|
أبو إسماعيل المروج الأكبر للجهل
شريف صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3842 - 2012 / 9 / 6 - 17:02
المحور:
المجتمع المدني
جلس حازم أبو إسماعيل "المستبعد" من الترشح لرئاسة الجمهورية (لشبهة جهل/تزوير/تدليس تتعلق بجنسية والدته الأميركية) في استديو التلفزيون المصري الذي يموله المصريون، ثم اقترح غلق هذا التلفزيون وإيقاف مسلسلاته وبرامجه وكافة الأنشطة الثقافية والفنية، و تخصيص "أموالها" بديلاً عن قرض البنك الدولي! يملك الرجل نبرة صوت هادئة واثقة ويصبر على الكلام، ما يسبغ عليه هالة روحية ومهابة، وأنه يزن مفرداته بميزان العقل والحكمة. ومن ثم فإن إظهار تهافت منطقه وأنه ليس سوى "مروج أكبر للجهل"، سيكون صادماً للمنومين مغناطسياً تحت تأثير صوته المخملي.
1. لنعود إلى ما قبل تصريحه، إلى ذلك الحدث الكوني الذي شغل المصريين وبرامج التوك شو، والمتعلق ب "ورقة" تثتب أو تنفي حصول والدته الراحلة على الجنسية الأميركية، والتي بسببها خرجت مظاهرات ومات شباب! فيما أصر الرجل على الإنكار ـ جهلاً أو كذباً أو تدليساًـ رغم أن الإجراءات القانونية قطعت الشك باليقين، بأن والدته أميركية. هذا الموقف المبالغ في ضخامته ونتائجه، يكشف أننا أمام عقلية مستعدة للترويج للجهل والتدليس وإنكار الحقائق وعدم الاعتراف بالخطأ إلى الأبد.
2. عندما يصرح بشأن الثقافة وإلغاء نشاطها يكون متسقاً مع عقليته تلك، فهو يريد، بتشبيه بسيط، قطع الكهرباء عن جميع طوائف الشعب المصري لمدة عام كامل، كي نعيش في عتمة الجهل.. فلا قنوات تلفزيونية ولا مسلسلات ولا برامج ولا أغاني ولا سائل إعلام.. نحن جميعاً في قبضة أبو إسماعيل ورفاقه، وليس أمامنا إلا خطب الجمعة التي سيلقونها علينا.
3. أي اقتراح يكتسب قيمته من رجاحة منطقة وقابليته للتنفيذ، فليس معقولاً ـ مثلاً ـ أن أقترح على النادي الزمالك كي يفوز ببطولة الدوري أن يستعين بالمشير طنطاوي أو الشيخ حسان أو إلهام شاهين لتدريب الفريق؟ فإذا كانت حكومة الإخوان تتفاوض على قرض بقيمة خمسة مليارات دولار أفلا أكون "معتوهاً" إذا تصورت إمكانية الاستغناء عنه بمجرد إلغاء أنشطة إحدى أفقر الوزارات؟ وإذا كانت ميزانية "الثقافة" أقل من 4%من ميزانية الدولة ومعظمها ينفق على رواتب (لن تتوقف بالتأكيد حتى لو توقفت الأنشطة) فهل حجب "ملاليم" الوزراة هو الاقتراح المنطقي للاستغناء عن "بلايين" القرض؟!
4. لماذا إذن يقترح أبو إسماعيل اقتراحاً غير منطقي، وينم عن جهل بالأرقام، وجهل أكثر فظاعة بقيمة الثقافة؟ لأن ذلك يتفق مع موقفه ـ ورفاقه ـ من معاداة الثقافة، التي يرونها تحض على الفسق والفجور والبعد عن الله، وعدم طاعة الحاكم ورجل الدين. فمن المؤكد أن إقبال الناس على الأفلام والمسلسلات والكتب والندوات الفنية والأدبية، يخصم مباشرة من جمهور أبو إسماعيل وأعداد مريديه، ويضعف من سلطته وانتشار تأثيره. تلك المعاداة الأزلية للثقافة تخرج من مشكاة واحدة لمقولة جوزيف غوبلز وزير هتلر للدعاية النازية:" كلما سمعت كلمة ثقافة (مثقف) تحسست مسدسي"، فكلتا الفاشيتين الدينية والقومية، ترى في الثقافة بكل تنوعها وخيالها وإبداعها وتحررها، الخطر الأكبر على إنشاء حلم "القطيع" تحت وهم العرق الآري المقدس، أو وهم الخلافة المقدسة!
5. الاقتراح ليس أكثر من "بالونة" اختبار، فلو انصاعت الحكومة إسلامية التوجه، بحجب الثقافة عاماً واحداً، سيتكفل هو ورفاقه بأن يستمر الحجب إلى الأبد، كي يعيش القطيع في الكهف السعيد، أطهاراً أنقياء بلا معصية.
6. لا تختلف رؤية أبو إسماعيل هنا عن رؤية مبارك، التي تضع الشعب باستمرار تحت طائلة العقاب وربط الحزام وشد البطن، وكلها حلول سلبية عقيمة. فكان أولى به أن يقترح توزيع الصحراء الشاسعة ـ مثلاً ـ على ملايين الشباب العاطل للاستثمار فيها، بدلاً من منع كذا وتحريم كذا.. مثلما كان يطالبنا مبارك ألا نأكل البطيخ في غير موسمه، لأنه لا يريد أن يتعب عقله في إمكانية استزراع البطيخ على مدار العام. وكل الحلول والاقتراحات السلبية هي ثمرة باهظة التكاليف لفقر الخيال والعجز عن الابتكار.
7. في مقابل ذلك، وعلى عكس تصور ابو إسماعيل المخزي للثقافة بأنها "عالة" على مجتمع منهك لا يجد قوت يومه أو "رفاهية" يمكن الاستغناء عنها، تُعلى الدول المتقدمة وعلى رأسها أميركا من شأن الثقافة والأفكار وبراءات الاختراع، وتربح من صناعة الترفيه (هوليوود وديزني وغيرهما) وما يسمى "الصناعات الإبداعية" أضعاف ما تربح من الزراعة وتجارة السلاح. لكن أبو إسماعيل آخر من يتصور أن الثقافة تربي الفرد على قيم التنوير، وتسد النقص في شجاعة التفكير، بما يؤهله لإنتاج فكرة قد تدر بلايين الدولارات. وسأكتفي بمثال بسيط هو "الفيس بوك" الذي اخترعه شاب في الخامسة والعشرين من عمره يدعى مارك زوكربيرغ، وقد تحول الآن إلى شركة في البورصة قيمتها مائة بليون دولار، أي عشرين ضعف القرض الذي تريده الحكومة المصرية. فكرة واحدة لفرد واحد حققت كل هذا الثراء الرهيب، وهو ما يعجز عنه ملايين "القطيع" لدينا المشغولين فقط: هل الفيس بوك حلال أم حرام!
8. ولأن الناس طماعة بغريزتها، يهمها في أدنى شروط وجودها الحصول على الطعام، وفي أعلاها رضا الله، يبرر أبو إسماعيل اقتراحه ذا الصبغة الدينية ، ب "أولوية الغذاء" على "الثقافة"، وهذا تهافت آخر حيث يُعطي الأولوية للغذاء البيولوجي والحيواني، على الثقافة التي هي غذاء الروح والعقل. رغم أنه لولا هذا الغذاء الروحي لما تعلم الإنسان أصلاً كيف ينتج ويحفظ ويتداول غذاءه. فلا قيمة للتفرقة بين الغذائين أو إعطاء أولوية لأحدهما على الآخر، فما جدوى أن نأكل ونشرب كالأنعام ونحن في أحط درجات تحضرنا الإنساني؟
9. وإن كنتُ لا أظن أن أبو إسماعيل سيقر أن الثقافة هي غذاء العقل والروح، وأن الدين على اختلافه بين البشر، ليس سوى مكون من مكوناتها. لأنه لا يريد ل"الثقافة" بشمولها، أن تنزع من "الدين" شموله ومركزيته. وهنا تهافت آخر ينم عن جهل، حين يُراد للجزء أن يهيمن على الكل. فالثقافة في معناها العام هي منظومة للأفكار والمعارف والخبرات المكتسبة والمعتقدات الروحية والسلوك، واللغات، والفنون والآثار والعمارة.. وكل ما أنتجه البشر عبر آلاف السنين، من أجل الوعي بأنفسهم وبوجودهم على نحو أفضل، والسيطرة على الطبيعة، والانتقال من الشرط البيولوجي أو الحيواني إلى الجوهر الإنساني، ومن كائن الغابة إلى فرد المجتمع.
10. إن الثقافة ـ وفي القلب منها الفلسفة ونظريات العلوم ـ قادت البشرية دائماً نحو التنوير، والتمرد على شعوذة الدجالين وهيمنة الكهنة، وسعت لإسعاد البشر باختراعات وتقنيات محسوسة، مثل الورق والمطبعة والراديو والقطار ولمبة الكهرباء والسيارة ومركبات الفضاء والتلفزيون والكمبيوتر . بينما رجال الدين أمثال أبو إسماعيل لم يخترعوا فانوس رمضان، ولو اجتمعوا له، بل على العكس من يراجع تاريخ الفتاوى يفاجأ برداءة المواقف التي حاربت تعليم البنات وفتح المستشفيات. فعلى سبيل المثال تأخر دخول المطبعة إلى العالم الإسلامي قرابة 300 سنة بسبب فتاوى تحرمها!
11. يتسق كلام أبو إسماعيل بشأن الثقافة، مع ذلك التاريخ المخزي المسكوت عنه، سعياً لاستمرار هيمنة رجال الدين على شعب جاهل يظل في احتياج هوسي لسلطتهم التي تصبره على المرض وعلى الفقر. فيما يعيش أمثال أبو إسماعيل في قصور ويركبون أفخم السيارات ويعالجون في أكبر المستشفيات العالمية. وإذا كان القانون يعاقب من يُشيع المرض بين الناس فإنه لا يعاقب من يشيع الجهل بينهم ويستثمره ويحوله إلى أرصدة ضخمة في حسابه.
12. وإذا كان من حق أبو إسماعيل أن يقترح ما يشاء ويبرره كيف يشاء، فإن اقتراحه لا يكتسب صوابه من "لحيته" الكبيرة، واقتراحي لن يكون خطأ لمجرد أنني "دون لحية".. لذلك أدعوه لاقتراح أكثر جدوى: إذا كنت وأمثالك تقومون بالدعوة "مرضاة لوجه الله" و"لا تريدون جزاء ولا شكورا" أطالبكم جميعا بالتبرع بأجور برامجكم وكاسيتاتكم وسيديهاتكم، وتجارة الأزياء الشرعية، وريع قنواتكم التلفزيونية وأرصدتكم في البنوك.. من أجل مصر.. وأنا واثق أن ما يربحه ابو إسماعيل وحسان ويعقوب والقرضاوي وغنيم والجندي وعمرو خالد وغيرهم، أضعاف أضعاف ما تنفقه حكومة كسيحة على وزارة بائسة مثل وزارة الثقافة.. وطبعا لن تخسروا شيئاً، لأن الله سيعوضكم في الآخرة.
#شريف_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العريان.. عارياً
-
أولمبياد لندن.. ومارثون الأسد
-
ملاعيب شفيق و-العسكري-
-
الجهاز يلعب بذيوله
-
لماذا انتخبت حمدين صباحي؟
-
صباحي وأبو الفتوح.. بيع الوهم
-
خيرت الشاطر حامل -الحصالة-
-
الإخوان المسلمون وفلسفة القراميط
-
إيجى راجح.. أهلا وسهلا
-
من مواطن مصري إلى الرئيس الأسد
-
نهاية مأساوية لرجل متفاءل
-
عشر أمهات للبصق على وجه مبارك
-
وكل عاشق قلبي معاه (ليس رثاء لإبراهيم أصلان)
-
دفاعاً عن نجيب محفوظ ضد الشحات
-
اللص الهارب في أربع حكايات
-
صدور نجيب محفوظ وتحولات الحكاية بمناسبة مئويته
-
تفاحة الديمقراطية المسمومة
-
الثورة قامت.. ونامت
-
لا تخفي علاماتك
-
الدنيا على مقاس -سلفي-
المزيد.....
-
مسئول أمريكي سابق: 100 ألف شخص تعرضوا للإخفاء والتعذيب حتى ا
...
-
تواصل عمليات الإغاثة في مايوت التي دمرها الإعصار -شيدو- وماك
...
-
تسنيم: اعتقال ايرانيين اثنين في اميركا وايطاليا بتهمة نقل تق
...
-
زاخاروفا: رد فعل الأمم المتحدة على مقتل كيريلوف دليل على الف
...
-
بالأرقام.. حجم خسارة ألمانيا حال إعادة اللاجئين السوريين لبل
...
-
الدفاع الأمريكية تعلن إطلاق سراح سجين كيني من معتقل غوانتانا
...
-
دراسة: الاقتصاد الألماني يواجه آثارا سلبية بإعادة اللاجئين ا
...
-
الأمن الروسي يعلن اعتقال منفذ عملية اغتيال كيريلوف
-
دراسة: إعادة اللاجئين السوريين قد تضر باقتصاد ألمانيا
-
إطلاق سراح سجين كيني من معتقل غوانتانامو الأميركي
المزيد.....
-
أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|