جهاد علاونه
الحوار المتمدن-العدد: 3832 - 2012 / 8 / 27 - 23:32
المحور:
سيرة ذاتية
أعتز ببيتي كما تعتزُ النملةُ بثقب الأرض وأفرح في بيتي كما يفرح العصفور في عُشه المصنوع من القش فأنا أرى بيتي كما ترى النحلةُ خليتها وكما يرى الفأر جحره, فبيتي هو جنتي التي ليس كمثلها مثيل والتي خلقها الرب من أجلي أنا, واضحكوا كثيرا يا أصدقائي لأنه سيأتي عليكم يوم تبكون فيه كثيرا حين تفقدون بيوتكم أو حين تجبركم الغربة على مفارقتها,فأنا لم أضحك من كل قلبي إلا وأنا في بيتي بين أهلي وناسي وأولادي, لقد سمعت في بيوت بعض الناس كثيرا من القصص المضحكة ولكني لم أضحك من كل قلبي إلا وأنا في بيتي متكئا على وسادتين صنعتهما أمي لي بعرقها ودموعها ومن نسج خيالها المتطلع إلى مستقبل أكثر إشراقا مما مضى فلا أحد يستطيع أن يدخل السرور إلى قلبي إلا وأنا في بيتي ولا يستطيع أي إنسان أن يخرج الضحكة من فمي إلا وأنا في بيتي حتى أن طعم المرارة في بيتي ألذ من طعم السكر في بيوت كل الناس.
, لقد زرتُ في زماني بيوتا كثيرة مصنوعة من شتى الأنواع والأدوات الراقية الصنع والغالية الثمن ورأيت تحفا فنية من أجمل أنواع التحف المتواجدة في العالم ومع هذا لا يوجد تحفة أجمل من التحف الموجودة في بيتي مثل صينية الشاي المصنوعة من الميلامين وأكواب الشاي المصنوعة من الزجاج القابل للكسر أو الطبش, ولمحتُ في عيني كثيرا من المجوهرات المصنوعة من الذهب أو البلاتين الأبيض ولكن لم أرَ جوهرة تشبه تلك الجوهرة المعلقة في خنصر أمي ,ورأيت على جدران البيوت التي تشبه القصور كثيرا من اللوحات التشكيلية العالمية ولكني لم أعثر على لوحة فنية واحدة بجمال صورة أبي وجدي وجدتي المعلقة فوق رأسي في غرفة نومي,وكثيرٌ من النساء اللواتي أحببنني واعتبرنني كواحدٍ من أولادهن ولكني لم أذق طعم الأمومة إلا من أمي ولم أذق طعم الحنان إلا من يد أمي ,ورأيت بيوتا مصنوعة من الزجاج وأخرى من الحجر الأبيض النظيف وهذه البيوت عبارة عن قصورٍ كأنها قصور الجان التي نقرأ عنها في الكتب الأسطورية وفي الروايات الخرافية والخيال العلمي ولكني لم أجد طوال حياتي بيتا يشبه بيتي وخصوصا في اتساعه فرغم أنني رأيت بيوتا واسعة كأنها ملاعب لكرة القدم وساحات واسعة كأنها ملاعب أولمبية إلا أنني كنتُ أراها كالقبور الضيقة أو كزنزانة تضيق بي كلما أطلت المكوث فيها ولم أجد طوال حياتي منزلا كمنزلي يتسع لي كي أمد أرجلي مسندا ظهري إلى حائط قوي يقيني من السقوط وهذه الميزة لم أجدها إلا في بيتي فأنا وأنا في بيتي أستطيع أن أمد أرجلي وأنا مرتاح جدا, ودخلت بيوتا عليها حراسة مشددة ورجال أمن كأنها قصور السلاطين غير أنني لم أجد منزلا أستأمن فيه على حياتي إلا منزلي فأنا وأنا في منزلي أنام وأنا مرتاح وأصحو وأنا مرتاح جدا دون أن يكون عندي حرس يحرسونني إلا بعض الكلمات والدعوات التي تدعوها أمي لي حين تراني ذاهبا إلى النوم أو قادما من النوم أو ذاهبا إلى العمل أو حتى حين تراني ذاهبا إلى الحمام أو قادما منه فدائما أمي تدعو لي بالخير وبالأمن وبالأمان وهذه ميزة أخرى غير موجودة أو لا أشعر فيها إلا وأنا في بيتي إلى جانب أمي العظيمة, ولا أشعر أنني ضد الصدمات إلا حين أكون جالسا في بيتي,ورأيت في بعض القصور أطفالا يلبسون أحلى الثياب الجديدة الصنع غير أنني لم أرَ أطفالا أجمل من أولادي حتى وهم يلبسون الثياب المرقعة أو المستعارة من ذوي الإحسان الذين رأوا بأن هذه الملابس لم تعد مناسبة لأولادهم ومع هذا هي على أولادي أجمل من الثياب التي يرتديها أبناء الملوك والأمراء والأثرياء, ولم أجد منزلا يشبه منزلي ولم أعثر على بيتٍ جميل مثل بيتي ولم أجد بمستوى أناقته لا قصرا ولا حتى فندقا من خمسة نجوم, ورغم أن بيتي مصنوع من الطوب والإسمنت المسلح إلا أنني لا أرمي بيوت الناس المصنوعة من الزجاج بالحجارة,ولا أرشق بيوت الناس المصنوعة من بعض المواد القابلة للاشتعال بأعواد الثقاب, وبيتي هو قصري وهو جنتي الأبدية الخالدة وحين أموت سأوصي أهلي بأن يدفنوني في بيتي إلى جانب الذكريات الجميلة والحزينة التي عشتها طوال حياتي وإلى جانب سريري الخشبي وملعقة الطعام المصنوعة من الألمنيوم وإلى جانب الزوايا التي قرأت فيها أعمال شكسبير والروايات العالمية والمعلقات العشر وإلى جانب الكمبيوتر الذي كتبت عليه أجمل المقالات التي ذرفتُ عليها دموعا كثيرة وأنا أكتبها.
وقرأت في بيوت بعض الناس كثيرا من الكتب والمقالات التي دفعوها لي دفعا لكي أتلذذ بها ولكنني لم أجد أجمل من صفحات الإنجيل الذي قرأته في بيتي في غرفتي المضغوطة التي لا يوجد فيها مروحة هوائية.. بيتي هو راحتي الأبدية فرغم أنني دخلت بيوتا فيها كثيرٌ من وسائل الراحة وكأنها مدينة ملاهي أو ألعاب ترفيهية إلا أنني لم أجد في تلك المنازل رفاهية تعادل مستوى الرفاهية التي في بيتي, ورغم أنني دخلت بيوت الأغنياء ورأيت فيها كثيرا من الطعام والشراب بما لذ وطاب غير أنني لم أروي عطشي إلا من إبريق الماء الذي أخرجه بيدي من الثلاجة المتواجدة في المطبخ ولم أذق طوال حياتي من أي قصرٍ عظيم طعما كطعم البيض الذي أقليه في بيتي,ولم أُشبع بطني إلا من بيتي حتى لو كانت كسرة خبز يابسة مع رأس بصل صغير وعلبة سردين مغربية, وتناولت في حياتي كثيرا من الوجبات الدسمة والمشبعة باللحوم وبالدهون ولكنني وجدت أن طعم الخبز في بيتي أشهى وأحلى من طعم عصير قصب السكر في قصور الأغنياء وفنادقهم الكبيرة,وتناولت في زماني كثيرا من المهدئات العصبية غير أنني لم أجد مهدئا يهدأ أعصابي إلا بيتي وخصوصا حين أكون في المرحاض.
وحاولت النوم في بيوت بعض الأصدقاء الذين زرتهم في حياتي ولكن صدقوني لم أنم طوال حياتي في غير بيتي وغرفة نومي ففي بيوت الأصدقاء الفارهة تبقى عيني مستيقظة طوال الليل ولا أنام مطلقا وحين يسألوني في الصباح :هل نمت جيدا فإنني أتظاهر أمامهم بأنني نمت جيدا وحلمت أحلاما رائعة غير أنني في الواقع لم أكُ أرى إلا الكوابيس والأشباح التي تتنطط في وجهي كل ساعة وكل دقيقة أغمض فيها عيوني للنوم أما في بيتي فإنني أنام من أول دقيقة أضع فيها رأسي على وسادتي وبلمح البصر أحلم أحلاما جميلة إلى درجة أنني كثيرا ما حلمت وأنا نائم في بيتي بأنني أكل الأرز مع الملائكة.
#جهاد_علاونه (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟