|
الدولة المدنية بين التأصيل النظري والتغيير العربي
محمد فاضل نعمة
الحوار المتمدن-العدد: 3836 - 2012 / 8 / 31 - 05:50
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الصورة النمطية لمفهوم الدولة المدنية عند الجمهور ارتبط بفكرة الدولة المضادة للدولة العسكرية او الدينية ، حيث قيل ان العسكريين لايؤمنون بالتخلي عن السلطة اذا سيطروا عليها بحكم طبيعة سلوكهم المرتبط بفكرة الطاعة والتراتيبية مما يساعد حسب راي العديد من الباحثين الى بروز ظاهرة الحكم الشمولي ، اما رجال الدين فسلوكهم غالبا ما يجنح نحو رفض رقابتهم او معارضتهم ولا يعترفون بالراي الاخر لانهم يعتقدون بقدسية وصواب رايهم على الدوام ، لكن من المؤكد ان الدين لايتعارض مع فكرة الدولة المدنية وفقا لفقهاء ومفكرين ، فالاديان تعمد الى الشورى والتخصص وابرام الاتفاقات الداخلية والخارجية وصيانة حقوق الاقليات الدينية والمساواة بين الرعايا ، الا ان ذلك لا ينفي ان بعض الاطراف الدينية المتشددة تجد في الدولة المدنية دولة ملحدة . من الثابت علميا انه لا وجود لمصطلح الدولة المدنية في معاجم وادبيات علم السياسة او الاجتماع ،وكذلك في كتب الاحكام السلطانية او الاحكام الشرعية، وهو مصطلح استخدم اعلاميا بشكل مكثف في اطار البحث عن صيغ جديدة لاعادة بناء وتعريف الدولة في خضم الفترات الانتقالية مابين النظم الشمولية والديمقراطية التي شهدتها اوربا الشرقية في ثمانينات القرن الماضي، ودخل هذا المصطلح الادبيات الاعلامية العربية بشكل مكثف بعد انطلاق متغيرات الربيع العربي التي قادتها الجماهير في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا وما زالت تداعيتها مستمرة وتنذر بسقوط انظمة عربية اخرى . يرى الدكتور نبيل عبد الفتاح انه لا وجود لمصطلح الدولة المدنية في مجال العلوم السياسية ، وان المصطلح المتعارف عليه كمرادف هو ( الدولة العلمانية ) او ( الدولة الامة ) التي تعتمد على حكم الدستور والقانون والمؤسسات السياسية وتتأسس على مفهوم المواطنة والمساواة في الحريات وعدم التمييز ، وان مصطلح الدولة المدنية الذي صاغه المصريون بعد ثورة 25 يناير هو تكريس لمفاهيم الامام محمد عبدة عن الدولة الحديثة التي تواجه الدولة الدينية التي يتحكم بها رجال الدين. ان ضبابية مفهوم الدولة المدنية يحيلنا بدءا الى الخوض في مفهوم الدولة بشكله المجرد، فعلى الرغم من ان الدولة موجودة في عواطف مواطنيها الذين يؤمنوا بوجودها ، الا انها تعد نتاج التطور الحديث للسلطة التي تنظم العلاقات الاجتماعية بين الناس بعد انتقالهم من حياة المجموعات العشوائية الى المجتمعات ذات السلطة ،وقد ظهرت فكرة الدولة القومية عبر محاولات فلاسفة التنوير تهيئة الارض – فكريا – لنشاة دولة حديثة تقوم على مبادىء المساواة وترعى الحقوق وتنطلق من قيم اخلاقية في الحكم والسيادة ، وقد تبلورت فكرة الدولة المدنية عبر اسهامات لاحقة ومتعددة من مصادر مختلفة في العلوم الاجتماعية . لذا تعرف الادبيات العربية الاسلامية معنى الدولة بانها الغلبة ،التي غالبا ما يترتب فيها سلطان للغالب على المغلوب ، وبالتالي فان تعريف الدولة هو السلطان او السلطة ، وهذا ما يذهب اليه اغلب الباحثين الذين يؤكدون ان لفظة الدولة تشير الى فكرة او مؤسسة السلطة بالدرجة الاساس ،حيث شكلت اجهزة متخصصة وفق قوانين تصاغ في المجتمع ، يديرها موظفون وسياسيون يدعون رجال الدولة، اي ان سلطات الدولة تصبح مجموعة احكام وانماط وقواعد سلوك وتصرف ، وان ما يميزها عن سلطة الزعيم او الفرد هي تلك المؤسسات التي تستطيع بفضلها الاستمرار والتي تحوز على التوافق والقبول من قبل ابناء المجتمع بوصفهم حاكمين ومحكومين، وهذه السمات هي ما تجعل الدولة فوق سلطة الافراد. في حين تخلو كتب القانون الدستوري من تعريف واضح ومحدد للدولة وغالبا ما يتم تعريفها من خلال بيان اركانها الثلاث المتمثلة في الركن الجغرافي ممثلا في الاقليم والركن الانساني ممثلا في الشعب الذي يعيش على الاقليم والركن السلطوي ممثلا في السلطة التي تحكم الاقليم وتمارس عليه ومن خلاله ارادتها . ونظرا لصعوبة تحديد تعريف شامل وجامع لمفهوم الدولة المدنية غالبا ما يلجا الباحثين الى تحديد اركانها ومميزاتها لوضعها في الاطار التعريفي ومن ابرز هذه الاركان التعريفية: 1- عدم ممارسة الدولة ومؤسساتها اية تمييز بين المواطنين بسبب الاختلاف في الدين او الجنس او الخلفية الاجتماعية او الجغرافية . 2- مؤسسات الدولة وسلطاتها التشريعية والتنفيذية يديرها مدنيون منتخبون يخضعون للمسائلة والمحاسبة ، ولا تدار من قبل عسكريين او رجال دين في ظل احكام استثنائية او غيبية . 3- لا يعني استبعاد المؤسسات الدينية أو رجال الدين من احتكار العمل السياسي ، التضييق على المواطنيين في ممارسة طقوسهم ومعتقداتهم بكل حرية . 4- مدنية الدولة تمنع تحويل السياسة الى صراع حول العقائد الدينية والشرائع السماوية ، بل تبقيها صراعا سلميا بين رؤى وافكار وبرامج وقوى ومؤسسات بهدف اختيار الافضل للدولة والمجتمع . 5- الدولة المدنية معنية بوجود الشفافية في العمل السياسي والحكومي والطرح العلني لجميع الرؤى والافكار والبرامج الهادفة لتحقيق المصلحة العامة في ظل قبول التعددية واحترام الراي الاخر. ارتبط مفهوم الدولة المدنية بجملة مفاهيم اخرى يستدعي التوقف عندها مثل الديمقراطية ، والعلمانية، والحرية ، لذا السؤال الذي يطرح دائما.. هل الدولة المدنية مرادفة للدولة الديمقراطية؟ ، اول الاستنتاجات ان الدولة الديمقراطية دولة مدنية حتما ، لكن ليس بالضرورة ان تكون كل دولة مدنية ديمقراطية، بدلالة ان مصر وتونس في عهد مبارك وبن علي كانتا دولتين مدنيتين لكنهما لم تكونا ديمقراطيتين بادنى المعايير. لذا يشير العديد من الباحثين الى اهمية العلاقة الطردية بين المدنية والديمقراطية، حيث باتت الديمقراطية ذلك الحل السحري الذي يقدم الخلاص في الحاضر والمستقبل ، وارتبط هذا النمط بهيمنة الولايات المتحدة والنظم الليبرالية الغربية على الواقع الدولي بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وانتهاء عهد القطبية الثنائية وانعكاس هذا المتغير الدولي على الاحداث في العالم العربي ،على الرغم من ان مصطلح الديمقراطية لم يكن مرتبط بنموذج معين بل تبنته معظم التيارات الفكرية وادعت تطبيقه بدا بالانظمة التوتاليتارية التي مثلتها الديمقراطيات الاشتراكية الشيوعية او القومية الاستبدادية وانتهاءا بالنظم الليبرالية التي انتهجت شكل الديمقراطية التمثيلية، وكذلك استخدم المصطلح من قبل بعض الباحثين لتسويق منظومة مقترحة للديمقراطية، للدلالة على اشكال من العمل الجماعي التعاوني مثل، الديمقراطية الجماعية ( Communitarian Democracy) ، والديمقراطية التداولية ( Deliberatve Democracy) ، والديمقراطية التشاركية ( Participatory Democracy) ، والديمقراطية العالمية (Cosmopolitan Democracy) . هناك ايضا من يجادل في ان الدولة المدنية هي نتاج الفكر العلماني الذي يفصل بين الدين والسياسة ،ومفهوم العلمانية وفقا لتعريف الدستور الفرنسي لعام 1946 تعني ( حياد الدولة حيال الديانات ) وبالتالي فان الدولة المدنية هي دولة المؤسسات التي تقوم على الفصل بين الديني والسياسي ومهمة الدولة المدنية هي المحافظة على كل اعضاء المجتمع بغض النظر عن القومية والدين والجنس والفكر وهي تضمن حقوق وحريات الافراد من منطلق المواطنة المستندة الى المساواة في الحقوق والواجبات. يعتقد البعض ان الحرية تمثل مرادف للديمقراطية لكن في حقيقة الامر ان مفهوم الديمقراطية يعد شكل من اشكال الحكم او تنظيمه باعتباره سلطة تم تشكيلها بعملية سياسية كالبرلمان والاحزاب والمجالس ، والحرية كقيمة اضيفت الى الديمقراطية واقترنت بها لاحقا على اعتبار ان الحكم الصالح تؤطره الديمقراطية ويتمتع الافراد فيه بالحرية والكرامة والمساواة وبجملة من الحقوق التي ابتدعها الفكر السياسي . الدولة المدنية الفاعلة لايمكن ان تنشأ الا في اجواء ديمقراطية ليبرالية ، حيث تعبر السلطات الثلاث عن ارادة الشعب ، فالدولة المدنية عملية ديناميكية تحمي حقوق مواطنيها ، وتمنحهم الحريات العامة الفردية منها والجماعية بعيدا عن حالة الطوارىء وعبادة الشخصية ، لذا هي مشروع مدني تنموي ثقافي واقتصادي واجتماعي يسعى لتحقيق الاستقرار والسلام فلا حرية دون ضمان امن المواطن. ان مفهوم الدولة المدنية الذي يتم الترويج له في العالم العربي ، ينطلق في الغالب من ثلاث اطر فكرية رئيسة تتبناها اغلب القوى السياسية في الداخل وهم ،الاسلاميين، والعلمانيين ،والليبراليين ، كل نظام منهم يزعم انه الافضل والانجع لتحقيق امال الجمهور ،باعتبار كل منهم يمثل رسالة خلاص ونهاية مرحلة تاريخية وفكرية، وانه يمثل الدولة المدنية ، فالاسلاميين يرون في تطبيق الاسلام الحل والخلاص ، في حين يتمسك العلمانيون بازاحة دور الدين في الشؤون العامة للدولة او ما يسمى بالحياد العقائدي ، اما الليبراليين يرون ان الخلاص يكمن في الاصلاح الشامل واتخاذ الحرية سبيلا لذلك ، وقد فرض هذا التوجه نفسه في اطار العولمة وانتصار النموذج الراسمالي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية على منافسيها والتي تبنت مبدا التحرير الاقتصادي الشامل واقتصاد السوق الحر كمبدا اصيل باتجاه النموذج الامثل. المشكلة الحقيقية التي تميز هذه النماذج الثلاث انها تقدم نفسها باعتبارها نظم ايدولوجية تفسر وتقترح وتغير بقصد توجيه الامور الى غايات قصوى تتجسد فيه خير الانسان ، كما انها تجسد فكرا احاديا لايرضى بغيره بديلا فهي تتبنى السمة الاقصائية للتعبير عن طروحاتها ، وكل نموذج منها لا يملك تجانسا تاما في اطار منظومة موحدة بل غالبا ما يعبر كل نموذج عن صيغ متعددة فليس هناك نموذج اسلامي واحد ولا يوجد ايضا نموذج علماني او ليبرالي واحد. يرتاب الكثير من المثقفين العرب ممن يتوقون الى دولة مدنية، من مستقبل التطورات الراهنة بعد احداث الربيع العربي ،حيث لا تبدو الصورة واضحة ، ومصدر تلك الريبة هو الخشية من حلول خريف ثان بعد خريف الاستبداد وعنوانه الحكم الديني ، والمثال القريب لهذا التخوف هو التجربة الايرانية التي اقصت بعد قيامها كل الاحزاب والتيارات اليسارية والمدنية التي شاركت في صنع الثورة لتقيم صرح ولاية الفقيه كنظام سياسي ياخذ شرعيته من السلطان الالهي .
#محمد_فاضل_نعمة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بين المسؤولية الادارية وا
...
-
مئة يوم من التقييم
-
الوجه الآخر للمحاصصة السياسية
-
الدبلوماسية الثقافية ودورها في تعزيز قرار السياسة الخارجية
-
مفهوم الأمن الوطني وهاجس الدولة البوليسية
-
ستراتيجية الاجتثاث والتفتيت الامريكية في العراق
-
جريمة التهجير والعجز الحكومي
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|