|
هل نحن مجتمع ضال؟
محمد الحمّار
الحوار المتمدن-العدد: 3832 - 2012 / 8 / 27 - 00:45
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في إطار مساهمة التونسيين في بناء تونس الجديدة قد يكون هنالك من بينهم من يعملون حقا من أجل ذلك. وفي المقابل ما من شك في أنّ هنالك من يفعلون عكس ما هو مطلوب، ظنا منهم أنّ ما يفعلونه هو الصواب. إنّ الفئة الأولى، إن وُجدت، تعدّ قليلة وشاذة بالمقارنة مع الفئة الثانية التي تشمل غالبية الشعب. إذن لنركز النظر على الفئة الموجودة حقا في المجتمع و لنرَ الفرق بين أعمال الفئتين من خلال مردود فئة الأغلبية لكي نستشف العمل الأمثل الذي قد ينسحب على الفئة الأولى الافتراضية وبالتالي على مجتمع المستقبل بأكمله. ولنبحث من خلال ذلك عمّا يمنع المجتمع الآن من تبنّي طريقة العمل الناجعة.
إنّ الفئتين تلتقيان في تقييم الواقع بأنه متردٍّ وبأنّ البلاد قد "اصطدمت بالحائط" كنتيجة لحالة التردي. لكنهما لا تتخذان نفس الموقف إزاء الوضع المزدري. أما السبب فيكمن في اختلاف المسلّمات العقدية لدى كل واحدة من الفئتين وبالتالي في طبيعة الدوافع التي تحث كلاهما على الرد على الواقع ابتغاء تغييره، مما يَسِمُ التغييرَ عند الفئة القليلة التي افترضنا أنها مستقيمة بأنه من الصنف الذي هو نحو الأفضل، والتغيير عند الأغلبية الضالة من الصنف الذي هو نحو الأسوأ .
إذن ليست المسألة متعلقة بفئة نفترض أنها فعالة لأنها متفائلة وبفئة ثانية غير فعالة لأنها متشائمة. فالفئتان الاثنتان متشائمتان ومتخوفتان من الحاضر. لكن هنالك واحدة ليست متخوفة من المستقبل بينما الأخرى متخوفة منه. من هذا المنطلق نرى أنّ الأولى محكومة بالتحلي بالتفاؤل ("تفاؤل القلب" اقتباسا عن تسمية نعوم تشومسكي) كنتيجة (لا كمقدمة) لكونها تعمل على النهج الصحيح طبقا لعدم تخوفها من المستقبل لكي تقاوم "تشاؤم العقل" لديها (تسمية نفس العالم). أمّا الأخرى، وهي الأغلبية الساحقة من الشعب، فهي محكومة بالغرق في التشاؤم المزدوج، قلبا وعقلا، كنتيجة لكونها تعمل على النهج الخاطئ طبقا لتخوفها من المستقبل. وهذه الأخيرة هي الفئة التي نرى ميسوري الحال فيها يتبضعون ويتهافتون على اقتناء الكماليات من تقليعات في الملبس والمظهر والسكن، ومن قضاء الإجازات الاستجمامية في داخل البلاد وخارجها، ومن شراء وسائل الرفاهة والترفيه وحتى السيارات الجديدة. وذلك بالرغم من أزمة اقتصادية خانقة وبالرغم من وجود مؤشرات تنذر بأزمة اجتماعية حادة. وهي الفئة التي نرى المعوزين فيها يصبّون جامَ حرمانهم في لعب الورق وتعاطي السجائر و الشيشة والمخدرات والمسكرات، والإدمان على الرهان الكروي والتداين. وذلك بالرغم من ضيق ذات اليد لديهم. بالمحصلة، سواءً كانوا ميسورين أو معوزين فإنّ ما يجمع بين طرفَي هذه الفئة الضالة هو العمل على نهجٍ ضال أي معاكس لمتطلبات التغيير نحو الأفضل الذي تتطلبه البلاد لأنها تحتاج إليه. إنهم يبنون وطنا وهميا مبنيّا على مُعتقدٍ وهمي هو الآخر مفاده أنّ الوطن (الحقيقي) بخير. بينما في حقيقة الأمر الوطن ليس بخير. وإن آلت هذه المغالطة الذاتية إلى شيء فإنها تؤول إلى تكرار الأزمات واستعصاء البدائل والحلول.
لكن ما الذي يجعل هذه الفئة الحاصدة للتشاؤم المزدوج تتبنى الوهمَ كمنهاج وتتخذ موقفا وسلوكا إزاء الواقع مُجانبَين لنهج التقدم؟ وهل التشبث بالوهم حتمية لديها؟ وفي نفس الوقت ما عسى أن يكون الموقف والسلوك الأفضلين لدى المجتمع بأكمله حتى يكون حاصدا للتفاؤل وبالتالي عاملا في اتجاه التاريخ؟ في هذا السياق لا يمكن أن ننفي أنّ موقف وسلوك الفئة الضالة منافيَين للإسلام. فالدين الحنيف يحض على الاعتدال في كل شيء بما فيه ما يتعلق بالمصاريف حتى ولو كان المعنيون بالأمر من الأثرياء. ومثلما ينهى عن التبذير فإنّ الدين يحرّم الأنصاب والأزلام وغيرها من الموبقات. والإسلام يأمر بالعدل و بالتعديل بين الغني والفقير. وقد يسهل القول إنّ هذه النواهي والأوامر الإسلامية غير معمول بها لدى الفئة الاجتماعية الضالة العريضة في تونس اليوم، لكن لئن كان ذلك كذلك فمن التجني تكفير هؤلاء واقتراح أسلوب الأسلمة كحل. فالأسلمة هي في الحقيقة مخرج سحري لا غير لا لشيء سوى لكَون المجتمع مسلما منذ 14 قرنا. إذن من هذا المنظور التاريخي، تصبح ندرج صفة الضلال المجتمعي مندرجة ضمن الصنف الفلسفي والوجودي، لا ضمن الصنف الديني. والتشخيص الذي ينطبق على المجتمع التونسي المبتلَى بالضلال رغم إيمانِ غالبية أفراده هو أنه لم يقرأ القرآن أبدا (بالمعنى "الصديقي"، نسبة للأستاذ المفكر يوسف الصديق) أي أنه لم يتدبّره. في ضوء هذا، لم تعد المسألة متعلقة بمعرفة ما إذا كانت صفة الكفر موجودة في المجتمع المسلم من عدمها، كما يذهب إليه الأصوليون بأصنافهم. فالكفر موجود بقدرٍ وبمنسوبٍ معيّنَين في كل المجتمعات. وما السلوكيات الضالة إلا مظاهر مُرَكبة ومُعقدة تعطي انطباعا بأنها منبثقة عن الكفر، بينما قد تكون في الأصل صادرة عن كافرٍ كما قد تكون صادرة عن مؤمن. وبالتالي أضحت المسألة تتعلق بضرورة معرفة الأسباب والمسببات الموضوعية التي أدت إلى توليد الأفكار والسلوكيات والمواقف الضالة و المُشتبَه بها كفرا، لا بالحكم عليها أو على نوايا أصحابها. فالمعادلة تغيرت تاريخيا (مما لا ينفي أبدا دوامها دينيا) وأصبحت كالآتي: لا تقُل إني كافر بل قُل لي ما الذي حملك على الاعتقاد بأني كذلك، ومن ثمة قُل لي ما هو العلم الذي سيصحح موقفي وقولي وسلوكي حتى أكون مفيدا لمجتمعي. أي إنّ المسألة أضحت تقع تحت طائلة الكلام والعلم لا تحت طائلة الأخلاقوية الإسلاموية.
من هذا المنظور، يُعاب على المجتمع التونسي الضال أنه "يعمل لدنياه" كأنه يموت غدا، عوضا عن أن يعمل لدنياه "كأنه يعيش أبدا" (كما جاء في الأثر الديني). ذلك أنّ بالرغم من إيمانه بالله وبالإسلام دينا إلا أنه متخوف من المستقبل كما قدمنا أنفا، بمعنى أن ليست له صورة جميلة مسبقة عنه (كما يريد الإسلام وكما يريد العلم، مثلما سنرى). لكن ما يميز الفئة المنحرفة عن الفئة الأخرى، التي تَوسّمنا فيها نظريا العمل الناجع رغم إذعانها للخوف من الحاضر هي الأخرى، هو أنها لتبرير تخوفها تلجأ إلى عبادة الصورة القاتمة التي تحملها عن المستقبل لتسقطها على الواقع وبالتالي لتؤبّده ولتؤبّد التخلف والفوضى فيه. فنراها تعتمد التهافت على اللذائذ والمقتنيات المادية كتعويضات عن الفراغ العقدي والمعرفي والمنهجي. وفي الأثناء نشاهد المجتمع يزداد معاناة من المشكلات الآنية بسبب تفاقمها وبسبب تهريب الجهد والوقت المال من مسلك الخلاص إلى مسلك الملاذ والتعويض النفسي. بينما القرآن الكريم يحثنا على ترسيخ صورة جميلة للمستقبل في الذهن لكي نكون قادرين على تجاوز الصعاب التي تعترض سبيلنا في الحياة الحاضرة: "يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ" (الانشقاق:6) و "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" (الحشر:18) و "مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97). وبالتالي فالإسلام يمهلنا دنيويا حتى نكون صبورين بخصوص تحقيق أحلامنا فضلا عن كونه يعِدنا بالجزاء الأخروي. وفي المقابل يحصر الدين الحنيف لزومية الإسراع بالتنفيذ الدنيوي في باب الأولويات والضروريات لا الكماليات، وتبقى هذه الأخيرة رهنًا بتلبية كافة الحاجيات الضرورية، وذلك مثلما جاء في الحكمة المأثورة "لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد". مع العلم أنّ الصنف من تأجيل التنفيذ الذي لا يجوز في الإسلام هو ذاك الذي يخصّ البُعد التعبدي والشعائري الأخروي كما جاء في الأثر الشهير "اعمل لآخرتك كأنك تموت غدا". في ضوء هذا كله نتخلص على القول إنّ مجتمعاتنا الإسلامية استبدلت الإسراع الدنيوي (المنكر؛ الذي تحوّل إلى تسرع) مكان الإسراع الأخروي الوجوبي.
والخلاصة أنّ تفاؤل القلب لا يكفي لتصحيح الوضع المنقلب أي للخلاص الدنيوي والأخروي في الآن ذاته طالما لم يكمّله تفاؤل العقل، ناهيك لمّا يكون التفاؤل منعدما قلبا وعقلا. وتأكيدا لذلك فإنّ العلم والفلسفة الحديثين (نظريات الفيزياء وتبعاتها لإيليا بريغوجين) قد أثبتا كيف يتشكل هذا الصنف من التفاؤل وكيف يكون مبنيا على العمل الصالح والصائب الذي هو بدوره مؤسَّسٌ على صورة جميلة للمستقبل تكون سابقة للفعل الحاضر بل وهي التي تؤثر فيه إيجابا. فهل سيهتدي التونسيون والعرب والمسلمون أجمعين إلى مثل هذا الموقف العلمي الذي من شأنه أن يساعد على التوسع في فهم الإسلام، مما سيضع حدًّا للتغليط الذاتي بخصوص أي الطرائق يتبعون لتغيير الواقع و لبناء المستقبل؟
#محمد_الحمّار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشرط الأساس ليجتازَ اليسارُ خط التماس
-
أنا سني غير معتزلي إذن أنا أفكر
-
أيُشترط أن نكون معتزلة لنقدّم العقل على النص؟
-
أضعف الإيمان أن نستردّ مكانة الحيوان الناطق
-
لو لم تكن الديمقراطية، هل تكون الخلافة الحرة؟
-
-النهضة- و صورة المسلم الأبله
-
المطلوب تجفيف ينابيع الهيمنة الغربية على الوطن العربي
-
الحالة المدنية: مواطن
-
النخب خارجة عن موضوع الثورة، والتجديد الديني ضرورة تاريخية
-
هل مثقفونا عربإسلاميون أم مستقطَبون؟
-
شباب تونس نحو البديل السياسي للعالم الجديد
-
نحن و اللامقول عن ثقافة الإسلام المحمول
-
هل نسي الإسلاميون العرب أنهم عرب؟
-
تونس بين آحادية الإسلام السياسي وثنائية الوحي والوعي
-
حتى يكون الإعلام في خدمة الأقلام
-
أية سياسة لمشروع الرقي العربي الإسلامي؟
-
هل العرب قادرون على الفوز بمعركة البقاء دون إيديولوجيا؟
-
تونس: كي يكون أداء حكومة -البارسا- عالميا
-
العرب بين ديمقراطية الاستجداء وواجب الاعتلاء
-
من لغة التشرذم إلى لغة التعميم بفضل إصلاح التعليم
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|