مجدى زكريا
الحوار المتمدن-العدد: 3820 - 2012 / 8 / 15 - 12:19
المحور:
حقوق الانسان
على مر التاريخ ناضل الناس فى سبيل حرية القول. فسنت قوانين, وشنت حروب, ولاقى الكثيرون حتفهم من اجل الحق فى التعبير عن فكرة ما علانية.
فلماذا اثار هذا الحق, الذى يبدو من حقوق الانسان الطبيعية, الكثير من الاخذ والرد حتى الى درجة سفك الدم ؟ ولماذا وجدت المجتمعات فى الماضى والحاضر على السواء, انه يلزم تقييد ممارسة هذا الحق او حتى منعها ؟
تأرجحت المواقف من حرية القول لدى الناس كرقاص ضخم فى ساعة الزمان. فاعتبرت حرية القول تارة امتيازا يجب التنعم به وتارة مشكلة يجب ان تعالجها الحكومات او الاديان.
وبما ان التاريخ يزخر بروايات عن اشخاص ناضلوا من اجل الحق فى التعبير عن رأى ما علانية, الامر الذى ادى الى اصطهادهم بعنف او قتلهم, فلا بد من القاء نظرة عامة على بعض هذه الحوادث سيزيد فهمنا للمشكلة.
لا شك ان طلاب التاريخ يذكرون الفيلسوف اليونانى سقراط (470 - 399 ق م ) الذى اعتبرت اراءه وتعاليمه ذات تأثير سئ فى القيم الاخلاقية لشباب اثينا. وبسبب ذلك دب هلع شديد بين القادة السياسيين والدينيين فى السلطة اليونانية, وهذا ما أدى الى موته. ولا زال دفاعه امام المحلفين الذين ادانوه فى النهاية احدى ابلغ المدافعات عن حرية القول : " اذا عرضتم الافراج عنى هذه المرة بشرط الا اعود فأتكلم بما فى ذهنى فى هذا البحث عن الحكمة , وان وجدت افعل ذلك اموت, فسأقول لكم : يا رجال اثينا, سأطيع الاله اكثر منكم, فما دامت فى حياة وقوة, فلن اكف عن اتباع الحكمة وعن حض واقناع كل من التقيه منكم, لان هذه بالتأكيد وصية الاله . . . ويا ايها الاثينيون, سأمضى قائلا : سواء برئت او لم ابرأ فاعلموا اننى لن افعل غير ذلك, ولو مت من اجل ذلك مرارا عديدة.
وبعد ذلك, خلال خلال تاريخ روما الباكر, تأرجح الرقاص الى جهة تخفيف القيود, انما ليميل من جديد الى جهة فرض المزيد من القيود مع توسع الامبراطورية. ووسم ذلك بداية احلك فترة بالنسبة الى حرية القول. فخلال حكم طيباريوس ( 14 - 37 ب م ) لم يكن هناك تسامح البته مع الذين يعبرون عن رأيهم المعارض للحكومة او لسياستها. ولم تكن روما وحدها معارضة لحرية القول. ففى ىذلك الوقت اكره القادة اليهود بيلاطس البنطى على اعدام يسوع بسبب تعاليمه, وامروا رسله ايضا بالتوقف عن الكرازة. وهؤلاء ايضا فضلوا الموت على ان يتوقفوا.
خلال معظم الفترات فى التاريخ, غالبا ما عدلت الحكومات او سحبت الحقوق المدنية ساعة شاءت. مما ادى الى تواصل النضال فى سبيل حرية القول. وابتداء من القرون الوسطى طلب بعض الناس بيانا خطيا يبين حقوقهم بوضوح, مع القيود الموضوعة على تحكم الحكومة فى هذه الحقوق. ونتيجة لذلك ابتدأت صياغة مواثيق حقوق بارزة. وكانت الوثيقة العظمى من بينها, وهى تعتبر نقطة تحول فى مجال حقوق الانسان. وظهر لاحقا ميثاق الحقوق الانجليزى ( سنة 1689 ). اعلان الحقوق الفيرجينى ( سنة 1776 ). الاعلان الفرنسى لحقوق الانسان ( 1789 ). وميثاق الحقوق الاميركى ( سنة 1791 ).
وفى القرون ال17 وال18 وال19 ارتفعت شخصيات بارزة فى التاريخ تؤيد حرية التعبير. والشاعر الانجليزى جون ملتون, الذى ربما يعرفه الناس بصفته مؤلف الفردوس المفقود, كتب سنة 1644 الكراسة الشهيرة اريوباجيتيكا ردا على القيود المفروضة على حرية الصحافة.
وشهد القرن ال18 نمو حرية القول فى انجلترا مع ان القيود بقيت. وفى اميركا كانت المستعمرات تصر على حقها فى حرية القول. سواء كان ذلك شفهيا ام طباعيا. مثلا, ذكر دستور ولاية بنسلفانيا فى 28 ايلول 1776, جزئيا : " للشعب الحق فى حرية القول والكتابة ونشر ارائهم, لذلك يجب الا تقمع حرية الصحافة. "
ومن هذا القول استوحى التعديل الاول للدستور الاميركى سنة 1791 الذى عبر عن رأى واضعى الدستور الاميركى حيال الحقوق العزيزة على قلب الشعب : " لا يجب ان يسن الكونجرس قانونا يتعلق بتأسيس دين, او يحظر ممارسته بحريةو او يحرم حرية القول, او الصحافة, او حق الناس فى الاجتماع سلميا, وفى الالتماس من الحكومة ان تزيل المظالم. "
وفى القرن التاسع عشر نشر الفيلسوف الانجليزى جون ستيوارت مل مقالته " فى الحرية " سنة 1859, وغالبا مايقتبس منها, وقد اعتبرت من اعظم ماقيل تأييدا للقول الحر.
لكن المعارك من اجل الحق فى التكلم علانية بحرية لم تنته بحلول سنوات الاستنارة المزعومة لهذا القرن الاخير. مثلا, بسبب الجهود المبذولة لتقييد حرية القول فى اميركا ارتفعت الاصوات المطالبة بالدفاع عن هذه الحرية من قاعات المحاكم, سواء من المحاكم الدنيا او من المحكمة العليا فى الولايات المتحدة.
عبر القاضى اوليفر ويندل هومز الاصغر, من المحكمة الاميركية العليا, عن ايمانه بالقول الحر فى عدد من القرارات القضائية. وقال واصفا المعيار للقول الحر : " اذا كان هنالك اى مبدأ فى الدستور يلزم الالتصاق به اكثر من اى مبدأ اخر, فهذا المبدأ هو الفكر الحر - للذين يوافقوننا فى الرأى بل حرية الفكر للذين ننفر منهم. ".
وعدم احترام هذا المبدأ هو السبب فى احتدام المعارك القضائية التى تبقى رقاص الساعة يتأرجح بين الحرية والقمع. فغالبا مايكون المفهوم السائد هو :؛ " القول الحر لى - ولكن ليس لك. " ويورد بات هنتوف فى كتابه الذى يحمل هذا العنوان امثلة كان فيها المدافعون الغيورون عن التعديل الاول للدستور الاميريكى يتأرجحون مع رقاص الساعة من اليمين الى اليسار حسبما يرونه ملائما. وهو يورد دعاوى نقضت فيها المحكمة الاميريكية العليا بعض قراراتها الخاصة بما فيها بعض الدعاوى التى تشمل دين شهود يهوه وسنوات نضالهم من اجل الحق فى التكلم بحرية عن اقتناعاتهم الدينية. فكتب عنهم : " ان اعضاء هذا الدين ساهموا كثيرا على مر العقود فى نشر حرية الضمير من خلال الدعاوى القضائية الدستورية. "
كتب محللون قانونيين كثيرون ومؤرخون عصريون باسهاب عن المعارك القضائية العديدة التى جرى خوضها لصون حرية القول فى اواخر القرن العشرين, ليس فقط فى اميريكا بل ايضا فى بلدان اخرى.
لكن حرية القول ليست مضمونة ابدا. ومع ان الحكومات قد تتفاخر بالحرية التى تمنحها لشعبها, فان الحرية يمكن ان تفقد بتغير الحكومة او قضاة المحاكم , كما تظهر التجربة.
كتب البروفسور ت. س. برادن فى كتابه هؤلاء ايضا يؤمنون : " لقد انجز شهود يهوه خدمة رائعة للديموقراطية بجهادهم لحفظ حقوقهم المدنية, لأنهم فى كفاحهم فعلوا الكثير لضمان هذه الحقوق لكل فرقة اقلية فى اميريكا. فعندما تنتهك الحقوق المدنية لأية فرقة, لا تعود حقوق اية فرقة اخرى فى امان. لقد كان لهم دور واضح فى حفظ بعض اثمن الامور فى ديموقراطيتنا. "
يكاد يعجز محبو الحرية عن فهم السبب الذى من اجله تحرم بعض الحكومات والاديان شعبها من هذه الحرية. فذلك انكار لحق بشرى اساسى, وكثيرون فى العالم يتألمون من قمع هذه الحرية. فهل تبقى المواقف من حرية القول, حتى فى الدول التى تتمتع بهذا الحق الاساسى تتأرجح ذهابا وايابا كرقاص الساعة ؟ وهل تكون فكرة حرية القول مبررا لاستعمال لغة بذيئة او فاسدة ادبيا ؟ يدور فى المحاكم اليوم جدال حول ذلك.
" يتبع "
#مجدى_زكريا (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟