|
حوار أملاه الحاضر 3
عبد المجيد حمدان
الحوار المتمدن-العدد: 3839 - 2012 / 9 / 3 - 13:51
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
حوار أملاه الحاضر 3 منظومة القيم ...إلى أين ؟ فاجأت محدثي بالسؤال : لماذا في رأيك لا يخاف المسلم من الحرام ، ولا يتورع عن ارتكابه ؟ رد محدثي مستنفرا : من قال هذا ؟ من أين لك قول ما تقول ؟ فلا أحد في هذه الدنيا يخشى الله ، ويخاف الحرام ويتجنبه مثل المسلم . قلت : على مهلك يا صاحبي . لو أخذنا أهل هذه القرية ، أو تلك المجاورة ، أو أية قرية أخرى كمثال . أليس أهلها بالمسلمين ؟ ألا يصلون جميعا الأوقات الخمسة جماعة ؟ هل يتغيب أي منهم عن صلاة الجمعة وموعظتها وخطبتها ؟ ألا يصومون جميعا رمضان ويصلون التراويح ؟ ألا يمدون الموائد في رمضان لأولئك اللواتي يوصفن بالأرحام ؟ ألا يتسابقون على تأدية العمرة والحج ، وكثيرون منهم يؤديها أكثر من مرة ؟ قال : قبل أن تواصل ما الذي ترمي إليه وتقصده ؟ قلت : أعتقد أن كل هؤلاء ينطبق عليهم توصيف المسلم . قال : هذا صحيح وبعد . قلت : ويمكن اعتبارهم عينة عشوائية للبلد . يقدم حالهم صورة ، أو نموذجا للحال العام ، ليس في فلسطين وحدها ، وإنما في الإقليم كله . قال : أوافق على هذا أيضا ، وأعاود السؤال : وماذا بعد ؟ قلت : هؤلاء كما سألت في البداية ، استنادا لما أرى ، أسمع ، وألمس ، لا يخافون الحرام . وبالعكس يملكون جرأة ، تحتاج إلى تفسير ، على ارتكابه . صاح محدثي : ها قد عدنا إلى إلقاء التهم بغير دليل ، وإلى قذف المسلمين بما ليس فيهم . والواضح أن الإسلام نفسه ، عبر المسلمين ، تشويهه وزعزعة إيمان المؤمنين بهذه الرسالة العظيمة ، هو المقصود من إلقاء هكذا تهم ، وبهذا الشكل الجزافي . قلت : على رسلك ، كما يقول متقعرو اللغة ، يا صديقي . دعنا ننحي الانفعال جانبا ، ولا ننساق وراء غريزة الغضب ، ونناقش ما تقول أنها تهم ينقصها الدليل بهدوء ، علنا نتمكن من تشخيص حالة ، أنا أزعم أنها عامة ، ومن ثم نفتش عن المسببات ، فلربما نتوصل إلى بعض الحلول . وأضفت : أسألك يا صديقي : أليس الكذب والنفاق والغش والبغضاء والحسد والتزوير والمحسوبية وشهادة الزور والنميمة والسرقة وأكل المال الحرام ، والتزوير في المستندات وفي أي شيء ، والتدليس والتحرش الجنسي والاعتداء على الغير ، أشخاص أو ممتلكات ...قاطعني قائلا : مالك تمضي في هذا التعداد ؟ أليس ماذا ؟ قلت : أليس كل ذلك يقع في أبواب الحرام ؟ ومنه ما يقع تحت باب الحرام المغلظ ، أو الكبائر كما نصنفها ؟ قال : ذلك صحيح . وماذا بعد ؟ قلت : أليس فعل الناس لها بات أمرا عاديا ، وكأنه جزء من سلوكهم وتصرفاتهم التي لا يخشون أية عواقب لها ، لا دنيوية ولا أخروية ؟ قال : لا أوافقك فيما تدعي وتزعم . وعلى فرض أن ذلك يحدث ، ما شأنه بالإسلام وتعاليمه السمحة ، ومنظومة قيمه التي لا تضاهيها منظومة أخرى ، سواء أكانت سماوية أو وضعية؟. قلت : ها قد وصلنا يا صديقي إلى بيت القصيد . ودعني أسألك ، وأرجو أن نلتزم معا ، في إجاباتنا خدمة الصالح العام . كم هي ، في تقديرك ، نسبة الذين لا يمارسون الكذب ، في العمل ، في المعاملات بأنواعها ، في العلاقات ...الخ ، من بين ناس العينة العشوائية التي ذكرناها ؟ بعد لحظة تفكير قال : قليلة . قلت : ومن واقع التجربة التي نعايشها ، كم هي نسبة الذين يرفضون الغش ، إن واتتهم الفرصة ، سواء فيما يبيعون ويشترون ، أو حتى فيما يطلب منهم من نصح أو مشورة ؟ بعد تفكير قال : القليل . قلت وفي تقديرك من جديد : كم هي نسبة الذين لا يقبلون على أنفسهم ولغيرهم ، النصب والاحتيال ، بما في ذلك أكل المال الحرام ، وبيع ما لا يملكون ، والاستيلاء على ما لا حق لهم فيه ، وفعل ما يلزم ذلك من تزوير ، والاستعداد لشهادة الزور ، بل وفعلها أيضا ؟. قال متبرما : كل ذلك قليل . قلت ملحا : كم هي النسبة في رأيك ؟ قال : عشرة في المائة ، ربما أكثر وربما أقل . قلت : وكما تعرف تنتشر في بلادنا أنواع جديدة من السرقات مثل سرقة المياه والكهرباء . في رأيك كم نسبة من يفعلون ذلك في قرانا ؟ قال : حسبما أعرف هناك قرى بكاملها تسرق الكهرباء والماء ، ونسبة كبيرة في أكثر القرى ، لنقل أربعين وربما خمسين بالمائة ، والأمر ذاته في المدن ، خصوصا أصحاب المصالح الكبيرة . قلت وكل الناس ، متدينين وغير متدينين ، يفعلونها في الأعراس تحت حجج وذرائع مختلفة . قال ذلك صحيح . قلت : وهناك من يتبرع من الشيوخ بإفتاء جواز هذه السرقات . قال وذلك صحيح أيضا . قلت : إذن سأختم أسئلتي بهذا السؤال : أنت ربما تقرأ ، وبالتأكيد تسمع ، عن حملات وزارة التموين المتكررة بحثا عن المواد التموينية الفاسدة . وتسمع ولا شك عن مصادرة ، وحرق ، عشرات الأطنان ، بين الفينة والأخرى ، من اللحوم والمعلبات والمواد الغذائية الفاسدة ، والتي أعيد تغليفها ، وتزوير تواريخ صلاحيتها . والحال هذا يتكرر ويتكرر ، والسلطة ، رغم ما يقال عن ضبط واعتقال التجار المستوردين ، لا تقدم أحدا للمحاكمة . ويبدو للمواطن العادي أنه يعايش دائرة جهنمية لا سبيل أمامه إلى الخروج منها . وأضفت : تجار الأغذية المستوردون معروفون . وطرح أغذية فاسدة في السوق ، يمكن أن تلحق الضرر ، وقد تقتل أناسا ، وبينهم أطفال وعجزة ومرضى ، أكبر من أن يوصف بالجريمة ، أو بالكبيرة ، وهو ، حسب تصوري من كبريات الكبائر . وما لا يجوز غض النظر عنه هنا هو أولا : صفات هؤلاء التجار المستوردين . هم مسلمون ، حسب التوصيفات التي بدأنا بها . وبينهم من يؤدي العمرة سنويا ، ومن حج ، ويواصل الحج ، مرات عدة ، قد تزيد عن المرات العشرة . أي أن مثل هذا التاجر يتعدى صفة المسلم ليضيف إليها صفة المؤمن ، شديد الإيمان أيضا . وثانيا ، وهذا التاجر المسلم المؤمن يعرف ، وهو يحدد هدفه سلفا ، بجني هذا الربح الحرام ، وهو ربح ضخم بكل تأكيد ، نقل حال أمثاله نقلات كبرى ، يعرف أن فعله حرام في حرام . والسؤال هو : كيف ولماذا لا يخشى ارتكاب هذا الحرام ، وهو جريمة ، لا يوفيها الوصف بالكبرى حقها ؟ وكيف يبرر لنفسه ارتكاب هذا الحرام ، وينام مطمئنا لا يخشى عقاب الدنيا أو عقاب الآخرة ؟ وكيف نفهم نحن ، وكيف يفهم هو ، هذا الاطمئنان الذي يغشى عقله وقلبه ، بأن مصيره الجنة لا ريب فيها ؟ منظومة القيم : قال محدثي : حتى الآن لا أفهم إلى أين تحاول أن تقودني في حوارنا هذا . قلت : لنرجع قليلا إلى الوراء ، ولنحاول استرجاع وقائع أحد بنود الصراع ، الذي دار بين تيارات الإسلامي السياسي ، والتيارات التي وصفت بقوى الحداثة ، أو السعي للحاق بركب الحضارة . منظومة القيم والمثل والأخلاق والسلوك ، ظلت أحد الميادين الكبرى لهذا الصراع ، أو لنقل التنافس حسب رغبتك . وأذكرك أن المجتمعات البشرية ، بأديانها المتنوعة ، واختلاف درجات تطورها ، تتفق على الكثير من القيم ، التي تحاول تيارات الإسلام السياسي قصرها على الإسلام . فلا يوجد مجتمع في العالم ، صغر أو كبر ، يعتبر الكذب ، أو الغش ، أو النفاق ، أو الدجل ، أو الحسد ، أو التزوير ، أو شهادة الزور ، أو السرقة ....الخ فضيلة . ولا أحد في العالم يعتبر البخل مثلا فضيلة والكرم رذيلة . ومثلها كل نقائض الصفات السابقة . المهم أن تيارات الإسلام السياسي حاولت كل جهدها إحلال ما تصفه بالقيم الإسلامية محل ما تصفه بقيم الغرب المستوردة . واكتفت في البداية بمكاسب محدودة ، زادتها توسيعا وتعميقا مع الزمن . بداية نجحت في إدخال النصوص القرآنية في المناهج المدرسية . ثم ألحقت ذلك بما تصفه بنظام التربية الإسلامي على المدارس . واتسع هذا كثيرا فيما بعد . ومنذ بداية التسعينات تحقق لها ما يقرب من النصر الكامل في هذا الميدان . والمنابر التي تستخدمها لتثبيت وتعميق مشروعها التربوي هذا متنوعة ومتعددة جدا . فتحت يدها عشرات آلاف ، إن لم يكن اضعف أضعاف هذا الرقم ، المنابر في المساجد . ومنها يحذر على المسلم غير التمسك بفضيلة الاستماع ، والعمل بفضيلة القبول والطاعة . وهناك مئات الفضائيات ، والإذاعات والصحف ، ووسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية الأخرى . ومنذ سنوات بدأت الهيمنة على رياض الأطفال ، واستخدام فضائيات مخصصة وموجهة لتشكيل عقولهم ....الخ . هذا غير عشرات آلاف الدعاة والداعيات ، والوعاظ والواعظات . باختصار ، حجم الجهد المبذول في هذا الميدان هائل إلى حد يصعب تمثله أو تصوره . وبات واقعا الإقرار بانتصار هذا الجهد ، المتمثل في إزاحة ما يوصف بمنظومة الأخلاق والقيم المستوردة ، وحلول ما يعرف بمنظومة القيم الإسلامية مكانها . وما يلفت الانتباه ذلك الاطمئنان من الأئمة والدعاة والواعظين ، والقائمين على تيارات الإسلام ، بأن كل شيء قد غدا أفضل . التربية الإسلامية وازدواجية المعايير :
قال محدثي : ولكن هذه هي الحقيقة . الرذيلة تراجعت . والفساد الذي غزانا من الغرب انكمش . وهو في طريقه للانحسار الكامل . والأسرة تعافت من حالة التفكك الذي أصابها ، وغدا حالها أفضل . نعم كل شيء غدا أفضل بكثير مما كان . قلت أنا أعرف قصدك من الحديث عن الرذيلة والفساد ، والذي سنخصص له جلسة حوار كاملة . وأضفت مشكلتكم أنكم تحكمون على الظاهر ، ولا تلتفتون إلى المستور ، المختفي تحت قشرة الظاهر . في الظاهر غدا الناس ، بأدائهم لطقوس العبادات أكثر تدينا ، والمفترض أنهم أشد تمسكا بفضائل الأخلاق . مثلا لا تلتفتون إلى السؤال ، الذي يتردد على الألسنة ، والقائل : لماذا ، وكيف نفسر أنه كلما زاد تدين الناس في الظاهر ، زاد فسادهم ؟ هذا السؤال ليس اتهاما للمتدينين ، بقدر ما يعكس حقيقة لا سبيل إلى المرور عنها ، أو السكوت عليها . ومضيت : أنتم كما أشرت تعنيكم المظاهر ، وترفضون مبدأ دراسة أي ظاهرة ، أو اللجوء للبحث والاستقصاء حولها ، أو حتى عمل استطلاع رأي ، للوقوف على الحقيقة . وبالطبع لا تؤمنون بالإحصائيات التي توضح حقيقة نمو ظاهرة أو اختفائها ، لا لشيء إلا لأنها ، في نظركم بدعة . هناك مثلا من جادلني أن المجتمعات الإسلامية محصنة ضد أمراض المجتمعات الغربية ، ومنها إدمان المخدرات والاتجار بها . والإصابات بمرض نقص المناعة ، الإيدز . ويتحدث مزهوا كيف أن هذه المصائب تأخذ بخناق المجتمع الإسرائيلي ، في حين أن المجتمع الفلسطيني ناجٍ منها ، بفضل حالة التدين التي يعيشها . وإن سألته عن الإحصائيات التي استند إليها ، يتذكر الجانب الخاص بإسرائيل منها ، ويقر بعدم توفر إحصائيات فلسطينية ، ليأخذها كدليل على خلو فلسطين من هذه الآفات ، رغم الحقيقة المرة التي نعيشها ، والتي تقول بعكس قوله . قلت لمحدثي : والآن ، وبعد ما قطعنا هذا الشوط في حوارنا ، دعنا نعود إلى البداية . إلى السؤال : لماذا لا يخاف المسلم الحرام ، ولماذا لا يخشى ارتكابه ؟ قال : أنا مصر على ما قلته : هذا زعم غير صحيح ، إذ لا أحد في عالمنا هذا يخشى الله ، ويحفظ شرعه ، وبالتالي يجتنب ما حرم مثل المسلم . قلت : إذن يبدو أن هناك ضرورة لتذكيرك بإجاباتك على أسئلتي التي بدأنا بها هذا الحوار . أما أنا فسأجتهد لأجيبك على لماذا التي بدأت بها هذا السؤال . أنتم يا سيدي تعتمدون الوعظ بديلا ليد العدالة وحكم القانون . لأن القانون في رأيكم مستورد ويخالف الشريعة . وأنتم لا تألون جهدا ، ولا تفوتون فرصة ، إلا وتستغلونها في وعظ الناس على التزام الفضيلة ، والتحلي بمكارم الأخلاق . ولا ينكر ذلك إلا جاحد أو مكابر . لكنكم في مواعظكم لا ترون ما تنطوي عليه استشهاداتكم من ازدواجية للمعايير . لا ترون أنها تحمل الشيء ونقيضه في آن . لا ترون أنكم وأنتم تحببون الناس في المكارم ، تدفعونهم في ذات الوقت إلى المغارم . قفز صديقي محتجا : هذا كلام غير صحيح ومردود عليك . نحن نحبب الناس في مكارم الأخلاق ، نحضهم على الفضيلة ، ونبصرهم بألوان الرذيلة ، ونحصنهم ضد ارتكاب ما يغضب وجه الله . قلت : مرة أخرى على رسلك يا صديقي . سأكتفي بعرض أربعة أدلة للبرهنة على صحة قولي . 1. أنت تعرف ولا شك الآية { إن الحسنات يذهبن السيئات } ، وكيف أن الدعاة والوعاظ حين يذكرونها ، يعقبونها بالحديث [ أتبع السيئة بالحسنة تمحها – تمحوها - ] . وأنا لا أظنك قبل الآن تخيلت أن لهذه الموعظة وجهين متناقضين . الوجه الأول حسن ، بل رائع ، إذ هو يدعو ، يحض جمهور المسلمين على فعل الخير . وكل عمل خير – الحسنة – تسقط عن الفاعل سيئة سبق وأن عملها . لكن ألا ترى يا صديقي أنه ما دام محو السيئة سهلا هكذا ، فإن هذه السهولة تسقط أي حاجز قائم في النفس يمنع ارتكابها ؟ ألا ترى أن هذه الموعظة كما تحمل الدعوة إلى الخير في أحد وجوهها ، تحمل دعوة أشد وأقوى لإسقاط الخوف من فعل السيئة . هذه الموعظة تقدم للسامع معادلة سهلة وبسيطة غاية البساطة . إعمل ما بدا لك من المعاصي ، ولا تخف ، ألحق بكل معصية تعملها حسنة . وإن كنت تملك المال فلا معصية مهما عظمت ، يستعصي عليك محوها . هذه موعظة لكسر حاجز الخوف من فعل أي محرم . 2. يروي الوعاظ وأئمة المساجد عن الرسول حديثا مفاده التالي : أن مجرما ارتكب أنواعا شتى من الجرائم بينها قتل 99 نفسا . هذا المجرم خطر له أن يتوب . توجه إلى عالم يسأله إن كان من الممكن قبول توبته . وقص على العالم سلسلة جرائمه ، ومن بينها ال 99 نفسا . أفتى العالم بانعدام أي إمكانية لقبول توبته ، فما كان منه إلا أن قتل العالم ، ليكمل على المائة . بعد فترة عنت على باله التوبة ، فتوجه إلى حكيم عالم يسأله ، وحكى له كيف قتل العالم الذي أفتى بعدم قبول توبته . أفتى هذا العالم الحكيم ، أو الحكيم العالم ، بقبول توبته ، فتاب ودخل الجنة . قلت لمحدثي : بداية أسألك هل هذا الحديث صحيح ؟ قال : أعتقد أنه غير صحيح . قلت إذن كيف تفسر إذاعته مرارا وتكرار من سماعات المساجد ، وكيف تفسر انتشاره كشريط ، يفرضه على سمعك سائقو حافلات النقل العام ، كلما أتعسك الحظ وصعدت إلى إحداها ؟ قال حقيقة لا أعرف . قلت ولكنك حين تسمعه تسكت ولا تعترض . قال : ذلك صحيح . قلت : دعنا الآن نترك تفنيده وإثبات أنه حديث غير صحيح ، ولنركز معا على جوانب الموعظة فيه . هذا الحديث يحبب الناس في التوبة ، وهذا وجهه الحسن ، لكنه في وجهه الثاني ينزع الخوف من قلوب المؤمنين إزاء الجرائم الكبيرة . فما على من يقترف الجريمة ، بل ومائة جريمة قتل ، إلا التوبة ، ليمحو كل ذلك ، وأكثر منه يضمن دخول الجنة . ألا يشكل مثل هذا الحديث المنسوب للنبي ، دعوة صريحة وفجة ، غاية في الفجاجة ، لعدم الخوف من الحرام ، ومن فعل هذا الحرام ؟ قال : في هذه معك حق . قلت إذن دعنا ننتقل إلى أخرى . 3. المثل الشعبي ، كما لا شك تعرف ، هو تكثيف وتكريس لخبرة أجيال من الناس ، في بضع كلمات . هناك مثل شعبي فلسطيني يصف جرأة الشخص على ارتكاب فعل السيئة قبل وبعد أدائه لفريضة الحج . يقول المثل عن الحاج " بيروح قدوم بيرجع منشار " . والقدوم والمنشار أداتان من أدوات النجارة ، الثانية أكثر فعالية في التقطيع من الأولى بما لا يقاس . والمثل واضح في معناه ، وهو أن أذى الشخص لمن حوله يكبر كثيرا بعد الحج عما كان قبله ، أو جرأته على فعل المعصية تزداد كثيرا بعد الحج عما كانت قبله . وأنا أسألك : لماذا يتمسك الناس بهذا المثل ؟ لماذا يزداد الشخص قدرة وجرأة على الأذى ، قي نظر من حوله ، بعد حمله للقب الحاج ؟ قال : في الحقيقة لا أدري ، وأنا أفترض أنه يعود من الحج أفضل بكثير مما كان عليه قبل ذلك . قلت : مرة أخرى أذكرك بأنه ربما لم يخطر في بالك التوقف ، ولو لدقيقة ، لفحص المواعظ التي تحض على أداء هذه الفريضة . في تحبيب المسلم لتحمل عناء هذه الفريضة ، يقولون له أن أداءها يسقط عنه كل ذنوبه قبلها . تسقط عنه هذه الذنوب على سفح جبل عرفات ، ويعود بعدها طاهرا من الذنوب كما ولدته أمه . أنتم بالطبع ترون هذا الجانب الرائع من هذه الموعظة ، وهو تحبيب الناس في أداء هذه الفريضة المقدسة . لكن هل توقفتم مرة للنظر إلى الجانب الآخر منها . جانب كسر حاجز الخوف من ارتكاب الذنب ، بل وغرس الجرأة على ارتكابه ، لأن الخلاص منه ، من كل الذنوب ، مهما كثرت ، تنوعت ، وعظمت ، سهل وبسيط : مجرد أداء فريضة الحج . وكأنكم تقولون للمسلم : افعل الأفاعيل ، ولا يهمك ، اذهب إلى الحج ، تغسلها كلها ، تسقطها كلها من على منحدرات جبل عرفات ، وتعود نظيفا ، جميلا وطاهرا كما ولدتك أمك . ثم ابدأ دورة ارتكاب الذنوب من جديد ، ثم قم بعملية غسلها مرة بعد أخرى . ترى هل فهمت الآن لماذا يواظب تجار المواد الغذائية الفاسدة ، ومثلهم تجار المخدرات ، التي يمكن أن تحصد الأرواح بلا حساب ، على أداء الفريضة كل سنة ؟ 4. وأخيرا في الدعوة لتحجيب المرأة ، يكثر الدعاة من الحديث عن جسد المرأة العورة ، وعن الفتنة من كشف شعرها أو نحرها أو أي جزء آخر من جسدها . وفي تحريك وإلهاب غرائز الرجل . وفي الحديث هذا ينسون ، أو يتناسون أن أكثر أجزاء جسد المرأة المسلمة ، ولكن الأمة ، ملك اليمين ، العبدة ، لم تكن لا عورة ولا مثار فتنة . المهم أن الواعظ لا يرى من وعظه غير جانب الحض على الفضيلة ، والوصول إلى مجتمع نظيف ، يسد كل الطرق أمام الرذيلة . وأظنك أنت لا ترى غير هذا الجانب . قال محدثي : نعم صحيح ، فليس في هذه الموعظة غير هذا الجانب . قلت : هل تكرمت ونظرت إلى جانب الرجل ؟ هل فكرت فيما يمكن أن تفعله هذه الأقوال ، وانتفاخ عروق القائلين بها ، في شاب يمر بفترة المراهقة ، أو في شاب معافى وصحيح الجسم ، يشعر بعنفوان الشهوة ، ولا يجد سبيلا إلى زواج كريم ؟ يا سيدي ما تفعله هكذا مواعظ ، والتأكيد على فتنة جسد المرأة ، وصوتها ، ومشيتها ...الخ ، في مثل هذا الشاب ، هو إيقاظ غريزته ، وحتى تحويلها إلى وحش ، يفقد مع الوقت زمام السيطرة عليه ، فيغلبه محولا إياه من إنسان ، يملك غرائزه ويحكمها ، إلى بهيمة تملكه هذه الغرائز وتتحكم فيه . وإلا بمَ تفسر حالات التحرش والاغتصاب التي يصرخ الناس في كل أقطار العرب من تفاقمها ؟. وستقول لي ولكن الحل قائم وموجود ، وهو الذي يجنب الرجل البهيمة من السقوط في هاوية الزنا . وهذا الحل في لباس المرأة الشرعي والحجاب . وأقول لك : لكن اتضح أن إيقاظ غريزة الرجل وتحويلها إلى وحش لم يوقفها تحجيب المرأة . و جرى اقتراح حل النقاب . ثم كان أن بان فشل هذا الحل أيضا . وغدت الدعوة إلى حجز المرأة في البيت ، هي الحل . فلا حل لوقف وحش غريزة البهيمة الرجل إلا الفصل التام الكامل بين الجنسين . لكن الواقع المسكوت عنه يصرخ قائلا : لكن هذا الفصل التام والكامل ، بحبس المرأة في البيت ، بعد فشل حبسها في الحجاب ثم النقاب ، سيفاقم من جرائم سفاح الأقارب ، ومن جرائم الاغتصاب . ففي المناطق المكتظة كالمخيمات في فلسطين ، والأحياء الفقيرة والعشوائية في مصر ، ونظيراتها في باقي البلاد العربي ، يكون هذا الفصل المنشود من عاشر المستحيلات . لكن الحكمة على ألسنة الدعاة تقول : كل ما هو مستور مقبول . أخيرا سأختم حوار هذه الحلقة بحادثة وقعت في قرية من قرانا ، تحولت روايتها إلى نكتة سوداء . تقول الحادثة أن شخصا من كثرة تدينه يطلق الناس عليه لقب الشيخ . هذا الشيخ ، كالكثيرين من أبناء قريته ، سرق الماء . كسر الأنبوبة قبل العداد ، ربطها بانبوب مطاطي وملأ بئر الجمع خاصته من هذا الماء المسروق ، الذي ظل هو وعائلته يستخدمونه في الوضوء والاغتسال ، والشرب واحتياجات المعاش الأخرى . المهم أن الرجل مات . ولغسل جثمانه أحضر أهله ماء من عند الجيران . لماذا ؟ لأنه لا يجوز شرعا غسل جثمان الميت بالماء الموجود في بئر الدار . وتناقل الناس هذه الحادثة بعض ، ثم مثل أي شيء آخر تناسوها ، بعد أن حل مكانها جديد .
#عبد_المجيد_حمدان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حوار أملاه الحاضر 2
-
حوار أملاه الحاضر
-
عفوك يا سماحة المفتي 3
-
خطوة للأمام ... عشر للوراء
-
عفوك يا سماحة المفتي 2
-
تسونامي إسلامي يضرب جامعة بيرزيت
-
يافخامة الرئيس لم تقدم شعوبنا كل هذه التضحيات لتحصل على ديمو
...
-
قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 17 اختطاف الثورة قبل الأخ
...
-
عفوك يا سماحة المفتي هذه ليست مساواة
-
تغيير يوجب تغييرات
-
قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 16 تغيير ام إصلاح
-
قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 15 المثقفون وأدوارهم 4 سو
...
-
آفاق المرأة والحركة النسوية بعد ثورات الربيع العربي
-
قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 14 المثقفون وادوارهم 3 مخ
...
-
قرراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 13المثقفون وأدوارهم 2
-
قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 12
-
قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 11مخاطر على الديموقراطية
...
-
قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 10 مخاطر على الديموقراطية
...
-
عن دور اليسار في ثورات الربيع العربي
-
قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 9 مخاطر على الديموقراطية
...
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|