جهاد علاونه
الحوار المتمدن-العدد: 3839 - 2012 / 9 / 3 - 09:20
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
إن الكتابة تبدأ بجرح بسيط في مشاعر الكاتب ثم يبدأ هذا الجرح بالتوسع فتسيل منه كثير من الروائح التي تملئ المكان والأودية والأسواق ومحلات العطارة لبيع الكتب,وهو الجرح الوحيد الذي لا يمكن تضميده ووقف نزيفه للأبد ويفتح نفسه بنفسه يوميا بشكل تلقائي وفي أي لحظة فالكاتب الحقيقي لا يعرف متى يبدأ جرحه بالنزيف وبالتوسع إنه يفتح نفسه أحيانا وبدون أي مقدمات.
فمن الممكن أن ينفتح جرح الكاتب وهو نائم أو وهو في المطبخ أو الحمام أو الشارع العام أو وهو جالس بين أهله أو أصحابه وعدة مرات قمت من بين أولادي وأنا ألاعبهم لكي أكتب.. وعدة مرات كان هذا الجرح يفتح نفسه تلقائيا وأنا راكب في سيارة خاصة أو باص عمومي وأحيانا وأنا أمشي في الشارع فأتوقف للحظات لكي أدون ما خطر ببالي وأحيانا ترافقني مع هذه الحالة دمعة رقيقة تنبع من قلبي, إن الكتابة وصناعة الكلمة عملا يقوم به إنسان واحد بخلاف كل المشاريع التي يقوم بها فريق عمل متكامل من المهندسين والفنيين والعمال رغم أن هنالك من يشترك مع كاتب آخر في تأليف كتاب غير أن الفصول لا تتداخل مع بعضها ويبقى لكل كاتبٍ فصله الذي كتبه.
وأسلوب الكاتب في الوصف والتحليل والتشخيص يصبحُ مع مرور الزمن طابعه الخاص تماما كالطابع البريدي للدولة الذي يوضع على الأوراق والمستندات الرسمية ,وعالم الكتابة عالمٌ محفوف بكثيرٍ من المخاطر وأحيانا تكون الكتابة عبارة عن رحلة ضياع وتخيلات كلها أوهام غير حقيقية والمشكلة أن تلك الأوهام تتحول إلى حقيقة لا يمكن تكذيبها أو تكذيب صاحبها ,إنها رحلةٌ يضيع فيها الكاتب بين مشاكله الخاصة ومشاكل العالم من حوله وأحيانا لا يدري الكاتب متى سيبدأ بالاهتمام بنفسه أكثر من اهتمامه بمشاكل الناس ومعظم الكتّاب تنتهي حياتهم للأبد دون أن يتفرغوا ولو يوما واحدا لأنفسهم, وأحيانا تكون الكتابة رحلة إلى عالم جنوني وهستيري وأحيانا تكون الكتابة رحلة إلى عالم آخر مجهول ينسى فيها الكاتب نفسه وأسمه وعنوانه تماما كما حدث مع الفيلسوف شوبنهور حين كان يتنزه في إحدى المنتزهات بطريقة محيرة وملفتة للنظر مما دفع بجيران المنتزه للاشتباه به فاتصلوا بالشرطة وأخبروهم عن شخص مجهول يقوم بحركات وتصرفات غريبة داخل المنتزه وحين حضر رجال الأمن تقدم منه الشرطي وسأله قائلا: أنت..أنت..قلي لي ما تفعل هنا ؟..وقل لي من أنت؟ فأجاب الفيلسوف: صدقني إذا أجبت لي عن هذا السؤال سأكون ممتناً لك جدا.
حين يأتيني وحي الكتابة أو شيطان الكتابة اشعر بأن هنالك شيء في رأسي وفي قلبي وأريد أن أخرجه تماما كما تشعرُ المرأة بالولادة, وحين اشعر بالكتابة تنتابني حالات وعلامات لا أراها أنا بل تراها الناس وتعرفها من خلال ملامح وجهي فأبدأ برش الملح على جرحي وقلبي لأتألم أكثر وأتعذب أكثر وأحيانا إلا يشعر أحدٌ غيري بساعة الصفر للكتابة على رأي(رونالت بارت صاحب كتاب:( درجة الصفر للكتابة)...لا أحد يشعر بمرارة الألم في داخلي كما أشعر به أنا شخصيا فأشعر بأن هنالك انتفاخ في قلبي وتوسع كبير للجرح الذي يتمدد وينشطر من جرح واحد إلى عدة جروح ,وأشعرُ بصداع في رأسي واحمرار شديد في عيوني ويبدأ لساني بالحركة داخل فمي فأتذوق طعم الكلمات وأنا أطهو بها قبل أن تخرج للقارئ الباحث عن لذة الكتابة ودائما ما أكون حريصا على إخراج وجبة كتابة ساخنة من رأسي وقلبي ليأكل القارئ بنهم وتلذذ تماما كما كانت أمي تتذوق بلسانها وبفمها ما تطهوه لنا من أطعمة وفي كل مرة تتذوق ما تطهوه تضيف على طعامها الملح أو الإماء أو البهارات كما أضيف أنا الملح على جرحي الكبير, وهي تحتاج إلى درجة عالية من الحساسية والحرارة تماما كما تحتاج بعض المأكولات إلى درجة حرارية عالية جدا حتى تنضج لتصبح جاهزة للأكل.وحين أريد أن أضع مقالا لي بين يدي القارئ تجدني قبل ذلك أضيف وأقوم بالتعديل على بعض الكلمات كما يضيف ويعدل الطاهي على أطعمته مقبلات حارة وحلوة ومالحة, وطعم الكتابة وهي بفمي مثل طعم الشوكولاته بفمك أو بفم أي طفل صغير وأحيانا لا أشعر بالحلاوة وإنما أشعر بمرارة الحياة ومرارة آلام الناس وأوجاعهم, ودرجة حرارتي للكتابة دائما مرتفعة ودائما أنا مرهف الحس والوجدان والضمير ولا يمكن أن يمر عليّ يوم دون أن ألعق جرحي بلساني بعد رش الملح عليه, وحبي للكتابة يعادل حب جميل لبثينة وكُثير لعزة وعنترة العبسي لليلى وأنطونيو لكليو بترا,وجنوني في الكتابة يشبه جنون قيس في ليلى, إنني وأنا على وشك الاقتراب من الكتابة أشعر بأنني كالمرأة الحامل في ساعاتها أو في دقائقها الأخيرة فأنا كل كتاباتي أنجبها إنجابا وأشعرُ أحيانا بأنني أريدُ أن أنجب من رأسي ومن قلبي وما يخرج من قلبي ولساني ورأسي أشعرُ بهما وكأنهما قطعة مني يعز عليّ أن أعطيهما لغيري أو أن يضع غيري اسمه على ما أنتجه من حروف وأفكار وكلمات,وحين أنظر إلى ما أكتبه من كلمات تصيبني حالة من الهيام الأمومي(الأمومة) وأمد يدي إلى صدري لكي أُرضع كلماتي وحروفي وأفكاري من ثديي وهذا أسمه إرضاع الكتابة وليس إرضاع الكبير رغم أنني لست امرأة... وكما يستحيل على المرأة ترك ابنها لا يمكن أنا بأي شكلٍ من الأشكال أن أفرط بما أنتجه أو أنجبه من كلمات ومقالات وأحيانا قصائد شعرية وأفكار, وأن تصبح يا صديقي كاتبا كبيرا فهذا العمل أو هذه الوظيفة ليست سهلة إطلاقا فالكتابة هي أصعب فن موجود في هذا الكون العظيم وهذه المهنة هي أرقى مهنة يحترفها الإنسان, فالكتابة عمل هندسي ضخم مثلها مثل هندسة بناء المركبات الفضائية بل وأصعب ومثلها مثل ساعة حائط كبيرة وقال أحد الحكماء: إن صناعة الكتابة مثلها مثل صناعة ساعة الحائط فهي تحتاج إلى أكثر من النباهة.
وأنت تحتاج إلى أكثر من النباهة لكي تكون كاتبا أو لكي تحترف مهنة صناعة الكتاب, والكتابة عمل إنساني عظيم وهي أعظم وأصعب من بناء الجسور وناطحات السحاب, ويستطيع أي مهندس أن يشغل مكان أي مهندس متخصص ببناء الهياكل العظمية ولكن لا يستطيع أي كاتب أن يشغل مكان كاتبٍ آخر تماما كما أنه ما زالت الزاوية الخاصة بالكاتب العملاق صلاح جاهين حتى اليوم مفتوحة ولا يشغر مكانها أي كاتب آخر بعد رحيل الكاتب إلى العالم الآخر ذلك أن الكتابة عملية خلق كبيرة من لا شيء لأن الكاتبة مخلوقة وبنفس الوقت خالقة وخلاقة.
والكتابة بكل ما فيها من فنون ومن جنون بحاجة إلى إنسان يشعر بما يجري من حوله فيتأثر بالناس ويؤثر بهم ولا يمكن أن يكون الكاتب محبوبا بين الناس إلا إذا لمس جراحهم بيديه تماما كما يمسك الطبيب الجراح المشرط بيديه ليفتح الجرح ويداويه, والكتابة بحاجة إلى لياقة عقلية وكثرة تفكير وبحاجة إلى لحظات يشعر فيها الكاتب بأنه قد فارق هذا الكون وسافر إلى عالمه الخاص, فكل الكتاب لهم عالم خاص وحياة ليست طبيعية تختلفُ عن حياة كل البشر والناس وإن عالم الكتابة مثل رواية(ألس في بلاد العجائب) حيث هنالك كل شيء مختلف, وأعظم الكتاب تأثيرا في الناس تكون لديه قابلية للجنون ذلك أن إحساسه بالناس شديد جدا وهو يشعر مع الآخرين ويتذوق طعم حياتهم بنفس الوقت الذي من النادر عليه أن يجد إنسانا يشعر به, والكتابة ليست عملا سريا أو عملا يصنعه الكاتب بيديه ثم يدفنه في مكان سري تحت الأرض أو في داخل البحور السبعة, والكاتب حين يكتب لا يخفي ما لديه من كتابات على الناس ذلك أن الكتابة تنوير ونور وتسعى للتغيير لذلك الكاتب الحقيقي لا يكتب تحت أسماء مستعارة بل يكتب تحت اسمه هو سواء اختلف مع الناس أو اتفق معهم في وجهات النظر, وبما أن الثورة لا تحدث في الخفاء والسر فإن الكتابة كذلك العمل ولا يمكن أن نغطيها أو أن نحجبها تماما كما يستحيل علينا جميعا أن نغطي الشمس بقطعة معدنية.
#جهاد_علاونه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟