أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جورج حداد - الصراع الوجودي المستمر مع الصهيونية















المزيد.....


الصراع الوجودي المستمر مع الصهيونية


جورج حداد

الحوار المتمدن-العدد: 3826 - 2012 / 8 / 21 - 20:31
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


لا شك ان الصراع الدائر بين الامبريالية الاميركية والصهيونية العالمية، وبين جميع شعوب الامة العربية، بمختلف الاشكال وعلى مختلف الدرجات، هو صراع مصيري، يشتبك بكل معطيات العصر، الستراتيجية والسياسية والاقتصادية والثقافية، بحيث لا يمكن فصل احد الجوانب عن الاخرى. وتتأكد اكثر فأكثر مركزية الصراع الوجودي مع اسرائيل، نظرا للمكانة التي تحتلها الصهيونية العالمية في التركيبة الامبريالية العالمية. وقد سقطت تماما، في لبنان مثالا، مقولة "صراع الحدود" و"لبنان قوته في ضعفه"؛ وسقطت تماما، فلسطينيا، مقولة "الدولتين"؛ وسقطت تماما، عربيا، مقولة "الارض مقابل السلام".
وبهذا المعنى، فمن الخطأ تماما، على المستوى السياسي والفكري، الراهن والتاريخي، ربط الصراع مع الامبريالية والصهيونية بمرحلة تاريخية معينة، اي مثالا مرحلة "سايكس ـ بيكو" و"وعد بلفور"، او مرحلة بداية الغزوات الاستعمارية الحديثة للشرق (كاحتلال الجزائر ومصر ودول الخليج)، او حتى مرحلة الحروب الصليبية. بل ان هذ الصراع، بمعناه الوجودي، يرتبط بظاهرة الولادة القومية ذاتها للامة العربية، في معمعان الصراع بين الحضارة الانسانية والنزعة العدوانية الاستعمارية. وبعد سقوط المنظومة "السوفياتية" السابقة ونهاية "الحرب الباردة" السابقة لم تعد الامبريالية الاميركية والصهيونية العالمية قادرة على التستر خلف الشعارات المضللة كـ"معاداة الشيوعية"، فأطلقت شعارات اكثر تضليلا مثل شعار "صراع الحضارات" و"مكافحة الارهاب" و"الاصولية الاسلامية"، لتبرير العدوانية الامبريالية وستراتيجية الهيمنة والاستعمار والاحتلال. ولكن هذه الشعارات ذاتها تفضح التركيبة الامبريالية ـ الصهيونية وتعريها اكثر مما تبرئها.
وتحاول بعض النظريات إلقاء مسؤولية التمييز الطبقي والقومي والعنصرية والسياسة العدوانية الاستعمارية ـ الصهيونية على الطبيعة والطبع البشري كجزء من الطبيعة. وهذا ما ينبغي الرد عليه. وفيما يلي نلقي نظرة الى جذور نشوء النزعة العدوانية الاستعمارية وصراعها مع شعوب امتنا:
مقدمة وجودية: خلق الانسان كجزء لا يتجزأ من الطبيعة التي وجد فيها. وهو يتكون من العناصر الطبيعية ذاتها لكل الموجودات والمخلوقات: الحرارة والبرودة، الحركة والسكون، الصلابة والليونة، النور والظلام... الخ، متجسدة ـ اي هذه العناصر ـ في خلطات مختلفة لمكوناتها الفيزيائية الاساسية: التراب والماء والريح والنار. وتنعكس الخلطة الطبيعية للانسان في النفسية والمشاعر والاحاسيس الانسانية: الطمأنينة والخوف، الفرح والالم، السعادة والتعاسة، الحب والكره، الرضا والغضب، السلام والعدوان، الخ.
وعلى شعور الغضب قامت ظاهرة العنف فيما بين البشر. واللجوء الى العنف تحول الى ظاهرة اجتماعية رئيسية مرافقة للمجتمع البشري منذ تكوينه هي: الحرب.
واذا كان العامل النفسي (الغضب، الحقد، العدوانية) هو مكون اساسي في الحرب، فإنه ـ اي العامل النفسي ـ ليس هو الحرب، او ليس هو الظاهرة الاجتماعية التي نسميها: الحرب. وللمثال: ان معدن الفولاذ هو المكون الاساسي للسيف. ولكن هذا لا يعني ان السيف ـ كسلاح ـ هو: فولاذ. ان السيف ـ كسلاح ـ هو: وسيلة قتال او وسيلة حرب مصنوعة من الفولاذ الذي يمكن ان تصنع به اشياء اخرى. ومن ثم فإن التشخيص العنصري للسيف بأنه (فولاذ، وليس خشبا) يدخل في تشخيصه الغائي ـ الاجتماعي، الا انه لا يحل محله.
الحرب العدوانية كظاهرة تمييز اجتماعي: ان الطبيعة الوجودية التي فطر عليها الانسان هي الطبيعة الايجابية، البناءة؛ طبيعة ائتلاف الناس وتكيّفهم مع بعضهم البعض وتكيّفهم مع الطبيعة المحيطة بهم وتكييفها مع اغراض حياتهم وتحسين وتطوير معيشتهم. وفي المفهوم الديني ان الانسان خلق ليكون خيرا لبني جنسه ويكون سيدا وخيرا للارض التي وجد فيها.
فكيف اذن ظهرت وترسخت ظاهرة الحرب الاستعمارية العدوانية، بكل فظاعاتها وسلبياتها التدميرية، التي هي النقيض للطبيعة الفطرية السلمية ـ البنـّاءة للانسان؟
المجتمع البدائي: ان الناس (كمجتمع بشري)، ولاجل حياتهم ومعيشتهم، يدخلون في علاقة مزدوجة: مع الطبيعة التي هم جزء منها؛ ومع بعضهم البعض: كأفراد ضمن الجماعة الواحدة، وكجماعات بشرية مختلفة.
في البدء عاش الناس متساوين كليا فيما بينهم، لا فرق بين كبير وصغير، بين قوي وضعيف، بين امرأة ورجل؛ وطبعا لم يكن هناك فقير وغني، لان المجتمع البدائي كان مجتمعا جماعيا، الكل يعيشون كعائلة واحدة في تعاطف ووئام، الكل يعمل ما يستطيع ويفيد الجماعة بما يستطيع، بدون اي انانية، وفي الاخير الكل يأخذ حاجته من ضمن ما يتيسر لدى الجماعة، دون تمييز بين فرد وفرد ودون تذمر من فرد تجاه فرد. وكان جميع القادرين يحملون السلاح بفخر لا للعدوان على بعضهم او على احد، بل لرد الخطر والعدوان اذا وجد. وكان اي فرد يرتكب اساءة او تعدٍ يفصل من الجماعة، واكبر عار للشخص كان الفصل من الجماعة؛ وكان الاقوى والانشط والاذكى صحيا وجسديا وعقليا لا يستغل ميزاته للسيطرة على الاخرين، بل على العكس كان يتباهى بأنه اكثر افادة لجماعته، دون ان يدعي اي حقوق اضافية مقابل ذلك. ولا تزال بقايا هذه الاخلاق الفطرية النبيلة موجودة الى اليوم ضمن بعض الجماعات البدوية التي لم تفسدها "الحضارة" المزيفة العصرية.
وقد عاشت مختلف الجماعات البشرية في انسجام مع الطبيعة، ومع بعضها البعض، ردحا طويلا جدا من الزمن. وفي لغتنا العربية نجد ان المخاطبة بالأنا وانت لم تكن موجودة، وكان مكانها المخاطبة بصيغة الجمع نحن وانتم (وحتى اليوم لا يزال الناس العاديين عندنا اذا اراد احدهم ان يتكلم عن نفسه وقال "انا"، يحتاط على كلامه بالقول: اعوذ بالله من كلمة "انا"!)، وكان افقر بدوي يترك النار مشتعلة امام خيمته حتى يراها عابر السبيل فيستقري عنده؛ وفي لغتنا العربية عبارة تقول "حفظ الزمام" وهي تدل على التعاضد والتعاون والوفاء، ومفادها انه اذا كان بدوي يريد ان يستقي من بئر فربط زمام ناقته او دابته بالدلو ودلاه في البئر ولكنه لم يصل الى الماء، فيجلس منتظرا مرور شخص آخر، دون ان يكون احدهما يعرف الاخر، فيربطا الزمامين بعضهما ببعض ويدليا الدلاء ويستسقيا، وتنشأ بينهما صداقة يتناقلها الابناء عن الآباء، فاذا التقى بعض افراد العائلتين في اي وقت آخر ومكان آخر، فإنهما يستقبلان احدهما الاخر بترحاب خاص ويتعاونان لانهما "يحفظان الزمام" في الاستسقاء المشترك يوما ما.
المجتمع الطبقي: ولكن للاسف ان سلبية هذا المجتمع البدائي الجماعي هو ان الجماعة البدائية كانت تستهلك كل ما تنتجه، بحيث لم يكن يبق شيء لتوظيفه في اعادة الانتاج بشكل متطور وزيادته. وهذا ما ادى الى ضعف الحماسة لهذا النظام المشاعي البدائي، وبداية ظهور الحسد والغيرة والانانية بين الافراد والجماعات. وبالنتيجة ظهرت بالتدريج الملكية الخاصة على حساب الملكية المشاعية العامة، للاشياء وللحيوانات الاليفة وللارض. وبدأ التمييز بين البشر: هذا لي وهذا لك.
وبناء على هذا التمييز بدأ ظهور الطمع وحب الاستيلاء على ممتلكات الغير، والسرقة والغزو وقطع الطريق والنهب والسلب واخيرا القتل بدافع السلب.
وفيما كنا نعيش في اخلاقيات "حفظ الزمام"، في عهد الملكية الجماعية المشاعية، ففي عهد الملكية الخاصة، اصبحت الجماعة القوية تحاول منع الماء والكلأ عن الجماعات الاضعف منها، للاستئثار بالخيرات الطبيعية التي خلقها الله لكل البشر.
وفيما كنا نعيش في اخلاقيات "كبير القوم خادمهم" و"الخلق كلهم عيال الله، واقربهم الى الله انفعهم لعياله"، في عهد الملكية الجماعية المشاعية، انتقلنا الى عصر التمييز الطبقي والقومي والديني والمذهبي و"معك قرش بتسوى قرش"، و"ما اغتنى غني الا بفقر فقير"، و"شعب الله المختار" والاغيار، والاستبداد والطغيان والنزاعات والحروب بين مختلف الجماعات البشرية وفي داخل الجماعة البشرية الواحدة.
وهكذا ظهرت الحرب في البدء كنتيجة من نتائج ظهور الملكية الخاصة التي ميزت بين البشر، افرادا وجماعات.
ولكن بالتدريج، مع زيادة اغتناء المجتمع البشري، وزيادة عناصر القوة الحربية فيه، تحولت الحرب الى اهم اداة او وسيلة للاغتناء والاثراء، البعض على حساب البعض الاخر. اي انها اصبحت الوسيلة التمييزية الرئيسية بين البشر. فالاغنياء والاقوياء يستغلون غناهم وقوتهم لاخضاع الاضعف والافقر منهم، ونهب خيراتهم، وتشغيلهم لحسابهم.
والفقراء والضعفاء يرضون بالحالة المزرية التي أوصلوا اليها، بسبب الخوف من الفظائع والتدمير التي تصيبهم بها الحرب، ماديا ونفسيا وروحيا.
اليهودية: وللاسف الشديد ان احدى الديانات "السماوية!!!"، وهي الديانة اليهودية، قد كرست "دينيا" (من وجهة نظرها) "الاخلاق" اللااخلاقية للملكية الخاصة والتمييز، والعبودية، والعدوان والحرب. فالتوراة اليهودية، المنشورة في كل انحاء العالم وبكل اللغات، والتي لا يعترف اليهود بغيرها ويعتبرونها "كتابهم المقدس" الى جانب التلمود، تقول ان أبرام حينما وصل مع امرأته ساراي الى مصر، قال لها لا تقولي انك زوجتي فيقتلونني بسببك، بل قولي انك اختي فأستفيد منك. وبالفعل، كما تقول التوراة، عاد أبرام من مصر ومعه ثروة بفضل جمال و"خدمات" زوجته ساراي لدى اغنياء مصر بمن فيهم فرعون. ثم تقول التوراة ان يوسف "التوراتي"، الذي دخل في خدمة فرعون، كان يخزن فائض الحنطة في اهراءات فرعون، في السنوات الخيّرة، ويستغل القحط الذي يحل بمصر في بعض السنوات الاخرى ليتاجر بالحنطة المخزنة. وبهذه الطريقة الاحتكارية استطاع يوسف التوراتي ان يسلب من اهل مصر كل ما يملكون من ذهب وفضة، في سنة القحط الاولى، مقابل "بيعهم" شيئا من الحنطة المخزنة والمحتكرة، كي لا يموتوا جوعا، وفي السنة الثانية سلبهم كل ما يملكون من ماشية ودواب، مقابل "بيعهم" شيئا من الحنطة؛ وفي السنة الثالثة حيث لم يعودوا يملكون شيئا، اخذ منهم ابدانهم، اي حولهم الى عبيد لفرعون، حتى يبقي على حياتهم. اي ان التوراة اليهودية تبرر قيام يوسف "التوراتي" بتحويل اهل مصر الاحرار الى عبيد لفرعون مقابل حفنة من الحنطةالمحتكرة التي سبق لهم هم انفسهم ان انتجوها، وتدعي التوراة انه ـ اي يوسف التوراتي ـ انقذهم بذلك من الموت جوعا. والشيء ذاته تفعله اليوم العصابات اليهودية من المضاربين بالبورصات في مختلف البلدان، حيث يتم الاستيلاء على الثروات التي هي من انتاج عشرات ومئات الملايين من البشر، وتدمير الاقتصادات الوطنية في تلك البلدان وتدمير الاقتصاد العالمي بأسره باسم المبادرة الفردية وحرية السوق وحرية التجارة وما اشبه. وان ابشع ما طرحته التوراة اليهودية هو الادعاء بما سمي "ارض الميعاد" الممتدة من النيل الى الفرات، والتشريع التام للحرب واضفاء الطابع "الالهي" عليها، وذلك بدعوة "شعب الله المختار" (اي اليهود = بني اسرائيل) حسب التوراة اليهودية الى الاستيلاء على ارض كنعان بالقوة، وقتل كل من فيها بدون رحمة ولا شفقة وابادتهم ابادة كاملة، رجالا ونساء واطفالا، واخذ بيوتهم وكرومهم ومدنهم وقراهم. ويمكن لأي كان مراجعة سفر التكوين وغيره في التوراة ليطلع على عشرات الامثلة على تكريس البغاء والاحتكار والتجويع والاستعباد والغزو والسلب والنهب والحروب والتمييز العنصري والابادة الجماعية بوصفها اخلاقا ووصايا ونواه واوامر "الهية!!!".
وفي خلال المسار التاريخي اجتاز المجتمع الطبقي، القائم على استغلال واستعباد الانسان للانسان، عدة مراحل او ما يمكن تسميته "انظمة" وهي: نظام العبودية، النظام الاقطاعي، واخيرا النظام الرأسمالي. والنظام الرأسمالي هو قمة الانظمة الاستغلالية حيث يقوم على الاستغلال العاري والمكشوف: المال هو كل شيء، والانسان بدون مال هو لا شيء.
واليهودية، او الدين اليهودي، هي الفلسفة الوجودية للرأسمالية. وهي تنقل "فلسفة وجود" الرأسمالية من التجريد الى التحديد. اي بدلا من معادلة: المال هو كل شيء، والانسان بلا مال هو لا شيء! تصبح المعادلة: الانسان صاحب المال هو كل شيء، وبقية البشر هم "اغيار" ولا شيء.
والمال (النقود او العملة) قد وجد طبعا قبل وجود الرأسمالية. وكان المال يلعب دورا "رأسماليا" هامشيا في كل مراحل تطور المجتمع الطبقي قبل الرأسمالية. اما في النظام الرأسمالي فقد اصبح "المال (او الرأسمال) هو المحور الرئيسي للنظام القائم وصار النظام الاجتماعي ذاته يسمى باسمه.
واذا دققنا في طبيعة الديانة اليهودية وتعاليمها نجد انها ليست اكثر من "فلسفة دينية" للرأسمالية. فإن تسمية "يهوه" كلي القدرة هي ليست سوى تكنية، مواربة دينيا، للمال او الرأسمال، ليس بصفته الجسدية الظاهرة للعيان، بل بصفته الوظيفية المكنونة، اي بصفته معادل تبادلي عام لكل المنتوجات والسلع الاخرى، ومن ثم فإن مالك المال هو معادل لكل منتجي ومالكي جميع السلع والمنتوجات الاخرى، اي كل البشر "الآخرين" "الاغيار". وحينما قام اليهود، اثناء غياب موسى التوراتي في الجبل، بصنع العجل الذهبي للتعبد له، قام موسى الغاضب بسحق العجل الذهبي واجبار اليهود على ابتلاع مسحوق الذهب. والعبرة في ذلك ان "قيمة" الذهب ليست فيه بحد ذاته كموجود مجسد ومنظور، بل في وظيفته التحكمية، اي في الوظيفة التحكمية للذهب (كرأسمال) في الحركة التبادلية الاقتصادية ـ الاجتماعية. واليهود الذين بلعوا الذهب هم هم "شعب الله المختار" اي "شعب الذهب" او "شعب المال" او "شعب الرأسمال". وطبعا ان ذلك ينطبق ليس على كل يهودي بالولادة، بل على كل يهودي بالعقيدة اليهودية والممارسة الرأسمالية. وبالتالي ينطبق على كل رأسمالي يطبق العقيدة الرأسمالية ـ اليهودية. واذا كان ليس كل يهودي بالولادة هو يهودي بالوظيفة الاجتماعية (اي الوظيفة الرأسمالية)، فإن كل رأسمالي هو يهودي اجتماعيا.
وفي نظرة تاريخية نرى ان اليهودية والقومية العربية قد نشأتا في حالة صراع وجودي قديم ودائم، متبدل تبعا للظروف ولكنه يقوم على عداء وجودي ثابت. والسبب ليس عنصريا كما قد يعتقد البعض، وليس دينيا كما قد يعتقد البعض الاخر، بل هو اجتماعي ـ حضاري، وهو عنصري او ديني لانه اجتماعي ـ حضاري وليس العكس.
فالقومية العربية، تكونت من الشعوب القديمة التي كانت تقطن ما يسمى اليوم "الوطن العربي الكبير" من موريتانيا حتى مشيخة الكويت، ومن لواء الاسكندرون السليب حتى اليمن غير السعيد. ويرى بعض المؤرخين ان شعوب شمالي افريقيا (الامازيغ وغيرهم) ووادي النيل، وسوريا الطبيعية، وما بين النهرين، وشبه الجزيرة العربية، هي من اصول عنصرية (قومية عربية) واحدة. واذا كان ذلك صحيحا ام يخضع للنقاش، فمما لا شك فيه انه مرت حقبات زمنية طويلة حصلت فيها تمايزات كبيرة بين هذه الشعوب، ونشأت في هذه البقاع دول مختلفة، كثيرا ما حاربت بعضها بعضا. ولكن الصفة الاساسية المميزة لهذه الشعوب هي التفاعل الحضاري البناء، فيما بين بعضها البعض، وفيما بينها وبين الشعوب المحيطة القريبة والبعيدة. وقد نشأ عن هذا التفاعل تبادل الخيرات الانتاجية وبناء المدن والبنى التحتية وتبادل الخبرات والمهن والحرف الزراعية والصنائعية، وولادة الابجدية والارقام وامهات العلوم الوضعية والاجتماعية والديانتين التوحيديتين المسيحية والاسلام. وخلال مرحلة الاستعمار الروماني للمنطقة، بعد تدمير قرطاجة وانتصار روما على البطالسة في مصر، وفي ظروف النضال ضد الاستعمار الروماني توحدت شعوب المنطقة "العربية" في عملية الانتماء الشعبي الواسع الى الديانة المسيحية التي انتشرت من شمال افريقيا الى مصر وفلسطين وسوريا الطبيعية والعراق واليمن وشبه الجزيرة العربية بأكملها. حيث نظرت تلك الشعوب الى المسيحية بوصفها عقيدة "الخلاص" من الاستعمار والعبودية واستغلال الانسان للانسان. ومن زاوية نظر معينة يمكن القول ان المسيحية اضطلعت تاريخيا بدور اول عامل توحيد "قومي" كبير للشعوب التي تكونت منها لاحقا الامة العربية. وقد انتشرت اللغة الارامية، اللغة التي تكلم وبشر بها السيد المسيح، في كل المنطقة. وقبل "الاخوان" المسلمين باكثر من الفي سنة، كان المسيحيون، من ليبيا الى الخليج العربي ومن انطاكيا الى اليمن، ينادون بعضهم بعضا بعبارة "الاخوة". وعليه يمكن القول ان "المسيحية" ووليدتها الشرعية "القومية العربية" ولدتا كنتيجة للتفاعل والتعاون والتضامن الانتاجي ـ الاجتماعي ـ الحضاري للمنتجين والمبدعين والمظلومين، ضد الطفيليين والاستغلاليين والظالمين والمستعمرين.
وعلى الضد من ذلك تماما نشأت الديانة اليهودية بوصفها، دينيا واخلاقيا وممارسة، تمثل المصلحة المادية الانانية للطفيليين والاستغلاليين والظالمين. وهنا علينا تسليط الضوء على نقطة التباسية تاريخية كبيرة، وهي الخلط بين نشوء المسيحية واليهودية. اذ هناك رأي سائد بأن المسيحية هي استمرار مختلف لليهودية او "تفرع افتراقي" عن اليهودية. وفي رأينا ان الديانة الاساسية (ديانة "الخلاص" التي كانت تنادي بمجيء المسيح "المخلص" من الظلم والعبودية والاستغلال) هي الديانة التوحيدية الاولى والاساسية. وانطلاقا من فلسفتهم البراغماتية الاستغلالية اخذ اليهود القدماء (من العبرانيين) يتغلغلون في صفوف الجماعات المسيحية الاولى، اولا للتستر والتلطي بهم، واعطاء "دينهم اليهودي" طابعا "انسانيا" كاذبا، وثانيا لاجل تضليل من يمكن تضليله من المسيحيين وجرهم الى تبني "اليهودية". وقد عمد الحاخامون اليهود المتغلغلون في التيار المسيحي الى طرح نظرية محرفة ومعادية للمسيحية، وهي نظرية ان المسيح المخلص سيأتي كملك (ومن سلالة داود التوراتي) ليخلص "شعب الله المختار" (اليهودي ـ العبراني) من الشعوب الاخرى ويجعله (اي "شعب الله المختار") سيدا على الجميع. في حين ان المسيحية الحقيقية، الاصلية، كانت تدعو الى مجيء المسيح "ابن الانسان" الذي سيخلص البشرية كلها من الخطيئة ومن العبودية والاستغلال والحرمان والتمييز والاستعمار. وكان الصراع سجالا بين "اليهود = المسيحيين المزيفين" و"المسيحيين الحقيقيين" داخل الاطار الواسع للمنادين بمجيء المسيح. وقد انفجر هذا الصراع بشكل دموي عنيف لدى ميلاد السيد المسيح، حيث شارك اليهود مع الحاكم الروماني هيرودوس في البحث عن الاطفال حديثي الولادة في بيت لحم بهدف تقتليهم توصلا الى قتل المسيح المولود من مريم. وحينما لم ينجح اليهود وهيرودوس في قتل المسيح طفلا، وكبر المسيح وبدأ يدعو الى رسالته الخلاصية، تآمر اليهود مع الحكام الرومان لاعدام المسيح على الصليب، ولقطع رأس يوحنا المعمدان، ولاضطهاد المسيحيين الاوائل والتنكيل بهم وتقتيلهم بافظع الاشكال. والصراع اليهودي ـ المسيحي العربي (الشرقي) هو اول وافظع شكل من اشكال الصراع بين اليهودية والقومية العربية. ونحن ندعو جميع المؤرخين وعلماء الاجتماع الجديين والمخلصين الى اعادة قراءة التاريخ العربي من هذا المنظور. لقد مارس اليهود التجارة والربا، الاشكال الاولى و"الابسط" للتعامل بالمال. ومن خلال هذه الممارسة تحولوا الى مصاصي دماء واعداء للشعوب "العربية" القديمة (اي التي تكونت منها الامة العربية) وداعمين ومتعاونين مع كل اعداء هذه الشعوب. وفي اثناء صعود الامبراطورية الرومانية واكتساحها للمنطقة، كان اليهود (التجار والنخاسون "تجار العبيد") من اقرب المتعاونين مع الطغاة الرومان، وحينما نشبت الحروب بين روما وقرطاجة الفينيقية، كان التجار وخصوصا تجار العبيد اليهود يسيرون في ركاب الجيش الروماني لشراء المنهوبات التي يستولي عليها الجنود الرومان وخصوصا لشراء العبيد من الاسرى والسبايا الفينيقيين وغيرهم، من اجل بيعهم لاحقا. ولدى قيام الرومان بتدمير قرطاجة، وبيع من تبقى حيا من اهاليها عبيدا، كان التجار والنخاسون اليهود اول واكبر المستفيدين من هذه "الوليمة" الشيطانية. وقد وجدت في انقاض قرطاجة الجديدة التي بناها الرومان فوق انقاض قرطاجة القديمة الاصلية، وجدت مقبرة يهودية كاملة. اي ان اليهود كانوا عونا للمدمرين والمستعمرين الرومان. وقبل ذلك بحوالى الف سنة، وبعد ان هرب اليهود من وجه الشعب المصري الذي ثار عليهم وعلى فرعونهم، تجمعوا في صحراء سيناء بقيادة موسى التوراتي استعدادا للانقضاض على فلسطين ونهبها والاستيلاء عليها وقتل الكنعانيين اهاليها الاصليين. وبعد ذلك بحوالى الفي سنة جاء اليهود مجددا الى فلسطين للاستيلاء عليها وقتل وتشريد اهاليها بمعية الاستعمار البريطاني والغربي عموما.
مما تقدم تنكشف لنا الحقيقتان التاليتان:
اولا ـ ان الحروب الاستعمارية العدوانية هي وليدة النظام الطبقي الاستغلالي الذي تنشأ عنه النزعة العدوانية التدميرية الاستعمارية.
وثانيا ـ ان الظاهرة اليهودية، كديانة تدعو الى ممارسة القتل والعدوان والابادة والغزو والسلب والنهب والاستعمار، وتغلف هذه الممارسة بغلاف ايديولوجي ـ ديني ـ رباني، وكجماعة بشرية منحرفة، طبقية استغلالية واستعمارية تتستر بالدين، ـ ان هذه الظاهرة، ومنذ نشأتها قبل الاف السنين، هي ظاهرة مناقضة تماما ومعادية وجوديا لشعوب الامة العربية التي ناضلت وتناضل لاجل تحررها من الاستغلال الطبقي والقومي، الداخلي والخارجي. واي تفكير بمهادنة اليهودية هو ترجمة عملية للاستسلام للامبريالية والصهيونية وخيانة وجودية لجميع شعوب الامة العربية مجتمعة ومنفصلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل



#جورج_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من رسالة الى الاتحاد البلغاري للمناضلين ضد الفاشية
- مجزرة اطفال بيت لحم
- جلادو المسيح والمسيحية الشرقية
- التبعية لاميركا تأخذ اوروبا الى القاع
- اميركا تبيع الاوهام القاتلة لحلفائها وروسيا تستنفر قدراتها ا ...
- الدور -العثماني الجديد- للطورانية الاسلامية الكاذبة!!!
- ازمة المديونية تهدد العالم الرأسمالي الغربي
- تقرير بيلاطس البنطي عن قضية صلب السيد المسيح
- التعاون التكنولوجي العسكري بين ايران وروسيا يرعب اميركا
- الحرب السرية الاسرائيلية ضد ايران وحزب الله
- فلاديمير بوتين الفائز الاول في الانتخابات الروسية
- الصين ترفض الوجود الاميركي في آسيا
- اوروبا تترنح امام الازمة الاقتصادية
- السياسة الاميركية في مواجهة الاحتجاجات في الداخل والخارج
- سوريا امام فرصة تاريخية
- اميركا: رجل العالم المريض
- الاتحاد الاوروبي يعمل لحل الازمة على حساب الشغيلة
- الاقتصاد الروسي ينهض من الازمة والغرب يفشل على الصعيد الاجتم ...
- قادة الحزب الشيوعي في سوريا ولبنان يتبادلون الاتهام بتسليم ف ...
- اميركا تترنح واوباما والكونغرس يتابعان البهلوانيات فوق هاوية ...


المزيد.....




- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
- نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله ...
- الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
- إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
- “ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في ...


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جورج حداد - الصراع الوجودي المستمر مع الصهيونية