أخبار الشرق - 28 أيلول 2002
كشفت صحيفة "الزمان" اللندنية يوم الجمعة 20/9/2002، نقلاً عن مراسلها في دمشق؛ أن وفداً من الترويكا الأوروبية التقى معاون وزير الخارجية السوري سليمان حداد يوم الثلاثاء (17/9)، وسلمه مذكرة بخصوص احكام السجن الأخيرة بحق آخر أربعة معتقلين أمام محكمة أمن الدولة العليا بدمشق، ممن يعرفون بمعتقلي ربيع دمشق.
ونقلت الصحيفة عن مصدر دبلوماسي غربي في العاصمة السورية دمشق أن المذكرة تناولت تلك المحاكمات التي تراوحت "أحكامها من عامين إلى خمس سنوات، بحق آخر أربعة من أبرز دعاة الإصلاحات الديمقراطية في سورية، والذين اعتقلوا في الخريف الماضي، وهم المحامي حبيب عيسي والمهندس فواز تللو وحسن سعدون وكمال لبواني". وحسب المصدر فإن المذكرة كانت عبارة عن صفحة واحدة، وتم تسليمها إلى حداد خلال اجتماع دام نحو نصف ساعة.
غير أن صحيفة "الحياة" الصادرة في لندن بنفس التاريخ قالت إن مصادر سورية رفيعة المستوى ذكرت لها أن السفير سليمان حداد "شكر الأوروبيين على الاهتمام خصوصاً إذا كان هذا الاهتمام عاماً ويطبق على الجميع"، ثم انتقل إلى "التعبير عن الاستغراب للانتقائية الاوروبية في المواقف الرسمية: ان الاوروبيين يضعون حالات محددة في سورية تحت المجهر لكنهم يتجاهلون في الوقت ذاته الممارسات الهمجية الإسرائيلية". وتساءل السفير حداد "لماذا لم يحرك الأوروبيون وجماعات حقوق الانسان ساكناً بعد اعتقال المناضل والبرلماني الفلسطيني مروان البرغوثي وتحويله على المحاكم? لماذا لا يتحرك الاوروبيون ازاء الجرائم والمجازر الاسرائيلية المناهضة للقانون الدولي؟".
وبعدما أكد السفير حداد "استقلال القضاء السوري عن أي سلطة أخرى", وضرورة أن "يأخذ القانون مجراه الطبيعي وان يطبق على من يخالفه أياً كان", سأل الأوروبيين "هل تتدخلون في مسيرة القضاء في اوروبا? هل تفعلون الشيء نفسه في جميع الدول؟".
إن صياغة صحيفة "الزمان" لخبر لقاء وفد الترويكا الأوروبية مع السيد معاون وزير الخارجية السفير سليمان حداد، هي صياغة منطقية ويمكن قبولها، حيث أن ما جرى في الاجتماع متناسب مع مدته المعلن عنها, أي أن وفد الترويكا كان مكلفا بتسليم مذكرة، لنقُل إنها مذكرة احتجاج للحكومة السورية، على أحكام ظالمة صدرت بحق مطالبين سلمياً بالتغيير الديمقراطي في حياة البلاد، وهذه المهمة لا تستغرق أكثر من الوقت المذكور في الخبر وهو نصف ساعة.
أما صياغة صحيفة الحياة للخبر نفسه، فيبدو أن هناك شيئاً ما قد تم حشوه في الخبر، ليس صحيحاً، لسبب أن ما نُسب للسيد سليمان حداد من أقوال، وعلى فرضية أن وفد الترويكا الأوروبية، قد اجاب عن كل جملة بجملة واحدة فقط، وهذا أضعف الإيمان؛ فان وقت الاجتماع المذكور يصبح غير كافٍ نهائياً، ولا حتى ضعفه زمنياً. فما قصة أقوال السيد حداد بحسب صحيفة الحياة إذاً؟
لقد عودنا السيد مراسل "الحياة" في دمشق، على أن ينقل لنا بين الفترة والأخرى، أقوال مسئولين سوريين رفيعي المستوى كالأقوال المذكورة سابقاً والمنسوبة للسيد سليمان حداد. وإن كان من نسب له الكلام أحد رجال الدولة المغلوبين على أمرهم، اللاحول لهم ولا قوة، فإنه يبلع ما نُسب إليه، لأنه أساساً غير قادر على توضيح مواقفه، أو نفي ما نُسب إليه. وإن كان المنسوب إليه الكلام من غير رجال الدولة، فإننا نسمع التكذيب أو التصحيح أو .. أو .. إلخ، وما دام التصحيح أو التكذيب لا يمكن ان يظهر في الصحف المحلية، فهذا يعني ان الحرج المترتب على افتضاح الأكاذيب غير موجود أصلاً.
وهؤلاء المسئولين رفيعي المستوى، نرجح أنهم مسئولين أمنيون، يختبئون وراء صفات ليست لهم: (رفيع المستوى)، ليخفوا عن أعين الناس سيطرتهم الحقيقية على الحياة السياسية في البلد، وهؤلاء المسئولين هم من تتعلق بهم الموافقة النهائية على صياغة أي تقرير صحفي سيُرسَل إلى خارج البلاد، كما تتعلق بهم أحياناً، مسئولية صياغة التقرير بحد ذاته، والطلب من المراسل إرساله بصيغة: "صرح مسئول رفيع المستوى"، أو "عُلم من مصدر مسئول" .. إلى آخره من هذه الفبركات، ويكون الهدف النهائي لهذا، هو تصدير فكرة، أو موقف، قد تستهدف أتباعهم أو معارضيهم أو .. إلخ.
على كل حال، يبقى ما ذكرته سابقاً، متعلقاً بالشكل الذي لا يكلف أحداً من المسئولين "رفيعي المستوى" نفسه الاهتمام بطريقة إخراجه، ليولد شيئاً من القناعة عند المتلقين. أما ما يتعلق بالمضمون فهو أعظم.
إن الأقوال التي صرح بها المسئول الرفيع والتي نسبها إلى السفير سليمان حداد، وسواء أكانت هي فعلاً من أقوال السيد السفير أو أنها نُسبت إليه فقط؛ هي أقوال يراد تصديرها للسوق الداخلية في البلد. لأنها أساساً، لا تهم أحداً في الخارج، ولها هدف واحد وهو اظهار السلطة أمام أتباعها، سلطة ثورية لا تلين أمام الضغوط الخارجية. هذه الصورة التي كان النظام وما زال غير قادر على أن يحققها على ارض الواقع، لعجزه وضعفه الناجم عن نهجه السياسي، الاستبدادي وما رافقه من فساد، وإفساد إداري، وأخلاقي، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وما نجم عنها من هوة واسعة بينه وبين الناس المفترض أنه يستمد مشروعيته وقوته منهم.
وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي، الذي كان الحامي والداعم الأساسي للنظام، وبدلاً من أن يجسر النظام الهوة بينه وبين الناس، بإعادته السياسة إلى مسارها الطبيعي في البلد، ليستمد حمايته وحماية الوطن من الشعب، أخذ يبحث عن مصدر جديد للحماية الخارجية.
وهكذا، فلقد مثل الأوروبيون طرفاً حامياً، وداعماً للنظام منذ سقوط الاتحاد السوفياتي. ومثل النظام - الطرف الضعيف في العلاقة - ذاك الطرف طالب الحماية والدعم والرضى، وبالتالي فإن الأقوال العنترية السابقة الذكر، التي ذكرتها صحيفة "الحياة"، والمنسوبة إلى مسئول "رفيع المستوى"، تصبح أقوالاً غير قابلة لأن تُقال من تابع ضعيف وعاجز ومرهون الإرادة، إلى متبوع يقدم الحماية والدعم والمساندة، فارضاً شروطه.
أما الأوروبيون، فهم لاهثون وراء موطئ قدم في المنطقة، عاملون على خط الشراكة الأوروبية - المتوسطية، ويحتاجون إلى تبرير علاقتهم مع أنظمة شمولية استبدادية، أمام الناخب الأوروبي. إن رفع لافتة حقوق الإنسان والعمل على "نشر الديمقراطية" في دول الشرق الاستبدادية، هي لافتة تساعدهم على كسب دعم شعوبهم لسياستهم الخارجية، كما تساعدهم على العودة إلى منطقتنا بصورة ملائكة قادمة لتخلصنا من الاستبداد، كما رفعوا لافتة نقل الحضارة إلى الشرق "المتخلف" في بدايات القرن العشرين.
إن تلك التصريحات أو الأقوال التي نسبها مسئول رفيع إلى السفير سليمان حداد، وبغض النظر إن كان نسبها صحيحاً أو تزويراً، فإنها تصريحات غبية، وجاهلة، ومضللة، وغير مسئولة.
وهي غبية لأن المسئول الرفيع، يطالب الأوروبيون باتخاذ موقف موحد من الجميع (جميع دول المنطقة) بإشارته إلى حدثين متشابهين حصلا في سورية و"إسرائيل" (حسب زعمه)، ويزعم أو الأوروبيين ولجان الدفاع عن حقوق الإنسان قد كالوا بمكيالين مختلفين بتعاملهم مع القضيتين المتشابهتين. وهاتان المسألتان هما: اعتقال ومحاكمة الأفاضل العشرة في سورية، واعتقال وإحالة المناضل مروان البرغوثي في فلسطين المحتلة إلى المحكمة. وبالتالي، فإن منطق الاحتجاج يقود إلى أن المسئول الرفيع يطالب الأوروبيين ولجان الدفاع عن حقوق الإنسان بالتعامل على قدم المساواة، مع النظام السوري و"إسرائيل" بخصوص هذا الموضوع، أي أنه يقول إن العلاقة ما بين النظام والشعب في سورية شبيهة بالعلاقة ما بين إسرائيل والفلسطينيين (أي استعمار)، فهل هذه حقيقة قناعات المسئول "رفيع المستوى" ومشاعره؟ وبالتالي فطالما نحن متشابهان، فلماذا لا تقدمون رسائل اعتراضكم الى اسرائيل كما تقدمونها لنا؟!
لقد كان الأجدر بهذا الحكيم الرفيع أن يقارن علاقة نظامه مع الأفاضل العشرة بعلاقة النظام الإسرائيلي مع المناضل عزمي بشارة. فعلى الأقل، إن عزمي بشارة يحمل رسمياً الجنسية الإسرائيلية!
كما أنها تصريحات جاهلة، لأن المسئول الرفيع، يجهل أو يتجاهل نشاط الأوروبيين، ومنظمات حقوق الإنسان، ونشطاء المجتمع المدني في أوروبا، في مجال الدفاع عن الإنسان الفلسطيني، وهو يتعامى عن رؤيتهم كيف كانوا يدافعون عن محاصَري كنيسة المهد، ومقر الرئيس الفلسطيني بأجسادهم، معرضين حياتهم للخطر، في الوقت الذي كان فيه ذاك المسئول الرفيع مع أترابه يتنعمون بما اختلسوه من جيوب مواطنيهم. وإن أراد هذا المسئول الرفيع أو غيره من المسئولين الأرفع أو الأقل رفعاً، أن يعرفوا شيئاً عن نشاط هؤلاء النشطاء في سبيل الإنسان الفلسطيني وغيره من الشعوب المستضعفة، فإن صفحات الإنترنت مليئة بأخبارهم وأعمالهم، وإن تسنى للمسئول الرفيع الاطلاع على ذلك، فعسى أن يشكل ذلك الاطلاع مانعاً لجهله في مرات لاحقة من أن يدلي بتصريحات شبيهة.
وهي تصريحات مضللة، لأنها تدّعي أن المسئولين السوريين لا يتدخلون في عمل القضاء بسبب استقلاليته. ونحن نعتقد أن:
- قضاء يحجز حرية مواطنين أحرار - يطالبون سلمياً وبالكلمة وعن طريق الدعوة للمصالحة الوطنية، بتحسين ظروف البلاد والنهوض فيها - لفترة طويلة حتى قبل البدء بمحاكمتهم، هو قضاء غير مستقل.
- قضاء يصدر أحكاماً جائرة بكل المقاييس على مواطنين، بعد أن اتهمهم وأدانهم مسئولون في السلطة التنفيذية والأمنية، قبل أن يكونوا قد عرضوا على محكمة، هو قضاء غير مستقل.
- قضاء يعقد جلساته خلف أبواب مغلقة مدعياً العلنية لمجرد وجود محامين هو قضاء غير مستقل.
- قضاء يصرح رئيسه بأنه ليس مسئولاً عن السجناء الذين يحاكمهم، خارج مبنى المحكمة، هو قضاء غير مستقل.
- قضاء يستدعي شهوده بسرية للإدلاء بأقوال ملقنة لهم، مع عدم الإفصاح عن هوية الشهود، هو قضاء غير مستقل.
- قضاء يرفض دعوة شهود النفي بحجة أن مجيئهم لن يعدل في الأمور شيئاً، هو قضاء غير مستقل.
- قضاء، يطرد فيه "القاضي" محامياً من قاعة المحكمة، ويهدده بالعمل على حرمانه من العمل في سلك المحاماة هو قضاء غير مستقل.
- قضاء، كل من يعمل في سلكه متحزب لحزب السلطة، لا يمكن أن يكون قضاء مستقلاً.
وإن تشبيه ذلك القضاء، بالقضاء الأوروبي، لا يمكن أن يكون مقبولاً من أحد، إلا إذا كان ذلك التشبيه، كتشبيه ذلك البخيل - الذي اعتاد أكل مرميات بائعي الخضار في الشوارع في نهاية يومهم - بالكرماء، وعندما تناول تفاحة نظيفة، أصابه تسمم ووفاة، لعدم قدرة معدته على هضم الطعام النظيف!
وهي تصريحات مضللة، لأنها تريد إقناع المواطنين بأن الأفاضل العشرة يواجهون احكامهم بالسجن عقوبة لهم على خرقهم للقوانين. في نفس الوقت الذي نرى فيه، منذ 30 عاماً حتى الآن، أن منتهكي القوانين والمستخفين بالدستور أبي القوانين هم من علت مراتبهم، وتحسن شأنهم، ولا أدل على ما نقول من الظروف التي عاشها أولئك الذين حافظوا طوال تلك السنوات على سيادة قانون الطوارئ والأحكام العرفية، ضاربين بعرض الحائط ما يمثله القانون ويعنيه، محولين إرادتهم الشخصية إلى قوانين. أولئك من يجب أن يُحاكَموا بتهمة خرق القوانين، وليس الأفاضل العشرة الذين كانوا يطالبون باحترام الدستور والتقيد بالقوانين.
وهي تصريحات غير مسئولة، لأنها تطالب الأوروبيين بالتحرك ضد الجرائم التي يرتكبها الإسرائيليون في فلسطين، في الوقت نفسه الذي يجنح سعادته وكل السعادات الأخرى في العالم العربي، للاسترخاء، والراحة.
كيف يجرؤ ذاك "الرفيع" على أن يطالب الأوروبيين باتخاذ موقف ضد الجرائم الإسرائيلية في فلسطين، في نفس الوقت الذي يتجاهل فيه حتى الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق شعبنا في الجولان؟ وكيف يمكن بنظره أن يساعد الأوروبيون البرغوثي وغيره، في وقت تلهث فيه "رفعته" لإرضاء أمريكا (أي إسرائيل) عن طريق تقديم كل ما لديها من معلومات أمنية تحت لافتة محاربة الإرهاب؟
على كل حال، فإنني أعتقد، أن على هذا "المسئول الرفيع" أن يتوقف عن إطلاق التصريحات لمراسل صحيفة "الحياة"، ويتنازل عن هذه المهمة لمسئول أرفع منه، لأنه في الحقيقة يدلي بتصريحات مخجلة.
كما أنني أرجو من السيد عضو مجلس الشعب (ممثل الشعب) السيد منذر موصلي أن لا يعمل على تحويل ذلك المسئول إلى القضاء بتهمة دعوة جهات أجنبية إلى مساواة السلطة الإسرائيلية بالنظام السوري، كما وإهانة القضاء السوري عن طريق تشبيهه بالقضاء الأوروبي. فإنه لا يقصد ما قال، وهو لا يعدو كونه زلة فكر، و"العفو عند المقدرة من شيم الكرام".
__________
* كاتب سوري - كندا