أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد بودبوز - الماء والحكاية في -أحلام تمد أصابعها-















المزيد.....



الماء والحكاية في -أحلام تمد أصابعها-


سعيد بودبوز

الحوار المتمدن-العدد: 3821 - 2012 / 8 / 16 - 09:37
المحور: الادب والفن
    



في الفصل الأول من كتابي السيميولوجي الذي يحمل عنوان "بين ضفة السراء وضفة الضراء"[1]، تحدثت، بما أمكن من العمق، عن العلاقة الدلالية الرابطة بين مفردتي "البحر" و"المطر" أفقياً من جهة، وبين هاتين المفردتين و"الماء" عمودياً من جهة أخرى. ولقد حاولت، قدر المستطاع، أن أبين الكيفية التي ينمو بها النص من بنيته العميقة إلى بنيته السطحية، ليس من خلال اللجوء إلى المربع السيميائي التقليدي الذي لا يفهمه إلا المتخصصون في مجال السيميائيات، بل حاولت أن أبين أوجه علاقة البنية العميقة بالبنية السطحية بشكل مبسط وملموس، معتمدا على التدرج من خلال إيراد أمثلة حية من النص المدروس.
لكن، ما دامت التيمة التي يقوم عليها النص في ديوان "هم يكنسون الرذاذ"[2]، الذي قمت بدراسته من خلال كتابي المذكور، ليست جنسية، فلذلك لم يأت "الماء" في بنية رمزية مشكَّلة انطلاقا من تيمة جنسية كما نجد في نصوص "أحلا م تمد أصابعها"[3] التي هي موضوع دراساتنا هذه. فإذا كان الماء، في ديوان "هم يكنسون الرذاذ"، فضاءً واصلا وفاصلا بين عالم السراء وعالم الضراء، وهو الفضاء القابل للعبور من السراء إلى الضراء، فإن حضوره في "أحلام تمد أصابعها" ما هو إلا رمز للرغبة الجنسية كما سنبين لاحقا بتفصيل.
لقد توصلنا، من خلال تلك الدراسة (بين ضفة السراء وضفة الضراء)، إلى أن "الماء" الذي يمكن أن يكون وسيطا بين حالة العطش وحالة الارتواء (في حالته المطرية)، هو نفس "الماء"(في حالته البحرية) الذي يمكن أن يكون وسيطا بين حالة الضراء (الضفة المغربية الجنوبية للبحر المتوسط)، وحالة السراء (على إحدى الضفاف الأوربية شمال المتوسط)، وبهذا نصبح أمام علاقة عمودية بين "العطش" و"الضفة الجنوبية" من جهة، و"الارتواء" و"الضفة الشمالية" من جهة أخرى. من هنا انطلقنا نحو تفكيك شيفرة العنوان "هم الآن يكنسون الرذاذ"، وخلصنا إلى أن حضور "الماء"، في حالته الرذاذية، داخل النص، ما هو إلا تعبير رمزي عن ضآلة الحظ في كل من الارتواء، والعبور إلى الضفة الشمالية الأروبية.
والآن، ها نحن مجددا أمام نصوص مائية بشكل من الأشكال، ولكن مائيتها تختلف عنها في ديوان "هم الآن يكنسون الرذاذ"، ونشير، على سبيل التذكير، إلى أن للماء، على مستوى الطبيعة، قدرة على تقمص عدة حالات؛ السائلة، واليابسة، والغازية، فهل يمكن أن يكون لهذه الظاهرة ما يعكسها في لحظة التشكل الرمزي للنص في عصره الجيولوجي (عصر الكتابة)؟. العلم لله.
للحكاية، في مجموعة "أحلام تمد أصابعها"، ماءٌ مسحور، قد يباغتك بالغرق في أية لحظة، لو اجتمعت مشيئة الأقدار الميتافيزيقية والسردية على أن تجعلك شخصا من شخوص إحدى الحكايات من طراز ما تسرده مثل هذه النصوص للمؤلفين المغاربيين، التونسية فاطمة بن محمود، والمغربي عبد الله المتقي. في مثل هذه الحالات، قد يتعين عليك التزام الحذر، حتى لا تحكيك شهرزاد على شهريار في هذا العصر "الحلمي" الذي هو نسخة متطورة للعصر "الليلي" السائد في حكايات "ألف ليلة وليلة".
احذر، لأن شهرزاد، في هذا العصر الحكائي الحديث، لن تحكيك على شهريار من أجل الإمتاع، ولا من أجل الإقناع، ولا من أجل أن يبقيها حية بخلاف القافلة النسوية التي سبق له أن ذبحها مباشرة بعد أن أخذ بكاراتها. للحكاية، من هذا النوع الجديد، ماءٌ مسحور، ينهمر من سحب رمزية كثيفة، فيسقي أرضية النص حتى ترتوي، ثم يمتد في مسار أفقي على سطح الخطاب السردي، ليحدث ما أمكن من الفياضانات الإيحائية.
بناءً على خبرتي المتواضعة في تحليل النص الأدبي عامة، والسردي خاصة، لاحظت بأن له فضاء يحاكي الفضاء الطبيعي، أو الأرض تحديدا، من حيث تسجيل التلازم القائم بين الموضوع وظله.
رغم أن هذه المسألة ربما تحتاج إلى تفصيل طويل، وهو ما لا يسمح لنا الوقت في هذا المقام، إلا أنني سأكتفي بإشارة سريعة إلى أنني قمت بتحليل قصة بعنوان "الوحش"[4] للقاص المغربي عبد الواحد كفيح، وأحسست بأن النص يميل إلى تقمص نوع من "الوحشية"، بشكل أو بآخر، إن جاز الوصف.
وكذلك قمت بتحليل قصة لنفس المؤلف بعنوان "عنترة يحرص الطواحين الهوائية"[5]، ولاحظت بأن النص يميل إلى السرد الفانطازي، بالمقارنة مع باقي النصوص التي تتكون منها المجموعة القصصية "رقصة زوربا"[6]، وحين درست النص جيدا (وقد استغرقت تلك الدراسة عموما عدة أشهر) تبين لي بأن هذا الميل إلى الفانطازية (الخوارق) ظهر في النص نتيجة "تحويل عنترة لمعلقته الشعرية إلى تميمة سحرية"، هذا كل شيء !.
أما ما له علاقة بذلك في موضوعنا الآن، فهو أن لعنصر الماء، في نصوص "أحلام تمد أصابعها"، تأثيرا عميقا، وخافتا، على البنية الدلالية، بحيث تميل هذه البنية أحيانا إلى التحلي بطبيعة مائية تماما كما تميل إلى طبيعة حلمية، أو هو ما يمكن وصفه بـ "تسييل البنية الدلالية للنص الحكائي". إن إدراكنا واستيعابنا لهذه الظاهرة النصية ليس غاية في حد ذاته، بقدر ما هو وسيلة من وسائل التقرب إلى فهم وتأويل مختلف التمظهرات المعجمية لعنصر الماء في جدران البنية الدلالية الخاصة والعامة للنص.
وفي نفس الوقت، إذا لم ننتبه إلى هذه النقطة، فسنكون مضطرين لإجراء قراءة ترابية، ذات طابع يابس، وثابت، وميتافيزيقي (بمعنى التعارض مع المبدأ الجدلي القائم على استجابة واسعة وعميقة لقوانين الثوابت والمتغيرات). للماء جوهر واحد، ومختلف التمظهرات، فهو على مستوى الطبيعة، يمكن أن يكون في حالة سائلة، وغازية، ويابسة كما أسلفنا، أي في حالة السيلان العادية، والبخار، والثلج. أما في حالة النصوص التي بين أيدينا تحديدا، فإن الماء يبقى في جوهره رمزا للرغبة الجنسية، من حيث قيامها الرمزي، بالدرجة الأولى، على استبطان "السائل المنوي" الذي قررنا منذ الآن أن نطلق عليه "ماء المضاجعة" كصورة رمزية لـ "ماء الحكاية"، وسوف يأتي توضيح ذلك لاحقا.
قلنا بأن للماء جوهرا واحدا، ومختلف التمظهرات، ولكن، في نفس الوقت، يمكن أن يأخذ تمظهرات مختلفة. إن هذا الانتقال المرن بين حالة دلالية وأخرى، في حد ذاته، يمكن أن اعتباره مظهرا من مظاهر "تسييل البنية الدلالية"، الناجم، في العمق، عن احتواء أرضية النص على عنصر الماء كواحد من المفردات المفاتيح داخل النص. والآن، لنبدأ بما هو بسيط ومشترك بيننا على اختلاف مستوياتنا المعرفية والثقافية والاجتماعية، وهو ما يلي:
يعرف القارئ، بأن الأرض كلما كانت ظمأى، كانت أسرع في امتصاص مياه السماء (المطر). وفي هذا يمكننا القول بأن هناك انسجاما كاملا بين التراب والمطر، أي أن العرض في مستوى الطلب. ولكن، إذا كان العكس غير صحيح، أي إذا كان من المعلوم أن الأرض كلما ارتوت أصبحت أبطأ في امتصاص المياه، فهذا يعني أن العرض لم يعد في مستوى الطلب، وإنما تجاوزه. فماذا تكون النتيجة؟
سيتحول مسار المياه، على الأرض، من حالته العمودية إلى حالة أفقية، فهذا أمر طبيعي، أي بدل أن يتغلغل الماء (عموديا) في باطن الأرض ويتبخر بفعل العطش الأرضي، سيتحرك في مسار أفقي على سطح الأرض، وهكذا إلى أن يصبح زائدا عن الحاجة، فيحدث الفيضان. وحين يحدث هذا الأخير، فإن الطريقة التقليدية والمألوفة في القتل هي الغرق، وهذا الأخير هو الوجه المشترك بين طريقتي كل من "المطر" و"البحر" في القتل، أليس كذلك؟
إذن، ليضع القارئ في حسبانه بأن الاختلاف المعجمي بين كلمة "بحر" وكلمة "مطر"، على سطح النص، هي واحدة في عمقه، وتسمى "الماء".
هذا كله يحدث على مستوى الطبيعة الكونية، أما الطبيعة البشرية، فيتم تسريب ذلك إليها من خلال بنية رمزية، وهذا بالضبط ما سنسعى لدراسته من خلال هذه الورقة.
والآن، لنأخذ مثالا حيا من النص المدروس كعادتنا، حتى لا يبقى كلامنا نظريا حرا طليقا عائما في الفراغ، وغير ملتزم بالانطلاق من أية مقدمة، وبالمرور من أي استدلال، وبالوصول إلى أية نتيجة، وهو ما يسخف وصفه بالنقد الأدبي برأينا المتواضع، إذ لا نرى صراحةً للقراءة النقدية القائمة على فرار مبين من الميدان، والتزام التحليق فوق أحداث النص الأدبي، ما يمت للنقد بصلة، إلا إشارة التصنيف على النحو التالي:" قراءة نقدية".
ولعمري أن هذا مما ساهم بقوة في ابتعاد القارئ (وهو على حق)، ليس عن هذه القراءات المزعومة وحدها، بل عما يسمى النقد الأدبي برمته، والله أعلم.
لنأخذ المقطع التالي:
شهرزاد موغلة في صمتها..
في درج القصر، ثمة ماء ينحدر من الطوابق العليا...
ويتناثر في كل مكان...
قالت شهرزاد موضحة:
"هو ماء الحكاية يا صاحب المهابة"[7].
لنعطي القارئ ما يكفيه من الوقت، ليقرأ هذا المقطع جيدا وبأعمق ما يستطيع، لكي نضمن مشاركته الذكية والمنتجة في تحليلنا للنص، وذلك حتى لا يبدو كلامنا منهمرا من قمة برج عاجي، بحيث يغرق بعضنا بعضا في لغة غير مفهومة، وإن كانت الفكرة التي تعالجها بسيطة لا تستحق أكثر من كلام بسيط. وبهذا، بدل أن يقتصر سقف الاستفادة عن فهم طبيعة الطاقات النصية المتوخى استجلاؤها، سيكون هناك فهم للطريقة التي نسلكها أيضا في انطلاقنا من المقدمات إلى النتائج.
إننا نلاحظ، من خلال المقطع السابق، بأن الحكاية تفرض نفسها بقوة، مجسدة في قوى طبيعية، أو "المطر" على وجه التحديد. فإذا سكتت شهرزاد عن الحكي لمدة من الزمن، فقد يؤدي تضخم الحكاية، في عالم الصمت، إلى فيضان، لأن الحكاية تحكي نفسها بنفسها، وإن بطرق أخرى، في حالة ما إذا لم تقم شهرزاد بحكيها.
شهرزاد موغلة في صمتها، أي لم تحكِ شيئاً، لكنها تعرف بأن ذلك الماء المنحدر من الطوابق العليا، والمتناثر في كل مكان، هو ماء الحكاية، لأن سماء الخيال فوقها خصبة، رغم صمتها الدال على البخل المسجل في وجه شهريار كلحظة من لحظات نشوزها، أو رفضها لممارسة الحكي من حيث هو رمز للفعل الجنسي.
بيد أن سماء الخيال، فوق رأس شهرزاد، مثقلة بالأحداث الحكائية (المطر)، لأن شهرزاد، في الواقع، امرأة خصبة جنسيا ونسبيا، والدليل على ذلك أنها مستعدة لمعاشرة أي كان، إلا شهريار، في بعض الحالات على الأقل، وهي حالات تمردها ونشوزها التي تبطن أو تعلن من خلالها ما تكنه من الاحتقار لشهريار.
رغم أنها لم تحك شيئا، إلا أن ماء الحكاية انهمر على الدرج، وتناثر في كل مكان. فكلما تعمقنا أكثر في سراديب هذا المقطع الرمزية، نجد أنفسنا مدفوعين إلى التعامل مع خطاب تحتاني يأتي فيه عنصر "الماء" مائياً حتى على المستوى الدلالي كما أشرنا سالفا، إذ يمكن أن يتخذ له مدلولات عديدة، لكنها متدرجة في خط تسلسلي، بحيث يكون آخرها على علاقة تدرجية بأولها.
إن الماء، الذي يمكن أن يدل على خصوبة الخيال الحكائي، يمكن أن يأتي، في نفس الوقت، كدلالة على الخصوبة الجنسية، وذلك من حيث كون الحكاية أصلا رمزا لجنس آدمي (المرأة) بالدرجة الأولى، وبالتالي، رمز للتواصل الجنسي بالدرجة الثانية. فهذا الماء نفسه، وبناء على التدرج المائي الدلالي المشار إليه سابقا، يمكن أن يأتي كدلالة من الدلالات التي تصب في حقل الجنس.
ولكن ليس بناءً على ما يقوم عليه من استبطان علاقته المباشرة بالمرأة، بل بما يمكن أن يثيره صمتها من الإثارة الجنسية في نفس الرجل. فكأن شهرزاد، لو مارست فعل الحكي الذي هو رمز لفعل المضاجعة، لما أعطت بذلك فرصة لماء الحكاية ليظهر للعيان في شكل الفيضان. فالماء هنا هو رمز لماء المضاجعة، حتى نكون دقيقين مع القارئ.
لو حكت شهرزاد، في هذا المقطع، لتبخر ذلك الماء بواسطة التواصل الجنسي بينها وبين شهريار، ولتم امتصاصه، واحتواؤه، أليس كذلك؟. ولكن بما أن شهرزاد قد التزمت الصمت هذه المرة، فهذا يعني أنها رفضت أن تقيم علاقة جنسية مع شهريار، ولذلك انهمر ماء الحكاية (= ماء التواصل الجنسي) على سطح الأرض ( = سطح النص)، ما دام لم تستقبله الحكاية (+ شهرزاد) في باطنها ( = باطن الأرض) بكل بساطة !
ليتذكر القارئ ما قلناه في مقدمة هذه الورقة، لكي يسهل عليه الربط بين خيوط اللعبة الرمزية هذه، فلقد قلنا "بأن الأرض كلما كانت ظمأى، كانت أسرع في امتصاص مياه السماء (المطر). وفي هذا يمكننا القول بأن هناك انسجاما كاملا بين التراب والمطر، أي أن العرض في مستوى الطلب. ولكن، إذا كان العكس غير صحيح، أي إذا كان من المعلوم أن الأرض كلما ارتوت أصبحت أبطأ في امتصاص المياه، فهذا يعني أن العرض لم يعد في مستوى الطلب، وإنما تجاوزه". والحال هنا، بكل بساطة، أن عرض شهريار (= السماء) زاد عن طلب شهرزاد (= الأرض)، ولذلك اتخذ الماء مسارا أفقيا على سطح الأرض (= سطح النص) و"تناثر في كل مكان".
حين نتأمل المقطع السابق، نحس وكأن هذا الماء يندفع كلما سكتت شهرزاد عن الحكي، فهذا ما نستشفه من الصورتين المبالغتين؛ وهما قول السارد "موغلة في صمتها"، وقوله "يتناثر في كل مكان". إذا كان واضحا بأن تناثر الماء "في كل مكان"، وليس في مكان دون آخر مثلا، يحمل بعض المبالغات التي يراد منها تضخيم الحدث، فإننا نلمس نفس الوضوح في قول السارد "موغلة في صمتها"، مما يشير، في عمق النص، إلى وجود علاقة سببية بين كون شهرزاد موغلة في صمتها، وكون الماء متناثرا في كل مكان.
فكأن شهرزاد، لو صمتت فقط، أي لم "توغل" في هذا الصمت، لربما تسربت بعض المياه، ولكنها لن تبلغ درجة التناثر في كل مكان. إذن، فبإمكاننا الخلوص، في تحليلنا لهذا المقطع، إلى أن تناثر ماء الحكاية في كل مكان، هو نتيجة عدم الحكي (التواصل الجنسي) بين شهرزاد وشهريار. وهو، انطلاقا من هذه النقطة، رمز لماء المضاجعة الذي لم يجد إلى عمق المرأة (+ عمق الأرض+ عمق النص) من سبيل، فتناثر على سطحها (+ سطح الأرض + سطح النص) !.
بيد أننا لن نكون مضطرين لبذل الكثير من الجهد حتى نجد ما يدعم أطروحتنا هذه بقوة، وذلك من خلال تسليط الضوء على العلاقة شبه المباشرة للمقطع السابق بالمقطع اللاحق كما يلي:
"الشتاء يبلل زجاج شرفة القصر، وكان شهريار
يدخن...
البرد يعوي في الخارج، وكانت شهريار تتفرج على
التلفزيون...
"هل نسيت تتمة الحكاية؟" يقول شهريار بمكر
ودهاء
تفتح شهرزاد حكاياتها، وتسترسل في الحكي..
وللحزن بداخلها لون بحمرة النزيف..."[8].
من المفيد أن يحاول القارئ، ما أمكن، إيجاد نقاط التشابه والتكامل بين هذا المقطع والمقطع السابق، وذلك قبل متابعة ما سنقوله بعد قليل في تحليلنا لهذا المقطع. فكلما حاول القارئ القيام بذلك، تمكن أكثر من فهم أعمق لطبيعة الموضوع الذي نتحدث عنه في إطار إحاطته بمجموعة من العناصر التي نحتكم إلى طبيعة ائتلافها مع بعض، واختلافها عن بعض. فذلك هو الفهم السليم للموضوع والمنهج معاً.
إن الشتاء هو كناية عن المطر، إذ ما دام فصل الشتاء معروفا بتساقط الأمطار، فبدل أن يقول السارد "المطر يبلل زجاج شرفة القصر" ارتأى أن يقول "الشتاء يبلل زجاج شرفة القصر". وفي اللهجة المغربية، على الأقل، يطلق "الشتاء" على "المطر". إذن، فالمطر بدأ يتساقط، ونحن نلاحظ بأن شهرزاد لم تكن تحكي في هذه اللحظة، بل كانت "تتفرج على التلفزيون"، أما شهريار، فقد كان يدخن، ولا يخفى عنا بأن هذا التدخين نفسه ما هو إلا إشارة إلى إحساس سلبي في نفس شهريار. فكأن هذا الأخير كان يريد بشراهة أن يرتشف حكاية من فم شهرزاد (تواصل جنسي)، بينما كانت هي، على ما يبدو، تريد بشراهة أن تبحث عن أي شيء تتسلى به إلا إمتاع شهريار جنسيا.
من هذا المنظور يمكننا القول بأن هناك علاقة سببية، في عمق النص، بين امتناع شهرزاد عن الحكي، وتساقط المطر. ذلك لأن المطر الذي أخذ يبلل زجاج شرفة القصر، ليس مطرا مرجعيا ذي الإحالة المباشرة على المطر الطبيعي، بل هو مطر ذي طابع حلمي يرمز إلى الرغبة في التواصل الجنسي، وهي الرغبة التي تمثلت في "ماء المضاجعة". والمذهل في هذا المقطع، الذي يدعم أطروحتنا هذه بشكل سحري، هو قول السارد "هل نسيت تتمة الحكاية؟" يقول شهريار بمكرودهاء".
لأن تتمة الحكاية ترمز إلى الإشباع الجنسي، أي بلوغ قمة اللذة الجنسية، فلسوف تتضح للقارئ هذه المسألة من خلال دراستنا لعلاقة الحكاية بالمعنى، حيث سنجد بأنه، وإن كان بمقدور شهريار أن يتمتع بحكايات شهرزاد، إلا أنه عادة يكون محروما من بلوغ معاني هذه الحكايات، وما المعنى في هذه الحالة، إلا رمز لتحقيق الإشباع الجنسي.
لاحظ العلاقة السببية المضمرة بين قول السارد "الشتاء يبلل زجاج شرفة القصر"، وقوله "هل نسيت تتمة الحكاية؟".
فكأن شهرزاد، لو لم تنس تتمة الحكاية (التواصل الجنسي)، لحصل بلوغ قمة اللذة الجنسية، ولتم امتصاص واحتواء أعراض الجوع الجنسي، وعلى رأسها "الماء"، وبالتالي، فلن تكون هناك حاجة لحضور الشتاء (= المطر)، ولا داعي لتبليل زجاج شرفة القصر !
هاهي شهرزاد تضطر، بعد سؤال شهريار، إلى أن تفتح حكاياتها، " وتسترسل في الحكي.."، ولكن يبدو أنها لم تكن راضية عن ذلك، ما دام
"للحزن بداخلها لون بحمرة النزيف...". إذن، فهذا يقوي العلاقة السببية بين الجوع الجنسي الشهرياري، الذي يقابله اشمئزاز شهرزاد من ممارسة الجنس مع شهريار، ومن هنا ننطلق في استغوار طبيعة المقطع الرمزية التي تحدثنا عنها.
وإذا كان الماء في حالته المطرية، كما أسلفنا الإشارة إلى ذلك، فيكفي أن ينتقل إلى حالته البحرية حتى يصبح قادرا على تهديد شهريار بالغرق، وهذا ما حصل حيث اشتد جوع شهريار لأكل فاكهة شهرزاد، فلم يبق أمامه إلا أن "ودعها ثم ركب البحر
غرقت السفينة..
لكن يد الحكاية أنقذت شهريار
وأعادته لشهرزاد سالما"[9].
يكفي أن نقرأ هذا المقطع من نهايته متجهين إلى بدايته، وليس العكس، كي ندرك بأن البحر الذي غرق فيه شهريار هو بحر رغبته الجنسية، والدليل على ذلك، أن يد الحكاية (= المضاجعة) كانت تكفي لإنقاذه، على ألا ينسى القارئ بأن الحكاية ترمز للمرأة (شهرزاد)، وأنها، بناءً على ذلك، تأتي رمزا للتواصل الجنسي أيضا. هذا وفي نفس الوقت، نلاحظ بأن المقطع يدعونا للغوص أكثر من ذلك في مياه البحر الرمزي الذي ابتلع شهريار.
قبل أن نواصل التحليل، نقترح على القارئ، أن يعيد قراءة المقطع السابق، في ضوء استيعابه للرمزية القائمة بين المرأة والحكاية، من جهة، والحكاية والمضاجعة من جهة أخرى، وليتأمل قول السارد "لكن يد الحكاية أنقذت شهريار وأعادته لشهرزاد سالما".
أولا: يجب ألا يموت شهريار في هذا الوقت الورقي المبكر من النص، لكي لا تنتهي مجموعة "أحلام تمد أصابعها" قبل الأجل الذي حدده السارد. يجب على شهريار أن يواصل حياته السردية، لكي يتلقى المزيد من السخريات والتمثيل بجثمانه الرمزي، فهذه مسلمة لا ريب فيها، إذ حتى وإن كان القتل مصيرا لا محيد عنه في نهاية نصوص "أحلام تمد أصابعها"، فلا بأس، بل من المطلوب سرديا، أن يبقى حيا إلى أن تدق ساعة رحيله وفقا لجهاز القدر السردي العامل في عمق مجموعة "أحلام تمد أصابعها".
لقد أنقذته يد الحكاية (الرامزة إلى المضاجعة)، وأعادته إلى شهرزاد سالما، ولا ننسى بأن الهيولى التي تسبح فيها تيمة هذه النصوص (أحلام تمد أصابعها) ذات طابع رومانسي، أو جنسي بالأحرى؛ فما دامت قوة شهريار الذكورية قد مورست ضد شهرزاد، ومادام هناك تذبذب دلالي بين حقل الحرب وحقل الحب، فليس من الضروري أن يأتي في النص ما يقتل شهريار قتلا ذا إحالة على غير ما هو جنسي، إذ يكفي أن يتم قتله جنسيا، ما دامت حياته تستمد قيمتها من بعده الجنسي بالدرجة الأولى، فمن السذاجة أن نقرأ عن شهريار كرمز للحرب، دون أن نقرءه كرمز للجنس أولا وأخيرا.
"كانت شهرزاد مهوسة بالحكي، وكانت دائما
تغسل يديها بالماء والصابون قبل أن تفتح
قفل الحكاية بالمفتاح
وحين انتهت علبة الصابون، فركت أصابعها
بالعطر"[10].
لا يفوت عنصر "الماء" أن يمارس طبيعته المائية في النص، على المستوى الإيحائي، كما يمارسها على المستوى الطبيعي. إذا كان الماء، على الصعيد الطبيعي (المرجعي) صالحا للغسل والشرب، وغير ذلك، فها هي شهرزاد تغسل به يدها لكي تحكي. من هنا تظهر لنا علاقة تقارب مستفزة بين الماء والحكاية. فالعلاقة موجودة، ولكن قد يصعب علينا أن ندرك طبيعتها، وكيفية نشوءها في العمق، خاصة إذا لم نكن قادرين على قراءة هذا المقطع في ضوء السياق العام للمقاطع المشابهة من جهة، وكيفية إيجاد علاقة منطقية بين ما يمكن أن نخلص إليه في تحليله، وما خلصنا إليه من خلال غيره من الصور التي استخرجناها في هذه الدراسة.
هناك تدرج يبدأ من الماء، والصابون، وينتهي بالعطر، فما طبيعته يا ترى؟
إن طبيعة هذا التدرج هي" التنظيف". باختصار، يتوجب على شهرزاد أن تتحلى بما تيسر من النظافة قبل أن تقدم على فعل الحكي. وإذا انتهى الصابون، فليس عليها أن تستعمل ما هو أدنى منه تنظيفا، بل عليها أن تستعمل ما هو أكثر إشارة إلى النظافة من هذا الصابون، ألا وهو العطر. لقد "كانت تغرف من إناء أمامها
حكايات قديمة ولذيذة كرولان بارت
أحيانا تزيل ما علق بها من كدر
وتقدمها له شهية
كان يشعر أن الحزن قدّ من قلبه
ثمة سر آخر في الحياة
ولا يعرفه
(كم يتعذب !)[11].
أين تكمن قيمة استخراج ملامح الرمزية القائمة بين الحكاية والماء؟
إنها تكمن في كونها تضعنا في جو اللحظة التي تنبثق فيها عناصر النص من جذورها. إنها لحظة تشكل البنية السطحية للنص انطلاقا من تفاعل عناصر البنية العميقة فيما بينها. نحن نجد على السطح قول السارد مثلا: " تغرف من إناء أمامها
حكايات قديمة ولذيذة كرولان بارت".
وبمجرد أن نلقي نظرة أولية على هذا المقطع، يدعونا للدخول في استغوار البنية العميقة من النوع الذي نتحدث عنه، ما دام لا علاقة مرجعية بين الحكاية والماء. ولكن في "طريقنا" إلى استنطاق هذه البنية العميقة، ينبغي أن نتحلى بذكاء لا يقل عن إبداء القدرة على استنطاق واستجواب ما يوجد على جوانب هذه "الطريق" من العناصر النصية قصد اختبار مدى الكثافة التي يمكن أن ينطوي عليها النص بين الرمز والمرموز. على سبيل المثال:
ماذا يمكن أن نستنتج من خلال نظرتنا إلى المقطع السابق بخصوص البحث عما يعيننا في النص على إدراك مدى كثافته الدلالية؟. للإجابة على هذا السؤال، فلنتأمل قول السارد "لذيذة كرولان بارت". لا شك أن القراءة العابرة، وغير الدارسة، لا تسمح بإدراك أية علاقة بين "اللذة" "ورولان بارت"، اللهم إلا إذا كان هناك نوع من الفاكهة، أو ما شابه، يحمل هذا الاسم، وإلا فلا يمكن لرولان بارت، الناقد الفرنسي الذي نعرف، أن يكون لذيذا أولا، ولا يعقل أن يقدم أو يؤخر شيئا بخصوص معرفتنا بمدى لذة ماء الحكاية ثانيا.
ذلك لأن تشبيه تلك اللذة بلذة رولان بارت يفترض أن يكون الغرض منه تقريب المتلقي من فهم طبيعة هذه اللذة، على افتراض أن هذا المتلقي يعرف تماما، ومسبقا، مدى لذة رولان بارط هذا، وما على السارد إلا أن يشبه به لذة ماء الحكاية حتى يكون بمستطاع المتلقي أن يستوعب تلك اللذة.
ولكن، يبدو أن في هذا التشبيه خدعة يراد منها بعض العبث والتسلية مع المتلقي؛ فكأن الغرض الأساسي من هذا التشبيه هو تعبيث لذة ماء الحكاية المزعومة، وليس العكس، فهل هذا التحليل يكفي لندعي بأننا وصلنا فعلا إلا فك طلاسم اللعبة؟. لا أعتقد ذلك. والآن، لننتقل إلى درجة أعمق، بعض الشيء، على مستوى التحليل، بحيث نصل إلى يلي:
هناك كتاب من تأليف رولان بارت بعنوان "لذة النص"، وهذا الكتاب هو المقصود بالضبط من خلال التشبيه المذكور. وبناءً على ذلك، تحول رولان بارت إلى كناية عن هذا الكتاب، وهكذا بدل أن يقال "لذيذة مثل كتاب رولان بارت" قيل "لذيذة كرولان بارت".
من هنا نستخرج مجموعة من الإشارات التي تقربنا إلى إدراك وفهم مدى الكثافة الدلالية التي يحتويها النص الذي بين أيدينا، لأن هذا التغميض في عملية التشبيه المذكور لابد أن يكون امتدادا لسلسلة، قد تكون طويلة، من العناصر والعلاقات الرمزية التي يقوم عليها النص.
ينبغي أن ندرك بأن (ولماذا) السارد لم يراع الجهل المحتمل عند القارئ، ليس بشخصية رولان بارت فحسب، بل بكتابه "لذة النص" أيضا، فهو يتحدث وكأن العالمين كلهم يعرفون من يكون رولان بارت، كما يعرفون بأن له كتابا هاما بعنوان "لذة النص"، ويعرفون كذلك الخطوط العريضة لعلاقة محتوى هذا الكتاب بالحكاية عموما، وما قد يكون له من علاقة بنصوص "أحلام تمد أصابعها" خصوصا، إن بشكل أو بآخر.
في هذه النقطة بالتحديد، ندرك إلى أي مدى يبدو السارد مستعدا لإبداء عدم الاكتراث لاستيعابنا نصه كمتلقين، إذ يبدو كأنه يخاطب نفسه غير آبه بما قد يخلفه من التشويش أو الغموض في ذهن القارئ. ملاحظة: أود أن أؤكد هنا، بأنني أعني كل ما أقوله، فلا أقول شيئا من هذا القبيل، إلا بعد أن أستند إلى مجموعة من الأدلة المستمدة من النص المدروس مباشرة. فسنرى في مقام لاحق ما يدعم إشارتنا إلى "مشروع التغميض" الملحوظ، من قبلنا، في نصوص "أحلام تمد أصابعها". ولهذا لا نشعر بأي قلق حين ننطلق من هذه المسلمة، أو تلك، نحو استنتاج ما يمكن استنتاجه.
والآن، ما دمنا قد عرفنا المقصود بهذا التشبيه، أي بعد أن عرفنا بأن المقصود هو كتاب "لذة النص" لرولان بارت، وليس هذا الأخير في حد ذاته، يبقى علينا أن نفك المفردات التي تدخل في تشكيل تلك البنية المشفرة لنعيدها إلى صيغها العادية الواضحة كما يلي:
" كانت تغرف من إناء أمامها حكايات قديمة ولذيذة كرولان بارت"
لن نكون أوفياء لأطروحتنا هذه إلى حدود محترمة، لو أسرعنا، أو تسرعنا، إلى قراءة كلمة "لذلة" على أنها تحيل على بعدها المرجعي النمطي بشكل سليم. ولكن سنكون أوفياء لهذه الأطروحة فقط حين نأخذ بعين الاعتبار أن القانون الذي انتقل السارد بمقتضاه من القول المفترض "ككتاب رولان بارت" إلى قوله الذي تحقق على مستوى المقطع السابق: "كرولان بارت"، محولا هذا الأخير إلى كناية عن كتاب "لذة النص"، هو نفس القانون الذي يجب أن ينسحب إعماله على كلمة "لذة"، وذلك من خلال الانتقال من التركيز على قيمتها المرجعية المباشرة، إلى العملية النصية التي انتقلت هذه المفردة بمقتضاها من "كتاب رولان بارت" إلى "الحكاية" المتحدث عنها في المقطع السابق من مجموعة "أحلام تمد أصابعها" !.
لا ينبغي أن ننسى بأن رولان بارت ناقد من طراز عال، وحين نضيف استبطان هذه المسألة، في كلام السارد، إلى قوله "لذيذة كرولان بارت" فسنكون أمام اختبار مدى مقبولية، أو مشروعية، أو جمالية الحكاية المذكورة في المقطع من الناحية النقدية، أي أن هذه الحكاية جميلة من الناحية النقدية، وتنطبق عليها "لذة النص" التي تحدث عنها رولان بارت في كتابه "لذة النص"، كما أشار إليها في عنوان هذا الكتاب "لذة النص".
إذن، فإن السارد قد حاول أن يراوغنا كمتلقين، عن طريق إخفاء الكتاب المذكور (لذة النص)، والاكتفاء بالإشارة إلى مؤلفه (رولان بارت). وهذه المراوغة يجب أن تصب في تجربتنا التحليلية مزيدا من الاستعداد للتعامل مع المزيد من المراوغات السردية.
وهكذا، كلما تمادى النص في عناده أمامنا، استطعنا تطويقه بشكل أعمق. فها هي كلمة "اللذة" قد تبين لنا بأنها فعلا لا تحيل على بعدها المرجعي النمطي، بل هي بمثابة همزة وصل بين كتاب "أحلام تمد أصابعها"، وكتاب "لذة النص"، لا بل هي همزة وصل بين هذه النصوص والنص اللذيذ، ليس بالنسبة إلى أي كان، وليس في أي فضاء من الفضاءات، بل بالنسبة لمفهوم رولان بارت وحده، وفي فضاء كتابه وحده. من هنا تجرد كلمة "لذة" نفسها من بعدها المرجعي المباشر لصالح بعدها المركب ذي علاقة بنيوية بمختلف عناصر النص.
وعلى سبيل التداعي، أو الاستصحاب، فإن التمثل الرمزي للرغبة الجنسية في "الماء"، يمكن أن يفتح أمام النص بابا على مشروع إسقاط مختلف المظاهر أو القوى الطبيعية على الطبيعة الإنسانية، ونخص بالذكر هنا ما يتعلق برغباته الجنسية تحديدا. فتوظيف المفردات كـ"الريح" مثلا، أو "البرد" أو غير ذلك، يمكن يكون تفريعا (في اتجاه سطح النص) لعنصر الماء المتجذر في باطن النص.
لنأخذ مثالا آخر على رمزية الماء وعلاقة هذا الأخير السببية بغياب فعل الحكي، إذ يقول السارد في حديثه عن شهريار:
"الآن يقف على شرفة الليل
كان المكان موحشا في قلبه
ستأتي بعد قليل..
ستأتي...إنها هي
وكانت الخطى لحفيف الشجر
ستأتي...وتؤثث قلبه بحكايات جديدة
ستأتي...إنها هي
وكانت الخطى لحبات المطر
ستأتي...تضيء ليله وتشرق كالأطفال
طلع الصباح ولم يغادر بعد شرفة الليل"[12].
لقد اتضح لنا عقم هذا الانتظار الذي لم يأت بشهرزاد، وليتأمل القارئ علاقة هذا العقم بـ "حبات المطر"، فما هذا إلا إشارة إلى إسقاط القوة الطبيعية الكونية على القوى الطبيعية الإنسانية. لم تأت شهرزاد، فـ "كانت الخطى لحبات المطر"، تماما كما رأينا في المقاطع السالف ذكرها. لو حضرت شهرزاد، لنزل المطر، وامتصته الأرض العطشى، ولا حاجة لتبليل سطح النص، مما يعني ألا حاجة لذكره أصلا !.
أما وشهرزاد لم تأت، فهذا يعني، بمقتضى الشبكة الرمزية المعقدة في باطن النص، أن الأرض ليست مستعدة لامتصاص ماء السماء، ولهذا تجلى ظهوره (على هيئة المطر) كتعبير عن حرمان شهريار من:
الاستماع إلى حكاية شهرزاد (= الاستمتاع بمضاجعة شهرزاد).
ولكن، مادام قد تبين لنا بأن الماء، في نصوص "أحلام تمد أصابعها"، رمز لرغبة شهريار الجنسية، فهذا يعني أنه قد يشكل تهديدا لشهرزاد إن عاجلا، أو آجلا، خاصة في حالة إصرارها على الوقوف الممانع في وجه تلك الرغبة الشهريارية الجارفة. قد تنجح شهرزاد مرارا وتكرارا في مراوغته، ولكن قد يأتي يوم، أو بالأحرى ليلة، لن ينقذها من الاستسلام لرغبة شهريار حتى التوسل، فها هو السارد يقول:
"هذه الليلة، توسلت شهرزاد بإعفائها من السباحة في
ماء الحكاية...
بدعوى أنها حائض...
رمقها شهريار بغضب...وتحسس سيفه...
حينها تنصلت من ثيابها...وغطست في بحر
السندباد...
كي تنسج من الماء المالح...حلما من الأعاجيب..."[13].
لقد كانت شهرزاد تخشى من السباحة إذن، لأنها تخشى الغرق. إذا كان التنصل من الثياب يوضح لنا بأن "السيف" ما هو إلا رمز للعضو الذكري (سنتحدث في بحث لاحق عن رمزية السيف في نصوص "أحلام تمد أصابعها")، فإن "بحر السندباد" يؤكد لنا أيضا بأن "ماء الحكاية" ما هو إلا رغبة شهريارية جنسية (= ماء المضاجعة). فبعد أن تجردت شهرزاد من ثوبها، غرقت في بحر السندباد. ومن السهل أن نفكك هذا الغطاء المعجمي لنخلص إلى الصيغة الدلالية التالية:

بـحر = مـاء
سندباد = حكاية

لقد غطست شهرزاد في ماء الحكاية الذي حاولت في بداية المقطع أن تتجنبه بدعوى أنها حائض. حتى بعد أن استسلمت، يبدو أنها لم تستسلم في حدود فضاء الليل، بل غاصت مباشرة في فضاء الحلم. مما يرمز إلى استعجالها العبور من ضفة "ألف ليلة وليلة" إلى ضفة "أحلام تمد أصابعها" ! (راجع دراساتنا التي تحمل عنوان "بين الجنس الأدبي والجنس الآدمي"). هنا يتحول الماء المالح (وما يرمز إليه من النشاط الجنسي المكون لنسيج الحكاية) إلى مادة للحكي. ولكن ليس الحكي الليلي (في إطار "ألف ليلة وليلة")، بل الحكي الحلمي (في إطار "أحلام تمد أصابعها") الذي يقوم، بلا شك، على تجاوز مستوى "ألف ليلة وليلة".
فكأن نسجها من هذا الماء المالح حلما من الأعاجيب يرضي شهريار، بل وكأن هذا بالضبط ما يطلبه. إنه حكاية على غرار الحكايات التي كانت تشفي غليله في "ألف ليلة وليلة"، إلا أن هذه الحكايات أصبحت مركبة، أو مفخخة بالأحرى، بحيث لم تعد تحمل ذاتها في ذاتها، بل تحمل شبكة رمزية لا شك أنها يجب أن تكون ملائمة لاصطياد مسرودات طازجة من بحر "الأحلام التي تمد أصابعها".
نعم، يتعلق الأمر بتسييل "الرغبة الجنسية" من خلال الإشارات المتكررة إلى "ماء الحكاية" (= ماء المضاجعة)، ولا شك أن القارئ يعرف جيدا كيف يتابع التكملة، ولكن أود أن أشير إلى أن الماء الذي يرمز إلى ما تحدثنا عنه، في هذه الدراسة، يمكن أن يرمز كذلك إلى أي ماء ذي علاقة بالجنس، فعلى سبيل المثال، حين يتحدث سيجموند فرويد عن النبي موسى، الذي تروي الكتب السماوية (التوراه والقرآن مثلا) بأن أمه، بعد أن ولدته، اضطرت إلى وضعه في سلة، ثم وضعت هذه السلة في البحر، وهكذا إلا أن تم إنقاذه من طرف أميرة مصرية، يقول، أي فرويد:
"ووضع الطفل في سلة تمثيل رمزي صريح للولادة، إذ ترمز السلة إلى بطن الأم، والماء إلى السائل السابيائي. والعلاقات بين الوالدين والأطفال تمثل، في عدد لا يحصى من الأحلام، في فعل الانتشال من الماء أو الإنقاذ من الماء"[14]. فلرمزية الماء حضور قوي إذن في اللاشعور الإنساني، وتلك الرمزية لم تتشكل عبثا، بل استمدت عناصر تشكلها من الدور العظيم الذي يلعبه الماء من خلال مختلف حالاته. إذ يكفي أنه الشرط الأساسي لوجود الحياة على الأرض في حالته المائية العادية، كما يكفي أنه أصل الإنسان (الجنين) في حالته التناسلية.
أوشكنا على ختام نصوص "أحلام تمد أصابعها"، حيث لم يعد هناك داع لاستمرار شهريار وشهرزاد على قيد الحياة (الحكائية) بكل ما يمثلانه من الصراع الجنسي المزدوج، وهو صراع ذو حدين بين الذكر والأنثى، قوامه سعي الذكر للحصول على الأنثى من أجل إشباع رغبته من جهة، وكذلك هو صراع حول السلطة (حكم العائلة أو الأسرة الخ) من جهة أخرى، حيث يتوجب على الذكر أن يقاوم (من الخارج) الهيمنة النسوية التي تجتاحه (من الداخل)، فهو يشعر بضرورة تحقيق انتصار اجتماعي على الأنثى كتعويض عن هزيمته النفسية أمامها، لأن المرأة كثيرة الانتصار على المستوى النفسي.
كل هذا الصراع، الذي ارتأى السارد أن يجعله صراعا جنسيا، يجب أن توضع له نهاية ذات طابع جنسي، إن بإيحاء أو بآخر، فلقد "مات شهريار في قطار الحكاية
كانت الظلمة، وكانت قطط الليل
ماتت شهرزاد في سفينة الحكاية
كان المطر، وكان لسان الحكاية
ي
ر
ت
عش"[15].
لقد تعلمت، من خلال دراساتي النقدية السابقة، بأن الانتقال من مستوى التحليل إلى مستوى التعليل والتأويل تقتضي بعض القدرة على نوع من قراءة النص الأدبي (العربي) من اليسار إلى اليمين، وكذلك من الأسفل إلى الأعلى، كما القدرة على نوع من القراءة المعكوسة، وليس الاقتصار على القراءة التقليدية الاطرادية التي تبدأ من اليمين (في حالة النص العربي) إلى اليسار، وكذلك من الأعلى إلى الأسفل. هذا لأن القراءة الأولى (السطحية) البنائية، ما هي إلا محطة ننطلق منها نحو قراءة ثانية (عميقة) دلالية، ومنها نتتبع مسارات العناصر الرمزية داخل النص، والتي هي مسارات تقوم على تجاوز البنية القرائية القائمة على الانطلاق من اليمين إلى اليسار، من حيث تتبع خط إنتاج الدلالة، الخ.
إن مبدأ "الوعاء والمحتوى"، في علم النفس، يعلمنا بأن "القطار" يمكن أن يأتي، في بعض الحالات النفسية، وعلى رأسها "الأحلام"، رمزا للعضو الذكري. وكذلك، يمكن أن تأتي السفينة رمزا للتواصل الجنسي بين الرجل والمرأة. كيف ذلك؟ لنتابع:
القطار يزحف على الأرض/يدخل الأنفاق...الخ، و (إن جاز أن نتعمق أكثر) ينقل الركاب من منطقة إلى أخرى، دون أن نغفل علاقة ذلك الممكنة اللاشعورية بنقل العضو الذكري للأجنة من صلب الأب إلى رحم الأم، ودون أن ننسى كذلك بأن شكله من الخارج يشبه العضو الذكري من الناحية البصرية العاملة في تشكيل الحلم ونحو ذلك. أما السفينة، فلا ننسى بأنها تسير على الماء، وهي بهذا تشبه الرحم الذي يركبه الجنين لمدة تسعة أشهر ليرسو أخيرا على شاطئ الدنيا بعد أن ينزل من بطن أمه، دون أن نغفل السائل السابيائي الذي تحدث عنه فرويد كما ذكرنا سابقا.
من الزاوية السيكولوجية على الأقل، قد لا نجانب الصواب لو قلنا بأن: القطار مستطيل ينقل الإنسان من مكان إلى آخر (= العضو الذكري مستطيل ينقل الجنين من صلب الأب إلى رحم الأم). لاحظ أن شهرزاد لم تتوسل، في المقطع السابق، من أجل إعفائها من السباحة في أي ماء، بل توسلت من أجل إعفائها من ماء الحكاية فقط. وكذلك، في المقطع الأخير، لم تغرق في أي ماء، بل غرقت في ماء الحكاية فقط، أليس كذلك !؟.
لاحظ:
أن ظهور الماء (على هيئة المطر)، في المقطع الأخير، لم يشذ عن القاعدة التي نتحدث عنها من خلال هذه الدراسة. أي أن كلمة "مطر" لم تأت إلا قرينة لعدم قيام شهرزاد بالحكي. فلقد ماتت شهرزاد، ولم يتبق من شهريار (الذي تبخر من شدة الرغبة الجنسية في "قطاره المنتصب" (!)) إلا ماء الحكاية (على هيئة المطر) الذي بقي على سطح الأرض (=النص) نتيجة عدم امتصاصه من طرف الأرض (= النص/شهرزاد)، لأنها لم تكن ظمأى وبحاجة إلى مطر (= بحاجة إلى تواصل جنسي مع شهريار)، فكانت النتيجة أن قطار الحكاية (= عضو المضاجعة) قد أخذ صاحبه شهريار من الحياة إلى الموت الحكائي (= الجنسي) !. ليتذكر القارئ دائما علاقة الحكاية بالمضاجعة في هذه النصوص، لكي يسيطر تماما على الفهم الصحيح الذي نسعى إلى تحقيقه، وسرعان ما ستتضح له خيوط اللعبة الكامنة في باطن النص.
***


الهوامش:


[1] سعيد بودبوز: بين ضفة السراء وضفة الضراء-مقاربة سيميائية، الطبعة الأولى سنة 2011، مطبعة سجلماسة-مكناس-المغرب.
[2] بن يونس ماجن: هم الآن يكنسون الرذاذ، الطبعة الأولى سنة 2005م، مطبعة "الأوائل للنشر"، دمشق.
[3] فاطمة بن محمود وعبد الله المتقي: أحلام تمد أصابعها، الطبعة الأولى، سنة 2012، دار الوطن للصحافة والطباعة والنشر، الرباط-المغرب.
[4] قصة "الوحش" من مجموعة "رقصة زوربا" للقاص المغربي عبد الواحد كفيح، وتمت دراستها سيميولوجيا في كتاب "تناسخ النص" لسعيد بودبوز، وهو كتاب موجود عند المؤلف، ومازال غير منشور لحد الساعة التي نكتب فيها هذه الكلمات.
[5] "عنترة يحرص الطواحين الهوائية" هذه القصة أيضا تمت دراستها سيميائيا في نفس الكتاب المذكور (تناسخ النص).
[6] "رقصة زوربا" مجموعة قصصية للقاص المغربي عبد الواحد كفيح كما أسلفنا الحديث عن ذلك.
[7] فاطمة بن محمود وعبد الله المتقي: المرجع السابق، ص 34.
[8] المرجع السابق، ص112.
[9] المرجع السابق، ص 79.
[10] المرجع السابق، ص 16.
[11] المرجع السابق، ص 21.
[12] المرجع السابق، ص 18.
[13] المرجع السابق، ص 67.
[14] سيجموند فرويد: موسى والتوحيد، الطبعة الرابعة 1986، دار الطليعة-بيروت-لبنان، ص13.
[15] فاطمة بن محمود، وعبد الله المتقي: المرجع السابق، ص 114.
***

سعيد بودبوز/مكناس-المغرب



#سعيد_بودبوز (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين الجنس الأدبي والجنس الآدمي (تحليل عنوان -أحلام تمد أصابع ...


المزيد.....




- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد بودبوز - الماء والحكاية في -أحلام تمد أصابعها-