|
شخصية فى حياتى : بورتريه للسيدة ن. ن
طلعت رضوان
الحوار المتمدن-العدد: 3832 - 2012 / 8 / 27 - 12:22
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
عملتُ فترة من حياتى موظفــًا حكوميًا . والعمل الحكومى فى مصر تسود فيه العلاقات الاجتماعية ، والتى تكاد تتشابه كثيرًا مع العلاقات العائلية. ولأننى عملتُ لأكثر من 36سنة فى وظيفة حكومية ، فقد رصدتُ بعض مظاهر(العلاقات الاجتماعية) ومنها : يحتفل الموظفون بزميلهم / زميلتهم عند الاحالة إلى المعاش ، وبينما يحتفلون بالسعاة والفراشين ، فإنهم رفضوا الاحتفال ببعض الرؤساء (وكيل أول وزارة أو مديرعام) الذين اتصفوا بالاستبداد والتفرقة بين الموظفين ، الفطار الجماعى ، احضار طعام المناسبات (كعك العيد كان يُحضره المسلمون والمسيحيون) ، زيارة الزميل المريض فى منزله ، جمع مبالغ مالية (تبرعات) للسعاة والفراشين عند التأكد من مرورهم بضائقة مالية. وكانتْ السيدة ن . ن أنشط من تولتْ هذا العمل . ولكن أهم ظاهرة هى (عمل جمعية) فيتولى شخص (غالبًا سيدة) تجميع اشتراكات شهرية من عدد معين من الموظفين ، ولتكن الحصيلة ألف جنيه أو أكثر ، يقبضها المشترك حسب الاتفاق فى ترتيب أولويات الاحتياج ، وكانت السيدة ن . ن (أيضًا) أهم موظفة تولتْ هذا العمل ، لأنها كانت تحرص على مراعاة الظروف الاجتماعية لكل موظف . السيدة ن. ن كانت محل خلاف بين الموظفين ، صحيح أنّ أغلبهم يعترفون بدورها (الاجتماعى) ولكن البعض كان ينتقدها (فى حضورها وفى غيبتها) لأنها تـُدخن السجائر ورفضتْ تغطية شعرها بعد انتشاره فى أواخر السبعينيات ، خاصة وأنها من الجيل الذى عاش فترة الستينيات الذى كان فيه السفور هو القاعدة (حفلات أم كلثوم نموذجًا) وإذا كنتُ قد قلتُ أنّ العمل الحكومى تسود فيه العلاقات الاجتماعية ، فإنه أيضًا صورة مُصغرة للشخصية المصرية بكل عيوبها ، فالزملاء الذين انتقدوا السيدة ن. ن بسبب السجائر وعدم تغطية شعرها (وأحيانــًا كان النقد هجومًا جارحًا) انتقلوا إلى ( التلسين ) على حياتها الشخصية ، لأنها تزوّجتْ ثلاث مرات. كانت السيدة ن. ن تفرح كثيرًا عندما ترى اسمى فى الصحف والمجلات . وكنتُ أحرص على أنْ تقرأ قصصى ومقالاتى ، لأننى استفدتُ كثيرًا من ملاحظاتها . وإذا عجبتها قصة أو مقالة صوّرتها ووزعتها على الزملاء . وأذكر أنه عندما نشرتْ لى صحيفة الدستور المصرية (20/8/97الاصدار الأول) مقالتى المعنونة (كفيل مصرى لكل مواطن خليجى يحضر إلى مصر) طارتْ السيدة ن. ن فرحًا وصورتْ عشرات النسخ ووزعتها على الزملاء فى كل قطاعات وأقسام الوزارة ، وليس فى إدارتنا فقط ، وبينما كانتْ تمتدحنى على بعض المقالات والقصص ، فهى أيضًا كثيرًا ما انتقدتنى . ولم تكن تعرف المناورة أو (تزويق) الكلام وهى تنتقد ، لذلك كنتُ على اقتناع بأنها لاتعرف أنْ تقول إلاّ (الصدق) وهذا ما جعلنى أصدّقها عندما حكتْ لى أسباب انفصالها عن أزواجها الثلاثة قالت : الطلاق الأول لأنها لا تـُنجب . الطلاق الثانى لأنها اكتشفتْ أنّ زوجها استغل معرفته بعدم قدرتها على الانجاب لتكون مجرد (خادمة) لأولاده ، بينما هو يغيب عن البيت بالأيام إلى أنْ اكتشفتْ تعدد علاقاته النسائية المشبوهة ، فأصرّتْ على الطلاق . الطلاق الثالث (وهذا نص كلامها) : وقعتُ فى حب شاب أصغر منى يرتدى قناع مـلاك . وطبعًا ما كنتش عارفه إنه (قناع) وبعد ثلاثة شهور من الزواج اكتشفتُ أنه نصب لى أخطر فخ لازم تـُدخل فيه أى واحدة فى ظروفى (فخ الحب) بعد ما كرهتْ الحياة بسبب التجربتين اللى كسرو نفسى وحطمو قلبى وخلونى أسدق عقلى إنْ ما فيش حاجه اسمها (السعاده) المهم لما (الملاك) قلع (القناع) اكتشفتْ إنْ (مصيدة الحب) اللى نصبها لى يستحق عليها درجة الدكتوراه من أكبر جامعة للشياطين . كان عارف إنْ ما ليش اخوات وإنْ مرتبى كبير وعندى ميراث عقارى وعندى رصيد فى بنك مصر. يعنى اكتشفتْ إنه كان عامل (دراسة) وبحث (معلوماتى) عن كل حياتى الشخصية. فى الأسبوع الأول بعد الزواج إتعاملتْ مع طلبه فلوس منى (بحُسن نيه) لكن لما طلباته كترتْ وبمبالغ أكبر، قلت لنفسى لازم آخد موقف ، رفضتْ الاستجابه لطلباته. ضربنى . ودى كانتْ أول وآخر مره (عند هذا الموقف ضحكتْ بقوة وتورد خدها بحمرة السعادة) ثم واصلتْ : عارف آخر مره ليه ؟ لإنى قلت لنفسى لو حاول يكرّرها يبقى لازم أضربه. وهوّ دا اللى حصل فى المره التانيه. أول ما لقيته ح يمد إيده ويضربنى ، كنت أنا أسرع منه. نزلتْ فيه تلطيش على وشه وبطنه وأسفل بطنه (عند هذا الحد توقفتْ وعادت إلى الضحك) سألتها عن سبب ضحكاتها قالت : الخايب النايب راح قسم البوليس وعمل لى محضر. لما البوليس استدعانى ، لقيت أمين الشرطه اللى ح يكتب المحضر بيقول لزوجى (( يا أخى موش مكسوف وإنت جاى تقول إنْ مراتى ضربتنى ؟)) المهم كان حظى حلو إنى وقعتْ مع أمين شرطه ما عندوش موقف معادى ضد الستات ، ونصح زوجى بالمعامله الطيبه. طلبتْ من الملاك / الشيطان الطلاق . فى البدايه رفض . هدّدته إنى ح أعشيه كل يوم علقه. خد كلامى باستهتار. لكن لما منعتْ نفسى من معاشرته الجسديه. ومنعتْ دخول الطعام فى شقتى . وقلت آجى على نفسى وآكل جاهز من أى محل علشان أقرفه. لما عرف إنْ ما فيش فايده طلقنى.. آدى حكايتى مع الشياطين التلاته. كان معاى حق ولاّ لأ لما طلبتْ الطلاق . ومن ساعتها يا أستاذ طلعت وأنا حرّمتْ . وقلت توبه أقع فى الوحل والخيبه. ويغور الجواز ويروح فى ستين داهيه)) لم أكن الوحيد الذى صدّقها وإنما أغلب الزملاء باستثناء من انتقدوها لأنها تدخن السجائر وترفض تغطية شعرها . 000 فى منتصف التسعينيات فوجئنا بلواء مُحال إلى المعاش يتولى منصبًا قياديًا فى الوزارة . أما المفاجأة الثانية فكانت صدور قرار وزارى بتثبيته على درجة (وكيل وزارة) بعد خطاب من الوزير إلى الجهاز المركزى للتنظيم والإدارة ، الذى وافق على طلب الوزير. جهابذة شئون العاملين بالوزارة كانوا يهمسون سرًا بأنّ هذا مخالف للقانون ، لأنّ درجة وكيل وزارة لا يحصل عليها إلاّ الموظف وفقــًا للتدرج الوظيفى بالتطبيق لقواعد قانون العاملين المدنيين بالدولة. وأقصى ما فى سلطة الوزير(طالما أنه عبد المأمور) أنْ يُعينه بمكافأة شهرية. وعندما سألتُ زميلى موظف الماهيات المسئول عن تحرير استمارات استحقاقات الموظفين عن المبلغ الشهرى الذى يحصل عليه سيادة اللواء ، همس لى (مع وعد منى بعدم إفشاء السر) أنّ سيادة اللواء يحصل على أكثرمن ستين ألف جنيه شهريًا (بسعر التسعينيات) أما الكارثة الحقيقية فتمثلتْ فى شعور الإحباط النفسى الذى أصاب كل من أوقعه حظه السيىء للتعامل المباشر مع سيادة اللواء الذى عجزنا عن معرفة هل هو بوليس أم جيش ، وكأنّ الأمر يدخل فى باب الأسرار العسكرية. أكد كل الذين تعاملوا معه مباشرة أنه كان ينظر إليهم على أنهم مجرد (عساكر) تحت سيطرته ونفوذه وعليهم تنفيذ أوامره دون مناقشة وفقــًا لقاعدة (الطاعة المطلقة) حتى فى أدق الشئون الفنية المدنية. وكان أكثر ما أثار السخرية منه والسخط عليه ، وقوفه يوميًا أمام الساعة التى يضع فيها الموظف بطاقة الحضور والانصراف . 000 فى يوم (وصفه الزملاء بأنه يوم تاريخى) بعد أنْ وصل عقرب الساعة إلى التاسعة ، وقف سيادة اللواء فى انتظار تعساء الحظ المُتأخرين عن الموعد . جاءت السيدة ن. ن مُتأخرة بضع دقائق (وأشهد أنها كانت مثالا للانضباط وقلما تأخرتْ عن موعد الحضور) بمجرد أنْ رآها سيادة اللواء ، إذا به يسد عليها الطريق بصدره العريض غير المتناسب مع قامته القصيرة ، ويقول لها ((دا إنتى مُطلقه.. وما عندكيش لا عيل ولا تيل .. كنتى سهرانه فى أى خماره يا مره يا شر....)) { أكتب هذا المشد الواقعى الذى مرّ عليه أكثر من 15سنة وكأنه حدث بالأمس } السيدة ن. ن كأنما داخل عقلها جهاز كمبيوتر تمتْ تغذيته برد الفعل الذى حدث : ألقتْ حقيبة يدها على الأرض وتقدّمت من سيادة اللواء بكل ثبات وقالت له (( أنا مره شر.... يا جزمه )) وقبل أنْ يفيق سيادة اللواء من الصدمة إذا بها ترفع ذراعها وتصفعه على خده بكل قوة . اللحظة التالية ( وأنا أصف ما حدث بالضبط ) كانت مُطابقة تمامًا للمشهد السينمائى الذى يتجمّد فيه الممثلون وتظل الكاميرا مُثبتة عليهم كأنهم تماثيل . هذا ما حدث معى ومع كل الزملاء . لا أذكر كم ثانية قضيناها فى حالة ( التجمد ) وعيوننا مُبحلقة وشفاهنا مفتوحة. أفقنا من غفوة الاندهاش المُذهل على صوت سيادة اللواء (( اقبضوا عليها.. اقبضوا عليها )) ورغم حالة الخوف والرعب التى أصابتنا ونحن نسمع صراخه ، إذا بى أسمع همسات السخرية من الزملاء القريبين منى وهم يُقلدون صوت سيادة اللواء (( اقبضوا عليها.. اقبضوا عليها )) ذهبنا إلى مكاتبنا ولا حديث لنا إلاّ عن توقعات مصير السيدة ن. ن بعد تحويلها للتحقيق معها فى الشئون القانونية. أغلب الموظفين أشفقوا عليها وتعاطفوا معها ، عدا الذين رفضوها بسبب تدخين السجائر وشعرها . وعندما قلتُ لأحدهم : أليس ما فعلته السيدة ن. ن شجاعة أدبية ؟ قال (( لا يجوز شرعًا أنْ تضرب المرأة الرجل )) السيدة ن. ن كانت أكثرنا ثباتــًا وقالت (( أى جزاء سيوقع علىّ لن يُساوى ما فعلته.. أنا لى الفخر بأننى ضربت سيادة اللوا )) لسبب أعتقد أنه يدخل فى نطاق دراسة (الشخصية المصرية) تعاطف موظفو الشئون القانونية مع السيدة ن. ن واكتفوا بخصم عشرة أيام من راتبها ورفضوا تحويلها إلى النيابة الإدارية. فوجئنا بالسيدة ن. ن تـُحضر(تورته) احتفالا بصدور قرار الجزاء الموقع عليها ، واختفاء سيادة اللواء من الوزارة . 000 عندما صدر قرار إحالتى إلى المعاش طلبتْ السيدة ن. ن رقم تليفونى . مرّتْ عشر سنوات وهى تتصل بى لتطمئن على صحتى وتسألنى عن أحوال أولادى ، وتـُعاتبنى لأننى لا أتصل بها. يعصرنى الخجل فألوذ بالصمت الجارح ، وأقول لنفسى هل ستـُصدّقنى لو قلتُ لها أننى أسير عادة سيئة أحاول التخلص منها ، وهى عدم سؤالى عن من أحبهم وأحترمهم . ويبدو أنّ إصرارها على الاتصال بى ساعد على شفائى من عادتى السيئة ، فبدأتُ الاتصال بها لأطمئن عليها ، فتـُذكرنى بكل ما عشناه فى سنوات العمل بالوزارة ، فكانت بالنسبة لى مثل كتاب أعود إليه من حين لآخر، لأسترجع صفحات حية من حياتى . ***
#طلعت_رضوان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأصولية تلاحق الشاعر أحمد شوقى
-
الدم العربى فى قصور الوحدة العربية
-
المواطنة من المنظور الأصولى الإسلامى
-
أسلمة الدولة المصرية
-
التنوع الثقافى فى إطار الوطن الأم
-
الوجه الإنسانى - قصة قصيرة
-
عيون بلا ذاكرة - قصة قصيرة
-
أضلاع المثلث أربعة
-
فى البدء كانت العتمة - قصة قصيرة
-
الإبداع الشعبى والإبداع التشريعى
-
لماذا لا يتعظ الإسلاميون والعروبيون من الدرس ؟
-
العرب ظاهرة صوتية
-
الحضارة المصرية بين علم المصريات والأيديولوجيا
-
البحث عن خنوم : حدود العلاقة بين الإبداع والتراث
-
الاحتقان الدينى : الأسباب والحل
-
التعددية والأحادية فى رواية (حفل المئوية)
-
حماس والإخوان والحلم الإسرائيلى
-
الوجوه المُتعدّدة للشاعر حلمى سالم
-
الأصل مصرى والدماغ عبرى
-
العلمانية وغياب الحس القومى
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|