|
بعض أوهامنا وصخرة الواقع
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 3834 - 2012 / 8 / 29 - 16:31
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
قبل قرن من الزمان وخمسة عشر عاماً تحدث ليون تولستوي الروائي الروسي الكبير وصاحب رواية “الحرب والسلام” عن الغفلة وربما النسيان، فكتب يقول: كنت أمسح الغبار عن أثاث غرفتي، وفيما أنا أكمل الدورة دنوت من الديوان، فوجدتني عاجزاً عن تذكّر هل مسحت الغبار عنه أم لا؟ في غمرة الحياة المعقّدة، الغنيّة، المملوءة بالمتناقضات يسير الكثير من البشر على هذا النحو، فهم لا يتذكرون الكثير من الأمور التي حولهم، وقد ينشغلون عنها في غفلة أو ينسونها على الرغم من أنها تواجههم، والأمر كذلك في شؤون السياسة والدين والمجتمع، حيث تمرّ الكثير من الأشياء في غفلة أو من دون انتباه أو حتى التفات أحياناً، في حين يبقى الواقع بما يحمله من وعورة التضاريس الاجتماعية والسياسية والثقافية قائماً، سواء تم التغافل عنه أو نسيانه أو تناسيه، فالحياة تنثال بما تحمله من استمرارية واعتياد سواء غفلنا عن بعض الأشياء الضرورية أو تذكرناها . لا أدري كيف استذكرت واخترت تولستوي وإنْ كنت قد نسيت أين ومتى قرأت عن غفلته، كمدخل لحديث عن الطائفية والهوّية؟ ربما لأنني أريد ألا يأخذنا النسيان ونستمر في لجّة الغفلة لنتحدّث عن أشياء كبرى ونهمل تفاصيل كثيرة، لولاها لما تكوّن المشهد الذي نعيشه، لكنني في الوقت نفسه أعرف أن عكوفي على هذا الموضوع، إنما هو عكوف على الذات لنقدها، مثلما ننقد الآخر والوجود والحياة والكون، تأكيداً لأهمية الوعي بذاته ولذاته من جهة وارتباطه بالواقع من جهة أخرى، وبحثاً عن المعنى والدلالة، وصوناً لما هو استرجاعي أو استعادي ونقدي، كي لا نسقط في هاوية النسيان، وكي لا نستمر مأخوذين بالغفلة! يوم كانت تندفع مجاميع سياسية في أدنى السلّم لتتخذ مكان الصدارة بتحريكها جموعاً غفيرة وكتلاً بشرية باسم الطائفة والهوّية والتميّز وادّعاء الأفضليات، كنّا نقف لنزدري ذلك، أو نستخف به، وإذا بهذه الجموع تتّسع وتكبر، ويتعاظم شأنها بسبب القمع والإرهاب السلطوي، وجاءت الفرصة ليتم استغلالها في لحظة من لحظات تغييب الوعي أو تزييفه أو اختطافه، لأن من كان ينبغي لهم التصدّي لتلك الظاهرة والإعلاء من شأن المواطنة والمساواة عنواناً للتغيير كانوا غائبين، أو مستنكفين من الخوض بمثل هذه الأمور، الاّ من منظور التنظير، بينما كان الآخرون يعملون على الأرض ويمضون “بالإبل” على حد تعبير الأعرابي، الذي صادفه قاطع طريق فسلب منه إبله، ولما سألوه حين عاد “لديرته” قال لهم: أوسعتهم نعلاً وراحوا بالإبل، وهكذا ضُرب مثلاً .
إن الدعوة لقراءة ارتجاعية نقدية للماضي وعقده واشكالياته هي وليمة للفكر واستنهاض للوجدان وتحفيز للضمير، خصوصاً ونحن في زمن الاختلال، وكل اختلال يؤدي إلى الحيرة والقلق، وهذا سيكون المدخل حيث يبدأ السؤال، ثم النقد، وبالفكر النقدي الموضوعي والذاتي، يُختصر طريق الحقيقة، التي عنها نبحث ونخوض الصراع . ثم بالتفكير الإبداعي، أي نقيض ما هو قائم يمكن المواجهة الحضارية الإنسانية السلمية اللاعنفية . وبالطبع للفكر لغته التي يمكن البناء عليها، وهذا البناء هو الأسلوب، وهذا الأسلوب هو الإنسان ذاته، هدفاً وغايةً، أي عملاً أو جهداً، فالإنسان حسب الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس “مقياس كل شيء” له ومن أجله وفي سبيل سعادته جاءت الأديان وانتظمت الفلسفات وانبثقت الأفكار!!
ولعل سلاح الحقيقة هو المعرفة، والمعرفة قوة على حد تعبير الفيلسوف فرانسيس بيكون، والمعرفة في الوقت ذاته خلق وتجديد، وكل معرفة هي جواب عن سؤال، ولهذا لا بدّ من محاسبة أنفسنا وتحمّل المسؤولية، والأخيرة تتطلب المساءلة التي ظلّت غائبة على طول الخط، وكان البعض يبحث عن المسؤولية وليس المساءلة لنفسه وللغير، وهذا ما كان شائعاً وهو مستمر حتى الآن . إن أنماط التعبير عن هذا الواقع لنقده وتغييره تتطلب أيضاً التفسير والبرهان والإيعاز ليس بوعد أو فرضية وإنما بإقامة الدليل، وهو الأمر الذي لا بدّ من التوقف عنده من خلال نمط التفكير التفسيري ونمط التفكير البرهاني ونمط التفكير الإيعازي، فقد حرّكت موجة التغيير موضوع الهوّية ولاسيما الهويّات الفرعية حتى أصبحت العديد من الدول أقرب إلى التفكّك، بل إن بعضها تفكّك بالفعل، كما حصل في يوغسلافيا السابقة التي انشطرت إلى خمسة أقسام، وانحلّ الاتحاد السوفييتي إلى ما يقارب عن خمسة عشر قسماً، وانفصل التشيك عن السلوفاك في جمهورية تشيكوسلوفاكيا .
وهكذا صعدت الهوّيات الفرعية على نحو صاروخي، أما حيرة وقلق من تبنّوا الشعارات الكبرى، سواءً كانت مبالغة فيها أقرب إلى الوهم أو صحة أو صواب أطروحاتها، لكنها وعد وليست برهاناً أو حلماً ظلّ بعيداً عن الواقع وإنْ اقترب منه، لا سيّما عدم توفر الأدوات اللازمة لإنجازها، وانشغال النخب بقمع بعضها بعضاً، وغياب الديمقراطية الذي شجّع على بروز هذه الهوّيات الفرعية التي شعرت بالتهميش والإقصاء، وبدلاً من دولة واحدة متعددة الهوّيات وموحّدة التوجه والانتماء، وقفنا أمام هوّيات متناحرة أحياناً، تلك التي تطرح اليوم على نحو حاد وعدائي . أربعة أوهام ساورتنا خلال العقود الخمسة ونيّف الماضية ونحن نواجه هذه المشكلات المستعصية .
* الوهم الأول يقوم على فكرة أن الدول الصناعية المتقدمة حلّت مسألة الهوّية، ولكن حتى اليوم فإن العديد من هذه الدول تعاني مشكلة الهوّية مثلما هي بلجيكا وإيرلندا وفرنسا وإسبانيا وكندا وغيرها .
* الوهم الثاني اعتقادنا أن تحقيق المواطنة يدفع بالهوّية الموحّدة إلى الواجهة ويزيح صراع الهوّيات إلى الخلف، بل يجعل التنافس المشروع محلّ الصراع التناحري الاستئصالي، لكن في العديد من الدول التي تحترم الحقوق والحرّيات وتقوم على مبادئ المواطنة والمساواة، فإن الهويات الفرعية ظلّت قائمة، بل إن بعضها قد تفاقم .
* الوهم الثالث إن الدول الاشتراكية السابقة حلّت مسألة الهوّية من خلال الاعتراف بالتنوّع الثقافي القومي والديني واللغوي، وإذا بمشكلة الهوّيات تندلع على نحو لا حدود له في هذه البلدان بعد ربيع أوروبا الشرقية، وتشهد حروباً واقتتالاً وعداءً غير مسبوق، بل إن بعضها تحالف مع أعداء تقليديين، وذلك بسبب التسلط والإكراه والاستعلاء الذي شهدته التجارب الاشتراكية .
* الوهم الرابع اعتقادنا أن صراع الهوّيات ينحصر في بلدان العالم الثالث، في حين أن بعضها وهي تعاني من ارتفاع عدد السكان الهائل مع نسبة عالية من الفقر والجهل، وجدت شكلاً من التعايش والديمقراطية واحترام الهوّيات الفرعية، ربما كان أفضل من بعض البلدان الصناعية المتقدمة والبلدان الاشتراكية السابقة، كما هي التجربتين الهندية والماليزية .
لقد انهارت كل هذه الأوهام دفعة واحدة، حيث لم تصمد أمام الواقع بفعل انفجار مشكلة الهوّيات، ولاشك أن شظايا هذا الانفجار وصلت إلى البلدان العربية التي تعاني هي الأخرى إشكاليات قومية ودينية ولغوية مكبوتة بسبب السياسات المهيمنة والتسيّد وعدم الاعتراف بالحقوق، وقد شهدت البلدان العربية خلال الفترة الأخيرة احتداماً دينياً ومذهبياً وإثنياً ولغوياً لا حدود له، وإذا لم تسارع لإيجاد حلول معقولة ومقبولة وعادلة من لدن الفرقاء، فإن أوضاعنا قد لا تبشّر بالخير ولن ينفع بعد ذلك المناشدات بالوحدة والتغني بالاتحاد والهوّية العامة . وللأسف الشديد فإن كل فريق حاول أن يبرئ نفسه سواءً كان قامعاً أو مقموعاً، في السلطة أو في المعارضة، لأنه لم يبذل الجهد المناسب والمطلوب لمواجهة بعض الحقائق، ومن المفارقات أن ينساق بعض العلمانيين والحداثيين مع الاتجاه الطائفي، حيث التبس موقفهم من الأقليات والتنوّع الثقافي بين “التأييد الأعمى” و”التنديد الشامل” وعلى كل ما يعزز الانقسام وعدم الاعتراف بالآخر، ولعلّي هنا أستند إلى علي الوردي عالم الاجتماع العراقي الكبير الذي أوضح الفرق بين الطائفية والطائفة، حين قال عن هؤلاء الذين يبررون الانخراط في لعبة الطوائف وأمرائها ب”أنهم طائفيون بلا دين” .
وإذا كان من الطبيعي جداً الانتماء إلى طائفة وربما يكون خارج إرادة المرء، ولكن من غير الطبيعي أن يكون المرء طائفياً، فالطائفية هي ادعاء للأفضليات بحجة امتلاك الحقيقة، في حين أن الطائفة تشكيل تاريخي واجتماعي وعادات وطقوس . الطائفية نقيض للمواطنة والمساواة اللتين تقومان على الانتماء لوطن يجمع أبناء الديانات والطوائف والقوميات واللغات والسلالات، من خلال الوطن والمواطنة والمشترك الإنساني . لعلّي في مشروع قانون تحريم الطائفية وضعت عنواناً نقيضاً، لكنه من صلب المشروع وجوهره البديل وأعني به “تعزيز المواطنة”، مشيراً إلى أن السعي للتطييف والتمذهب والترويج لهما والتشجيع عليهما واعتمادهما أساساً للتعامل مع الآخر من خلال الممارسة أو التستر، يقترب إلى مصاف الجرائم الكبرى التي يحاسب عليها القانون، وإذا كان الجميع يعلن بأنه يغسل يديه من الطائفية، فمن باب أولى إبرام قانون يحرّمها ويجرّم من يدعو إليها ويمارسها! وذلك سيكون الخطوة الأولى للسير في درب المواطنة والمساواة، حيث صخرة الواقع الصلدة بدلاً من الاستغراق بالأوهام .
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مشروع الدولة الكردية المستقلة
-
ويخلق من الشبه «البعثي» اثنين
-
التعذيب والإفلات من العقاب
-
سلطة الاعلام
-
المشروعان الإيراني والتركي في العراق
-
الطائفية: مقاربة قانونية وأكاديمية
-
العراق: نصف لأميركا ونصف لإيران
-
كي لا تطمس الحقيقة
-
الربيع العربي وديناميات التأثير الإقليمي
-
حكاية الدستور الثاني في العالم الحديث
-
جدار برلين الثاني !
-
من باليرمو إلى دوكان
-
صبراً جميلاً وعزاءً حاراً لفقدان الراحل جاسم القطامي
-
الثورة التونسية ومسار التغيير العربي
-
المسيحيون والبيئة الطاردة
-
النموذج الإسلامي
-
يوسف سلمان يوسف ... فهد- الأخيرة
-
الاتجار بالبشر
-
يوسف سلمان يوسف ..(فهد)-( 2 – 3 )
-
يوسف سلمان يوسف ... فهد ( 3 – 3 )
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|