|
التمثيل والتشبيه في الكتب السماوية
امال رياض
الحوار المتمدن-العدد: 3837 - 2012 / 9 / 1 - 23:04
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أن الإسلام بمعنى التسليم والانقياد لأوامر الله هو جوهر الدين بصفة عامة في كل الرسالات الدينية المتعاقبة ورغم أن لكل رسالة -منها- خصائصها ومظاهرها وآثارها وشريعتها، إلاّ أن الإسلام بقي صفة مشتركة بينها. والمقصود بالتسليم أو الإسلام لله أن يتحرر المرء من التقليد والأوهام فلا يكون الباعث على طاعته لأحكام الدين مراعاة العادات والطقوس السائدة في مجتمعه أو تفادي اللوم لخروجه عن المألوف، وإنّما يكون رائد سلوكه هو الحرص على الانقياد لإرادة الله وحده. فلا يخضع في عقيدته لغير ما يؤمن أنه مراد الله. وسبيله إلى ذلك البحث والتأمل مع صفاء الوجدان وخلوص النيّة. والإسلام بهذا المعنى هو لباب الرابطة الروحانية بين الخلق والحقّ.
أمّا ما ذهب إليه بعض المفسرين من اعتبار كلمة "الإسلام" في كل المواضع مساوياً لرسالة سيدنا محمد أدّى إلى الخطأ في فهم حقيقة العهد الإلهي. لأن التضييق في معنى "الإسلام" انتهى بهم إلى القول بتوقف الفيض الإلهي وانتهاء الرسالات السماوية برسالة سيدنا محمد. واستخرجوا هذا الظنّ من قوله تعالى: "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقبَلَ مِنهُ". وهو خطأ مشابه لما نتج عن سوء تفسير "خاتم النبيين" على النحو الذي رأيناه في الصفحات السابقة.
والخطأ في تفسير لفظ الإسلام مناقض لكثير من آيات الكتاب فيما يتعلق ببشارتها بمجيء عيسى وما روته الأحاديث الشريفة عن مجيء المهدي. ولعل من نافلة القول أن نعيد إلى الأذهان أن من أهم العوامل التي أوقعت المفسّرين في الشبهات هي تصديهم لتفسير الكلام الوارد على سبيل المجاز في الكتب السماوية أخذاً بظاهر لفظه، وتسليماً للوهم بأبدية رسالة سماوية يكنون لها الولاء ويرون فيها الكمال.
ويتناول الفصل الثالث عرضاً مختصراً لصور من هذا المجاز، وعلة استعماله في الخطاب الإلهي، وبيان معانيه التي التبست على المفسرين فأوقعتهم في أقوال هي أقرب إلى الخرافة منها إلى الحقيقة. وأكثر صور المجاز الواردة في الكتب السماوية التشبيه والأمثال. ولفظ "المََثَل" يساوي "الشَّبَه" وزناً ومعنىً، وغايتهما تمثيل المعاني المعقولة بصور تدركها الحواس، وذلك على أساس وجود نسبة بين المعقول والمحسوس تجعل إدراك المفاهيم المجردة وتصورها أيسر على الإنسان. وقد كثر استعمالهما في الكتب المقدسة لاستحالة تقريب أسرار الغيب إلى أذهان الناس بدون استدعاء ما يقاربها مما عرفوه وألفوه وخبروه بحواسهم. وبدون ذلك التمثيل يكاد يكون من المحال تصور شؤون عالم الملكوت.
وليس بسرّ أن كثيراً من بيان السيد المسيح الوارد في الكتاب المقدس يجري على نهج الأمثلة والتشبيهات. وعندما سأله الحواريون عن سبب حديثه بالأمثال أجاب: "لأَِنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ لَكُم أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ السِّمَوَاتِ"١. ومقصد الكلام أنّه لا يمكن للإنسان معرفة شؤون عالم الغيب إلاّ بمقارنتها بما يقاربها في عالم الشهود. ويوضح السيد المسيح مفهوم الملكوت بمثال يقربه إلى الأفهام فيقول: "يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ حَبَّةَ خَرْدَلٍ أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَزَرَعَهَا فِي حَقْلِهِ. وَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ البُذُورِ. وَلَكِنْ مَتَى نَمَتْ فَهِيَ أَكْبَرُ البُقُولِ وَتَصِيرُ شَجَرَةً حَتَّى إِنَّ طُيُورَ السَّمَاءِ تَأْتِي وَتَتَآوَى فِي أَغْصَانِهَا"٢. ومراد حضرته أن الملكوت هو التعاليم الروحانية التي يستهين بها الإنسان وتبدو ضئيلة الفائدة بالقياس إلى غيرها من المنافع المادية والنعم الدنيوية، ولكن مآل هذه المبادئ ومغانمها الروحانية لمن يهتم بها، وحرص على ممارستها أكبر وأعظم من كل ما عداها من ألوان النعم المادية.
وكما جاء في القرآن الكريم: "يَضْرِبُ اللهَ الأَمْثَالَ لِلْنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ"٣، وقوله أيضاً: "تِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلْنَّاسِ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ"٤. وقد زخر القرآن الكريم بالأمثال من ذلك قوله تعالى: "اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيْهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوْقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَو لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ، نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلْنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ"٥.
وأساس هذا المنهج في تقريب المعاني المجردة هو وجود صفات مشتركة أو نسبة بين المعقول المراد بيانه والمحسوس الذي يماثله ولو على وجه التقريب. وهذا يقتضي أن يكون ضارب المثل واقفاً على حقيقة الأمر المعقول الذي يريد أن يبيّنه حتى يتسنى له أن يأتي بمثيله المحسوس الذي يطابقه أو يقاربه. ولا يلزم أن تكون بين المعقول والمحسوس مطابقة تامّة، ويندر أن يكون الحال كذلك، بل يكفي أن تكون بينهما مشابهة ولو على وجه التقريب يتسنى معرفتها من سياق الكلام. وفي شرح لهذه النقاط قال الغزالي: "فاعلم أن العالم الملكوتي عالم غيب، إذ هو غائب عن الأكثرين. والعالم الحسّي عالم شهادة إذ يشهده الكافّة. والعالم الحسّي مَرقاة إلى العقلي. فلو لم يكن بينهما اتصال ومناسبة لانسدّ طريق الترقّي إليه. ولو تعذّر ذلك لتعذّر السفر إلى حضرة الربوبية والقرب من الله تعالى".
لما كان عالم الشهادة مرقاة إلى عالم الملكوت، وكان سلوك الصراط المستقيم عبارة عن هذا الترقي؛ وقد يُعبّر عنه بالدين وبمنازل الهدى - فلو لم يكن بينهما مناسبة واتصال لما تصور الترقي من أحدهما إلى الآخر - جعلت الرحمة الإلهية عالم الشهادة على موازنة عالم الملكوت: "فما من شيء من هذا العالم إلاّ وهو مثال لشيء من ذلك العالم. وربما كان الشيء الواحد مثالاً لأشياء من عالم الملكوت. وربما كان للشيء الواحد من الملكوت أمثلة كثيرة من عالم الشهادة. وإنما يكون مثالاً إذا ماثله نوعاً من المماثلة، وطابقه نوعاً من المطابقة"٦.
وسيتناول هذا الفصل مناقشة بعض أمور من عالم الملكوت التي وردت في الخطاب الإلهي بعبارات مناسبة لعالم الشهود وصور حسّيّة تقرّبها إلى أذهان البشر وفهمهم. وكل هذه الأمور سبق أن تعرض لها في الماضي الكثير من المفسرين والمفكرين دون أن يقدّموا ما يشفي غليل الباحث المتشوّق إلى معرفة أسرار هذا الملكوت لأنهم اعتمدوا في تفسيرها على حرفية النص أو على ما استقوه من الفلاسفة القدماء - بعد أن ترجمت كتبهم إلى العربية - ثم التزموا في فهمها بالنطاق الذي حدّدته المذاهب التي كانوا ينتمون إليها، فكانوا ينتقون من كتاب الله ما يوافق مذهبهم ويتركوا غيره غفلاً، بدلا من أن يطرحوا الكل على بساط البحث الطليق من القيود والفروض المسبقة. فأتت مؤلفاتهم مناصرة لمذاهبهم أكثر منها شروحاً مستقلّة لكلام الله.
فقال المعتزلة مثلا أن عذاب القبر ليس حسيّاً وإنما هو عذاب بآلام نفسيّة. وكان هذا النظر متفقاً مع مذهبهم في تفسير القرآن الكريم بإعمال العقل وحمل كلام الله على ما يقبله العقل فلم يتصوروا أن يكون هناك عذاب حسيّ واقع على جسد هامد فارقته الروح. أمّا أهل السنّة فقالوا بأن عذاب القبر يكون بآلام حسيّة اعتماداً على أخذهم بحرفيّة النص والمنقول عن السلف، وذلك أيضاً وفقاً لمذهبهم في تفسير القرآن اعتماداً على ظاهر اللفظ.
كما قال أهل السنّة بوجود مادي للصراط المستقيم وهو "جسر ممدود على متن جهنم أدق من الشعرة وأحدّ من السيف"، بينما أنكر المعتزلة الصراط بالمعنى المادي وقالوا إنه عبارة عن طريق الحقّ، ومال إلى هذا الرأي أبو حامد الغزالي مع أنه أشعري وصوفي فقال: "إن عبور الصراط المستقيم عبارة عن التّرقي من عالم الشهادة إلى عالم الملكوت وقد يُعبّر عنه بالدين وبمنازل الهدى"٧ فأعطى الوصف المادي "أدق من الشعرة وأحد من السيف" معنى مجازياً يتمثل فيما يتطلبه عبور ظلمات العالم المشهود إلى أنوار الملكوت من يقظة واحتراز وخشية. وكان اعتماده في التفسير على مذهب المتصوّفين: أي الكشف الإلهي والنور الذي يقذفه الله في قلب المؤمنين الساعين في سبله والمتسابقين إلى جواره. وعلى المنوال نفسه اختلفت أقوال المفسرين في فهم المراد من الميزان، والجن، والملائكة، والجنة والنار إلى آخره.
ولعل في طرح هذه الأمور على بساط البحث الحرّ البعيد عن التعصب والمذهبية، وبعد أن ثبت اتساع هوة الأخطاء التي وقع فيها السابقون، ضرورة لبلوغ الحقيقة أو على الأقل لفهمها على ضوء ما تهدينا إليه عقولنا في عصر بلغت فيه مقدرتنا على عمق التحليل، ودقة التحقيق، وبعد النظر شأواً بعيداً لم يتوفر للسابقين. وفي ذلك ما يجدد وهج جذوة الإيمان ويبعث الروح الديني من الخمول والخمود.
والبحث الأول في هذا الفصل يدور حول المراد بلفظة "الحياة" في الخطاب الإلهي، تليه مباحث عن عدد من أمور الآخرة من بعث وحساب وصراط وميزان وجنة ونار - وكلها أمور في حاجة إلى فهم صحيح يبعدنا عن الخرافات والأوهام التي لا تقدم نفعاً لمن أراد وجه الله، "وَاللهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ"٨.
(( نقلآ عن كتاب النبأ العظيم ))
#امال_رياض (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السلام العالمى ” حلم البشرية “
-
حاجة العالم الى دين جديد (2)
-
حاجة العالم لدين جديد
-
حضرة الباب - المبشّر بحضرة بهاءالله -2-
-
من هو حضرة الباب - المبشّر بحضرة بهاءالله
-
الدين البهائي وأركان الدين الحق (2)
-
رمضان والوحدة الوطنية
-
الدين البهائي وأركان الدين الحق
-
-دين الله واحد أما شرائعه فمختلفة-
-
الرسل والأنبياء هم مظاهر أمر الله على الآرض
-
عَلى أعْتَابِ عَصْرٍ جَديدٍ
-
الحرية فى المفهوم البهائى
-
الجامعة البهائية
-
كلام الله محفوظ فى كل كتاب
-
نبذة عن تعاليم حضرة بهاء الله
-
المناجاة لغة المحبّة
-
الصوم الجسمانى والصوم المعنوي
-
من المبادىء البهائية محو التعصّبات بجميع أنواعها
-
كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
-
حقآ ان - العلم نور -
المزيد.....
-
1 من كل 5 شبان فرنسيين يودون لو يغادر اليهود فرنسا
-
أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
-
غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في
...
-
بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
-
بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
-
قائد الثورة الاسلامية آية اللهخامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع
...
-
اختفاء حاخام يهودي في الإمارات.. وإسرائيل تتحرك بعد معلومة ع
...
-
إعلام العدو: اختفاء رجل دين اسرائيلي في الامارات والموساد يش
...
-
مستوطنون يقتحمون مقبرة إسلامية في الضفة الغربية
-
سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|