|
الدولة الظاهرة والدولة الباطنة في سورية
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3818 - 2012 / 8 / 13 - 01:07
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
يقول "انشقاق" رئيس الوزراء السوري أشياء مهمة عن الدولة والسياسة في سورية. منها أن أحوال الدولة الظاهرة التي يشغل فيها رياض حجاب موقع متقدما، الرجل الثاني في سلسلة الحكم في سورية بعد رئيس الجمهورية، لا تفيد شيئا عن أحوال الدولة الباطنة التي لا نفاذ للسيد حجاب إليها، وهو لا يعدو كونه موظفا محدود الأهمية في مراتبها. الدولة الباطنة، ما نسميه عموما "النظام"، هي مركب سياسي أمني، قائم على علاقات الثقة الشخصية، ونواته الصلبة عائلية طائفية. أما الدولة الظاهرة، ويغلب أن تسمى "الدولة"، فهي جملة الأجهزة والوظائف العامة المخفوضة القيمة التي تظهر أمام السوريين ويتعاملون معها في حياتهم اليومية: الحكومة والإدارة والتعليم والشرطة والجيش العام والقضاء ومجلس الشعب. هناك نقطة تقاطع عامة وحيدة للدولتين، تتمثل في رئيس الجمهورية، الذي هو رأس كليهما. ومنه تتفرع الدولة الظاهرة، بما فيها "سلطة تشريعية"، هي في الواقع شبكة وسطاء عامة بين المجتمعات المحلية والسلطة المركزية، و"سلطة قضائية" تبيع العدالة للأقوياء. ومنها أيضا الشرطة المختصة بأشد أنواع القمع ابتذالا. السيد رياض حجاب هو كبير موظفي "السلطة التنفيذية"، أو بالأحرى أحد كبارها. إذ حتى على مستوى الدولة الظاهرة قلما تطابق المراتب المعلنة مراتب السلطة الفعلية. والوزير أو الإداري الكبير الذي "يُزبِّط" أموره مع أجهزة المخابرات المتنافسة يحقق لنفسه سبقا مهما في نظام قائم على عدم ثقة الجميع بالجميع وخوف الجميع من الجميع. الدولة الباطنة لا تظهر علنا، ولا تخاطب السوريين إلا من وراء حجاب، وهي تحتكر العنف الداخلي، وتعتمد عليه اعتمادا واسعا، مع تمتع كبارها بحصانة تامة. عنف الدولة الباطنة تمييزي، انتقامي، وله وظيفة ردعية. واستباقي غالبا. أما الأجهزة الحزبية و"الجبهة الوطنية التقدمية" فتشغل منزلة بين منزلتي الدولتين، لكنها في العموم أقرب إلى الدولة الباطنة. فلا يكفي وزراء أحزاب "الجبهة الوطنية التقدمية" أن يحسبوا على أحزاب تابعة لحزب البعث، عليهم بدورهم "تزبيط" أمورهم مع المخابرات كي يهنؤوا بمناصبهم، وليكونوا أقوى في أحزابهم ذاتها. قبل الثورة كان التمايز بين الدولتين مقدرا، وكان المثقفون والناشطون السوريون يميزون عموما بين الدولة والسلطة، ويقال عادة إن الأخيرة التهمت الأولى. ليس هذا التمييز مرهفا بقدر ما يلزم، لكنه يكفي للإشارة إلى علاقة استيلاء للسلطة الخاصة على الدولة العامة. بعد الثورة سارت الأمور في اتجاه تآكل الدولة الظاهرة التي كانت "تنشق"، فيما الدولة الباطنة تنكمش وتتصلب. ما يخطئ في تقديره مراقبون خارجيون ووسائل الإعلام هو حسبان تآكل الدولة الظاهرة على الدولة الباطنة، أو افتراض أن الانشقاقات تسير في خط مستقيم نحو انهيار النظام. في واقع الأمر نطاق الانشقاقات، العسكرية منها والدبلوماسية والحكومية، قلما يطال النظام أو الدولة الباطنة. صحيح أنه انشق أشخاص من الأجهزة الأمنية، لكنن فوق قلتهم، يشغلون مواقع غير أساسية في النواة الصلبة للدولة الظاهرة. وهذه النواة هي موطن غريزة بقاء النظام ومبدأ استمراره. لذلك يمكن تصور انهيار واسع للدولة الظاهرة، ليس دون أن يمس ذلك الدولة الباطنة، بل وأن يؤدي بها إلى مزيد من التصلب والانغلاق على نفسها والعدوانية القصوى ضد غيرها، على ما هو حاصل اليوم. معركة النظام اليوم عدمية بكل معنى الكلمة، لم يعد لها هدف إيجابي ولو من نوع استعادة السيطرة على البلد، بل إلحاق أكبر قدر من التدمير والموت بما تجاسروا على التمرد عليها، ولو قاد ذلك إلى دمار سورية كلها، وهو يقود فعلا. ليس شعار "الأسد أو لا أحد" أو "الأسد أو نحرق البلد" غير تعبير عميق عن هذا النازع العدمي المنقوش في غريزة بقاء النظام. ستكون سورية أرضا محروقة لا حياة فيها، بلد اللاأحد، إلا إذا استكان السوريون لقاتلهم. وبالفعل ليس هناك تكثيف لما يجري في سورية منذ 17 شهرا أفضل من هذا الشعار. ماذا تفعل الدولة الباطنة؟ بوصفها غريزة بقاء، فإن وظيفتها الجوهرية تهديد بقاء من قد يهددها أو يمثل خطرا عليها. وكي يكون لهذا التهديد صدقية عليها فعلا أن تقتل ولا تتهيب القتل والتوسع فيه. والواقع أنها تحلت بقدر طيب من الصدقية في قدرتها على القتل دوما. وما كان أخذ على بشار الأسد في سنوات حكمه الأولى من أنه يفتقر إلى غريزة القاتل، خلافا لأبيه، يظهر اليوم حكما متعجلا. الرجل قاتل قدير، وإنجازاته وأخوه في هذا الشأن لا تخجل في شيء من إنجازات الوالد والعم في حلب وحماة وإدلب وتدمر قبل جيل. بل هي في برنامج حرق البلد في سبيلها إلى تحقيق إنجاز غير مسبوق، يسجل بحروف من دم ونار في سجل إنجازات "الحركة التصحيحية المباركة" والأسرة الأسدية. هذا ما يعرفه السيد رياض حجاب وأمثاله حيدا. ولذلك لم ينشق وأمثاله عن النظام قبل أن يؤمنوا أسرهم كلها خارج البلد وبعيدا عن اليد الباطشة للدولة الباطنة. سبق أن فعل ذلك عبد الحليم خدام، ثم مناف طلاس مؤخرا. وسبق أن شهدت شخصيا كامل أسرة ابراهيم اليوسف، الضابط الذي نفذ مجزرة المدفعية في حلب عام 1979 في السجن، أبوه وأمه وإخوته وزوجته، دون ذنب شخصي لأي منهم. وكان قُتل أيضا شقيق وزير الداخلية غازي كنعان بعد أسابيع قليلة من "انتحار" الأخير في خريف 2005. وأثناء الثورة تواترت معلومات عن قتل إخوة المقدم حسين الهرموش، أحد أقدم المنشقين عن الجيش الأسدي. في هذا ما يلقي ضوءا على قلة المنشقين من دبلوماسيي النظام ورجال حكومته. يعرفون جيدا أي قلب وأي ضمير لدى هذا النظام الذي يخدمونه. وما نستخلصه من كل ما سبق أن النظام أو الدولة الباطنة هو المنظمة الأكثر سرية وعنفا وتطرفا وفئوية في سورية. وبينما يبدو نافلا القول إن هذا يقوض الدولة بوصفها المقر الرسمي للعلنية والسياسة والاعتدال والعمومية، فإن ما في سبيله إلى الانهيار اليوم ليس الدولة كمؤسسة حكم فقط، وإنما الدولة ككيان سياسي تاريخي، الكيان السوري، بلد السوريين ووطنهم.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حلب
-
حوار حول مشكلة الطائفية وسياسة الأقليات
-
مشاهد سورية الجديدة وملامحها
-
تكوين الثورة وعمليات تشكل سورية الجديدة
-
حقوق الأقليات أم جمهورية المواطنين؟
-
فصل رابع من الصراع السوري
-
على درب القيامة الكبرى في دمشق
-
لماذا، وضد من يثور السوريون؟
-
الثورة السورية وظاهرة -الانشقاق-... أية سياسة؟
-
في عالم انفعالات الثورة السورية
-
الثورات العربية وصعود الإسلاميين السياسي
-
إبطال وظيفة السجن... حوار حول كتاب -بالخلاص، يا شباب!-
-
في جذور الحرب وامتناع السياسة...
-
صعود العدمية المقاتلة في سورية
-
ثلاثي الحرب السورية... دولتان قوميتان وطغمة
-
أجساد سورية العميقة وأرواح سورية الظاهرة
-
على مشارف الحرب السورية
-
من الأبوات إلى الأنوات... جيلان من السياسة والثقافة
-
نظام الأسد بلا... أسد!
-
صورة -الشوايا- وحال منطقة الجزيرة السورية
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|