|
سياسة الصوتين في مواقف القيادة السورية
عماد هرملاني
الحوار المتمدن-العدد: 1117 - 2005 / 2 / 22 - 10:19
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
عاشت سورية خلال الحقبة المديدة التي استغرقها عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد في ظل نظام سياسي تميز بميله المفرط نحو شخصنة عملية صنع القرار السياسي في المجالين الخارجي والداخلي وحصرها بشكل ازداد تمركزا مع مرور السنوات في يد الرئيس الذي يعرف المهتمون بالشأن السوري أنه كان يشرف شخصيا على رسم توجهات السياسة السورية الخارجية والداخلية بتفاصيلها الكبيرة والصغيرة. وقد ظهرت تجليات تلك السياسة المشخصنة في المنعطفات النوعية الكبرى التي اجتازتها البلاد ، وتشير العناوين التي يمكن استعراضها هنا إلى ملفات عديدة ومتنوعة تتعلق بقضايا الحرب والسلام مع إسرائيل والدخول إلى لبنان والمواجهة مع حركة الإخوان المسلمين والتحالف مع إيران والموقف من حربي الخليج الأولى والثانية، حيث كان القرار السوري في جميع تلك المنعطفات ينبع من مصدر واحد ووحيد هو تقديرات الرئيس حافظ الأسد الذي يقول بعض من عرفوا أسرار السياسة السورية عن قرب أنه لم يكن يشرك معه أحدا حين كان يقدم على اتخاذ قرار يتناول واحدة من تلك المسائل الاستراتيجية الكبرى ولاشك في أن تلك الطريقة في شخصنة عملية صنع القرار السياسي أضفت على السياسة السورية خلال النصف الأول من عهد الرئيس الراحل صدقية ساعدت في إعطاء سورية موقعا مؤثرا ضمن خارطة التوازنات التي حكمت إيقاع الحركة السياسية في المنطقة خلال عقدي السبعينات والثمانينات، إلا أن نتائج تلك الطريقة ما لبثت أن انقلبت إلى ضدها خلال السنوات الأخيرة من عهد الأسد الأب، حيث تحولت تقاليد شخصنة عملية صنع القرار السياسي إلى سبب مباشر لحالة الشلل التي أصابت أجهزة الدولة في جميع مفاصلها على الصعيد الداخلي ومظاهر الجمود والتكلس التي شرعت تتحول إلى سمة مميزة لعمل الدبلوماسية السورية على صعيد السياسة الخارجية. ومع تحولها إلى تقليد مميز لنمط الحكم في سورية كان لابد لتلك المركزية المفرطة في السلطة من أن تلقي بظلالها على تقييم وجهة الأداء السياسي للقيادة السورية خلال المرحلة التي أعقبت وفاة الرئيس الراحل وانتقال السلطة إلى يد الرئيس الجديد بشار الأسد، حيث لم يعد من الصعب هنا أن يتم عرض شواهد عديدة تشير إلى وجود مظاهر تضارب ملموس بين مواقف أركان القيادة السورية حيال عدد كبير من القضايا والملفات التي تمس المصالح الحيوية لسورية على الصعيدين الداخلي والخارجي، وإلى جانب المسائل المتصلة بموضوع الإصلاح الداخلي الذي تتعاكس فيه مواقف وتصريحات الرئاسة (منذ خطاب القسم) مع ممارسات وسلوكيات الأجهزة الحكومية والحزبية التي استهوتها لعبة التسويف والدوران في المكان للالتفاف على مضامين المراسيم والقرارات الكثيرة التي أصدرها الرئيس الأسد خلال السنوات الخمس الماضية تحت عنوان تحريك مسيرة الإصلاح في مختلف المجالات الاقتصادية والإدارية وحتى السياسية، إلى جانب هذه المسائل المتعلقة بالوضع الداخلي نقف على الصعيد الخارجي أمام شواهد أصبحت أكثر من أن تحصى أو تعد بخصوص ظاهرة التضارب بين مواقف المراجع الرسمية السورية، ومن بين تلك الشواهد تبرز ملاحظة التعارضات التي ميزت مواقف وتصريحات المسؤولين السوريين بشأن التعامل مع تطورات الوضع العراقي منذ سقوط نظام الرئيس السابق صدام حسين ومرورا بتجربة التعامل مع مجلس الحكم الانتقالي ثم الحكومة الانتقالية ووصولا إلى الموقف الملتبس بين تأييد الانتخابات الأخيرة والاعتراض عليها، كما تجدر الإشارة إلى ملابسات الطريقة التي اتبعتها القيادة السورية في إدارة ملف العلاقات مع الإدارة الأميركية وخصوصا أثناء وبعد صدور قانون محاسبة سورية، والمسائل المتعلقة بتوجيه دفة السياسة السورية في لبنان والتعامل مع تداعيات قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559، ويمكن الوقوف على أحدث شواهد هذه الحالة المستجدة في السياسة السورية من خلال استرجاع التعارضات النافرة بين التصريحات التي نقلها عدد من المبعوثين الدوليين الذين زاروا دمشق مؤخرا (لارسن ،أوتي، ووزيري خارجية إيطاليا وإسبانيا)عن لسان الرئيس السوري بشار الأسد حول استعداد سورية لاستئناف المفاوضات المتوقفة على المسار السوري دون شروط مسبقة، وبين التعقيبات التي صدرت حول تلك التصريحات عن عدد من المسؤولين الرسميين في الحكومة السورية (خصوصا وزير الإعلام) والتي أفرغت مضمون التصريحات المذكورة وعطلت مفاعيلها العملية من خلال التشديد على أن كلام الرئيس الأسد حول استئناف المفاوضات من دون شروط مسبقة لايعني العودة إلى مائدة المفاوضات من نقطة الصفر. وقد شجعت هذه التعارضات في المواقف السورية العديد من المحللين على الاندفاع في خط قراءة تبسيطية ترجع تلك التباينات إلى وجود صراع داخل أوساط السلطة في دمشق بين تيارين يلتف الأول منهما حول شخص الرئيس بشار الأسد ويسعى إلى دفع السياسة السورية في مسالك جديدة تساعد على إصلاح الأوضاع الداخلية وعلى إخراج البلاد من حالة العزلة التي أصبحت تعاني منها على الصعيد الخارجي، ويتمثل التيار الثاني في رموز ما أصبح يعرف باسم رجالات الحرس القديم الذين يتجمعون ضمن الأطر القيادية لحزب البعث وأجهزة الأمن والمؤسسات الحكومية، حيث يحاول هذا الفريق (غير المتجانس) إيقاف السياسة السورية عند حدود الثوابت التي تم رسمها خلال عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد والتي تميزت باستخدام القبضة الأمنية القوية في ضبط الوضع الداخلي وركوب موجات التشدد المدروس في توجيه دفة السياسة الخارجية. وحيث تصطدم مثل هذه القراءة بما يعرفه المطلعون على بواطن الحياة السياسية السورية بشأن حقيقة موازين القوة التي يمسك بها منصب الرئاسة ضمن تركيبة النظام السوري والتي تلغي عمليا إمكانية ظهور مراكز تنافس على السلطة أو ظهور مواقف تتعارض جديا مع مواقف الرئيس وتقديراته من داخل هياكل النظام، تقود هذه الملاحظة نحو ترجيح تفسير آخر يرى أن القيادة السورية تتقصد استخدام أسلوب ((سياسة الصوتين)) في التعبير عن مواقفها حيال التطورات والقضايا الحيوية التي تجري على ساحة المنطقة، وذلك على غرار الطريقة التي أصبحت معروفة في العمل الدبلوماسي وتستخدمها دول عديدة من بينها الإدارة الأميركية نفسها (لعبة التباين بين مواقف وزارتي الخارجية والدفاع) والحكومة الإسرائيلية (قصة الحمائم والصقور) ودول إقليمية أخرى مثل إيران (قضية التجاذب بين تياري الرئيس والمرشد). وقد يكون مما لاشك فيه أن اتباع هذا الأسلوب يمكن أن يوفر أمام القيادة السورية فرصة ملائمة من أجل تدقيق مواقفها واختبار ردود الفعل التي يمكن أن تثيرها تلك المواقف مع إبقاء طرق المراجعة والتراجع مفتوحة لتصحيح المواقف وتصويب السياسات في ضوء حركة التطورات المتسارعة التي تشهدها المنطقة ، ومع ذلك يبدو أن مصدر الخطورة الذي تنطوي عليه هذه الطريقة في إدارة دفة السياسة يكمن في أنها يمكن أن تؤدي إلى إحراق الفرص القليلة التي ما تزال متوفرة من أجل إعادة تعويم الدور الذي لعبته سورية خلال المرحلة الماضية على الصعيد الإقليمي وإجهاض المبادرات التي تطرحها الدبلوماسية السورية بين فترة وأخرى من أجل استثمار تلك الفرص وتوظيفها بصورة مناسبة، حيث أصبح مطلوبا من دمشق أن تقدم براهين مضاعفة لإثبات صدقيتها في طرح تلك المبادرات في ظل ظروف أصبح فيها عامل الوقت هو العامل الحاسم في تثمير المبادرات المطروحة أو تبديدها
#عماد_هرملاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الـ-صولد- السوري في مواجهة الممانعة الإسرائيلية الأميركية
-
تفكير في المحظور: هل تنجح دمشق في الالتحاق بقطار التسوية ؟
-
العلاقات السورية الأميركية: دبلوماسية - زواج المتعة
-
ثقوب خطاب الفريق الإصلاحي في سورية: تعليق على مقال السفير سا
...
-
انكسارات المشروع القومي: قراءة غير تقنية في نتائج المؤتمر ال
...
-
النهضة الموءودة: إخفاقان في سجل مشروع النهضة العربية
-
ثلاث مفارقات على هامش مشروع الشرق الأوسط الكبير
المزيد.....
-
أين بوعلام صنصال؟.. اختفاء كاتب جزائري مؤيد لإسرائيل ومعاد ل
...
-
في خطوة تثير التساؤلات.. أمين عام الناتو يزور ترامب في فلوري
...
-
ألم الظهر - قلق صامت يؤثر على حياتك اليومية
-
كاميرا مراقبة توثق لقطة درامية لأم تطلق كلبها نحو لصوص حاولو
...
-
هَنا وسرور.. مبادرة لتوثيق التراث الترفيهي في مصر
-
خبير عسكري: اعتماد الاحتلال إستراتيجية -التدمير والسحق- يسته
...
-
عاجل | نيويورك تايمز: بدء تبلور ملامح اتفاق محتمل بين إسرائي
...
-
الطريقة المثلى لتنظيف الأحذية الرياضية بـ3 مكونات منزلية
-
حزب الله يبث مشاهد استهداف قاعدة عسكرية إسرائيلية بصواريخ -ن
...
-
أفغانستان بوتين.. لماذا يريد الروس حسم الحرب هذا العام؟
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|