|
سياستان موضوعيتان وسياسات ذاتية للثورة السورية
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3834 - 2012 / 8 / 29 - 20:59
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
خلال ستة عشر شهرا من كفاحها الملحمي، برزت سياستان "موضوعيتان" مختلفتان للثورة السورية. أعني بالسياسة الموضوعية تلك التي تنبثق من تعريف الثورة (الشعب يريد إسقاط النظام) من جهة، ومن شروطها الواقعية وهي تشق طريقها نحو الهدف، وهذه الشروط تتحدد بتكوين وسياسة الخصم الذي تواجهه الثورة، النظام الأسدي. بعبارة أخرى، تعني السياسة الموضوعية تعريف الأهداف، وتاليا الوسائل والمواقف والتحالفات، بصورة تحددها شروط الثورة الفعلية، وليس أية تفضيلات إيديولوجية أو أهواء شخصية. وكلما تقاربت السياسة الذاتية، سياسة السياسيين، مع السياسة الموضوعية للثورة على نحو ما تحددها شروطها الواقعية، كانت أكثر فاعلية وأكثر نجوعا، وأقدر على التأثير على مسار الثورة في اتجاه موافق لأهدافها. بالعكس كلما تفارقت السياستان، كانت السياسة الذاتية أقل نجوعا، تقول شيئا عن أصحابها وتفضيلاتهم، وليس عن الثورة ومصلحتها العامة. في مرحلة أولى امتدت إلى آب/ رمضان 2011، كانت السياسة الموضوعية للثورة تتطلع إلى إسقاط النظام من أجل سورية جديدة، أكثر حرية وعدالة وإنسانية. يُدرك النظام هنا كاستبداد وفساد وتمييز بين السوريين، والثورة كجهد من أجل التغيير الوطني والديمقراطية. ووفقا لهذه السياسة، تُعرّف الثورة بهدفها الإيجابي، سورية الجديدة ما بعد الأسدية. وفي هذا كان يتطابق تفكير المثقفين والناشطين السياسيين مع منطق الثورة الفعلي الذي يجعل من الهدف السلبي، إسقاط النظام، خطوة أولى نحو الحرية كهدف إيجابي أسمى، تطلعت إلى مثله الثورات التونسية والمصرية والليبية واليمنية والبحرينية. وفي هذه المرحلة تطابقت الوسائل، الاحتجاجات الشعبية السلمية، مع الهدف التحرري المأمول. لكن مع الزمن، وتوسع النظام في حربه الإرهابية ضد الثورة والمجتمع السوري، أخذت تفرض نفسها سياسة ثانية، جوهرها هو التخلص من المجرم أو إسقاط النظام لأنه قاتل إرهابي، أيا يكن ما يأتي بعده. فإذا كانت القيمة العليا في السياسة الأولى هي الحرية، فإن القيمة العليا في السياسة الثانية هي الحياة. وهذه بالطبع أولى لأنها تتطلع إلى هدف أكثر أساسية من الحرية، وهو حياة المحكومين. إنها سياسة الوجود. المرحلة الأولى من الثورة لم تكد تطرح إشكالا بفعل ما اتسمت به من توافق عام، بين السياسة الموضوعية والسياسات الذاتية، وبين الهدف والوسائل، وبقدرٍ ما ضِمن الطيف السياسي السوري المتنوع، الذي لطالما كان التخاصم طبيعته الثانية (بل لعلها الأولى). ولكون مسار الثورة كان اضطراريا على العموم، نلاحظ أن المجموعات التي تفارقت سياستها الذاتية مع السياسة الموضوعية للثورة في تلك المرحلة الأولى وفيما بعد، كانت تنجر بعد حين وراء ما تقتضيه هذه السياسة الموضوعية، وإن ثابرت على مواقف خصامية من المجموعات الأقرب إلى هذه السياسة، وكانت أميل إلى التشكك في الثورة ذاتها، وأقرب دوما إلى النظام. في المرحلة الثانية، وقد بدأت في رمضان/ آب من العام الماضي، على ما أقر بشار الأسد نفسه، أخذت الشروط الفعلية تفرض ترتيبا جديدا للوسائل والأهداف، مغايرا لترتيب المرحلة الأولى. تحت وطأة حرب النظام، وقد بدأت منذ اللحظة الأولى للثورة، وليس حين أقر بشار قبل أسابيع أن نظامه في حرب، برزت المقاومة المسلحة، وتمثل هدفها الأول في حماية السكان المدنيين والمظاهرات، ثم في مواجهة المجرم لإنقاذ البلد منه. هذه تطورات غير اختيارية ولم يدع إليها أحد. لقد فرضت نفسها على قطاعات المجتمع السوري الأشد تعرضا لحرب النظام، في حمص وإدلب ومناطقهما، وفي درعا ومناطق دمشق، وفي حماة ودير الزور ومناطق حلب واللاذقية، والتي من العدل أن نقول إنها هي بالذات الشعب الذي يريد. قد نأسف لكون ثورة من أجل الحرية مسوقة بإكراهات شديدة القسوة إلى مواجهة قاتل أو مقتول، وإلى تفارق واسع بين الوسائل والأهداف، وإلى انقسام أشد في الطيف السياسي المعارض. لكن سياسة مثمرة، بل سياسة ثورية، هي تلك التي تنبني فيها السياسة الذاتية على السياسة الموضوعية، أو على وعي الضرورة، إن استعدنا تعريفا للحرية من أصول هيغلية ماركسية. ولمفهوم السياسة الموضوعية فائدة جلية تتمثل في أنه يساعدنا على بلورة سياسات ذاتية مناسبة، ويشكل ركيزة لوضوح الموقف وحسن التوجه أثناء الثورة، وربما يؤسس لتفاهمات سياسية أوسع قاعدة. وبينما لا يضمن التوافق بين الموضوعي الذاتي إجماعا تاما بين النخب السياسية المعارضة، فإن التفارق بين السياسة الموضوعية والسياسية الذاتية هو مثار انقسامات أنشط. ملحوظ مثلا أن المجموعات الأقل انضباطا بالسياسة الموضوعية للثورة، أي الأكثر ذاتية في سياستها، هي الأكثر ميلا للخصام والأشد تمركزا حول الأشخاص ونوازعهم. لكننا اليوم حيال مفارقة مقلقة. السياسة الموضوعية للثورة ليست سياسة، إنها حرب في الواقع؛ والسياسة الذاتية ليست سياسة أيضا لكونها منفصلة عن القوة الوحيدة التي يمكن أن تمنحها وزنا ذاتيا، الثورة ذاتها. تنحل المفارقة دونما صعوبة من جهة قوى الثورة اليوم لأنه حين تكون الحرب مفروضة عليك فليس لك غير خوضها، وغير فعل كل شيء لكسبها. هذه هي السياسة الصحيحة. ويحل المفارقة نفسها سياسيون ذاتيون باللجوء إلى الدوغما أو العناد، أو باستمداد وزنهم من التجاذبات الإقليمية والدولية القائمة اليوم حول سورية. في الحالين، هذا يرجئ صعوبات السياسة إلى ما بعد كسب هذه المعركة المفروضة. وقتها نرى. المهم اليوم أن نكسب معركة إسقاط النظام.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المسألة السورية والنظام الدولي
-
نظام الإبادة: من الإبادة السياسية والأخلاقية إلى القتل الجما
...
-
بخصوص الثورة السورية والأخلاق
-
في الجذور الاجتماعية والثقافية للفاشية السورية
-
الدولة الظاهرة والدولة الباطنة في سورية
-
حلب
-
حوار حول مشكلة الطائفية وسياسة الأقليات
-
مشاهد سورية الجديدة وملامحها
-
تكوين الثورة وعمليات تشكل سورية الجديدة
-
حقوق الأقليات أم جمهورية المواطنين؟
-
فصل رابع من الصراع السوري
-
على درب القيامة الكبرى في دمشق
-
لماذا، وضد من يثور السوريون؟
-
الثورة السورية وظاهرة -الانشقاق-... أية سياسة؟
-
في عالم انفعالات الثورة السورية
-
الثورات العربية وصعود الإسلاميين السياسي
-
إبطال وظيفة السجن... حوار حول كتاب -بالخلاص، يا شباب!-
-
في جذور الحرب وامتناع السياسة...
-
صعود العدمية المقاتلة في سورية
-
ثلاثي الحرب السورية... دولتان قوميتان وطغمة
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|