|
الخلفية اليهودية لاستراتيجية التفكيك اليهودية/ بقلم خاليد القاسمي
خاليد القاسمي
الحوار المتمدن-العدد: 3840 - 2012 / 9 / 4 - 20:42
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الأساس اليهودي لاستراتيجية التفكيك: يستقصي هذا المبحث جذور التفكيك(ية) في العقيدة اليهودية، من منطلق أن فلسفة التفكيك والاختلاف، صدرت كما هو جلي في أعمال (جاك دريدا)، عن خلفية لاهوتية يهودية، تنعكس في مقولات الحضور والغياب والتشتت والإرجاء وغيرها. ويمكن حصر عناصر هذه الخلفية، في التأثير الذي مارسه التفسير القبالي للنص المقدس(التوراة)، وهي امتداد بستضمر عناصر حلولية تفسيرية للهيرمينوطيقا المهرطقة التي باشرها الحاخامات في إطار الشريعة الشفوية (التلمود)، وكذا سينظر المبحث في خلفية وضع اليهود في الحضارة الغربية، وما يمثله من تجربة الشتات التاريخية، التي نتج عنها تصدع وتلاش في الهوية اليهودية انعكس على تعامل المفكرين اليهود مع الفكر واللغة، وهو ما سينتج مقولات فلسفية ونقدية، سيكون لها بالغ الأثر في المشروع النقدي التفكيكي. وتجدر الإشارة في هذا الصدد، إلى أن الاهتمام بالعناصر الفكرية المستمدة من التراث اليهودي، لا يأتي في نقد ما بعد الحداثة مصحوبا بإعلان أن يهودية تلك العناصر، سبب رئيس وراء اهتمام الناقد التفكيكي، بل إن الغالب على النقد المشار إليه هو عدم الإشارة إلى مسألة الانتماء تلك(1). رغم كونها مضمرة وتشكل تناظرا في بنى التحليل والتفسير في النسقين اليهودي والتفكيكي. ولعل ذلك ما يفسر أن عددا مهما من المفكرين والباحثين اليهود استطاعت القبالية أن تجتذبهم إلى عالمها، لانبهارهم بطروحاتها وأبحاثها. ومن تلك الأسماء نذكر : نيتشه(1900)، وهوسرل (1938)، وفرويد (1939)، وانشتاين (1955)، وهيدجر (1976)، وجاك دريدا، ..وغيرهم(2). إلا أن علاقة القبالية بالتفكيك اتخذت بعدا خاصا -كما سنرى-، نظرا لتشابه المفاهيم الفلسفية التحليلية، التي تتأسس عليها منظومتيهما، لا سيما في مواطن : الاختلاف، الأثر، الأصل، الهوية، ثنائية الكلام والكتابة الأصلية وغيرها(3). 1- التصوف القبالي : أ-التصوف القبالي وفكرة الحلول : عُرفت اليهودية - بوصفها نسقا دينيا - بغياب التجانس، والتعددية المفرطة التي تصل إلى حد التناقض، نظرا لظهورها في مرحلة متقدمة نسبيا من التاريخ، ولأنها استوعبت الكثير من العناصر الدينية والحضارية من الحضارات التي وجدت فيها(..) وكل هذا جعل اليهودية تشبه التركيب الجيولوجي التراكمي المكون من عدة طبقات الواحدة فوق الأخرى(4). من هذا المنطلق، شكل التراث التصرفي اليهودي المعروف بالقبّالاه(5) ، أحد طبقاتها الجيولوجية، التي كرست اختلاطها وتواري عناصرها الأصيلة. فهو لاحق عن العقيدة اليهودية الصحيحة، أي الديانة التوحيدية التي تؤمن بإله واحد منزه عن مخلوقاته، يتعالى على الانسان والمادة والطبيعة ولا يرد إليها. وتجدر الإشارة إلى أن كلمة الصوفية داخل النسق الديني اليهودي، حضيت بدلالات خاصة، من منطلق أن هذا النسق يتسم بوجود طبقة جيولوجية ذات طابع حلولي قوي، تراكمت داخله ابتداء من العهد القديم، مرورا بالشريعة الشفوية، ليتغلغل بعد ذلك في التصوف القبالي، الذي برزت حلوليته من خلال بحثه عن الصيغ التي يمكن من خلالها التوحد مع الخالق ثم التحكم في الإرادة الإلهية(6). فالقبالية، على الرغم من ثورتها على التراث الحاخامي(7) ، إلا أن عقيدتها الحلولية تفاعلت مع فكرة الشريعة الشفوية (التلمود)، الذي اقتبس منه القباليون أفكاره ذات الطابع الحلولي، ونزعوها من سياقها، ودفعوا بها إلى نتيجتها المنطقية المتطرفة(8). وتقوم القبّالاه في نسختها اللوريانية ( نسبة إلى إسحاق لوريا)(9) الأكثر نضجا، و التي تلت قبالاه الزوهار(10) ، على ثلاثة أفكار أساسية تؤطر رؤيتها لصيرورة الخلق، نعرض لها كما يلي: تبدأ أسطورة الخلق بعملية الانكماش (تسيم تسوم) وتعني (انسحاب نتج عنه تركز)، فالإله المتخفي ينكمش داخل نفسه، كأنه ينفي نفسه بنفسه إلى داخل نفسه، ثم يرسل شعاعا من نوره الذاتي في التجليات النورانية العشرة (سفيروت)، وهذه المرحلة تسمى مرحلة الفيض الإلهي على الكون، أدت إلى ظهور الآدم قدمون (الإنسان الأصلي)، وهو غير آدم أبي البشر، ثم تظهر بعد ذلك أشعة النور الإلهي من الإنسان الأصلي في شكل شرارات كان من المفترض جمعها في أوعية(كليم)، لكن هذه الأوعية تحطمت أثناء ملئها، الأمر الذي أدى إلى تشتت الشرارات الإلهية وتبعثرها. ومنذ حادثة التهشم هاته (شفيرات هكليم) لم يعد في الكون شيء متكامل. لتأتي مرحلة إصلاح الخلل الكوني المسماة (تيقون)، وهي عملية تخليص الشرارات الإلهية المبعثرة، وتعتمد بالدرجة الأولى على جماعة يسرائيل، وهي عملية تدريجية تتوج بظهور الماشيّح، وعودة جماعة يسرائيل من المنفى إلى فلسطين. وسينتهي التيقون بأن يتوحد الإله مع نفسه، بعد تجميع الشرارات المبعثرة..(11) في ضوء هذه العقيدة، يمكن الحديث عن مفاهيم دينية يهودية في تراث القبالاه الصوفي الحلولي، قريبة في بنيتها من مفاهيم ما بعد الحداثة، مثل مفهوم (شفيرات هكليم: تهشم الأوعية) و(التسيم تسوم: الانكماش) و(التيقون: الاصلاح)، وهي مفاهيم ترى أن الإله لم يكمل عملية الخلق بعد، بل إن الذات الإلهية لم تكتمل بعد، وهو ما يعني أن العالم في حالة صيرورة دائمة، أو كما يقول دعاة ما بعد الحداثة: لا يوجد حضور كامل وأن الغياب مثل الحضور(12). يذهب الدكتور (محمد سالم سعد الله) وفق هذا التصور، إلى أن رؤية عزل الإله في التراث القبالي، والتي توافق عملية تشتت الأوعية، تعني " أن الإله لم يكمل عملية الخلق بعد، لأن الذات الإلهية لم تكتمل بعد، وهذا يقود إلى الاعتقاد بوجود صيرورة دائمة لا تعرف الثبات، فما دام الإله في حالة حركة اكتمالية مستمرة، فالموجودات كذلك.."(13). وينجم عن ذلك، أن المتصوفة القباليون يدخلون على الخط، في خضم هذه الحركة الاكتمالية المتسمة بالصيرورة، بوصفهم ذوي الشرعية في مساعدة الإله في إكمال ذاته. لكنهم بدلا من ذلك، يتلاعبون بسلطاته، وهو ما يجعله يكتسب صفات تضادية في نفس الآن، من قبيل: الحضور والغياب، المطلق والنسبي، الثابت والمتغير، وغيرها. وهي التصورات التي ستنطلي على حركة ما بعد الحداثة بوصفها حالة من الحلولية الكامنة، حيث يحل المطلق في النسبي، فتصبح كل الأشياء مقدسة. إن هذا الاعتقاد، يؤدي إلى ظهور حالة من التعددية المفرطة، التي تؤدي إلى اختفاء المركز، وتساوي كل الأشياء وسقوطها في قبضة الصيرورة، فتصبح كل الأمور نسبية وتغيب المرجعية والمعيارية، فتفسد اللغة كأداة للتواصل بين البشر، وينفصل الدال عن المدلول وتطفو الدوال وتتراقص دون منطق واضح.(14) في ضوء ذلك، تتحدد عملية التلاعب في سلطات الإله المعزول، عند القبّاليين، في التلاعب بمعاني النص المقدس، وتطويعها خدمة لتصوراتهم الصوفية. وكل ذلك يحدث من خلال اعتماد آلية تفسيرية مهرطقة للغة. ب- التصوف القبّالي واللغة المهرطقة: إن الحديث عن التصوف القبالي وعلاقته بالنص المقدس، يستدعي النظر في اللغة التي فسروا بها التوراة، فهم يرون أن "كل كلمة فيها تمثل رمزاً، وكل علامة أو نقطة تحوي سراً داخلياً، ومن ثم تصبح النظرة الباطنية الوسيلة الوحيدة لفهم أسرارها(..) كما يقول القبلانيون أن الأبجدية العبرية تنطوي على معان خفية، لا يعرفها إلا الخبيرون بالقبالاة. وبذلك تصبح كلمات التوارة مجرد علامات أو دوال، تشير إلى قوى ومدلولات كونية وبنى خفية يستكشفها مفسر النص ويشكلها بحسب هواه"(15). وقد اتسمت اللغة القبالية في ظاهرها،" باستعمال الكلمات اليومية البسيطة، لكنها لا تحمل المعنى الواحد أو القريب، بل تدخل في دوامة من التلاعب بالمعاني، أي دوامة من التكهن والسحر والتنجيم، حتى تتسم بالإيغال والبعد والتعدد والاختلاف(..) وانطلاقا من ذلك دعت القبلانية إلى التوسع في اللغة، وتفجيرها، حتى يتسنى للأحبار التلاعب بالمعاني والتوسع فيها.."(16). ونتيجة لهذا الانقلاب على قيم النص الديني، الذي يحدث من خلال اللغة، تنتقل السلطة من خالق النص (الاله)، إلى المفسر القبالي (ومن بعده القارئ التفكيكي)، لتبدأ عملية سطو واضحة على النص المقدس (ومن بعده النص الأدبي)، بقصديته وحقائقه ومعانيه، وتُفتح باب الدلالة اللانهائية على مصراعيها. ويمكن القول، إن التفسير الصوفي اليهودي، وفقا لما تم ذكره، صار ضربا من ضروب التهرطق، أو ما يعرف ب"الهرمينوطيقا المهرطقة"، وهي العبارة التي تستخدم – حسب الدكتور المسيري- للإشارة إلى محاولة بعض المهرطقين (من المثقفين اليهود) تحطيم النص المقدس وتفكيكه (لا تفسيره) "(17). وعلى الرغم من هرطقة هذا التفسير، فهو – كما يرى عبد الوهاب المسيري- يدعي أنه " النص المقدس حتى يتسنى له أن يحل محله، أي أنها مؤامرة تتم من الداخل باسم التفسير، وهي في واقع الأمر تقويض: إنها فرض اللامعنى بوصفه هو المعنى، وفرض الظلام بوصفه هو النور، وفرض الهرطقة بوصفها هي الشريعة؛ إنها عملية قلب كامل للمعنى تتم بهدوء ومن خلال الخديعة."(18) . إن التفسير الحاخامي فضلا عن ذلك، يتحرك ضمن اتجاهين، يفاقمان من حالة التشتت والتلاعب الدلاليين: أحدهما عمودي يتناص مع النص المقدس فيبتلعه ويحل محله، والآخر أفقي، يتم مع باقي التفسيرات الحاخامية الأخرى، وهو ما يعمق من حالة الإرجاء الدلالي. يقول الدكتور (عبد الوهاب المسيري)بصدد ذلك: "التفسيرات الحاخامية هي نفسها متشابكة، فكل تفسير يشير إلى التفسير الذي يسبقه والذي يليه إلى ما لا نهاية له (حالة الاخترجلاف). فإن كان ثمة تناص بين النص المقدّس والتفسير فهو كذلك حالة تناص بين كل التفسيرات. وهكذا، يظهر التلمود كتاباً للتفسير الذي يصبح كتاباً مقدساً يفوق في قداسته الكتاب المقدَّس؛ ولكن هذا الكتاب الأكثر قداسة مكتوب بيد إنسانية، فهو مطلق غير مطلق، ثابت متغير، إنه الحضور بلا حضور والغياب بلا غياب!"(19). وبناء عليه، يصير التفسير القبالي خاضعا للتناص، مغيبا لأي إمكانية حقيقية لتحقق المعنى. فهو يعمل على ترصد مزالق النص وهفواته، محيلا المعنى إلى سلسلة من التأويلات الغير مستقرة، في حركة تذوب فيها الثنائيات وتؤجل المعاني إلى ما لانهاية. انطلاقا مما سبق يمكن القول إن مفاهيم من قبيل الاختلاف والإرجاء، والحضور والغياب وتشتت المعنى، هي مفاهيم راسخة في اللاهوت اليهودي، ممثلا في التصوف القبالي المختلط بطروحات التلمود الحلولية، المندرجة ضمن ما يعرف بالشريعة الشفوية التي ابتدعها الحاخامات اليهود، بوصفها بديلا للتوراة الأصلية أي الشريعة المكتوبة. ويشير الدكتوران (سعد البازعي) و(ميجان الرويلي) إلى أن (جاك دريدا Jacque Derrida) ينبغي أن يُفهم في سياق التفسير الذي قدمه المتصوفة اليهود، فمنهجة التقويضي الذي طبقه على نصوص الفلسفة والأدب، يعتبر الأبرز من ضمن مشاريع ما بعد الحداثة(20). وهو ما دفع دريدا إلى السخرية من القراء والمفسرين، الذين يحاولون الوصول إلى معنى محدد ونهائي (أو إلى أي معنى على الإطلاق)، فهم مسيحيون بالمعنى "النماذجي" وغير قادرين على أن يعيشوا في التوتر الناجم عن الغياب داخل الحضور والحضور داخل الغياب (21). كما أن الموقف القبالي المتمثل في مفهوم الحاضر الغائب The Presence Absence ، أو" مبدأ غياب الإله في مقابل حضور هذا العالم وتسيده، هو ما سيحوله دريدا على مستوى اللغة إلى (أثر) trace و (اخ(ت)لاف) différance، المفهومين المركزيين في عملية التقويض التي يمارسها دريدا"(22). بناء على ما سبق، نخلص إلى أن التفكيك(ية) باعتبارها من المشاريع الفلسفية والنقدية لما بعد الحداثة، تندرج ضمن اللإطار الصوفي اليهودي للقبلانية، فمقومات التفسير القبلاني للنص الديني، التي تنتج مقولات: اللاحضور واللاغياب والاختلاف والإرجاء والتشتت والتناص ولا نهائية الدلالة الناجمة عن الصيرورة، وما يدور في فلك ذلك من مفاهيم موازية، هي نفسها مقومات القراءة التي وجهها دريدا، سواء للتراث الفلسفي أو للنص الأدبي. ج-وضع الجماعات اليهودية في الحضارة الغربية : ج-1-دريدا : بطاقة تعريف تشكل وضعية الجماعات اليهودية في العالم (أي في الحضارة الغربية)، حالة على قدر كبير من الخصوصية، لما ارتبطت به من تجربة تاريخية، قوامها النفي والشتات والانسلاخ عن الأصل والهوية. وهو ما جعل مفكريها يميلون إلى تبني فكر ما بعد الحداثة، وإسهامهم فيه بشكل قوي. ويهمنا في هذا المقام، أن نتناول في عجالة، وضعية الفيلسوف(جاك دريدا) المرتبطة بظروف نشأته وحياته. يعتبر (جاك دريدا) من أهم فلاسفة التفكيكية وما بعد الحداثة. ينحدر من أصل يهودي سفاردي، وُلد باسم جاكي عام 1930م في بلدة البيار (قرب الجزائر العاصمة)، وترك الجزائر عام1949 لأداء الخدمة العسكرية ولم يعد لها قط بعد ذلك. ومع أن دريدا فشل في امتحان الباكلوريا في صيف 1947، فقد أكمل دراسته الجامعية في السوربون وهارفارد. وبعدها قضى فترة مهمة بين باريس حيث درّس في معهد الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية، والولايات المتحدة حيث درّس في جامعة ييل، إلى أن توفي سنة 2004، مخلفا وراءه مشروعا فلسفيا ضخما ضمنه في كتبه الكثيرة الحاملة للواء التفكيك (deconstruction)، باعتباره استراتيجية لقراءة النصوص الفلسفية والأدبية. لكن الأهم في هذا المقام، هو أن دريدا كان عضوا في جماعة وظيفية استيطانية، هي جماعة المستوطنين الفرنسيين البيض، الذين كانوا مرتبطين عضويا (ماديا وحضاريا) بالوطن الأم فرنسا، مع العلم أن الجماعة اليهودية في الجزائر، كانت جزءا لا يتجزأ من الجماعة الاستيطانية الفرنسية.(23) ج-2- دريدا ومأزق اللغة : من منطلق هذه التجربة التي عاشها دريدا، لا غرو، أن تشكل اللغة بالنسبة إليه إشكالية مزدوجة، فهو عاش غربة اللغة الأم، وما يعنيه ذلك من تمزق وضياع في الهوية، من جهة، وصاغ استراتيجية شرسة متكاملة، لتفكيك هذه اللغة ومعانيها وطروحاتها الفكرية عبر التاريخ الفلسفي الغربي، من جهة مقابلة. فهل قصد دريدا الانتقام من اللغة الفرنسية، لأنها مارست عليها هيمنة واستلابا، على غرار ما فعله القباليون بالنص الديني، انتقاما من الإله الذي شردهم؟ ارتباطا بذلك، يمكن القول، إن تجربة سحب الجنسية من اليهودي دريدا، عمق وعيه بكون الثقافة واللغة الفرنسية اللتان ورثهما، هما ملكا للآخر من ناحية، و بكون الثقافة واللغة أداتي هيمنة وسلب للهوية من ناحية أخرى. فغياب مفهوم اللغة الأم إذن، شكل اغترابا لغويا وثقافيا قاسيا على دريدا، وهو ليس جديدا على العائلة أو الجماعة اليهودية المحيطة (24). إن الشتات المكاني سيصبح عند دريدا شتاتا وتشتيتا لغويا دلاليا، لذلك عني بتفكيكه لرده إلى حقيقته وتناسقه، وهي حقيقة الاختلاف الدائم والصيرورة الدائمة. فهو لكي "يستجلي وضعه كيهودي في علاقته باللغة الفرنسية، وبالمحيط القائم حولها، يلجأ مرة أخرى، وهو على كل أمر يتفق فيه مع بقية اليهود، للاستنجاد بفكرة التشتيت، أي البحث فيما هو مفكك، مشتت، مبعثر، قصد الوصول إلى ما هو موحد ومتناسق(25). غير أن المتأمل في تفكيك(ية) دريدا وآليات اشتغالها على اللغة، يقف على خاصية أخرى ذات علاقة بتوجهه التفكيكي، يتعلق الأمر بالأسلوب الذي تعاطى به المارانيون من اليهود، مع اللغة في ظل أوضاعهم الثقافية والسياسية مع الدول المسيحية المضيفة، والتي اتسمت بالهامشية وضمور الهوية اليهودية. يشير إلى ذلك الدكتور (عبد الوهاب المسيري) بقوله إن:" التجربة الأساسية في تاريخ اليهود السفارد هي تجربة المارانو(26) الذين تآكلت يهوديتهم المستبطنة واختفت، ولذا كان اليهودي السفاردي إنسانا هامشيا تماما في مختلف التقاليد الدينية والثقافية التي يتحرك فيها"(27). وعليه، نفهم الاستعمال المراوغ للغة لدى اليهود المارانيين، الذين عاشوا في شبه الجزيرة الأيبيرية، وتركوها إبان الاضطهاد المسيحي، بوصفه مخرجا لأقلية مضطهدة تخشى الوقوع في مأزق الإدانة، على المستوى السياسي أو الديني، وهو ما نجد صداه في تعامل دريدا مع اللغة الفرنسية باعتبارها لغة مفروضة عليه(28). فأن يقول الإنسان شيئا، وهو يعني عكسه تماما، يشكل دافعا قويا لانطلاق الأضداد، والمتناقضات، وسيادة الاختلاف، وتغييب المدلولات، كما يحصل تماما في الإجراءات النقدية التفكيكية، والمقاربات النصية ما بعد البنيوية(29). نخلص في ضوء ما سبق، إلى أن علاقة دريدا باللغة الفرنسية، لم تكن علاقة طبيعية. إنها تخفي وراءها قدرا كبيرا من الصراع وعدم التجانس والتوافق. فصحيح أن اللغة هي وعاء الفكر، لكن اللغة هي انتماء وهوية كذلك، واللغة الفرنسية لم تكن لغة دريدا الأم، فهي الجرح الحاضر الذي يذكره بشتاته وهامشيته في الحضارة الغربية. ج-3- دريدا ومأزق الهوية : سبق أن رأينا أن اللغة الفرنسية شكلت مأزق هوية بالنسبة لدريدا، لكن اللغة هي مجرد تمظهر من مظاهر هذه الهوية المأزومة، وإن كانت لا تنفصل عنها. لنقل إن الانتماء بكل أشكاله العرقية واللغوية والحضارية، كان مأزقا دريديا بامتياز، انعكس على اتجاهه الفلسفي التفكيكي. فلا شك أن فقدان الهوية المميزة لدى اليهودي وخضوعه للحضارة الغربية، بالرغم من محاولة الإفلات منها، يجعل من هذه الهوية لحظة الغياب الكامل، وهذا يؤدي إلى اختلاط المدلولات وتعددها (30). إن اليهودي على غرار دريدا، مهما رسم لنفسه هوية يهودية للإفلات من سطوة الحضارة الغربية، فهو يزداد اتباعا لها، فهو المنفي فيها نفيا، " والنفي هو عملية اقتلاع وتشريد وتشتيت، فهو في حالة صيرورة دائمة، فهو الدال المنفصل عن المدلول أو الدال الذي له مدلولات متعددة بشكل مفرط."(31). في ضوء ذلك يصير مدلول الهوية والحضور مشتتا، نظرا لانفصاله عن الدال الذي هو الشخص اليهودي. يشير إلى ذلك الدكتور عبد الوهاب المسيري بقوله: "إن هامشية دريدا جعلته مرشحا لأن يكون فيلسوف التفكيك الأول، فهو نفسه إنسان مفكك تماما: فهو فرنسي ولكنه من أصل جزائري، وهو جزائري ولكنه عضو في جماعة استيطانية فرنسية، وهو يهودي سفاردي لا ينتمي إلى التيار الأساسي لليهودية، وهو لا يؤمن بهذه اليهودية ولا يكن لها الاحترام ولكنه مع هذا يشير إليها دائما. وإن كان هناك دال بدون مدلول، فإن جاك دريدا الفيلسوف الفرنسي الجزائري اليهودي السفاردي هو هذه الحالة، فهو ليس فرنسيا ولا جزائريا ولا يهوديا ولا سفارديا"(32). ويضيف عبد الوهاب المسيري في موسوعته، شاهدا آخر زاد من تأزيم الهوية اليهودية، وهو ذاك المتعلق بتعدد تعريفات اليهودي، "فهو يمكن أن يكون إصلاحيا أو محافظا أو تجديديا. وهناك اليهودي الملحد واليهودي غير اليهودي واليهودي المتهود واليهودي بالاختيار(..) ولعل سؤال (من اليهودي؟) المطروح بحدة في الدولة اليهودية، تعبير عن هذا الفصل الحاد بين الدال والمدلول"(33). ج-4- دريدا وعقدة الأصل: إن مقاربة مشكلة غياب الأصل في الفكر الدريدي، لا يمكن عزلها عن سياق أزمة الهوية التي أرخت بظلالها على أعمال اليهود من مفكري ما بعد الحداثة. ويمكن تلمس هذه الإشكالية بدءا من علاقة اليهود بالنص التوراتي الأصلي، "فالتراث اليهودي لم يحسم قط ما إذا كانت التوراة بأسرها كلمات الإله الموحى بها أم أجزاء منها وحسب؟ وهل أعطيت هذه الكلمات لموسى مباشرة ثم كتبها هو، أم أن الإله خطّها بنفسه، أم أعطاها لموسى في حضور الشعب؟ لهذا كله، نجد أن الحضور الإلهي في النص اليهودي المقدّس ليس حضورا مطلقا ثابتا كاملا، وإنما هو مجرد أثر أو صدى"(34). من هنا، يستعير دريدا مفهوم الأثر، ليعمله في قراءة النصوص الفلسفية والأدبية، فغياب المعنى الحاضر والحقيقي ناجم عن هذه الآثار الدلالية المتناسلة التي تفرزها الدوال في ذهن القارئ. وهذا ما سبق إليه الصوفية اليهود المفسرون، فهم اغتنموا فرصة غياب المرجعية الدينية باعتبارها أصلا ثابتا، لإشعال هرطقة تفسيرية لا محدودة. وهو ما يذهب إليه (محمد سالم سعد الله) بقوله: "لا يرغب اليهود بتبني مرجعية ثابتة، أو معيارية أو تنظيمية، لأنها تعمل على تقييدهم، وحصر أفكارهم وتوجهاتهم التي لا يحدها حدود، وبهذا فهم يمثلون دوالا بلا مدلولات"(35). إن الشتات الدلالي الذي تتقنه وتستهويه الذات اليهودية المفسرة، هو تعبير ضمني عن شتات هذه الذات، من خلال التجربة التاريخية اليهودية مع النفي والتشتت في أصقاع الأرض، أو هو إشارة القصد منها تقديم صورة مثلى، لتشتت اليهود وضياعهم وصراعاتهم عبر التاريخ، من خلال تقديم مفهوم الصراع بين المدلولات داخل النصوص(36). غير أن ما تبقى لدريدا وجماعته في الجزائر من هذا الشتات، هو الختان الذي يشير إلى جذورهم اليهودية الحقيقية، والذي كانوا يتفادون الإشارة إليه، كي لا ينكشف أصلهم اليهودي. ونجد مثل هذا التصور عند الدكتور (سعد البازعي) الذي يلخص الختان، باعتباره مأزقا حقيقيا في حياة دريدا، بقوله: "أما الدور المركزي للانتماء اليهودي في أعماله فيؤكده حديث دريدا عن الختان، السمة الجسدية اليهودية الرئيسية : (الختان ذلك كل ما تحدثت عنه) أي النقطة الأساسية في أعماله كلها"(37). فالختان كل ما تحدث عنه دريدا، لأنه الوشم المتبقي الوحيد من الهوية اليهودية المتلاشية. .................................................. ........ 1- دليل الناقد الأدبي ، ص341 2- الأسس الفلسفية لنقد ما بعد البنيوية، ص244و245. 3 - نفسه، ص256 و257. 4- د.عبد الوهاب المسيري،موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، مج2،دار الشروق،مصر،ص19. 5- وردت بهذا المصطلح في موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، لذلك نعتمدها في البحث، إلا في حالات الإحالة الحرفية على كتاب آخرين. 6- موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ، ص39. 7- يقصد بهم الفقهاء اليهود والأحبار الذين فسروا التوراة(الشريعة المكتوبة) وابتدعوا الشريعة الشفوية (التوراة الشفوية أوالتلمود)وجعلوها الأساس الذي تستند إليه اليهودية. 8- موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ص39. 9- ولد أسحق لوريا في القدس لأب اشكنازي يعمل بالتجارة وأم سفاردية، يقال أنه اعتكف في جزيرة الروضة بالمنيل7سنوات حيث تأمل في الزوهار وعاش حياة الرهبان. 10- "الزوهار" من أهم كتب التراث القبالي، وهو تعليق صوفي مكتوب بالآرامية على المعنى الباطني للعهد القديم، ويعود تاريخه حسب بعض الروايات إلى ما قبل الإسلام والمسيحية. 11- موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ص42-43. 12- موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ، ص166-167. 13- الأسس الفلسفية لنقد ما بعد البنيوية، ص251. 14- موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ، ص166. http://www.nazmi.us/Humanities.php 15- 16- الأسس الفلسفية لنقد ما بعد البنيوية، ص240. 17- مقال للدكتور عبد الوهاب المسيري : اليهودية وما بعد الحداثة-رؤية معرفية 17 http://www.eiiit.org/resources/eiiit...articleID=718- 18- مقال للدكتور عبد الوهاب المسيري : اليهودية وما بعد الحداثة-رؤية معرفية 18- http://www.eiiit.org/resources/eiiit...articleID=718- 19- موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ص169. 20- دليل الناقد الأدبي ،ص343. 21- مقال للدكتور عبد الوهاب المسيري : اليهودية وما بعد الحداثة-رؤية معرفية http://www.eiiit.org/resources/eiiit...articleID=718- 22- المكون اليهودي في الحضارة الغربية، ص349 23- د.عبد الوهاب المسيري،موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، مج2،دار الشروق، مصر، ص172و174. 24- المكون اليهودي في الحضارة الغربية، ص341و342 25- جاك دريدا،أحادية الآخر اللغوية أو في الترميم الأصلي،ت.عمر مهيبل،الدار العربية للعلوم ناشرون،ط1، الجزائر، 2008، ص12. 26- من كلمة "مرائي"، وهم يهود شبه جزيرة أيبريا الذين أبطنوا اليهودية وأظهروا الكاثوليكية. 27- موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ، ص174. 28- المكون اليهودي في الحضارة الغربية،ص342 29- الأسس الفلسفية لنقد ما بعد البنيوية، ص255. 30- نفسه، ص256. 31- نفسه، ص256. 32- د.عبد الوهاب المسيري،موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، مج2،دار الشروق،مصر، ص174. 33- نفسه، ص167. 34- نفسه، ص168. 35- الأسس الفلسفية لنقد ما بعد البنيوية، ص256. 36- نفسه، ص255. 37- المكون اليهودي في الحضارة الغربية ، ص343
#خاليد_القاسمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأساس البنيوي لاستراتيجية التفكيك الدريدية
-
الخلفية اليهودية لاستراتيجية التفكيك الدريدية
-
هايدجر والميتافيزيقا
-
مفهوم التفكيك عند جاك دريدا
-
مفهوم الكتابة الأصلية في تفكيك(ية) جاك دريدا
-
مفهوم الأثر في تفكيكية جاك دريدا
-
أين زنبقتي ؟
-
نيتشه والميتافيزيقا
-
ليلة رأس السنة
-
رقصة جرذ
-
خمسة كؤوس
-
قراءة في ديوان -جواد ليس لأحد- للشاعر ابراهيم ديب
-
حوار مع القاص عمرو حسني
المزيد.....
-
مكتب نتنياهو يعلن فقدان إسرائيلي في الإمارات
-
نتنياهو يتهم الكابينيت بالتسريبات الأمنية ويؤكد أنها -خطر شد
...
-
زاخاروفا: فرنسا تقضي على أوكرانيا عبر السماح لها بضرب العمق
...
-
2,700 يورو لكل شخص.. إقليم سويسري يوزع فائض الميزانية على ال
...
-
تواصل الغارات في لبنان وأوستن يشدد على الالتزام بحل دبلوماسي
...
-
زيلينسكي: 321 منشأة من مرافق البنية التحتية للموانئ تضررت من
...
-
حرب غزة تجر نتنياهو وغالانت للمحاكمة
-
رئيس كولومبيا: سنعتقل نتنياهو وغالانت إذا زارا البلاد
-
كيف مزجت رومانيا بين الشرق والغرب في قصورها الملكية؟
-
أكسيوس: ترامب فوجئ بوجود أسرى إسرائيليين أحياء
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|