|
رمضان 2012 وليبرالية مصر
شريف مليكة
الحوار المتمدن-العدد: 3828 - 2012 / 8 / 23 - 20:21
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تابعت خلال شهر رمضان 2012 بعض من الأعمال الدرامية المصرية التي اكتظت بها القنوات الفضائية (قيل إنه تم انتاج أكثر من سبعين عملا هذا العام). والملحوظة العامة التي خرجت بها هي ارتفاع المستوى التقني الملحوظ لعدد لا بأس به من تلك الأعمال. كما انتبهت لعدد ليس بقليل من الأسماء الجديدة ـ بالنسبة لي على الأقل ـ لجيل جديد من المخرجين ذيلت أسماؤهم الأعمال المتميزة التي تابعتها. ولكني لست بصدد تقديم تحليل فني لهذه الأعمال التي تابعتها باهتمام لأني ببساطة غير مؤهل لمثل هذا التقييم. الحقيقة هي أن ما استرعاني بالذات، وهو ما دفعني للكتابة اليوم، هو عملان من الأعمال الدرامية التي تابعتها، أولهما مسلسل "نابليون والمحروسة" من إخراج شوقي الماجري. ومرة أخرى لن أفيض في الحديث عن التقنيات الفنية لهذا العمل المتميز، وبالذات الصورة والكادرات والإضاءة التي استخدمها المخرج ببراعة ليجعلنا نتصفح اوراق التاريخ وكأننا نقلب صفحاته مع الصور الشهيرة التي رسمها الفنان الاسكتلندي دافيد روبرتس والتي رسمها في أوائل القرن التاسع عشر. نفس الألوان ونمط الثياب ونكاد نبصر على الشاشة ذات التكوين بين صورة لأخرى. ولكني في الواقع أبغي الحديث عن شيء آخر هنا. أريد أن أصف ما شهدته ـ ولست أدري لو كان المؤلف أو المخرج تعمدا إيصال ذات الشيء أم لا ـ وأقدم هنا رؤية عجيبة من مدى تطابق نمط الحياة عند اهل المحروسة في نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر، وبين سكانها في أواخر القرن العشرين وبداية الواحد والعشرين. قادة الشعب من المشايخ الملتحين المعممين الذين برعوا في استمالة العامة واحتواء غضبتهم واتجاهاتهم لمقاومة الغازي الفرنسي. رأيت النساء مقهورات وملفوفات بالأغطية خلف الأبواب والنوافذ، وشهدت تقسيم المجتمع إلى مسيحي ومسلم ودعوة المسلمين بعضهم البعض لمعاداة القبط والروم والأرمن بحجة احتمال موالاتهم لحملة نابليون على أساس الدين المسيحي الذي يجمع بينهم. كما أثار العمل مرارا تعجب نابليون نفسه من تقبل المصريين لاضطهاد وظلم الحكام المماليك للمصريين لسبب الإسلام الذي يدينون به. وبالرغم مما قدمه العمل من تعاون واضح بين المماليك وبين رجال نابليون، واستضافة زوجة مراد بك حاكم المحروسة للجنرال بنفسه في منزلها وتبادل الهدايا بينهما. أتبدو تلك المشاهدات مختلفة كثيرا عما يحدث اليوم في مصر بل وفي كثير من أرجاء البلدان العربية؟ ألا يقود الشعب المصري اليوم إخوان مسلمون ومشايخ وأئمة؟ أتتعجب معي من اللغة المستخدمة اليوم في تعاملاتنا اليومية من لقاء الرئيس بأعوانه بعد صلاة العصر، والتراويح، ومقابلات رئيس الحكومة بالوزراء بعد صلاة الفجر، ومن يؤم من في الصلاة، وعن عمرة السيد الرئيس ثم عائلته، وعن زيارة المملكة السعودية كأول زيارة رسمية لأنها مسقط رأس الرسول؟ أتختلف اللغة هذه كثيرا عن تلك المستخدمة في مسلسل رمضان عن نابليون وعن المصريين في ذلك الزمن الساحق؟ ثم ماذا عن الدعوة لكراهية وعداوة المسيحيين المسالمين الإخوة في الوطن، والمحاباة للظلمة المستبدين الغزاة المسلمين. ألم نسمع نداء "الماليزي المسلم أفضل من المسيحي المصري؟" ألم نشهد ترحابا بالغزو الثقافي الوهابي لمصر وليبيا والمغرب العربي، والغزو السوري والإيراني للبنان، وكأنها فتوحات إسلامية، لا غزوات سياسية وحضارية؟ وفي المقابل نشهد كم من الكراهية غير معقول تجاه أمريكا والغرب بالرغم من المساعدات الاقتصادية والعسكرية والثقافية المتدفقة لعشرات السنين. ألم نسأل أنفسنا كما تساءل نابليون يوما: لماذا؟ ولكن هذا التطابق المذهل لأنماط اجتماعية في بلد واحد كان سيبدو منطقيا وغير ذي بال، حتى ولو كان يفرق ما بين العصرين مائتي عام. فالحياة في بلدان عديدة في أواسط أفريقيا، وقبائل الأمازون الاستوائية، ونيوزيلاندا مثلا، ماتزال تحمل نفس السمات عبر مئات بل وآلاف السنين بدون تغيير ملحوظ. إلا إن عملا دراميا آخر تابعته هذا العام أيضا كسر قاعدة الرتابة تلك التي تفرض بقاء الحال على ما هو عليه عبر السنين. فالعجيب إن "كاريوكا"، ذلك العمل الدرامي ـ من إخراج عمر الشيخ ـ الذي يؤرخ للحياة في مصر المحروسة خلال الثلث الأوسط من القرن العشرين، عبر سرد قصة حياة الفنانة تحية كاريوكا، جاء ليضع علامات استفهام عديدة عما حدث للمصريين ما بين القرنين الثمن عشر والواحد والعشرين. بالرغم من عناصر الحياة المتشابهة لحد بعيد، يأتي "كاريوكا" مثل قنبلة اجتماعية تنسف سلاسة المشهد الذي قد يبدو رتيبا عبر المائتي عام السابقة. ففي الواقع نستفيق على حقيقة أن المجتمع المصري قد تغير تغييرا جزريا خلال تلك السنوات. ويحكي لنا المسلسل قصة حياة الراقصة الشهيرة والمثلة البارعة تحية كاريوكا. نجمة لمعت في سماء المجتمع المصري في زمن متوسط ما بين قدوم نابليون للمحروسة، وبين خسوف وأفول حكم العسكر لمصر، وبزوغ بريق زمن الإخوان فيها. وأكرر هنا أنني لست محللا أو ناقدا فنيا، ولن أخوض في مميزات أو عيوب المسلسل، إلا إني لابد وأن أشيد بحلاوة الصورة وجمال الإضاءة وجودة التمثيل. ولكن الأمر العجيب حقا هو ذلك المستوى المرتفع من الليبرالية الذي كان يميز الحياة في مصر في تلك الحقبة. فمن يصدق أن المصريين الذين صرخوا هلعا أمام زحف نابليون وجنده: "يا لطيف الألطاف! نجنا ممن نخاف!" هم نفس المصريين الذين تلقوا تلك الفلاحة الهاربة من بيت أهلها حافية القدمين، باحثة عن مغنية قابلتها في فرح من الأفراح بالإسماعيلية الصغيرة، وهي ترتمي في أحضانهم ساعية لأن تصير راقصة! هذه الفتاة التي أكد العمل على شرفها، وحرصها على صون عفتها، حتى وهي تحترف الرقص في ملاهي "عماد الدين" ماذا كان ينتظر أمثالها في زمن المماليك البائت أو في زمن الإخوان الباقي؟ تلك الراقصة "الشريفة" تزوجت من باشوات من كبارات رجال القصر، ومن عظماء الفنانين، وحتى من أحد أعضاء تنظيم الضباط الأحرار الذي حكم مصر يوما، والذي انتهى عمليا حكمه لمصر منذ بضعة أشهر. أعن مصر المحروسة نتحدث أم عن باريس أو نيويورك؟ الراقصة في المسلسلات المعاصرة الأحداث هي نموذج المرأة الفاسدة الشريرة في مسلسل "خطوط حمراء" مثلا، أما في عصر المماليك فلم تكن المرأة تقدر أن تخرج أصلا من دارها. ولكن "كاريوكا" كانت اللؤلؤة الثمينة التي تمنى عظماء مصر وكبار مفكريها التعاون معها ومصادقتها. ونفس تلك الليبرالية هي ـ في رأيي ـ سبب شموخ نجوم أخرى تلألأت في سماء مصر في نفس الحقبة مثل محمد عبد الوهاب وأم كلثوم ونجيب محفوظ ويحيى حقي وغيرهم كثيرون. و"كاريوكا" كانت محاطة أيضا بشخصيات مسيحية دفعوا بها للأمام وجعلوا منها النجمة المتلألئة التي عرفتها مصر. وأهم تلك الشخصيات طبعا بديعة مصابني ونجيب الريحاني، ولكن في ذلك الزمن الجميل، وبالرغم من الاحتلال البريطاني لمصر، لم تكن النعرات الدينية بالصخب الذي كانت عليه قبلها والتي صارت إليه بعدها. لم يدعو أحد بطرد المسيحيين الشوام أو الأقباط لأنهم موالون للكفرة الأوروبيين، أو الكفرة الأمريكيين. ولكن يبقى السؤال العجيب هو كيف حدث هذا التغيير بهذه السرعة مرتين خلال تلك الحقبة القصيرة نسبيا في عمر الشعوب؟ كيف تتحول المحروسة من التخلف والبداءة إلى التحرر والتقدم الثقافي والفكري ثم تعود وتنتكس إلى ما كانت عليه في مدار مائتي عام؟ كيف يمكن لشعب في بداية القرن الواحد والعشرين أن يحيا بنفس الأفكار والمقاييس التي كان عليها في القرن التاسع عشر أو حتى قبل ذلك بكثير؟ الحقيقة هي إني لا أعرف إجابة عن هذا السؤال، بل ولا أعتقد أن هناك نمط اجتماعي مشابه في أي مكان آخر نقدر أن نستنبط منه تفسيرا لتلك الظاهرة الاجتماعية العجيبة.
#شريف_مليكة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حكاية علي بابا والأربعين حرامي
-
لو كنتَ تبيع الجنون!
-
الساحر العجوز
-
في مقاومة دعاة الدولة الدينية
-
هل ماتت الثورة المصرية؟
-
مصرع بن لادن شيخ دعاة السلفية
-
من مصر القديمة، إلى مصر الجديدة.. إلى المطار!
-
مصر الجديدة
-
يجب ألا تنطفئ شعلة الثورة المصرية
-
الشعب أراد تغيير النظام... فتغير!
-
عار النظام المصري المحتضر
-
لا للكنيسة! لا للأزهر! لا للإخوان المسلمين! ولا لمبارك!
-
ثورة -حرافيش- 25 يناير 2011 المصرية
-
زهور بلاستيك رواية الفصل الثاني عشر (الأخير)
-
زهور بلاستيك رواية الفصل الحادي عشر
-
زهور بلاستيك رواية الفصل العاشر
-
زهور بلاستيك رواية الفصل التاسع
-
زهور بلاستيك رواية الفصل الثامن
-
زهور بلاستيك رواية الفصل السابع
-
زهور بلاستيك رواية الفصل السادس
المزيد.....
-
144 مستعمرا يقتحمون المسجد الأقصى
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة
...
-
ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم
...
-
عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات
...
-
الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ
...
-
بن كيران: دور الإسلاميين ليس طلب السلطة وطوفان الأقصى هدية م
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|