور إضافة صفة "الرعب المدهش" لسياسة الصراع والحرب والإرهاب المسيَّرة. إذ لا يمكن العثور في أي مرحلة من مراحل التاريخ، ولا في أي زاوية من العالم، على مثيل لما هو جارٍ من سياسات تبلغ مستوى الترعيب والتفزيع كهذه؛ ومن ثم ربط كل شيء بتلك السياسات، وتحديدها بالاعتماد على أكثر أنواع العنف تخطيطاً ومكراً وخبثاً.
عليَّ التنويه مباشرة إلى أن العمل على إيضاح هذه السياسات الحربية بإرجاعها إلى الاستعمار القومي التركي والعربي والفارسي، وإلى الإنكار والإبادة (مثلما كنا نفعل في الماضي)؛ سيقودنا إلى نتائج بالغة النقصان والمغالطة والأخطاء. فالظاهرة منوطة بأنظمة تاريخية واجتماعية أكثر شمولية بكثير. وبنفس الشاكلة، فالقول بأن الدول التركية والعربية والفارسية هي المسؤولة عن الممارسات المطبَّقة في كردستان؛ سيكون تجريدياً وإسقاطياً بعيداً عن إيضاح الكيان الحقيقي للظاهرة. إذ لا يوجد في الميدان مصالح ودول قومية تركية أو عربية أو فارسية كما يُظَن. الدولة القومية بذاتها مجرد صفة، وتعريف أيديولوجي؛ وليست الحقيقة بعينها. حيث لا وجود لدولة القوميات. بل وحتى بالمعنى الضيق أيضاً، لا وجود لدولة الطبقات. إن الدولة تقاليد عمَّرت طيلة خمس آلاف سنة على الأقل. تدحرجت وتدحرجت كالكرة الثلجية والكرة النارية حتى وصلت يومنا هذا، فانقسمت إلى عدة أجزاء. استخدمتها بعض الإثنيات بنسبة مرتفعة، وبعضها الآخر بنسبة منخفضة. والمستخدِمة إياها لا تمثل جميع الإثنيات، بل هي بضعة مجموعات هرمية وطبقية.
لربما عانت القومية والإثنية التركية والعربية والفارسية من القمع والاستعمار على يد ظاهرة الدولة، بقدر ما عاناه الكرد منها. فالقول بأن ما عاناه التركمان، وما عاشه البدو، وما مثَّله الخَدَم الرقيق من حقائق، هو أقل مما لدى الكرد؛ إنما يكون مغالطة بحق. بيد أن التساؤل: "أيُّ كردي نقصد؟" بالغ الأهمية فعلاً. فالمسؤول الأكبر عن هذه السياسات الحربية هو الإقطاعية الكردية. إنها الزمرة الظاهرة بمظهر البيك والمير والحاج والإمام. فلولا أضرارهم الجسيمة التي ألحقوها في كل زمان بالشعب الكردي الفقير الكادح، دون أن تكون لهم مآرب أو أساليب تذكر، ولولا انتفاضاتهم الاستفزازية، ومن ثم استسلامهم السافل؛ لما تمكنت أي قومية أو دولة تركية أو عربية أو فارسية من القيام بممارساتها القائمة. لذا، إذا كان ثمة بحث عن العنصر الاستراتيجي السلبي بالنسبة للكرد، فمن الضروري البحث عنه في صفوف خونته بالذات، في كل زمان ومكان، وبكل الأساليب، ولكافة الأهداف. ذلك أنهم دفعوا بالشعب الكردي إلى التواجه مع السلطة، بألاعيبهم التي قد تُخَلِّف المأساة الفلسلطينية – الإسرائيلية وراءها في فظاعتها، وبمنافعهم القذرة والمقرفة؛ ليتملصوا بعد ذلك ويتركوا شعبهم لوحده في وسط الحلبة. مقابل خياناتهم تلك، كانوا يصونون أملاكهم وثرواتهم. بل ويبنون أماكنهم في المتروبولات والمصايف، ليستمروا في ألاعيبهم اللعينة لآلاف السنين، دون أن يعرفوا السكون أو الهوادة.
لقد سعيتُ لإيضاح تاريخ هذه السياسات المعمِّرة منذ خمسة آلاف عاماً بأقل تقدير (منذ أيام كلكامش وأنكيدو)، وإنْ كانت متقمصة الرداء الملحمي. إنني على قناعة تامة بأن الدول والقوميات التركية والعربية والفارسية 99% ليس لها منافع حقيقية في هذه السياسات المسيَّرة في أحلاف السلطة الدارجة والفاعلة. بل، دعك من أن تكون لها منفعة في ذلك، إنها تتكبد أكبر الأضرار، بسبب ما يقود ذلك إلى التخلف والعداوة، وكَنِّ الضغينة والحقد الذي لا جدوى منه، والعنف المتبادل، وهدر الطاقات والموارد هباء؛ ليؤدي في النتيجة إلى حياة لا معنى لها، بما لا يستحقه أحد من الأطراف المعنية.
سيكون علم الاجتماع بذاته الحل الأمثل والأهم الذي سنلجأ إليه في سبيل كشف النقاب عن هذه الدوامة العقيمة الشنيعة، وعن تلك الألاعيب السحرية المكتنفة بالألغاز والأسرار. لكنني هنا أتكلم عن علم الاجتماع الحق، عن علم الاجتماع المحلِّل والمفكِّك للسلطة، وما ينم عنها من حروب وبنى اجتماعية. وإلا، فأنا لا أتحدث عن ذاك "العلم التشريحي"، الذي لا يرى الكل المتكامل، ولا يشاهد الروح والحياة، ولا يأبه بالحب والود والتقدير؛ ولا عن ذاك "العلم القَدَري" للرهبان السومريين، الذي يعتمد على حركات النجوم.
تتجسد أهم مساهماتي في هذه المرافعة، في إسدال الستار عن هذا العلم، وسعيي لإحراز تطور معين في تقربه من الحقيقة. هل القوموية علم؟ هل النعرة الدينية علم؟ هل الاشتراكياتية علم؟ هل الليبرالية علم؟ هل الاتجاهات المحافظة التعصبية علم؟ لربما كانت جميعها وثنية أكثر تخلفاً من تلك الوثنية السائدة في العصور الوسطى، والتي عفا عليها الزمان. ذلك أن أضرار تلك الوثنيات الماضية كانت محدودة للغاية. لكن، هل ثمة حدود للأضرار التي تتسبب بها وثنية المصطلحات الفسيحة التي لا نهاية لها؟ حتى أولئك المؤمنون الملتزمون بكتاب ديني مقدس معين (وقد سعيتُ لتفسير تلك الكتب من بعض نواحيها السوسيولوجية)، كم يكون بمقدورهم الامتثال لتحديدات وثنية المصطلحات والتشريحات، وكم يأملون بالنفع منها؛ رغم التزامهم وارتباطهم الوثيق بالقيم التي يعتقدون بأنهم مُلِمُّون بها؟ سأعود أدراجي إلى الموضوع الأصلي ثانية، مع تنويهي إلى أنني سأطور تقرباً منتقداً للذات بشأن هذه المواضيع في الأقسام اللاحقة.
طالما أُصِرُّ على التنويه إلى الأضرار الجسيمة التي ستلحق بكل دولة أو مجموعة اجتماعية أو سياسية معنية بالقضية الكردية أو منهمكة فيها؛ ما لم تقم بالتحليل الصحيح لحقيقة السلطة والحرب التي تعتمد عليها في واقع كردستان. لربما سيكون هذا أفضل أساليب التقرب المفعمة بالمعاني، في سبيل إعادة الأطراف المعنية النظر في ذاتها مرة ثانية، وتخليها عن ارتكاب الأخطاء والنواقص الكبرى، وعن اقتراف الطيش الجنوني. كذلك في سبيل وصولها إلى صياغة العديد العديد من الحلول الإنسانية الممكنة التطبيق. أظن أن حروب القرن العشرين أكدت صحة الزعم بأن كل أنواع التقربات القوموية والدينية واليسارية (سواء كانت باسم الساحق أو المسحوق، باسم المستعمِر أو المستعمَر) المعتمدة على التعصب؛ لا يمكن أن تشكل الحلول المرتقبة. لقد أكدَت صحة ذلك بعد أن دفعت فاتورته غالياً، لِما تكبدته البشرية من آلام أليمة وخسائر فادحة.
ومثلما بالإمكان الفهم من مخططنا التاريخي المطروح بخطوطه العريضة؛ تتميز الصراعات والشجارات والحروب وممارسات الإرهاب المطبَّقة في كردستان بكونها تشكل حلفاً سلطوياً خاصاً بها. حيث يعمل هذا الحلف السلطوي المعتمد على القوة العسكرية والحروب – التي تكثِّف من شيوعها وانتشارها في كل النظم الأساسية وتحقق تواصلها – على عجن كل نسيج من أنسجة المجتمع، ومن ثم إعطائه الشكل المراد له. إذ لا يوجد في الوسط ما يمكن أن نسميه بالمجتمع الكردي أو القومية الكردية المتميزة ببنيتها المتشكلة بديناميكياتها الذاتية الخاصة بها. إنها تحدِّد تقاليد العنف المتبقية – حقيقةً – من عهد النبي نوح، والمتسلطة المعبِّرة عنها على الصعيد المؤسساتي. حيث لم يتبقَّ في المجتمع ولو نسيج واحد فقط، إلا وحددته وتدخلت فيه وسائل العنف تلك، والتي تبحث عن المشروعية والواقعية لنفسها، بتقمصها الأغطية الميثولوجية والقصصية في زمن من الأزمان، ومن ثم قيل بأنها هي الدين الأسمى؛ ولدى وصولنا إلى عصرنا، تبدت في شكل نعرات قوموية واشتراكياتية باسم الشعب والطبقة. تنبع القضية الكردية الأصلية من هذه الظواهر التي عايشتها. والقضية الكردية بذاتها عقدة كأداء من المشاكل المتراكمة والمتكدسة، بسبب طراز تكونها.
الجانب المؤلم والوخيم في الأمر، هو افتقار هذه الظاهرة لقدرتها على حل المشكلة بنسبة كبرى. فالظاهرة تختنق من ماهية مشكلاتها. يجب التكلم هنا عن أنسجة المجتمع الكردي الأشبه بالخلايا السرطانية. ألا يقال بأن دود الشجر من الشجر. هكذا، فالهوية الكردية وأشخاصها واقفون في الوسط متكدسون بحشود غفيرة. لننظر إليهم بدءاً من اللغة الكردية وحتى الحزب الكردي (هذا إنْ وُجِد)، ومن المرأة الكردية إلى الزعماء الكرد (المدعين بأنهم مشهورون ومعتَرَف بهم)، من القروي إلى المديني، من المتنور إلى المعلم، من الدين إلى القوموية، من الوطني إلى الخائن، ومن الديبلوماسي إلى السياسي؛ كم هو عدد الذين لا يتحكمون بألِف باء الأمور من أولئك البائسين، المزيفين، الماكرين، الخونة، الفظيعين؛ وكذلك من أولئك الجيدين، الجميلين، والصائبين؟ إنه سؤال يعسر الجزم به. مَن المسؤول؟ المسؤول هو أجزاء السلطة الموجودة, والمتشكلة على مر التاريخ؛ والتي لا يمكن الجزم حقاً بمدى خدمتها لأيٍّ كان، وما مقدار تلك الخدمة، وكيف قامت بها؟ في المحصلة؛ فالمسؤول هو أجهزة العنف التي تعمل على الحفاظ على أجزاء السلطة تلك في الماضي والحاضر؛ وكذلك كافة أشكال الحروب والإرهاب. هؤلاء هم الذين يحدِّدون ظاهرة المجتمع الكردي، ويُبقون عليها في حالتها القائمة. إنهم هم المسؤولون عنها.
وعلى النقيض من ذلك، فلدى إبداء المقاومة تجاه تلك الأجهزة بالانتفاضات والحرب الأنصارية وغيرها من الأساليب المشابهة – إنها لم تتطور بعد، ولكن إذا ما تطورت – فما يظهر حينئذ في الميدان هو ضرب من الاشتباكات والصراعات التي تخلِّف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وراءها في حِدَّتها. لكن، أيٌّ من المشاكل الاجتماعية يمكن حلها والتوجه بها نحو الأفضل والأجمل، بنموذج كهذا، أياً كان اسم الأطراف المعنية فيه؟ إذ، ليس واقعياً إخماد النار بالنار. إذن، والحال هذه، فمن الأصح أن تتخلى أجنحة السلطة القتالية عن أساليبها المتبعة في حل المشاكل الاجتماعية. يجب إدراج أجهزة المقاوِمين أيضاً في ذلك. إذ من الضروري البحث عن الأسلوب في مكان آخر وبشكل آخر.
يجب عدم انتظار أساليب حل التعريات الكبرى الموجودة في الظاهرة الكردية، من أجهزة الحرب (خاصة قوى السلطة المستفردة بالعنف المهيمن في قبضة يدها). أظن أن أول ما يجب القيام به هو أن تترك القوةُ المهيمنة الأجهزةَ العسكرية جانباً كلياً، وترد بنفس الأساليب التي يسلكها الطرف المقابل، في حال كان هذا الأخير لا يعزم على فرض شيء ما عنوة، بل يتخذ من الطراز السياسي والسلمي الديمقراطي للحل أساساً، بحيث يُسنِد صدقه وحميميته في ذلك إلى أسباب مقْنِعة. بقدر ما يكون ترك النقاش وسبل الحل لوسائل الحوار الديمقراطية المدنية تقرباً إنسانياً، فهو في نفس الوقت في صالح الأغلبية الساحقة من المجتمع، وفي صالح الاقتصاد أيضاً.
كنتُ أعددتُ الأثر المسمى بـ"دور العنف في كردستان" في 1982. وكنتُ ظننتُ أنه ساعد على حل مسألة العنف وتحليلها. لكن الممارسة العملية اللاحقة أبرزت أن ثقتي بنفسي في هذا الشأن كانت مشحونة بالأخطاء الكبرى. أنوِّه إلى أن هذه الأسطر مجرد مدخل تمهيدي. وأقول بأن ثقتي بنفسي في هذه المرة هي واقعية حقاً في عودتي لتحليل دور العنف في كردستان ثانية؛ وذلك انطلاقاً من العمق العلمي الذي أحرزته. إنني أسعى لإبراز روح المسؤولية في التحليل، بما يتعلق بالظاهرة الكردية والمشكلة الكردية؛ مع تنبهي ويقظتي الكبرى والغائرة في الأعماق، بأن سبيل الحل لا يمر من "العنف المقدس"، مثلما كان يُظَن (ومثلما عشنا مثيله باسم الاشتراكية). بل، وخلافاً لذلك، فهو ممارسات بشرية يتوجب إغداق اللعنة عليها بكافة أشكالها وأنواعها، فيما عدا "الدفاع المشروع" الاضطراري كضرورة لا مفر منها.
3 – سياسات الصهر الإرغامي على ثقافة كردستان
الصهر هو أحد السياسات الاجتماعية التي غالباً ما تلجأ إليها أحلاف الحرب والسلطة. يتمثل الهدف الأولي في سياسات الصهر، التي تعني الإذابة الثقافية بتعبيرها العام، في تهميش اللغة المحلية التي تعد الوسيلة الأساسية المستخدَمة في الذهنية، وتفعيل اللغة الحاكمة عوضاً عنها؛ وذلك بغرض تجريد الطرف المقابل القابع تحت الهيمنة من كافة قدراته في المقاومة والصمود. حيث يُعمَل على إضمار وشل تأثير الثقافة واللغة المحليتين عبر اللغة الرسمية، وتضييق الخناق عليهما؛ بحيث يُشَلُّ دورهما تماماً في عملية التواصل والجريان. في حين يحظى بالكسب كل من يَستخدم اللغة والثقافة السائدة والحاكمة كلغة سياسة واقتصاد، وكلغة للسمو والقراءة والعلم. أما نصيب مَن يستخدم اللغة والثقافة المتعرضة للقمع والاضطهاد، فهو الضرر لا غير. هكذا يصعب على اللغة المحلية الصمود أمام لغة السلطة مع مرور الأيام، في إطار هذه الثنائية والمفارقة.
إذا ما كانت تلك اللغة المحلية لم تبلغ بعد مستوى اللغة المدوَّنة، ولم تؤسِّس بعد لهجتها الحاكمة؛ فإن المآل الذي ينتظرها هو السواد الحالك. هذا ولا يطبَّق الصهر في مجال اللغة وحسب، بل وفي جميع المؤسسات الاجتماعية المتشكلة على يد السلطة ذاتها. حيث تعاش عملية الأقلمة والمطابقة في جميع المستويات، حسب الواقع المؤسساتي للبلد أو الدين أو المجموعة أو الزمرة المهيمنة. كلما تم تعريف الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بل وحتى الذهنية بشكل رسمي، وعُمِل على صونها قانونياً؛ كلما تعرضت مؤسسات الأقليات والفئات المغلوبة الأخرى للصهر الإرغامي أو الطوعي بما يتوافق والمؤسسات المهيمنة، لتحتل أماكنها ضمن رسمياتها. وبقدر ما ينشط القمع والمنفعة الاقتصادية والسياسية، يقوم الصهر بلعب دوره بنفس النسبة.
لقد لعب الصهر الإرغامي المطبَّق على الوجود الثقافي لكردستان دوراً تخريبياً يماثل – على الأقل – ما لعبته الحروب والممارسات الإرهابية. بمقدورنا تطبيق الأسلوب التاريخي ذاته والوصول به حتى العصور الأولى. لن نبالغ أبداً إن قلنا أن اللغة السومرية هي أول وأعظم لغة وثقافة صهرية شهدها التاريخ. بمقدورنا فهم هذه الحقيقة من نظام ألفاظها وتركيب جُملها. إن أعظم لغات الصهر التي كانت سائدة في العصور الوسطى في منطقة الشرق الأوسط هي على التوالي: اللغة السومرية، ومن ثم الهورية والميتانية والأورارتية والميدية والبرسية، ومن بعدها اللغتان البابلية والآشورية المنتميتان إلى الأصول الأكادية، ومن ثم اللغة الآرامية. من الممكن رؤية هذه الحقيقة في الكتابات الحثية والأورارتية والميتانية والميدية والبرسية. حيث كانت اللغة الآرامية لغة التفاهم كلغة "إثنية أممية"، مثلما هي الحال بالنسبة للغة الإنكليزية في راهننا. نخص بالذكر هنا شيوع اللغة الآرامية كإحدى لغات التدوين لدى أرستقراطية الدولة وبيروقراطيتها، كمثال طالما يمكن مصادفته. حيث تُستخدَم اللغتان المحلية والآرامية معاً. ومثلما نشهد في عصرنا الحالي بأن تكون لغة السلطة الحاكمة هي اللغة الرسمية المتداوَلة في علاقات الدولة، ففي تلك الأثناء كانت الآرامية – ومن قبلها الأكادية والسومرية – هي اللغة الرسمية، في حين كانت اللغة المحلية صلة التواصل الشفهية بين صفوف الشعب الأمي. والاحتمال الأغلب هو أن الفئة الأرستقراطية كانت تنطق باللغة الرسمية للدولة التي هي متواطئة معها. بالمقدور ملاحظة هذه الحقيقة في الوثائق المدوَّنة للأورارتيين. تماماً مثلما يتحدث إداريو الوطن التابع باللغتين الإنكليزية والفرنسية بالأغلب.
تتميز اللغة الآرامية بمكانة جلية تبرز في النُّصُب التذكارية البرسية وآثارها الخالدة. حيث يجري تداولها في عموم منطقة الشرق الأوسط، باعتبارها لغة الديبلوماسية والتجارة المشتركة. يشاهَد في كافة الوثائق المعنية بالميادين المعمارية والأدبية والقانونية، وفي مجال إدارة الدولة، أن الصهر لعب دوره الكثيف والبارز فيها. بل ويُخمَّن أن سيدنا عيسى أيضاً كان مُلِمّاً باللغة الآرامية. واللغة السريانية، التي هي الشكل القومي للآرامية، كانت وسيلة صهر أخرى متفشية. ومقابل ضيق حدود التأثير للغة العبرية، فقد سادت اللغة الهيلينية في منطقة الشرق الأوسط جمعاء.
كانت اللغتان السريانية والهيلينية في رقابة فيما بينهما، كما هي حال اللغتين الإنكليزية والفرنسية في حاضرنا. كلتاهما كانتا تتصارعان على بسط نفوذهما في كردستان، وخاصة في مدنها. وما أورفا سوى نموذج مصغر لذلك، حيث تتمتع بثقافة عايشت اللغات الآرامية والأرمنية والسريانية والعربية والكردية، وأخيراً التركية. إلا إن الصهر المفرط يقود إلى كوسموبوليتية مفرطة. بمستطاعنا فهم هذه الحقيقة من الحالة التي تمر بها أورفا اليوم.



#عبدالله_اوجلان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدفاع عن شعب الفصل الرابع الظاهرة الكردية ، القضية الكردية ...
- الدفاع عن شعب الفصل الرابع الظاهرة الكردية ، القضية الكردية ...
- الدفاع عن الشعب الفصل الرابع الظاهرة الكردية القضية الكردية ...
- الدفاع عن شعب الفصل الرابع الظاهرة الكردية ، القضية الكردية ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط ، وا ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثاني 3- العودة الى الأيكولوجيا الاجتما ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثاني -2 تحرير الجنسوية الاجتماعية
- الدفاع عن شعب الفصل الثاني ب- افكار تخطيطية (مشاريع) بصدد ال ...


المزيد.....




- القيادي في حماس خليل الحية: لماذا يجب علينا إعادة الأسرى في ...
- شاهد.. حصيلة قتلى موظفي الإغاثة بعام 2024 وأغلبهم بغزة
- السفير عمرو حلمي يكتب: المحكمة الجنائية الدولية وتحديات اعتق ...
- -بحوادث متفرقة-.. الداخلية السعودية تعلن اعتقال 7 أشخاص من 4 ...
- فنلندا تعيد استقبال اللاجئين لعام 2025 بعد اتهامات بالتمييز ...
- عشرات آلاف اليمنيين يتظاهرون تنديدا بالعدوان على غزة ولبنان ...
- أوامر اعتقال نتنياهو وغالانت.. تباين غربي وترحيب عربي
- سويسرا وسلوفينيا تعلنان التزامهما بقرار المحكمة الجنائية الد ...
- ألمانيا.. سندرس بعناية مذكرتي الجنائية الدولية حول اعتقال نت ...
- الأمم المتحدة.. 2024 الأكثر دموية للعاملين في مجال الإغاثة


المزيد.....

- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم
- الأحزاب الكردية والصراعات القبلية / بير رستم
- المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية / بير رستم
- الكرد في المعادلات السياسية / بير رستم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالله اوجلان - الدفاع عن الشعب الفصل الرابع الظاهرة الكردية ، القضية الكردية في فوضى الشرق الاوسط -2 الصراع والحرب والارهاب على كردستان -3