أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلامة كيلة - الماركسيون و الليبرالية، حول أوهام نقد الليبرالية















المزيد.....


الماركسيون و الليبرالية، حول أوهام نقد الليبرالية


سلامة كيلة

الحوار المتمدن-العدد: 1114 - 2005 / 2 / 19 - 11:41
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


جلب إنهيار المنظومة الإشتراكية نقاشات حول علاقة الماركسية بالليبرالية، و أدى إلى إنزلاق قطاع مهمّ من الماركسيين نحو الليبرالية. و بدا أن الماركسيين قد انقسموا إلى ثلاث إتجاهات: متمسّك بالإرث القديم، و منقلب إلى الليبرالية، و ثالث يحاول أن يكون ماركسياً حقاً. و إذا كنت قد ناقشت في هذا المجال سابقاً، فقد أثارني تناول محمد سيد رصاص لهذه المسألة ( أنظر: الماركسيون و الليبرالية... و بهلوانيات التحوّل الأيديولوجي، صحيفة الحياة اللندنية 1/2/2005 )، حيث أنه يحاول أن يوجد لذاته موقعاً متميّزاً، معتقداً بأنه قد حقّق " القبض المعرفي الماركسي " على الحقيقة. و لاشك في أن كل منّا يعتقد أنه يمتلك الحقيقة، لهذا سيكون الحوار مفيداً من أجل الحقيقة ذاتها.
أيضاً يقسم سيد رصاص الماركسيين إلى ثلاث إتجاهات: بقايا الستالينيين الذين يدافعون عن " القطاع العام " و ينشطون ضد " العولمة " و بالتالي يلتحقون ب " الدولة الوطنية ". و الذين نقلوا السلاح من كتف ( موسكو ) إلى أخرى ( واشنطن ). فيما يجهد ماركسيون آخرون للتوفيق بين الماركسية و " الديمقراطية الليبرالية، في إطار برنامج مرحلي سياسي- إقتصادي – دستوري، من دون المراهنة على الخارج ". و سنلمس هنا أن هذا التقسيم يقوم على أساس سياسي، و لا يتناول عمق الإشكالية. لهذا يكرّر ما يردّده الذين إنتقلوا إلى الليبرالية على أنه الماركسية الحقة. و هذا ما سوف يتوضّح نهاية البحث، رغم أن المسألة الجوهرية لم تكن في " نقل السلاح "، حيث أن التشكيك هنا خاطئ، و حيث أن " التوفيق بين الماركسية و الديمقراطية الليبرالية " سوف يفضي إلى المآل ذاته، أي التكيّف مع العولمة و الإقرار بإقتصاد السوق و التأكيد على سيادة الرأسمالية. بل تكمن المسألة الجوهرية في طبيعة وعي الماركسية، و طبيعة التعامل معها، و بالتالي التصوّرات التي تنتج عن ذلك و مدى مطابقتها الواقع.
ينطلق سيد رصاص من التمييز بين ماركس الذي دعم البرجوازية و تحالف معها ( أي ماركس المؤول كليبرالي سياسياً و ليس فكرياً )، و ورثته كاوتسكي و روزا لوكسمبورغ ( رغم عدم دقّة وضع روزا مع هؤلاء ) و برنشتين، و المناشفة خصوصاً بليخانوف. و بين لينين الذي بدا " إستثناءً نافراً في مسار الحركة الماركسية "، و حيث يجري إعتبار ستالين و الحركة الشيوعية العربية كورثة له. و من ثَمّ أشار إلى إنقلاب " اللينينيين " إلى ليبرالية جون ستيوارت ميل و ليس إلى ليبرالية ماركس، و بالتالي إعتبر أن يلتسين هو " الخليفة الشرعي لفلاديمير إيليتش لينين ". بينما يصرّ هو على التمسِّك بليبرالية ماركس.
إذن، هناك ماركسية صحيحة بدأت بماركس و إستمرّت مع كاوتسكي و برنشتين و بليخانوف، و هناك لينين و ستالين و الحركة الشيوعية العالمية، هذه الشيوعية التي أنجبت خليفتها الشرعية المتمثّلة في ليبرالية ستيوارت ميل. و بالتالي ما الفارق بين هذه و تلك؟ و ما يميّز ما يطرح عما يطرحه كل الماركسيين الذين غدوا ليبراليين ( عدا الموقف من الخارج )؟
يعتبر سيد رصاص أنه إستمرار لماركس، و المعبّر الذكي عن أفكاره. لهذا يعتقد بأنه يفهم تصوّر ماركس حول التطوّر و يتمسّك به كخيار وحيد للتطوّر البشري. و هو يلخّص تصوّر ماركس بإشارة إلى نصّ ورد في " البيان الشيوعي " ( 1847 ) يحدّد سياسة الحزب الشيوعي في ألمانيا، و يؤكّد على أن نضاله يقوم على الإتفاق مع البرجوازية " مادامت تناضل هذه ضد النظام المطلق و ضد الإقطاعية العقارية ". و يردفها بنصّ آخر كتبه ماركس في ستينات القرن التاسع عشر ضد لاسال، و يؤكّد على ضرورة التحالف مع البرجوازية لرسم أفق ديمقراطي برجوازي ذي ملامح ليبرالية لألمانيا. ليستنتج بأن الماركسي هو مَن يسير على هذا الخط، و إنطلاقاً من ذلك يُخرج لينين من " الماركسية القويمة ". و بالتالي فهو ينطلق من أن التاريخ يجب أن يمرّ من هذا " الطريق الإجباري "، و أي إنزياح عنه يعبّر عن خطأ ( أو خطيئة ).
نحن هنا إزاء عودة إلى " الترسيمة الماركسية " التي تعممت عالمياً عبر الماركسية السوفييتية و كانت أساس سياسة الحركة الشيوعية التي يرفضها، حيث حتميّة المرور بالمرحلة الرأسمالية عبر التأكيد على ضرورة إنتصار البرجوازية. و بالتالي ضرورة التحالف مع البرجوازية في إطار قيادتها لهذا التحالف من أجل تحقيق إنتصارها. و هي السياسة التي قادها خالد بكداش منذ سنة 1937 إلى سنة 1964 تقريباً، قبل أن يفرض السوفييت سياسة " التطوّر اللارأسمالي ". تلك السياسة التي سمحت للفئات الوسطى الريفية أن " تقود التغيير " ، و التي أدت إلى تفشّي الميول الليبرالية. و هذه الترسيمة هي الترسيمة الستالينية بإمتياز، حيث ستالين هو العودة الرثّة لبليخانوف ( و لقد نبع رفض بليخانوف لسياسة لينين من هذه الحتمية بالذات، كما نبع رفض ستالين لسياسة ماو تسي تونغ منها أيضاً).
أقصد هنا أن سيد رصاص ينطلق من الأسس ذاتها التي إنبنت عليها " الماركسية السوفييتية " ( أو بنتها الماركسية السوفييتية )، و لهذا يصل إلى النهايات ذاتها. ويمكن أن أحيل هنا إلى برنامج الحزب الشيوعي السوري المقرّ في مؤتمره الثاني سنة 1944، و إلى مقبلة لخالد بكداش يشرح فيها سياسة الحزب على ضوء نتائج ذاك المؤتمر. فقد أكّد على النظام الديمقراطي البرلماني القائم على أساس الملكية الخاصة و في ‘طار الصراع مع " الخارج الرأسمالي ". ليتوضّح التوافق بين السياسة القديمة للحركة الشيوعية ( الستالينية ) و السياسة الجديدة التي يطرحها سيد رصاص. و صديقنا هنا هو الإبن الشرعي للستالينية و ليس النقيض لها كما يحاول أن يوضّح. و إذا كانت سياسة الحركة الشيوعية العربية خاطئة، حيث تخلّت عن اللينينية لمصلحة سياسة ستالينية/ بليخانوفية ( منشفية ) عكس الحركة الشيوعية في الصين و الهند الصينية.
إن الإنطلاق من " النصّ المقدّس " سوف يقود إلى تأسيس تصوّرات خاطئة عن الواقع، كما إلى صراعات " وهمية " و تناحرات " فكرية " بعيدة عن الواقع و المشكلات الواقعية. لهذا يعيدنا سيد رصاص إلى نقاش " أوّليّ "، أي إلى مناقشة كيف نتعامل مع ماركس و مع نصوصه؟ و كيف يمكن أن يعتبر أن نصّاً لماركس يمكن أن يكون مبدأً ، أو قانوناً؟ و بالتالي ما هي الماركسية؟
1) ماركس كليبرالي:
يستند سيد رصاص إذن إلى موقف ماركس من وضع ألمانيا، معتبراً أن ماركس رسم سياسة تقوم على التحالف مع البرجوازية و دعم التطوّر الرأسمالي. مستنتجاً بأن ذلك يشكّل قانوناً عاماً يجب على كل الأمم الإلتزام به. لن أفصّل في تحليل موقف ماركس في هذا المجال لأن المسألة تقع خارج ذلك، لكن سأشير إلى أن لماركس مواقف متعدّدة من مسار التطوّر في ألمانيا، و ما ذكره سيد رصاص واحد منها. و لم يأتِ ذلك نتيجة إرتباك ماركس، بل أتى لأن ماركس " لم يكن ماركسياً ". بمعنى لأنه كان يحلل الواقع و عبر ذلك يصل إلى إستنتاجات، و لأن الواقع متغيّر فقد بدا أنه يضع خيارات مختلفة لمسار تطوّر ألمانيا. فهو يقول مثلاً سنة 1849 أنه كان يطرح منذ زمن مسألة إقامة " الجمهورية الإجتماعية " في ألمانيا، " الجمهورية الإشتراكية "، " الجمهورية الحمراء "، إنطلاقاً من أن تاريخ الطبقة الوسطى البروسية و الطبقة الوسطى الألمانية يُظهر بشكل عام " أ، ثورة بورجوازية خالصة تقيم حكماً بورجوازياً على شكل مملكة دستورية هي مستحيلة في ألمانيا. و أن الخيارين الوحيدين هما إما ثورة مضادة إقطاعية إستبدادية أو ثورة جمهورية إجتماعية " ( و النص ورد في الجريدة الرينانية الجديدة العدد 31 ديسمبر 1848، و إستشهد به ماركس إثناء محاكمته بعد إغلاق الجريدة ). كما أن " مطالب الحزب الشيوعي في ألمانيا " الموضوعة سنة 1850 تؤكّد هذا الإتجاه. ويمكن أن يشار هنا إلى أن هذه الرؤية هي التي ساعدت لينين في بلورة تصوّره المختلف عن الخط العام الذي باتت تُعرف به الأحزاب الإشتراكية بعد ماركس و إنجلز.
و ربما عاد ماركس إلى التأكيد على التحالف مع البرجوازية بعد ذلك، كما أعاد التأكيد على إنتصار الثورة الإشتراكية ( مثلاً في " نقد برنامج غوطة "). فقد كانت الرأسمالية لازالت تتشكّل في ألمانيا بعد إنتصارها في إنجلترا و فرنسا، لكنها كانت متشابكة مع الإقطاع و لا تميل لتحطيم العلاقات الإقطاعية، الأمر الذي جعله يبحث في السبل التي تؤدي إلى تحقيق الثورة الديمقراطية. و لهذا أشار إلى أكثر من خيار في سياق تحليله للصراع الواقعي: خيار البرجوازية، و خيار البرجوازية الصغيرة، و أيضاً خيار الطبقة العاملة. و هو هنا لا ينطلق من " المنطق الخطّي " الذي بات يسم الماركسية بعدئذ، بل كان ينطلق من تعدُّد الإحتمالات، لهذا أشار في " البيان الشيوعي " إلى أن الصراع الطبقي يقود إما إلى إنتصار أحدى الطبقتين المتصارعتين أو إلى إنهيارهما معاً. مما حدا به إلى تجاوز النظر إلى الصراع في ألمانيا على أنه صراع بين البرجوازية الناشئة و الإقطاع فقط، بل حاول أن يبحث عن الدور الذي يجب أن تلعبه الطبقة العاملة قبل أن تنتصر البرجوازية، ما دامت هذه متشابكة مع الإقطاع و لا تعمل على تحقيق الثورة الديمقراطية.
هذا " الإرتباك " في وضع ألمانيا هو الذي أسس لإحتمالات متعدِّدة لدى ماركس. حيث أن ماركس كان يميّز بين " الثورة الديمقراطية " و الطبقة التي تحقِّقها، الأمر الذي جعله يرى في البرجوازية الصغيرة و في الطبقة العاملة القوّة التي يمكن أن تحقِّقها. و بالتالي فإن بناء قوى الإنتاج الحديثة ( أي الصناعة ) ليس حكراً على البرجوازية ( و كذلك الوحدة القومية التي إعتبر أن من أهداف الحزب الشيوعي الألماني تحقيقها ). الأمر الذي يفرض رؤية القوى الواقعية القادرة على ذلك، و ليس الإنطلاق من " تصوّر نظري " بعيداً عن ممكنات الواقع.
الصديق سيد رصاص يعيد تذكيرنا بالماركسية القديمة التي كانت تبني تصوّراتها على نصّ لماركس أو فكرة للينين أو قول لتروتسكي أو كلمة لماو. بمعنى أنه لازال منحكماً للمنطق النصّي الذي قاد الماركسيين العرب إلى ليبرالية ستيوارت ميل. حيث لا يكون الواقع إلا شاهداً على صحّة الفكرة، رغم أنه عادة ما يبرهن على خطلها. و حيث يقود الوصول إلى أن الفكرة خاطئة إلى إعتناق معكوسها. خصوصاً و أن الفكرة تتحوّل إلى قانون دون إتّباع الآليات الضرورية منهجياً، و بالتالي يكون " الهوى الأيديولوجي " هو الذي يدفعها إلى هذا المدى. لقد تأسس على ضوء القراءة المجتزأة لماركس الألماني، تصوّر للتطوّر البشري يقوم على الحتمية، حتمية المرور بالمرحلة الرأسمالية. الأمر الذي قاد لأن يصبح التطوّر محكوماً بهذه الفكرة. و من ثَمّ تحوّلت الماركسية إلى " فكرة " تحكم الواقع، حيث هناك صيغة للتطوّر البشري يجب على الواقع أن يُذعن لها. و هذا ما يتناقض مع الماركسية ذاتها التي تنطلق من أولوية الواقع و من فِعل الفكر ضمن هذه الأولوية. و هو عودة بها إلى المثالية، ليس مثالية هيغل الجدلية، بل إلى المثالية المطلقة. لهذا تتحوّل نصوص ماركس ( أو بعض نصوص ماركس ) إلى " نصّ مقدّس " يحكم الواقع من جهة، لكن من جهة أخرى يجري الإختلاف حول ماهيّة النص ذاته، الأمر الذي يحوّل الخلافات إلى صراع شكلي حول النصوص بعيداً عن الواقع.
فهل وضع أوروبا القرن التاسع عشر هو ذاته الوضع اليوم أو قبل قرن؟ ألم يُضف إنتصار الرأسمالية في بعض الأمم الأوروبية عنصراً في معادلة الواقع؟ هل الوضع العالمي لحظة نشوء الرأسمالية و إنتصارها الهادئ ( أو العاصف ) طيلة قرن من الزمان ( 1750- 1880 )، هو ذاته بعد إنتصارها؟ هذه أسئلة كانت خارج البحث و لازالت، لهذا يُحكم الواقع بالنصوص و لا يجري البحث فيه. مثلاً ماذا يمكن أن نفعل إذا لم تنشأ برجوازية معنية بتحقيق التصنيع و الديمقراطية و مجمل المهمات التي حقّقتها البرجوازية في إنجلترا و فرنسا خصوصاً؟ إن نشوء برجوازية صناعية هو الذي أسّس لأن تكون معنية بتحقيق الثورة الديمقراطية، و لأن البرجوازية الألمانية كانت عاجزة فقد لعب بسمارك هذا الدور عبر الدولة ( و هو ما حدث في اليابان كذلك ).
لكن كان كل ذلك في القرن التاسع عشر. لكن القرن العشرون كان مختلفاً، و هذا ما لمسه لينين، حيث إنتصرت الرأسمالية في أممها و إنتقلت لأن تتحوّل إلى نمط عالمي، و غدت قوّة فِعل في كل الأمم التي لم تنتقل إلى الرأسمالية، لهذا عملت على صياغتها وفق مصالحها و ليس على صورتها كما جاء في " البيان الشيوعي ". و عدم التفهُّم هذا هو الذي حكم الأممية الثانية، التي أصرّ زعماؤها الكبار على حتمية المرور بالمرحلة الرأسمالية. و هي الصيغة التي كرّسها ستالين فيما بعد، و أصبحت أساس سياسة الحركة الشيوعية العربية. إذن، حكم العالم في صيغة للتطوّر مسبقة، أسّس لتجاوز دور الماركسية التحليلي و حوّلها إلى " عقيدة "، تناضل من أجل أن يسير الواقع وفقها، لهذا إندثرت.
2) لينين و طبيعة التطوّر الإشتراكي:
إذن، كان " الإستثناء النافر " الذي مثّله لينين، هو التجاوز لصيغة للماركسية قولبها بها زعماء الأممية الثانية، تقوم على التقيّد الحرفي بالنصوص، و هو الأمر الذي كان دعا ماركس إلى التأكيد على أنه ليس ماركسياً مادامت الماركسية فُهمت كذلك. و عودة بالماركسية إلى كونها منهجية في التحليل و وعي الواقع، قبل أن تكون خياراً طبقياً أو عقيدة أيديولوجية.لهذا توصّل إلى أن البرجوازية الروسية عاجزة عن تحقيق " ثورتها الديمقراطية ". هذا التحليل الذي أسّسه نظرياً عبر تحليل النمط الرأسمالي بداية القرن العشرين، و توصّل عبر إلى تحديد دور الرأسمالية في تخليف الأمم الأخرى، و في تأسيس عالم متفاوت التطوّر. و بالتالي إلى إنتقال مهمة تحقيق الثورة الديمقراطية إلى الطبقة العاملة. هل كان محقّاً؟ يمكن الإشارة إلى أن الأمم التي ظلّت في إطار النمط الرأسمالي ( عبر الإلحاق أو الإستعمار ) لم تستطع تحقيق التصنيع و مجمل مهمات الثورة الديمقراطية، إلا في المناطق التي فرض الصراع العالمي ضد الشيوعية تحقيق ذلك ( و تحديداً في كوريا الجنوبية و تايوان ). حتى في الأمم التي إستقلّت منذ قرنين، و ذات المساحة الهائلة مثل البرازيل. لكن روسيا و الصين و حتى هنغاريا و بلغاريا و يوغسلافيا أصبحت أمم مصنّعة و حديثة.
هل مثّل التحوّل منذ ثورة أكتوبر تمهيداً " للطريق الذي بدأته إنكلترا مع كرومويل في 1649 ( ثم في ثورة 1688 ) و فرنسا مع ثورة 1789 "؟ و بالتالي كانت " رأسمالية الدولة " طريق نحو " رأسمالية السوق " عبر ممارستها " التراكم الأوّلي ؟
ربما، لكن المسألة أكثر تعقيداً من ذلك، حيث أن المهمة المركزية التي تحقّقت عبر التجربة الإشتراكية هي تحقيق بناء الصناعة و تأسيس مجتمع صناعي، و أيضاً الحداثة. أي أنها حقّقت ما حقّقته الرأسمالية. لكن هل نستطيع الإستخفاف بهذه النتيجة؟ إن الهيمنة الرأسمالية على العالم أسست لأن تلعب الطبقة العاملة الدور الذي قامت به هي، لكن على الضد منها. و هذا هو الخيار الوحيد الممكن لتحقيق الحداثة و تأسيس القوى المنتجة. و سنلمس ذلك حينما ندقّق في تكوين البرجوازيات في الأطراف، حيث سنجد أنها تتشابك مع الرأسمال الإمبريالي، و تنشط في القطاع الهامشي في الإقتصاد، أي قطاع التجارة/ الخدمات/ المال، و لا تسعى للتوظيف في القطاعات المنتجة، حتى حينما تكون هي السلطة، و في إطار سيادة مطلقة لإقتصاد السوق. و لهذا أسبابه التي تفرض علينا البحث في التكوين العالمي للرأسمالية، و في طبيعة العلاقة التي تقوم بين المراكز و الأطراف. و ربما تكون هذه المسألة هي التي تحتاج إلى البحث قبل إصدار الأحكام حول فشل الإشتراكية، لأن فهمها هو الذي يؤسّس لفهم طبيعة التجربة الإشتراكية، و لماذا حقّقت التطوّر الذي حققته الرأسمالية فقط دون أن تحقِّق الإشتراكية؟
لهذا يجري التوهُّم النظري بإمكانية حصول التطوّر الرأسمالي، و تجري إدانة " محرِّف " مسار التاريخ: لينين. دون رؤية أن تصوّر لينين قد نجح لأنه مطابق لمسار التاريخ و ليس العكس. و أن الأوهام النظرية هي التي تعتقد بأن للتاريخ مسار آخر مرسوم في الذهن. لا ينتصر تصوّر لا يحوي الواقع ممكنات تحقيقه، و لا يلعب فرد دوراً محورياً إذا لم يكن الواقع قابلاً بذلك. هذا هو مبتدأ الماركسية و أواليتها. لكن لاشك في أننا لازلنا في مرحلة من التطوّر تفرض أن ننطلق من المقدرة المطلقة للذوات و الأفكار.
الصراع في الأمم المتخلّفة هو من أجل بناء القوى المنتجة و إمتلاكها حداثتها. و هذا مشروع مركزيّ فيها. فأي الطبقات تستطيع تحقيقه؟ لقد حاول مثقفو البرجوازية العربية لكن تشابكها مع الإقطاع و أيضاً مع الرأسمالية الإمبريالية، جعلها تتكيّف مع السيطرة الإمبريالية، و تهرب من التوظيف في القطاع المنتج، معتمدة على الإستيراد من المراكز الإمبريالية. و حاولت البرجوازية الصغيرة، و رغم تحقيقها بعض التقدُّم، عادت إلى التكيّف مع النمط الرأسمالي المهيمن، متخلية عن كل محاولاتها لتأسيس قوى منتجة. لكن الحزب الشيوعي في روسيا و في الصين ...الخ إستطاع ذلك.
هذه هي المعادلة في الوضع العالمي القائم، التي لا تفيد فيها العودة إلى نصوص ماركس أو حتى نصوص لينين. و هي المعادلة التي تحتاج إلى العقل النقدي الماركسي، و إلى الجدل الماركسي. و بالتالي تجاوز العقل القروسطي الذي تعمّم عبر الستالينية، رغم أنه متوارث في بلادنا.
إن إيكال مهمة لطبقة يفرض أن تكون هذه الطبقة موجودة و أن يتحدَّد أنها معنية بتحقيق هذه المهمة لأن مصالحها تفرض عليها ذلك. أما " تمرير " المصالح الخاصة و الميول الأيديولوجية تحت غطاء نصوصٍ لماركس، فلن يفعل أكثر من أنه سيقدِّم منطقاً مفككاً.
3) ما الفرق بين ماركس الليبرالي و ليبرالية ستيوارت ميل؟
على ضوء كل ذلك، هل من فرق بين ما يطرح سيد رصاص و باقي الليبراليين الذين يقرِّعهم؟
يبدو أنه يعتبر أنه ماركسي ليبرالي في المستوى السياسي دون المستوى الفكري، الذي يعتبر أن الآخرين هم ليبراليين في المستويين. لكن إشارات التمييز كانت تتعلّق ب " المراهنة على الخارج " كما جرت الإشارة من قبل. و ليس في ذلك غرابة لأن سيد رصاص يقدِّم " الروشيتة " ذاتها التي يقدّمها الآخرون: إقتصاد السوق و الديمقراطية. فهو يطرح " الديمقراطية الليبرالية في إطار برنامج مرحلي سياسي- إقتصادي – دستوري " ( و لقد كرّرت النص ذاته قصداً ). و يبدو مما أشار إلى أنه يستهزئ بالناشطين ضد العولمة و المدافعين عن " القطاع العام " . في الواقع لا يختلف ما يقدِّمه عما هو متداول بين الماركسيين الذين يدافعون عن الليبرالية، رغم حشده نصوص ماركس. و هو مثلهم يحمّل لينين " الخطيئة الأصلية "، و مثلهم يعود إلى كاوتسكي و برنشتين و بليخانوف و المناشفة. و أيضاً مثلهم يتعامل مع التجربة الإشتراكية ككابوس. و يخلط لينين و ستالين. و لا يميّز ما طرحته الحركة الشيوعية العربية عما طرحته الشيوعية الصينية، و لا بينها و بين اللينينية.
لكن يبقى السؤال الذي يحتاج إلى إجابة: هل في الوطن العربي برجوازية معنية بتحقيق التطوّر في قوى الإنتاج و في بنية المجتمع؟ أي هل لدينا برجوازية تمتلك مشروعا للحداثة؟
ما يجري هو " الهجوم " على التجربة الإشتراكية، و تبيان فشلها، و خطأ لينين في إختيار هذا الطريق ( خلافاً لماركس ‍؟ ) ، رغم أن أساس تأسيس الرؤية و تحديد الإستراتيجية هو وعي الواقع، و ليس رمي الآخرين بالحجارة. حيث لازال الإختيار الأيديولوجي ( و الهوى الطبقي ) هو الذي يحدِّد ممكنات الواقع، و هو الذي يلقي بعباءة سميكة على الواقع، من أجل تكرار أحلامنا، و التعبير الملتوي عن مطامحنا. و هذا ما أبقى الحركة الشيوعية على الهامش و قادها إلى التفكّك و التلاشي، أو التمسّك بأوهام جديدة.
المشكلة ليس في أننا " نحب " الإشتراكية، و لا نملك هوس أن نفرض الماركسية كقوّة فِعل و تغيير. المشكلة الأولى تتمثّل في أن مشروع النهضة ( أو الثورة القومية الديمقراطية حسب ياسين الحافظ ) هو من مصلحة الطبقات الشعبية فقط، لهذا تلفظه البرجوازية، و تستغلّه البرجوازية الصغيرة من أجل مطامح " دنيئة ". بمعنى، ليست الأيديولوجيا هي التي تحرّض على ذلك، بل الواقع ذاته هو الذي يفرض أن يكون نقيض الرأسمالية هو المحقّق لمشروع التطوّر في إطار الصراع مع الرأسمالية العالمية و المحلية الملحقة بها.
لقد جهد سيد رصاص لكي يميّز ذاته عن الآخرين، لكنه كرّر ما يقولون، فيما عدا " طربوش ماركس " الذي يشاركه فيه آخرون أيضاً. حيث أن إقتصاد السوق و تخلّي الدولة عن دورها الإقتصادي و الإجتماعي، يعني هيمنة الإحتكارات الإمبريالية و نهب المجتمع و تعميق إعاقة الميول التطوّرية فيه. و ليس من إقتصاد سوق اليوم يفعل غير ذلك، لأن اللاتكافؤ العالمي سوف يعيد إنتاج التبعية و الإلحاق و التخليف، و بالتالي الفقر و الإستبداد و إعادة إنتاج البنى التقليدية و تعميم الأيديولوجيا التقليدية كذلك. هل نستطيع المنافسة في إطار إقتصاد السوق؟ و هل سنجد برجوازياً يستثمر في قطاع منتج؟ و هل نستطيع التحكُّم بالرأسمال النازح إلى المراكز؟ و هل نستطيع تقليص الإستيراد و تطوير التصدير؟
يمكن أن نقارب ذلك عبر تحليل إقتصادي، لكننا نهرب من قراءة الأرقام الإقتصادية. و يمكن أن نحقّق المقاربة عبر دراسة التجارب المختلفة في " العالم الثالث "، لكننا أيضاً نمقت النظر إلى الآخرين. و يمكن ملاحظة التجارب العربية ( مثل مصر )، لكننا نمقت النظر إلى الواقع. لهذا تبقى الأيديولوجيا هي زادنا. و الصديق سيد رصاص لازال يكرِّر ما تعب خالد بكداش طيلة عقود و هو " يناضل " من أجله: دعم التطوّر البرجوازي و الديمقراطية و الدستور. إلى أن سرق البعث عملية التغيير منه و ألحَقه به كهامش. لكن الآن الذي يحوّلنا إلى هامش هو الإمبريالية.



#سلامة_كيلة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بصدد الماركسية، حول الأيديولوجيا و التنظيم
- الجغرافيا السياسية للمشرق العربي بعد إحتلال العراق، ما يمكن ...
- عفوية الجماهير و دور الحركة الثورية في الوطن العربي
- في مواجهة إقتصاد السوق
- بعد عرفات، إحتمالات قاتمة؟
- ثورة اكتوبر ، محاولة للتفكير
- ما هي الماركسية؟
- الماركسية و الاشتراكية و حرية الانتقاد
- ممكنات تجاوز الرأسمالية عودة الى ماركس
- مأزق الحركة الشيوعية العربية ملاحظات حول عوامل الإضمحلال
- مشكلات اليسار في الوطن العربي - ما العمل؟
- مشكلات مفهوم المجتمع المدني
- حول الموضوعات من أجل نقاش هادئ لمنهجية و لرؤية - مناقشة لموض ...
- هل الرأسمالية باتت - إنسانية-؟ مناقشات حول العراق
- من أجل المقاومة العراقية الشاملة- 3 - الحركة الشيوعية و مشكل ...
- من أجل المقاومة العراقية الشاملة 2 -3 المقاومة العراقية و ضر ...
- (من أجل المقاومة العراقية الشاملة(1-3 - وضع أميركا في العراق
- الخطاب -الديمقراطي- الأمريكي في -الشرق الأوسط الكبير-
- -g8-ال
- مقدمات الشمولية


المزيد.....




- الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا ...
- جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر ...
- بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
- «الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد ...
- الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
- متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
- نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
- اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا ...
- الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
- اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»


المزيد.....

- الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) / شادي الشماوي
- هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي ... / ثاناسيس سبانيديس
- حركة المثليين: التحرر والثورة / أليسيو ماركوني
- إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات ... / شادي الشماوي
- المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب - ... / شادي الشماوي
- ماركس الثورة واليسار / محمد الهلالي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلامة كيلة - الماركسيون و الليبرالية، حول أوهام نقد الليبرالية