المريزق المصطفى
الحوار المتمدن-العدد: 3821 - 2012 / 8 / 16 - 18:52
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
رغم العديد من الدراسات التاريخية التي أكدت أن المجتمع هو الذي ينتج الظواهر الدينية و يستهلكها، و أن هذه الظواهر بكل أنواعها و أشكالها ليست فوق النقد و الدراسة، و رغم أن كل الديانات حملت معها عدة تناقضات و تمايزات داخلية وفقا لتوجهات إيديولوجية، ليبرالية و أصولية، محافظة و منفتحة، متزمتة و متطرفة، وفقا للطبقات الاجتماعية المكونة لأي مجتمع من المجتمعات؛ لابد من الاعتراف بكون "القضية الدينية" ثمرة صراع معقد و مرير في إطار علاقة الإنسان بالكون و بربه.
و تجدر الإشارة هنا، إلى ضرورة التأكيد على "الزمن الديني" الذي يقودنا إلى مناهج و مقاربات و رؤية للوجود الاجتماعي و التاريخي للأديان، و يدلنا على صراع الحضارات من بدايته إلى نقطة البحث عن الوحدة بين العلم الوضعي و الشرائع الدينية، مرورا بالصراعات الساخنة و الحروب الدموية أحيانا...(أنظر:
Pierre REHM, Histoire générale des religions : Religions primitives, Mythologie, Judaïsme, Islamisme, Catholicisme, Bouddhisme, Brahmanisme, Ed. Quillet, 1924.﴿
و لكي نفهم أسباب النزعات المتطرفة و العنيدة التي ترفض الاعتراف بالفلسفات و العلوم و الفنون كأساس لكل الحضارات، لا بد من البحث في مسألة توظيف رجال الدين و خبرائه و علمائه في المجتمعات عبر التاريخ. ( أنظر في هذا الصدد: د. عبد الرحمان بدوي، شخصيات قلقة في الإسلام، سينا للنشر، الطبعة الثالثة 1995).
و كما هو معلوم، حورب العلم قبل انتصاره الحالي، (انظر في هذا الصدد: مقال المريزق المصطفى، التاريخ و الدين و المدرسة، جريدة الصباح،ع. 3767، ص 6)، كما حورب علم الاجتماع و ميادينه، و من بينها علم الاجتماع الديني، بكل أنواع الأسلحة في البلدان العربية و الإسلامية، و التي اعتبرته من المحظورات و من العلوم التي تقود إلى الكفر و الزندقة و ما إلى ذالك من التصنيفات المبنية على المحرمات.
هكذا صمدت حضارات الشعوب بعلومها و فلسفاتها كحضارة في ذاتها، ككائن عام، و ليس ككائنات فردية. و لشرح هذه الخلاصة المكثفة، لابد من استحضار المراحل التاريخية التي قطعها الاهتمام بالظاهرة الدينية و بدورها التاريخي، كما شرح ذلك العديد من العلماء و الفلاسفة و علماء الاجتماع في العديد من المناسبات. و هو ما يتطلب البحث في الدراسات و الأبحاث التي اجتهدت في تقديم لوحات متعددة عن المجتمعات القديمة، و ما شكلته الأسطورة التي اشتهر بها اليونانيون القدماء و غيرهم من تصور مفترض للقدرة و القوة في التاريخ بارتباط مع المعتقدات الدينية، و القائمة على القوة الدنيوية و على هيمنة الآلهة و قدسيتهم و الحكمة و التفكير و الإبداع. (أنظر في هذا الصدد، ملف حول الأسطورة، من إعداد مجلة عالم الفكر، ع. 4، المجلد 40 أبريل-يونيو 2012).
و هذا ما ينقصنا لطرق ليس أبواب الحقيقة فقط، بل أدوات البحث عنها. لكن للأسف لا زالت المدرسة في مجتمعنا تكرس نموذج "العلم المحتجب"، و تغيب الأنشطة النقدية و تحجب التاريخ الحقيقي، و تحرم المتعلمين من التجارب الاجتماعية التي عاشها الآخرين، و لا زال مجتمعنا تنخر جسمه جريمة الأمية، و كل أنواع التشكيلات الاقتصادية و الاجتماعية المشوهة، و الغير المتجانسة في العالم القروي كما في العالم الحضري.
و إذا أضفنا لكل هذه العوامل، عوامل أخرى كالهشاشة و الفقر و الخوف و الرعب و الاستبداد، و كل ما ينطلي على الفقراء و البسطاء، فيمكن القول أن الطريق لا زالت معبدة لسلطة الفتاوي و الدعاوي، للمزيد من تجهيل المجتمع و إبعاده عن التفكير الحقيقي في برنامج تحرره الاجتماعي و السياسي و الثقافي.
و باختصار، الجميع ينتظر اليوم من بنكيران أن يعرض على الشعب المغربي نظام الحكم و الأسلوب السياسي الذي يتبناه، والنظم الاقتصادية والتعليمية و الإسكانية التي يرعاها، وأولويات السياسة العمومية، و هذه نقطة ضعفه الكبرى. فبدلا من الاعتراف بعقم سياسته، يواصل الاجتهاد في العقم. و بدلا من تمكين المجتمع من أدوات و آليات الدفاع عن نفسه، يستمر في تشجيع الأنشطة الرعائية بدل الأنشطة التنموية، و يرفع راية التخويف من خلال ممارسة العنف الرمزي المقنع عبر وسائل الإعلام، ليزيد ألما للجماهير الشعبية التي يحتقرها في كل مناسبة و يظهرها و كأنها بليدة، لا تعرف مصلحتها، و لا قوة لها غير التبعية لمن يشحنها بالخطب ويرشها بالوعود و الأكاذيب. و ما قيل – في مناسبات عديدة- في حق المرأة و المعطلين، و المهاجرين، و الطبقة الوسطى، و الأمازيغية، و الأساتذة الجامعيين و الطلبة، و جمعيات المجتمع المدني، و الإعلاميين، و الفنانين، الخ,. لأكبر دليل على ما نقول.
إن "العفريت" الكبير و الحقيقي – و ليس الوهمي- الذي يشغل بال بنكيران، يوجد مختبئا بين دفتي الاقتصاد و الدين، إذا كان يريد القبض عليه. لهذا، يجب أن يعلم أن الاقتصاد سابق على الدين،كما أنه لولا الإصلاح الديني، و لولا صياغة موقف مسيحي جديد أمام المال، لما عاشت أوروبا الحديثة حلقاتها المتميزة، طبعا دون إغفال عوامل أخرى متعددة.
نعم، إذا أراد السيد رئيس الحكومة أن يكون ذلك " الإسلامي الناشط"، و الخادم لله و لأخوانه و أخواته بفضل نشاطه، فهذا من حقه. أما تسيير شؤون الناس، فيستلزم إبراز الموقف المتخذ من التجار البنكيين و من المدخرات و من الودائع التي تستحق الفوائد، و من التجار الكبار و الأثرياء وملاكي الأراضي و العقار و المحتكرين للربح و للقيمة الزائدة و المضافة، و تفسير "العقل الاقتصادي" المغربي لكل المغاربة، بدل النهيق و البكاء و تكليب الجهلة و دفعهم لتنزيل "الدعوة البنكرانية" بدل إعمال الدستور الجديد الذي جاءت به صيرورة النضال المتصل.
إن خصوصية المجتمع المغربي، لا تقبل بسجع الألفاظ الرثة و شقشقات البلاغة، للاختباء و راء الأخلاق الدينية وشحن أفعال الناس، و التأثير في نفوسهم، و استغلال جهلهم و عطشهم للعدالة و الماء و الخبز.
علينا، كما يقول أنطونيو غيدنز، أن نعي المستقبلات البديلة المتاحة لنا. و هذا لن يتسنى إلا إذا عملنا على نقل الظاهرة الدينية من الظلام إلى النور، و التعامل معها، كما يقول المختصين في علم الاجتماع الديني، كظاهرة ساطعة، و اضحة كالنور في السلوك الاجتماعي و في نظام المجتمع و حتى في سياسته و أدائه الاقتصادي و هويته الثقافية (أنظر بهذا الصدد: د. يوسف شلحت، نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني: الطوطمية، اليهودية، النصرانية، الإسلام. دار الفرابي، 2003).
إن ما يهدف إليه بنكيران هو محاولة الانفلات من ماضيه الذي يؤرقه، باحثا عن طرق و أشكال توزيع الخلاص و النعمة الربانية على الجماعة البشرية التي تشڱل في حضنها. كما تهدف سياسته إلى تبرير نظم بقايا الإقطاع و الخنوع و الاستبداد، و تبرير القمع ضد المطالبين بالحقوق الاجتماعية و الاقتصادية، كما أظهرت الأحداث الأخيرة في العديد من المدن المغربية.
إن الحقيقة المؤلمة التي أصبحت توجع المغاربة اليوم، هي السطو على التراكمات الحقوقية و السياسية و الاجتماعية التي قاوموا من أجلها منذ الاستقلال، مقابل أفيون قوي التأثير على الشعب كي يقبل تعاسة الدنيا في انتظار وعود الآخرة.
و أخيرا، يحز في النفس أن نرى بلادنا تسير نحو نكوص فكري، سياسي، ثقافي و حقوقي. و أن من وصلت به صناديق الاقتراع إلى بيت الرئاسة، يحتقر المكتبات و المسرح و السينما و الحفلات الموسيقية و زيارة المتاحف، و يطبل و يهلل للسلطة التي تضفي الشرعية على منتجي اللامساواة المجتمعية، مستبدلا الأرض بالسماء، حائرا بين عجزه البنيوي في إدارة الشأن العام و بين الاعتذار للسلطان!
أما البديل الحقيقي في المرحلة الحالية، هو جعل كل التنظيمات الاجتماعية، بكل وظائفها، في خدمة حرية الأفراد، و محاربة الفساد بكل أنواعه و تحرير الطاقات في كل المجالات للنهوض أولا و قبل كل شيء بالتعليم و الصحة و الايكولوجيا. كما بات من اللازم تكوين تكتل عريض يظم كل الديمقراطيين من مختلف أطيافهم ضد الفزاعة التي بات يتخذها رئيس الحكومة و أتباعه ليهووا بسيوفهم التي لم يدخلوها في أغمادها- كما صرح بذالك هذا الأخير في الأيام الأخيرة- على أحرار هذا البلد.
#المريزق_المصطفى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟