|
بين الجنس الأدبي والجنس الآدمي (تحليل عنوان -أحلام تمد أصابعها-)
سعيد بودبوز
الحوار المتمدن-العدد: 3816 - 2012 / 8 / 11 - 01:50
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
سعيد بودبوز/مكناس-المغرب
تمهيد:
حين أدخل قلعة النص الحكائي، أفضل أن أظل صامتاً متأملاً إلى أن ينطفئ نور النهار، ويشتعل ظلام الليل، وينام الجميع..حينئذٍ أقوم من مكاني، وأنطلق عبر الدهاليز، والأنفاق، والسراديب، الموجودة، والممكنة في تلك القلعة، بحثا عن الأشباح الإيحائية والأرواح الرمزية. إن بداية التحليل أثناء النهار، لا تسمح لي دائما بالتقاط كل ما تم الخوض فيه، ولكن بعد أن ينتهي الجميع في أعماق النوم، يبدأ عملي. لا أريد أن أسمع الأصوات التي أدرسها أثناء هذه، أو تلك الدراسة، بل أفضل أن أصغي إلى ذاتي.. يجب أن ينطفئ الجميع، وأشغل ذاتي، فأتركها تستعرض تلك الأصوات والشخوص واحدا تلو الآخر. لأنني لا أنسى، في كل الأحوال، بأنني يجب أن أكون صاحب هذه الدراسة. لم يعد يهم ماذا فعل شهريار، بل كيف قيمت أنا أفعاله، وإلا فلا حاجة أصلا للاطلاع على دراستي هذه. لا أحب أن أفرد تحليلا للنص المدروس بين يدي في لحظة معينة فحسب، بل أحب أن يكون هذا التحليل خطوة، ولو ذات المليمتر الواحد، نحو فهم النص الأدبي عامة، والنص السردي، أو الشعري خاصة. إنني لا أدرس النص الأدبي من أجل العطاء فحسب، بل أدرسه من أجل الأخذ أيضا، لأنني بكل بساطة أستفيد من نفسي، قبل أي شخص آخر. إذا كنتَِ تفهم (ين) في الحاسوب، فإن دراستي هذه لن تكون بمثابة البرمجة بلغة "الهتميلHTML "، على سبيل المثال، بل أريدها أن تكون بمثابة محاولة للمرور إلى لغة الكهرباء التي تسري في شرايين "الترانزيستورات" بشكل مباشر. لهذا، أرجو من القارئ ألا ينتظر مني دراسة مركزة على إبراز الملامح الجمالية، أو ما شابه، فأنا أحب أن أطلق العنان لآلة التحليل بصرف النظر عن هذه الأمور. وأستغل هذه الفرصة كذلك لأقول بأن معياري في انتقاء النص الأدبي القابل للدراسة والتحليل، بالنسبة إلي، ليس هو مدى جمالية هذا النص بالضرورة، بل يتعلق الأمر بقدرته على كشف الملامح التي تدخل في تشكيل النموذج الدلالي العام الذي يجعل دراسته لذيذة، عميقة، وقادرة على أن تحمل إضافة ما إلى المكتبة النقدية، أو هذا ما أزعم على الأقل. أقول، بعبارة أخرى، أن الأمر يتعلق بمدى قدرة هذا النص على نزع ثيابه، حين يقتضي الأمر ذلك، حتى أتمكن من رصد تفاصيل عورته، لأنني لا أحب التوقف عند مستوى الثوب فحسب. وكذلك؛ يتعلق الأمر بقدرتي أنا على استخراج هذه الملامح، وإعادة تركيبها في شكل ذلك النموذج الدلالي. فإذا توفر هاذان الشرطان، فلا شيء يمنعني من دراسة العمل الأدبي، بغض النظر عن مؤلفه واتجاهاته، أو جنسيته، أو دينه، أو ما شابه. ***
مدخل إلى التحليل:
على غرار الملِكَين؛ إزابيلا وفردناند، اللذين قادا حملتهما العسكرية المؤدية إلى سقوط غرناطة سنة 1492 ميلادية، انطلقت الشاعرة التونسية فاطمة بن محمود، والقاص المغربي عبد الله المتقي في حملتهما السردية بعنوان "أحلام تمد أصابعها"[1]سنة 2012 صوب قصر شهريار ليعيثا فيه حكياً مفتوحاً على مصراعيه..حكياً ضروساً لا هوادة فيه. إلا أن هذه الحملة الحكائية حملة ورقية لا تسفك فيها الدماء، بل يسفك فيها المداد عوضا عنها. لئن قلنا بأن هذه النصوص يسود عليها نوع من الحكي الاقتطافي، الهامس، الخاطف والوامض، على مستوى سطحها، فإن فوهة السرد المصوبة على جبين شهريار في العمق، من خلال إحدى نوافذ "الحلم" المطلة على حياته الخاصة، لابد أن تنال منه ومن محظيته العجيبة والمفضلة شهرزاد. من هنا يمكننا القول بأن هدوء هذه النصوص، ووداعتها الظاهرة، موجهان إلينا كمتلقين، وليس إلى قصر "ألف ليلة وليلة" الذي تعمل قنبلة "أحلام تمد أصابعها" على تفكيكه، في الواقع، وإسقاط سقفه على رؤوس شخوصه، إن بشكل أو بآخر، انطلاقا من منصة فنية تستهدف، على وجه الخصوص، تفكيك شخصية المدعو شهريار باعتباره ظاهرة ذكورية عربية بكل المقاييس. لقد أخذ سارد هذه الأحلام، التي تمد أصابعها، على عاتقه تقويل المركب الشهرزاري[2] ما لم يقل، بل جعلاه يهذي على هوامش الحكايات، فلا هو استمع إلى شهرزاد حق الاستماع، ولا هو استمتع بالحكاية حق الاستمتاع، إذ يبدو أنه استل إفلاسه المبين من غمده، وراح يهش على بنات أفكاره التي تحولت إلى حفيدات هلوسته في كثير من المرات والممرات التي تتخلل بلاط "ألف ليلة وليلة". فاطمة بن محمود تقود ميسرة هذه الحملة السردية، وعبد الله المتقي يقود ميمنتها، كما هو واضح من خلال وضعيتي اسميهما وصورتيهما على غلاف الكتاب، وهو ما يجعلنا نضحك قليلاً، إذ يبدو لنا وكأن خدي شهريار بين صفعتين مطبقتين في آن واحد، فأحدثتا ألماً بالنسبة إليه، لكنهما أحدثتا تصفيقة موفقة بالنسبة إلينا كمتلقين..كأن شهريار وقع في ورطة بين المطرقة والسندان الأدبيين، إن شئتَِ. هي ورطة وقع فيها من حيث لم يتوقع، إذ انخسف الليل تحت قدميه فجأةً، وأفضى به إلى فضاء ثالث، إضافة إلى الفضائين الزمنيين اللذين طالما اشتغل فيهما ذكراً جبَّاراً، وهما "الليل والنهار". سأتحدث لاحقا عن هذا الفضاء الثالث. إنني لا أمزح كما قد يتصور القارئ، بل أتحدث عن مؤامرة سردية من الصعب أن أقرأها خارجاً عن سياقها، والاكتفاء بالقول أنها مجرد صدفة أو لعبة. هي حملة لا شك أنها تستهدف تفكيك "شهريار" الذي يمكن اعتباره رمزاً قوياً للهيمنة الذكورية، خاصة في هذا العالم المغاربي أو العربي. فلقد شاءت الأقدار الحكائية، في قصر "ألف ليلة وليلة"، أن يكون شهريار ملكاً، وبذلك يتسنى له أن يطلق العنان لشهواته الطافح ويلها بلا قيد، ولا شرط، ولا حدود، ولا شريعة، ولا قانون، ولا هدى، ولا كتاب منير. ومن ثم يتسنى لنا، كمتلقين، أن ندرك إلى أي مدى يمكن للذكر المريض ثقافياً أن يسيطر على الأنثى لو أتيحت له الفرصة، ودون أن ننسى بأن السلطة أنثى، بشكل أو بآخر، يمكن أن يتعلق بها الطاغية بشكل مرضي لا يختلف كثيراً عن استغلال الذكر للأنثى على الأقل في هذا العالم المتخلف والغارق في الجهل. بل إن هناك طغاة يمكن أن يقاتلوا شعوبهم بشراسة لمجرد أن تتحدث هذه الشعوب عن السلطة. وما هذا القتال الشرس إلا نتيجة للخلط اللاشعوري بين السلطة والزوجة، أي أن التطاول على السلطة ما هو إلا تطاول على زوجة الطاغية. ولهذا يجب عليه أن يقاتل من أجل شرفه وعرضه !. من هنا علينا أن نكون حذرين حين نتحدث عما يتعلق بنصوص "ألف ليلة وليلة"، ليس خوفاً من الوقوع في كمين سردي، بل من أجل تحقيق أكبر إحاطة ممكنة بالموضوع. لكن يبدو أن شهريار هذا، بكل ما يمثله من مظاهر الذكورة الطاعنة في ثقافة الاستعباد والاستيماء والأنانية والعجرفة والنزوع اللارحمة فيه نحو البهائمية، قد تعرض لتلك المؤامرة السردية الساخرة من قبل هاذين الكاتبين المغاربيين اللذين اتفقا على أن يقودا نصوصهما المتحدة ضد جلالته المتربع على عرش "ألف ليلة وليلة". إذا كانت قوة شهريار سردية ورمزية بالدرجة الأولى، فإن هذه النصوص المتحدة لفاطمة بن محمود وعبد الله المتقي تستهدف كذلك البنية السردية لهذا الرمز الذكوري البهائمي الذي كان يحمل عقله في عضوه التناسلي بكل بساطة. سنتوقف هنا لدراسة هذا العنوان "أحلام تمد أصابعها"، وطبعاً سيتم ذلك في إطار علاقته بعنوان "ألف ليلة وليلة" باعتبار النصوص التي تحملها مجموعة "أحلام تمد أصابعها" بمثابة ردة فعل على فعل حكائي أصلي تحمله مجموعة "ألف ليلة وليلة" في طيتها الحكائية، وذلك من خلال التناص القائم بينهما. ***
تحليل عنوان "أحلام تمد أصابعها"
لمقاربة هذا العنوان، من المفيد أن نشير إلى بطاقة الهوية الأدبية المكتوبة على غلاف الكتاب، وهي كما يلي:"نصوص مفتوحة". إذا كانت هذه الإشارة تخرج النص من قيوده التجنيسية، لتجعله مفتوحاً، وهو كذلك، فإن تنكير "الأحلام" (التي تدخل في تشكيل العنوان) ما هو إلا امتداد لهذا المشروع؛ فما تحمله البطاقة المذكورة لا يخبرنا بجنسية النصوص التي نحن على وشك الشروع في قراءتها، وكذلك لا نعرف ما هي الأحلام التي تمد أصابعها. إذا كان من الممكن أن يكون النص شعريا نثريا وسرديا ومسرحيا في آن معاً، فإن هذه الأحلام كذلك يمكن أن تكون أية أحلام، ما دامت غير معرفة وغير محددة. وكذلك الأصابع، ليس هناك ما يحدد طبيعة وهدف مدها؛ فقد تكون إشارة إلى تحديد أشخاص معينين، وقد تكون أصابع اتهام، وقد تكون ممدودة من فراش النوم لتتحسس ما أمكن من محسوسات المحيط، وقد تكون أصابع هذا الكتاب الممدودة إلى القارئ، و لسان حاله يقول له: "اقرأني، فرغم أنني صغير الحجم، إلا أنني كبير المتعة"، وهنا، قبل أن أواصل، ينبغي أن أكون صادقا مع نفسي، ومع القارئ، بتكرار ما قلته في كتابي الموسوم بـ "مناقشة بارباروسا"[3]، فلقد قلت بأن رواية "بارباروسا" للكاتب المصري مصطفى سليمان، صغيرة الحجم، بالمقارنة مع الموضوع الكبير الذي تحاول التصدي له، ألا وهو سيرة العملاقين العثمانيين "عروج"، وأخيه "خير الدين بربروس". فالرواية التي لا تتجاوز 210 صفحة، يصعب أن تتحدث عن تينك الشخصيتين الجبارتين برأيي، أما مجموعة "أحلام تمد أصابعها"، فإنني كذلك أراها صغيرة جداً، وهذا لا يعني أنني أحب أن تكون فيما يفوق 210 صفحة، فأنا أدرك بأن كماً هائلا من الدواوين والمجاميع القصصية الحديثة لا يتجاوز 50 صفحة، لكنني أقول، وبكل مسؤولية: كان على هذه المجموعة أن تحمل من الكلمات أكثر مما هي عليه الآن، وذلك حتى يكون الكتاب على درجة لا بأس بها من الهيبة و الجدية والجاذبية، خاصة وهو عبارة عن محاولة، بشكل أو بآخر، لمجاراة كتاب ضخم بوزن "ألف ليلة وليلة"، وخاصة كذلك، أنني أرى فيه إضافة محترمة إلى المكتبة الأدبية. إلا أن هذا لا يعني أنني أعتبر هذا الكتاب فاشلا أبداً، وإلا ما كلفت نفسي عناء الخوض في هذه الدراسة. أعرف وأعترف بأن العديد من القراء يفضلون الإسراع في تقليب الصفحات، وربما يملون من المكوث طويلا في صفحة واحدة، ولكن لا أجدني الآن أميل إلى ما يرضي أكبر عدد ممكن من عابري السبل الثقافية، وإنما أحاول أن أقدم تقييماً جادا لهذا الكتاب وليس عابراً على حد زعمي. فعلى كل حال، لا يمكن لعابر الكتب أن يفرق بين غثها وسمينها، إلا بناءً على انطباع عابر سرعان ما سيتبخر. المهم أنني أدليت برأيي في هذه النقطة، ولنعد الآن إلى موضوعنا، فنقول: إننا كمخاطبين، لا نعرف لماذا ولمن تمد هذه الأصابع. على كل حال، يمكن القول بأن "الأحلام" لم تأت عبثاً كعنوان، ولم ترد بكثرة على مستوى المتن كذلك عبثاً، بل إنها تدخل في تشكيل نموذج دلالي قابل للرصد والتحليل. ولكي نقارب هذه النقطة بشكل يميل بها ما أمكن نحو التحليل العلمي إلى درجة من الدرجات، من الجدير أن نقسم الزمان إلى فضائين كمياً، وإلى ثلاثة فضاءات كمياً ونوعياً. فالتقسيم الكمي يعطينا فضائين، وهما "الليل والنهار"، أما التقسيم الكيفي، أو النوعي، فهو يعطينا ثلاثة فضاءات، وهي "الليل، والنهار، والحلم". إن الاكتفاء بتقسيم الزمان كمياً يجعلنا، ويجعل الترسانة السردية، أمام نصوص "ألف ليلة وليلة"، كما تمت حكايتها على لسان شهرزاد بشكل تقليدي، دون زيادة ولا نقصان. فلقد كان الليل فضاءً للحكي، حيث كانت شهرزاد تحكي حكاياتها لشهريار، بينما كان النهار فضاءً للصمت، أو "اللاحكي" كمايلي:
لــيل + حــكاية نهار + لاحكاية
ولكن، إذا كان الأمر هكذا، أي أن الليل مشغول بتسجيل حكايات شهرزاد (في قصص ألف ليلة وليلة)، وأن النهار يعتبر نهاية لهذا الحكي، فإذن يجب تمطيط هذا الليل، وإطالته أكثر مما هو في حكايات "ألف ليلة وليلة"، من أجل أن يستوعب قصص "أحلام تمد أصابعها". إنني الآن أتحدث عن الصوتيمات الأساسية التي انبثقت منها هذه النصوص، كما تنبثق النبتة من البذرة. ولكن ما دام سارد "أحلام تمد أصابعها" قد ارتأى أن تكون إضافته نوعية، وليس مجرد كمية، وأن هذا ما تؤكده بطاقة الهوية الأدبية (نصوص مفتوحة)، فإذن لابد من البحث عن البعد الثالث لهذا الزمان الذي تم تقسيمه إلى فضائي الليل والنهار، وهذا البعد نوعي تم التوصل إليه، ليس من خلال البحث الأفقي في ثنايا الليل التي قد تكون بمنأي عن ترسانة شهرزاد الحكائية، بل من خلال بحث عمودي، ألا وهو الحفر في تربة الليل نفسه، وهذا الحفر هو بالضبط ما أدى بنصوص "أحلام تمد أصابعها" إلى فضاء "الأحلام" !. إن الأحلام إذن فضاء يسمح بإضافتين إلى نصوص "ألف ليلة وليلة"؛ الإضافة الكمية والنوعية معاً. أما الكمية، فهي تتمثل في الهيرمونات السردية التي تسري في أجسام هذه النصوص، وأما الإضافة النوعية، فهي تتمثل فيما ينتابها من مظاهر أدبية أخرى كالشعر (المنثور) الحديث الذي يشير إليه امتداد النصوص عبر الفضاء الورقي، والمظهر المسرحي الذي يتجلى في الوصف الخارجي لكائنات النص، خاصة الوصف المدرج بين قوسين، الخ. من هنا نصل إلى أن "الحلم" أو "الأحلام" تمثل الفضاء الثالث الذي شقت نصوص "ألف ليلة وليلة" طريقها إليه بقيادة فاطمة بن محمود وعبد الله المتقي. إذا قلنا بأن الأحلام (التي تدخل في تشكيل العنوان) تمثل الفضاء الثالث، فإنها، بالنسبة إلى تحليل المتن ككل، ليست سوى مظهر من المظاهر الأخرى التي تمثل هذا الفضاء (البعد الثالث)، فالأمر يتعلق برصد وتحديد العناصر النصية التي تمثل الإضافة إلى نصوص "ألف ليلة وليلة"، والتي تعطي لنصوص "أحلام تمد أصابعها" مشروعيتها النصية، وقيمتها
الإبداعية. ونذكر على سبيل المثال قول السارد: "حزم هو حقيبته...قبلها على جبهتها..ورحل صوب شهرزاد أخرى... وضعت هي أشياءها في حقيبتها..قبلت كتفه.. ورحلت صوب شهريار آخر..."[4]. فما هذا البحث (عن شهرزار آخر) إلا انعكاس لمشروع التوجه الحكائي نحو البعد (الفضاء) الثالث. ومن هنا يمكن إدراج كل من شهرزاد وشهريار "الآخرين" في خانة "الأحلام"، التي تقابلها "اليقظة" وليس في خانة "الليل" الذي يقابله "النهار". لنلقي نظرة على ما يلي:
(1) شهرزاد أولـى + لـيل = (+ حكاية) ــ (ألـف ليــلة وليــلـة) شهرزاد أخرى+ حلم = (+ حكاية) ــ (أحلام تمد أصابعها)
(2) شهريار أول + ليـل = (+ حكاية) ــ (ألـف ليـــلة وليــلـة) شهريار أخر + حلم = (+ حكاية) ــ (أحلام تمد أصابعها)
لقد قلنا بأن هناك مؤامرة سردية تحاك في القصر ضد شهريار، وفي هذا الصدد يقول السارد: "بعد أن تترك حكايتها مشدودة إلى ليلة قادمة تندس شهرزاد في فراشها وتفتح نافذة حلمها على فارس مثل التي زوجته في القصة إلى ابنة الوزير لم يكن شهريار على علم بنافذة الحلم تلك. (غير السارد !)"[5]. لأن هذه النافذة ليست نافذة في جدار المكان، ولا في جدار الزمان، بل هي نافذة في الجدار "السيكوفني" الفاصل بين الزمكان واللازمكان، وهي البوابة التي تفضي بالحكاية إلى الفضاء الثالث الذي نتحدث عنه. إن السارد يشبه الجني الذي يختبئ في شقق الجدران، فهو يستغل ذلك الحيز الزمني، المشار إليه في قصص ألف ليلة وليلة بالجملة المتكررة "فأدرك شهرزاد الصباح وسكتت عن الكلام المباح"، ليفتح نافذته السحرية في ذلك الجدار الواقع بين "ألف ليلة وليلة" و"أحلام تمد أصابعها". ففي هذه الأحلام (كمقابل لليقظة) تستطيع شهرزاد أن تتنفس حريتها التي يبدو أنه من الصعب تنفسها في فضاء الليل (كمقابل للنهار) الذي يسيطر عليه شهريار، ليس في قصره فحسب، بل كذلك في مجموعة "ألف ليلة وليلة" كظاهرة سردية. إذن، يجب تحرير شهرزاد بنفس السلاح الذي يهددها ويجعلها معتقلة في قصر شهريار كواحدة من محظياته التي يمكن، في أية لحظة، أن يذبحها بمجرد أن تُشبع نزوة من نزواته المكلفة جدا، والتي لا تنتهي. السلاح هنا هو السرد. فكل ما يلزم لتحرير شهرزاد يتم تسريبه (تسريده) عبر نافذة الحلم (السردية/الرمزية) تلك. وما دام الاستعباد هنا قد اكتسى طابعا جنسيا، فهذا يعني أن حرية شهرزاد يكفي أن تكون جنسية، ولهذا تمثلت هذه الحرية في ذلك "الفارس". وهي نقيض الاستعباد الذي يمثله شهريار، فهذا الأخير عبارة عن استعباد مبين يمشي على قدمين. وهكذا نستطيع أن نتدرج من العبودية إلى الحرية بهدوء، وبلغة جنسية، إلا أن هذه اللغة لا تنحصر دلالاتها على ما هو جنسي فقط، في عمقها، بل تتجاوز ذلك إلى قضايا إنسانية أخرى؛ فما هذا الفارس المذكور إلا رمز لتحرر شهرزاد. وما الحلم إلا رمز للأطروحة الجديدة في فن التحرير، وهي الأطروحة المثقلة بما توصلت إليه البشرية في مجال حقوق الإنسان، وخاصة المرأة، وعلى الأخص المرأة المغاربية أو العربية. وما شهريار إذن، إلا رمز للطغيان الممتد جحيمه مما هو نفسي (المرض الذكوري) مرورا بما هو اجتماعي (قمع المرأة)، وانتهاء بما هو سياسي (قمع الشعوب). "لم يكن شهريار على علم بنافذة الحلم تلك"، وإلا لكان قد اتخذ الإجراءات المناسبة لمنع شهرزاد من الأحلام. وإذا تعسر عليه ذلك، فسيمنعها من النوم، وبهذا يضمن لنفسه مزيدا من عمر الطغيان والعجرفة، ويواصل مرضه الذكوري إلى أجل غير مسمى. فهل كانت شهرزاد أذكى منه يا ترى؟ الواقع أن أطروحة التحرير هذه ليست من تأليف شهرزاد، على الرغم من كل ذكاءاتها، بل من تأليف سارد (رائد) مجموعة "أحلام تمد أصابعها". لأن نافذة هذا الحلم، لا تفضي، في الواقع، إلى الحلم باعتباره ظاهرة سيكولوجية فحسب، بل إنها تستمد قوتها، وقدرتها، على أن تكون بديلا للعبودية الشهريارية، من كونها كتابا موجها إلى الجمهور بعنوان "أحلام تمد أصابعها". إذن، فالحلم، الذي يمكن أن يكون مقابلا للعبودية في قصر شهريار، مشروط. أي ليس أي حلم، بل يجب أن يكون واحدا من الـ "أحلام" التي "تمد أصابعها". ففي هذا الحلم (الكتاب)، وليس في أي حلم، يمكن لشهرزاد، كظاهرة نسوية في عالم الشرق، أن تحظى بما يرضيها من المساواة مع شهريار كظاهرة ذكورية. فها هي، على سبيل المثال، تبدو ندا لشهريار، حيث يقول السارد: "حزم هو حقيبته...قبلها على جبهتها..ورحل صوب شهرزاد أخرى... وضعت هي أشياءها في حقيبتها..قبلت كتفه.. ورحلت صوب شهريار آخر...". أليست هذه إشارة إلى تحرر، أو تحرير، شهرزاد من كل ما يمكن أن يرمز إليه شهريار من الأمراض والطغيانات؟ إن هذه إشارة من السارد إلى أن أرض الله الواسعة مليئة بالذكور، خلافاً لما يتصور شهريار الغارق في أنانيته وجنون عظمته كغيره من الطغاة في هذا العالم. أكيد هي ليست صفعة لشهرزاد، فهذه الأخيرة تعرف بأنها لم تكن محظية شهريار الأولى، كما تعرف بأنها لن تكون الأخيرة، ولم ولن تكون الوحيدة. فمن المعروف أن الذكر كان بإمكانه أن يضاجع ما شاء من النساء في الواقع، مع أن المرأة يحرم عليها أن تضاجع أكثر من رجل واحد، ما دامت متزوجة، وهذا ليس مجرد تقاليد وعادات، بل إن الأديان، وعلى رأسها الإسلام، تعترف للرجل بحق مضاجعة ما طاب له من النساء بلا حدود، إذ حتى مقولة "أربع نساء" كحد أقصى، ليست إلا تعبير من التعابير المتعددة التي يسمح من خلالها للرجل بالعديد من النكاحات الزوجية واللازوجية، ولهذا لم يكن غريبا أن نجد المئات، وربما ألاف النساء، في بعض القصور الملكية عبر تاريخنا المجيد. إذن، فهي صفعة على خد شهريار الذي لا يمكن أن يرضى بأن يقاسمه أحد محظيته شهرزاد ولا غيرها، لكن "أحلام تمد أصابعها" سمحت بذلك رغما عن أنف شهريار. يمكن أن نلمس مظهر الفضاء (البعد) الثالث كذلك في قول السارد "ألف ليلة وليلتان تمد أصابعها"[6]. فبكل بساطة، نجد أنفسنا أمام الصيغة التالية:
ليلـة + شهريار أول + شهرزاد أولـى + ليـل (ألف ليلـــة وليلــــة) ليلتان+ شهريار آخر + شهرزاد أخرى+ حلم (أحلام تمد أصابعها)
إن بطاقة "نصوص مفتوحة" لا تقتصر على إخبارنا بالقيمة الجنسية (الأدبية) لهذه النصوص، بل تخبرنا كذلك بأنها مفتوحة بكل معنى الكلمة، فهي مفتوحة من حيث مفاصيل الزمان، أي التداخل بين الماضي والحاضر أيضا كقول السارد: "في مدخل الحكاية: كانت بغداد تبدو جميلة في منتصف الطريق: عندما رأى شهريار سيارات المارينز تستريح تحت نخيل العراق الشاهق أجهش بالبكاء"[7]. فهذا يعني أن السارد يحاول أن يعيث فسادا سرديا مبينا في حكايات ألف ليلة وليلة، وذلك من خلال تطويقها انطلاقا من عدة محاور، وجرها من حيزها الزمني الماضي إلى حيز الحاضر المطلق. لو تأملنا هذا المقطع جيدا، سنلاحظ بأن مشهد اختراق الزمان الماضي والقفز إلى الزمان المعاصر حيث "المارينز..الخ" لم يحدث فجأة، بل سبقته إشارة تمهيدية خافتة ودقيقة، تتمثل في قوله "في مدخل الحكاية". فهذا يعني أن مشهد الاختراق لم يحصل بشكل مطلق، وإنما حصل حصريا، وبالتحديد، "في مدخل الحكاية". إذن، يبقى أمامنا أن نبحث عن طبيعة وماهية هذه الحكاية، وماذا يميزها عن غيرها من الحكايات. إن هذه الحكاية ما هي إلا واحدة من حكايات (أحلام تمد أصابعها)، وهنا أشعر بأنه يجب أن أوضح بشكل دقيق ماذا أقصد، حتى لا يختلط الأمر على القارئ، فيظن بأنني كنت بحاجة لإجراء عملية البحث المذكور أعلاه لكي أكتشف بأنني أدرس مجموعة "أحلام تمد أصابعها". إلا أنني، في الواقع، أتحدث عن مسألة أعمق من ذلك. فحين أقول: "إن هذه الحكاية ما هي إلا واحدة من الأحلام التي تمد أصابعها،" فإنما أعني أن السارد يشير، حتى دون أن يشعر، إلى أن الاختراق الزمني لم يحصل في أية حكاية، بل حصل في هذه الحكاية التي يقصها علينا، ووفقا لمجموعة من ألوان التحرير والتحرر، التي تبدأ بتحرير شهرزاد، مرورا بتحرير الحدث من القيد الزمني، وتحرير النص الأدبي من القيد التجنيسي، وهلم جراً. هذا ولا ننسى بأن الحكاية، من حيث هي نص ورقي، مفتوحة على نصوص لحمية جسمية، ففي إشارته إلى ذلك يقول السارد: كانت تحكي له وهو على فراش المرض بمشفى القصر: "كان حتى كان في سالف الأحقاب والأزمان..." يشير إليها شهريار بالصمت، ثم همس لها: "أنت الحكاية يا شهرزاد""[8]. فهذا الصوت لا يمثل شهريار، بل يمثل السارد الثاني الذي انتقل في هذه النصوص من سرد ما حكته شهرزاد لشهريار، إلى سرد شهرزاد وشهريار ذاتيهما. أعني انتقلت الكاميرا من تصوير الشخوص والأحداث التي كانت تحكيها شهرزاد، إلى تصوير شهرزاد بأدق ما يمكن من تفاصيل الاحتمالات التي تحوم حولها. إن هذا المقطع يتضمن إشارة واضحة إلى ما يحكم هذه النصوص من المزج بين ما هو جنسي، وما هو حكائي، كنتيجة للمزج بين المرأة والحكاية. ولكن، لم يكن شهريار التقليدي من قال لشهرزاد "أنت الحكاية يا شهرزاد"، ولم يتم ذلك في فضاء "ألف ليلة وليلة"، بل قال ذلك شهريار بإيعاز من السارد الذي سكن جثته غصبا، وفي فضاء "أحلام تمد أصابعها". ففي هذا الفضاء الجديد، لم يعد شهريار هو مركز العالم، بل أخذ ينزلق شيئا فشيئا عن الواجهة، ليغدو شخصية هامشية يمكن الاستغناء عنه في أية لحظة، فهاهي "شهرزاد تواصل السهر في غياب شهريار... كانت تراقب خادمة تداعب قطة بيضاء.. و..خادما سكران يكلم زجاجة نبيذ رخيص.. ابتسمت، وقررت حينها تعديل حكاياتها.. لأن الحلم هنا..."[9]. فكأن شهريار كان قد لبس الحلم المقرر ممارسته في هذه الليلة، ولكن بما أن الخادم موجود، فقد يفي بالغرض، أي قد يصلح أن يلعب دور الحلم المتوخى ممارسته من طرف شهرزاد..إذ يبدو أن جو القصر بات خالياً إلا من خادمة (وهي أنثى مثل شهرزاد) والخادم السكران الذي لا يتطلب التفاعل الممكن معه إلا تعديلا في الحكاية، ما دام حلماً، والحلم، كما أسلفنا، يعني الفضاء الثالث. هنا يتحول فعل الحكي إلى فعل جنسي، وهو ما يساوي تحول الحكاية من فضاء الليل إلى فضاء الحلم من جهة، ويساوي تحولها من وضعيتها الأصلية إلى ما أصبحت عليه في نصوص "أحلام تمد أصابعها". أن تحكي، يعني أنك تمارس جنساً أدبياً. وأن ينفتح هذا الجنس الأدبي على الجنس الآدمي، يعني أن يتحول الحكي إلى فعل جنسي. إن قول السارد "شهرزاد تواصل السهر في غياب شهريار"، يمكن اعتباره تمهيدا لتجسد الحلم في الخادم. فما دام هذا الأخير حاضرا، فإن "الحلم هنا"، حتى وإن كان شهريار غائباً. لماذا "قررت حينها تعديل حكايتها"؟ يأتي التعليل بقول السارد "لأن الحلم هنا"، فلو لم يكن الحلم هنا إذن، ما كانت هناك حاجة لتعديل حكاياتها. ومن هنا تنفتح أمامنا نافذة تفضي بنا إلى الشبكة الدلالية والرمزية العامة التي تحكم هذه النصوص، إذ نلاحظ بأن تعليل التعديل بوجود الحلم يصب فعلا في مقولتنا أن "الأحلام" تمثل الفضاء الثالث لحكايات "ألف ليلة وليلة". إن قول السارد "قررت حينها تعديل حكاياتها"، وإن كانت له وظيفة صغرى تتمثل في تصويب رغبة شهرزاد على الخادم السكران، إلا أنها تؤدي وظيفة كبرى أيضا، وهي،كما أشرنا، وظيفة توجيه "ألف ليلة وليلة" نحو "أحلام تمد أصابعها". ولكي نضع خطوة أخرى في اتجاه الاستيعاب الجيد لهذه المسألة، فلنستحضر العنوانين لحظة كما يلي: ألف ليلة وليلة ← أحلام تمد أصابعها فبغض النظر عن التفاصيل المعقدة، نلاحظ بأننا أمام صيغتي الجمع: الليالي ←الأحلام إن الانتقال من "الليل" إلى "الحلم" هو حركة في مسار عمودي، فيها يتحقق الانتقال النصي الكيفي، بخلاف الانتقال من "الليل" إلى "النهار"، والذي هو عبارة عن حركة في مسار أفقي. إن الحلم إذن، بمثابة جواز سفر في مسار عمودي، يسمح لأحداث "ألف ليلة وليلة" بمجموعة من التحولات الفانطازية، وغير ذلك من مظاهر التداخل والتخارج بين التقليد والتجديد. لأن الحلم ظاهرة سيكولوجية خصبة، تسمح بتمرير أغرب مشاهد، وليس الغريب هنا إلا ما هو جديد على ساحة "ألف ليلة وليلة"، وهو الجديد الذي يقوم على نفخ الروح في الحكايات، وتحويل المداد الذي يسري في شرايينها إلى دماء، والعكس أيضا صحيح، إذ يتم تحويل شخصية شهرزاد إلى حكاية، وهو ما يعني تحويل الدماء إلى مداد. "يقضي يومه على قلق متى يشرق الليل..بسواده حتى يرتاح على سرير الحكاية و..وسائد الحلم."[10]. حين تصبح الحكاية مشبوهة، وحين يكون بمقدورها أن تدل على فعل جنسي مثلاً، يتحول تلقائيا ما ينطبق على النهار المعتاد إلى الليل، والعكس صحيح. فكما نرى أن الليل يشرق، وبسواده أيضا، هذا السواد الذي أصبح مستساغا، مادام يكتنف ممارسة الحكي (الجنس الأدبي + الآدمي). ولكن يبدو أن شهريار لن "يرتاح على سرير الحكاية"، إلا إذا كانت هناك "وسائد الحلم". وبهذا يصبح شهريار "ألف ليلة وليلة" على تخوم شهريار "أحلام تمد أصابعها"، وهو شهريار آخر كما سلفت بنا الإشارة إلى ذلك. فبفضل "وسائد الحلم"، سيتمكن شهريار من الغروب عن وجه الليل، والولوج إلى عالم الأحلام، وهو ما يعني الغروب عن وجه الزمان والولوج إلى عالم الأبدية، أو الغروب عن وجه "ألف ليلة وليلة"، والولوج إلى عالم الـ "أحلام تمد أصابعها"، فيبدو أن هذه الأخيرة تمد أصابعها إليه، ودون أن ننسى بأن السارد الذي تحول إلى شيطان يبدو أنه منكمش داخل وسادة، ومستعد لاختطاف يقظة شهريار، بمجرد أن يستلقي هذا الأخير على سرير الحكاية. لعل القارئ لم يستوعب جيدا ما أقصد بقولي " الغروب عن وجه الزمان والولوج إلى عالم الأبدية". إن الإشارات، التي تحملها نصوص "أحلام تمد أصابعها"، إلى اختراق الحدود الفاصلة بين الماضي والحاضر، ما هي إلا مظهر من مظاهر الخروج بالنص من فضاء الزمان إلى فضاء الأبدية، وهو ما يوازيه الخروج به من المحلية إلى الكونية، أو من مفهوم الشخصية الفيزيائية المفترضة، إلى شخصية فانطازية، دون أن ننسى حديث السارد عن "شهريار آخر وشهرزاد أخرى" الخ. "كانت ترى فيما يرى النائم: (امرأة تفرش حكاياتها لشهريار) خرجت من الحلم مذعورة وأسرعت تتفقد بارتباك صندوق حكاياتها"[11]. إن هذا المقطع ليشير إلى نوع من امتناع حكاية اليقظة عن الانحكاء أمام شهريار، بينما تبدي حكايات الحلم كامل استعدادها للانحكاء، بل والانفراش أيضا، أي تقمص القابلية لتحويل الحكي من فعل جنسي- أدبي، إلى فعل جنسي- آدمي. ومن جهة أخرى، نلاحظ بأن تفقد شهرزاد لصندوق حكاياتها يعني أنها محكومة بمنطق يسمح لها بافتراض أن الحكايات التي تفرشها "تلك المرأة" في الحلم لشهريار، يمكن أن تكون قد تسربت من فضاء اليقظة إلى فضاء الحلم. هذا من الناحية السيكولوجية، أما من الناحية التحليلية النقدية التي نتوخاها الآن من خلال هذه الورقة، فهو يعني افتراضها بأن تلك الحكايات يمكن أن تتسرب من فضاء الليل إلى فضاء الحلم، ولذلك "أسرعت تتفقد بارتباك صندوق حكاياتها". "قال لها شهريار مازحا: "أحبك كما علاء فانوسه السحري" "تعالي..تعالي" وحين رأت لعابه ينحدر من شفتيه... نامت معه ليلتها في غرفة مظلمة.. (كتبت على جدار أحلامها كل حكايات الغرام إلا حكاية غرامه)"[12]. لماذا كانت هذه الغرفة مظلمة؟. الجواب: أن هذا الظلام جاء من أجل أن يخفي اللعاب المنحدر من شفتي شهريار !. وفي هذا سخرية هامسة. لكن حين ننزل إلى قاع النص، نجد بأن هذا "الظلام" كان أيضا تمهيدا رمزيا لامتناع شهرزاد عن الخوض في حكاية شهريار الغرامية. إذن، فإن قول السارد "نامت معه في غرفة مظلمة" ينذر بحمولة قوله " كتبت على جدار أحلامها كل حكايات الغرام إلا حكاية غرامه". صحيح أنها نامت معه، ولكن هذا النوم لا يدل بالضرورة على (تواصل جنسي)، بقدر ما يدل على توجه الاثنين إلى فضاء الحلم (الفضاء الثالث). إنه استجابة لنداء الأحلام التي "تمد أصابعها". تلك الأحلام التي تقول لهما بصوت خافت: هيا، اخرجا من (ألف) ليلة (وليلة)، وانضما إلينا نحن معشر الأحلام التي تقودها فاطمة بن محمود، وعبد الله المتقي. النوم، هو نتيجة تنويم سردي مغناطيسي، قادر على استنطاق شهريار وشهرزاد مجددا، واستحكائهما ما لم يخوضا في حكيه طوال ألفيتهما الليلية. نعم، هذا النوم لا يدل على تواصل جنسي بين شهريار وشهرزاد، إذ يؤكد السارد ذلك بقوله "(كتبت على جدار أحلامها كل حكايات الغرام إلا حكاية غرامه)" فما هذا التكليل (من كل) إلا مبالغة يراد منها توكيد الاستثناء الذي طال قصة شهريار الغرامية، أي أن شهرزاد كان من الممكن أن تستسلم لأي عابر سرير إلا شهريار. وهذا امتدادا لمشروع التهميش الذي بدأ يلتقم شهريار التقليدي. فما فعل "كتب"، إلا مرادف لفعل "حكى" في سياق النموذج الدلالي الذي تحمله مجموعة "أحلام تمد أصابعها"، وما فعل "حكى"، إلا مرادف كذلك لفعل "ضاجع"، أو، على الأقل، "داعب" ببساطة واختصار. فحسب الجو الرمزي السائد على هذه النصوص، كان يكفي أن "تكتب قصة غرامه" حتى ندرك بأنها مارست الجنس معه تلك الليلة، لأننا الآن أصبحنا مستعدين لتلقي التزاوج القائم بين الجنس الأدبي والجنس الآدمي. إن الفضاء الثالث هو الذي اكتنف تلك الخيانة الإيحائية التي ارتكبتها شهرزاد بأن كتبت كل حكايات الغرام مستثنية حكاية زوجها شهريار. فأين كتبت هذه الحكايات؟ الجواب، كما رأينا، أنها كتبتها على جدار أحلامها. إذن، فهذه هي الأحلام التي تمد أصابعها. وهي الأحلام التي تدخل في تشكيل العنوان. بل هي، في نفس الوقت، "الأحلام التي تمد أصابعها"، من حيث هي مجموعة نصوص بمثابة ردة فعل على فعل الحكي في "ألف ليلة وليلة"، كما سلف بنا قول ذلك. إن شهرزاد، بناءً على ما تقدم، لم يتيسر لها أن تكتب تلك الحكايات (الخيانات) في "ليلة" من مجموعة "ألف ليلة وليلة"، وإنما تيسر لها ذلك بعد انخساف الليل تحت قدمي شهريار، وبعد أن انفتحت في جدار هذا الليل نافذة الحلم التي سمحت لروح السارد الشريرة (سارد مجموعة "أحلام تمد أصابعها") بالتسلل إلى داخل القصر الملكي ليعيث فيه تخريفا وتجديفا وتحريفا لأكبر قدر ممكن من الأفعال والأقوال الحكائية التي دارت هناك. إذا كان لنا أن ندقق أكثر، فإنه حتى قول شهريار "فانوسه السحري" كان تمهيدا للي عنق العلاقة الزوجية بينه وبين شهرزاد في هذه الليلة الورقية. كيف ذلك؟ لنتأمل مرة أخرى المقطع التالي: "قال لها شهريار مازحا: "أحبك كما علاء فانوسه السحري" إن هذا التشبيه لا يخلو من الإحساس البراغماتي القائم على أن هذا الحب متعلق بالدور السحري الذي يمكن أن تلعبه شهرزاد. فيجب ألا ننسى بأن شهريار، في نصوص "أحلام تمد أصابعها"، لم يعد بخير، بل أصبح مسكونا، أي أصابه مس من السارد الشيطان المتخفى في ثنايا الظلام والأحلام التي تسيطر على معظم دهاليز القصر. إن شهريار إذن أصبح عليه ألا يكتفي بتمثيل نفسه كما كان على الأقل في حكايات "ألف ليلة وليلة"، بل عليه أن يمثل صوت السارد بشكل أو بآخر. وإذا كان الحلم وسيلة من وسائل الانتقال بنصوص "ألف ليلة وليلة" إلى مستوى "أحلام تمد أصابعها"، فإن السحر أيضا يمكن أن يقوم بنفس الوظيفة، خاصة السحر الذي ينتاب فانوس علاء الدين. هنا نستطيع أن نلاحظ (وفقا لإدراكنا المسبق لطبيعة توظيف الأضداد في هذه النصوص) بأن فعل "أحب" يمكن أن يدل على فعل "حكى" تماما كما أن فعل "حكى" يمكن أن يدل على فعل "أحب"، أو "ضاجع"، أو "داعب"، أو غير ذلك من الأفعال التي تصب في حقل الجنس. فكأنه يحبها (يحكيها) بشكل سحري (مخالف للمعتاد في قصص "ألف ليلة وليلة"، ومؤالف لغير المعتاد في قصص "أحلام تمد أصابعها"). ولكي يسوغ السارد هذا النوع من التشبيه، قال: "مازحا"، أي لا داعي لأن يكون الحب الحقيقي لشهرزاد شبيها بفانوس علاء الدين الذي لا جمال في حد ذاته، وإنما تقاس قيمته فقط بما يحققه من العجائب السحرية. لقد سبق لي أن درست أحد العناصر السحرية في كتابي الموسوم بـ "تناسخ النص"[13] وخلصت إلى أن تلك العناصر لها علاقة عميقة بانحراف أحداث النص عن سكة المألوف، ولهذا كنت مستعدا للافتراض بأن إيراد "فانوس علاء الدين" أعلاه، لابد أن يكون له تأثير دلالي في البنية العميقة للنص. "تنهدت صاحبة الجلالة...تنهدت الحكاية...ثم انفجرتا بالبكاء... ووحيدا كان شهريار يتفرج ضجرا... "شكرا شكرا لك" تقول شهرزاد "سأبحث عن جدة أخبئ أحلامي في ليلها" تهمس الحكاية وبعد سلام مقتضب...امحى المشهد..."[14]. في هذا المقطع أيضا نلاحظ مزجا صريحا بين المرأة والحكاية، وهو ما يقتضي المزج بين فعل "حكى" وفعل "داعب/ضاجع الخ". وهذا ما يضعنا أمام ضرورة إجراء قراءة تتجاوز الجنس الأدبي إلى الجنس الآدمي. وبناء على نفس المزج بين المفردات، يتحول الحلم نفسه إلى الحكي، فيصبح فعل "حكى" مرادفا لفعل"حلم" بمقتضى الشبكة العلائقية التي تدخل في تركيب هذه المفردات، على أن فعل "حلم" لم يتحول مجانا إلى فعل "حكى"، بل كان ذلك نتيجة لتحول الحكاية إلى امرأة؛ فها هي الحكاية تتحول إلى امرأة، وتهمس قائلة "سأبحث عن جدة أخبئ أحلامي في ليلها". المهم هو تحقيق نوع من التحول، أو الانزياح عن المعتاد الحكائي في قصص "ألف ليلة وليلة". فصريح القول هو "سأبحث عن جدة لأخبئ حكاياتي في ليلها". في هذا المقطع أيضا نشم رائحة التهميش الذي يلتهم شهريار، فكأن وجود هذا الأخير وحده متفرجا لم يعد يكفي شهرزاد لتطلق عنان الحكي. إنها لحظة من لحظات الثورة الخجولة على الأقل، فشهرزاد هي الحكاية، والحكاية هي شهرزاد. لقد تقاسمتا هاتين الجملتين "شكرا شكرا لك/سأبحث عن جدة أخبئ أحلامي في ليلها"، كما تقاسمتا التنهد والبكاء. إذا كان الليل وعاءً للحلم، حسب ما ينص عليه قول السارد "أخبئ أحلامي في ليلها"، فإنه سرعان ما ينتقل إلى استخدام تعبير معكوس لذلك كما ورد في قوله: "كانت شهرزاد تتوق كثيرا لليل حتى تحضنه بكل قوتها في الحلم كان شهريار يتوق كثيرا لليل دامس حتى يقتفي خطى قمر بعيد"[15]. فها هو الحلم يصبح وعاءً لليل مجددا، لكن بدل أن يتحدث السارد، هذه المرة، عن اهتمام شهريار بالليل، نجد أن شهرزاد هي التي تنتظره، مع أن الليل، في قصص "ألف ليلة وليلة"، كان يهددها بالموت، إن بشكل أو بآخر، كما سبق أن قتل العديد من النساء بسيف شهريار بمجرد أن يأخذ عذريتهن. وكانت الحكاية بمثابة الأجرة التي تدفعها شهرزاد مقابل إبقائها حية. فلقد كانت الحكاية سلاحاً يقيها شر شهريار الذي يغذيه الليل، ولكن بما أن هذه الشخصيات باتت مسكونة، ومصابة بمس من السارد الذي يعمل على تحويل قصص "ألف ليلة وليلة" إلى قصص "أحلام تمد أصابعها"، فلا بأس أن تبدي شهرزاد توقها لليل، على ألا ننسى بأن هذا التوق مشروط، ومتعلق بوضعها محتوى الليل في وعاء الحلم. وبذلك تخطف ليلة من "ألف ليلة وليلة"، وتضعها رهن إشارة السارد الذي وجد الحلم خصبا وأنسب لمختلف تجلياته الحكائية. فكأن لسان حال السارد يقول: "كانت شهرزاد تتوق لـ"ليل" من أجل أن تخوض "حلما" من الـ "أحلام التي تمد أصابعها"، وهي الوظيفة التي يتم من خلالها تحويل "ألف ليلة وليلة" إلى "أحلام تمد أصابعها". ويبدو أنه، مهما تحدث النص عن مظاهر اليقظة، فلا بد أن يترك نافذة حلم، ولو صغيرة، في أحد جدران القصر من أجل أن تتسرب من خلالها روح السارد الشريرة بغرض تحريف المعتاد الحكائي بين شهرزاد وشهريار المعروفين. وهكذا يقول السارد: "مر الزمن مهرولا ولا تزال شهرزاد في كامل أنوثتها تجيد نسج البهجة في أرجاء الليل تترك التلفزيون يسرد المسلسلات الرديئة (شهريار على الأريكة صامت) وتذهب لسرير أحلام"[16]. لم يبق من شهرزاد "ألف ليلة وليلة" إلا الاسم عائماً في فضاء النص، بحيث يمكن أن يدل على أكثر من مسماه الأصلي، فلقد أصبحت امرأة عابرة للأزمان، بحيث نجدها أمام شاشة التلفزيون، هي الأخرى، وكأنها بالفعل على علاقة سحرية بمصباح على الدين. في هذا المقطع أيضا نجد فرصة للإشارة إلى ما تتقاسمه الدلالات العامة والخاصة في قول السارد مثلا "مر الزمن مهرولا". فلا شك أن ظاهر الخطاب يحمل الإشارة إلى أن الأمر يتعلق بهرولة الزمان الفاصل بين النهار والليل الذي من المفروض أن يكون مسرحا لحكايات شهرزاد، ولكن في العمق تشير هذه "الهرولة" إلى المسافة الزمنية الفاصلة بين زمن شهرزاد، التي تتحدث عنها "ألف ليلة وليلة"، وزمن التلفزيون (عصر التكنولوجيا) الذي نزلت عليه شهرزاد "أحلام تمد أصابعها فجأة". نعم، لقد مر الزمن مهرولا من فضاء النهار إلى فضاء الليل، بفضل منطق "الأحلام"، من أجل تقريبنا من موعد الحكاية، ولكن، في نفس الوقت، مر مهرولا ليعبر مسافة (مدة) قرون، وهي المدة الفاصلة بين زمننا هذا وزمن شهريار. إذا كان الاقتصار على ذكر الليل كمسرح لهذه الحكايات في قصص "ألف ليلة وليلة"، فسرعان ما قفز السارد بشهرزاد إلى "سرير الحلم" من أجل أن تستعد لإنتاج الحكاية (الغريبة) المناسبة لنصوص "أحلام تمد أصابعها". إنها "تجيد نسج البهجة في أرجاء الليل"، ولكن هذا لا يكفي، فربما تم استهلاكه في قصص "ألف ليلة وليلة"، ومن هنا يرمز "التحاقها" بسرير الحلم إلى "اتصالها" بزمان وفضاء "أحلام تمد أصابعها" !. إن "هرولة" الزمان باختصار، ما هي إلا إشارة إلى ما ينطوي عليه النص من عناصر الاستعداد للخروج من الزمان إلى الأبدية السردية إن جاز التعبير. فلو لم تكن شهرزاد من الكائنات السردية الخالدة، ما تسنى لها أن تشاهد التلفزيون، وكذلك لو لم يكن شهريار من الخالدين، ما تسنى له أن يشاهد عناصر المارينز في بغداد !. "كان شهريار[17] يغط في نوم عميق. صهلت الجياد، ليستيقظ خائفا.. "رأيتني في المنام جثة" قال شهريار "أتكون حكاياتي قد قتلته؟"[18]. هذا المقطع يحمل إشارة إلى أن للحكايات، في فضاء الحلم، قدرة أكبر منها في فضاء اليقظة. قبل أن نواصل التحليل، لنتذكر المقطع السابق الذي ورد فيه ما يلي:
"كانت ترى فيما يرى النائم: (امرأة تفرش حكاياتها لشهريار) خرجت من الحلم مذعورة وأسرعت تتفقد بارتباك صندوق حكاياتها"[19].
وها هي تتساءل ما إذا كانت حكاياتها هي التي قتلت شهريار في منامه، لأن المنام (الحلم) يمنح الحكاية بعدا أخر كما قلنا، وهو البعد الذي من خلاله تشق طريقها نحو نصوص "أحلام تمد أصابعها"، بعد أن كانت مجرد حكايات ليلية عادية في "ألف ليلة وليلة". فرغم أنه استيقظ، إلا أن لتساؤل شهرزاد، على ما يبدو، محلاً من الإعراب، ما دام الأمر لا يتعلق بشهريار حر، ولا بشهريار واحد، بل يتعلق بشهريار يمكن أن يتكاثر ويتطيف، بحيث يصبح شهريارين على الأقل، وقس على ذلك في شأن شهرزاد. وبناءً على ذلك، فإن هذا التكاثر هو الذي يعطي لتساؤل شهرزاد صبغته المنطقية. ذلك لأن تمكن شهريار من الاستيقاظ لا ينفي أن تكون إحدى نسخه قد لقيت مصرعها في الحلم على يد حكاية من حكايات شهرزاد، ولا ننسى بأن الحلم يرمز إلى الحد الفاصل بين فضاء "ألف ليلة وليلة" وفضاء "أحلام تمد أصابعها"، أو بعبارة أكثر وضوحا: الحلم هو الوسيط بين ذاته وبين الليل. إنه العنوان (أحلام تمد أصابعها) الفاصل حقيقة بين الليل (ألف ليلة وليلة) وذاته المتمثلة في عناصر المتن. "بعد هذه الخرافات المزركشة هل تزور أحلام غرفة شهرزاد؟؟؟ يتساءل الملك"[20]. إن السارد ينتاب جسد شهريار.. يستولي عليه كما يستولي الشيطان على من أصيب بمس، فيجبره إلى أن يتحدث باسمه، ويتساءل ما إذا كان هناك مزيد من العمل على استثمار "ألف ليلة وليلة" في إنتاج الحكاية المناسبة لبناء "أحلام تمد أصابعها". ما دامت قصص "ألف ليلة وليلة" قد حكيت، فهذا يعني أنها انتهت، وبات على شهريار (الذي تقمصه السارد) أن يتساءل عن مصدر أخر ممكن للحكي غير الليل، وهذا المصدر هو "الحلم" بالضبط، فالرجل يتساءل "هل تزور أحلام غرفة شهرزاد؟"، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، قد يكون تساؤله عاكسا لنوع من الغيرة مما يمكن أن تهب به رياح الحلم على محظيته شهرزاد، وهو ما يبدو أن الليل وحده عاجز عن إنتاجه، كما جرت به عادة "ألف ليلة وليلة" فيما مضى. وهكذا تبدأ صحراء التهميش زحفها نحو شخصية شهريار، حتى يتحول حضوره إلى مجرد عنصر من دعائم السخرية، فيصبح الكثير مما يحدث بينه وبين شهرزاد لا تكاد قيمته تتجاوز تذكيرها بعلاقة عاطفية ماضية، أو شيء من هذا القبيل، فعلى سبيل المثال: " عندما أهدت له أول حكاية أهدى لها أول وردة (تذكرت ليلتها في الحلم أول حبيب وأول قبلة خجولة)[21] لاحظ أن هذا التبادل العاطفي المزعوم بين شهرزاد وشهريار، والذي تجسد في (أول حكاية وأول وردة) لم يثر في نفس شهرزاد نحو شهريار أكثر من تذكيرها بعلاقة عاطفية ماضية جمعت بينها وبين "أول حبيب" لها، والذي كان له منها "أول قبلة خجولة". وزيادة على ذلك، نلاحظ بأن فضاء الليل، باعتباره المسرح التقليدي لحكايات "ألف ليلة وليلة"، تم تجاوزه أيضا في هذا المقطع، وتم استبداله بفضاء "الحلم". فكما نرى أن شهرزاد لم تتذكر أول قبلة في فضاء الليل، بل في فضاء الحلم، وهذا يتفق ويتكامل مع النموذج الدلالي الذي نشتغل على إبراز ملامحه من خلال هذه الدراسة، ألا وهو تجاوز حكايات "ألف ليلة وليلة" من خلال تجاوز فضاء "الليل"، واستبدال هذه الحكايات (الليلية) بحكايات (حلمية) "أحلام تمد أصابعها" من خلال استبدال فضاء "الليل" بفضاء "الحلم". وهذا، كما أسلفنا، يقودنا، من الناحية البنيوية، إلى الانتقال من متوالية "الليل" و"النهار" إلى متوالية "الحلم و"اليقظة". فإذا كانت اليقظة فضاءً للأحداث المنطقية المألوفة، فإن فضاء الحلم، على العكس، فضاء لللامنطق واللامألوف. ولهذا ليس غريبا أن تتضمن مجموعة "أحلام تمد أصابعها" تلك الخوارق التي من بينها تكثير شخصيتي شهرزاد وشهريار، وتحويلهما إلى كائنات عائمة، وأبدية، وكونية، لا شيء يقف أمام زحفها الرمزي. وقس على ذلك في اختراق الحواجز التقليدية القائمة بين السارد والمسرود. من هنا تحولت هذه النصوص إلى مجموعة من المشاهد يتم بثها مباشرة من زمن سحيق، ويتحول السارد إلى صحافي محايث ومعايش للأحداث عن قرب، لا بل يمكن أن يلمسه ما يلمس شخوصه من سوء، ما دام حاضرا معهم في ساحة الحكاية، وإن كان بإمكانه أن يصبح مفارقا في أية لحظة، مادام يسبح في فضاء ديناميكي خصب يمكن أن يكون منصة لأي نوع من الانطلاقات. "بأم عينيّ..رأيت ولم يكن حلما شهريار يأخذ القلم من يدي ويكتب في آخر الصفحة أنه لم يحب غيرها ........................ ولا أدري إلى الآن هل كان يعني الحكاية أم شهرزاد؟ !"[22]. مادامت المرأة يمكن أن ترمز إلى الحكاية، والعكس صحيح، فليس من الغريب أن يلتبس الأمر على السارد فيما إذا كان شهريار يحب شهرزاد، أم يحب الحكاية. لو لم تكن الاثنتان متشابهتين، وفق مقياس من المقاييس المحتكم إليها في بناء النص، ما التبس هذا الأمر على أحد. إن ما يحاول السارد أن يؤكده أعلاه، هو التداخل بين الحكاية والمرأة، وفي نفس الوقت، يؤكد بأن الحلم يمكن أن يكون فضاءً للخوارق والأعاجيب التي لا تصدق، مما يعني، بصيغة أو بأخرى، أن اللجوء إلى فضاء الحلم لم يكن خاليا من نية مدبرة، بل هو جرٌّ لحكايات "ألف ليلة وليلة" من صبغتها المألوفة (أو التقليدية المعروفة) إلى ما هو جديد، أو غريب، أو سميه ما شئت، المهم أنه يختلف عن الحكايات التي تتضمنها "ألف ليلة وليلة" شكلاً ومضموناً. الحلم في هذا المقطع حاضر، ولو على سبيل النفي. فالسارد يحاول أن يؤكد ما أثار التباسه في سلوك شهريار باللجوء إلى الفضاء الذي ينطلق منه هو في سرد هذه الأحداث. شهريار يأخذ القلم من يد السارد، ويكرس غموض حبه في آخر (صفحة) ما تمكن السارد من التقاطه من الصور الحكائية. لم يكن حلما، لأن الحلم هو الفضاء الثالث الذي يسيطر عليه السارد، ما دام يشكل بعدا (من ابتكاره) مضافاً إلى الأبعاد التي تحكم حكايات "ألف ليلة وليلة". إنه نوع من الفساد الحكائي، يقوم على مجموعة من الاختراقات، ولهذا لم يكن غريبا أن يتمكن شهريار من اقتحام الفضاء الذي يشتغل فيه السارد، والعكس أيضا صحيح، إذ يبدو أن هذا السارد استعان بما تيسر من فنون التجسس، وراح يسجل ما طاب له من التفاصيل عن حياة شهريار وشهرزاد الخاصة، دون أن يكون ساردا مفارقاً تماماً لعالم المسرودات، كما جرت بذلك عادة الفن الحكائي. إنه سارد وجاسوس في نفس الوقت. وتجعلنا هذه النصوص نتخيل بأن نهايتها قد لا تكون بخير، إذ من المحتمل أن يلقى القبض على هذا السارد في دهليز من دهاليز القصر، ونجد أنفسنا أمام فضيحة سردية ممتازة في أية لحظة أو صفحة، نظرا لما يثيره السارد من الشبهات من خلال هذا النوع من السلوك السردي. " انبعثت الليالي وأيقظت الرغبات في عالم كالافتراضي كانت الحكايات القديمة.. تئن من الشهوة وشدة الأحلام"[23]. الحكايات القديمة كانت تئن من الشهوة و(شدة الأحلام)، فهي إذن، تئن من عملية التحويل التي يقودها سارد "أحلام تمد أصابعها"، وتئن كذلك من الشهوة التي تم ضخها في هذه النصوص من خلال الترامز القائم بين الجنس الأدبي والجنس الآدمي. إذا كانت حكايات "ألف ليلة وليلة" تميل إلى الحكمة من خلال سرودها عموما، فإن ما يميز "أحلام تمد أصابعها" هو علاقة الرجل بالمرأة أساسا، وحين نتحدث عن علاقة الرجل بالمرأة، فمن الطبيعي أن نتحدث عن الجنس. يلتقي الوصف الداخلي لهذه النصوص مع الوصف الخارجي في أن كونها مشتركة بين كاتب وكاتبة يتكامل مع كون هذه النصوص يتقاسمها أكثر من جنس أدبي، فأمام هذه المسألة، قد يكون من المفيد أن نشير إلى الكاتبين، وإن جرت عادة التحليل السردي على الاقتصار على السارد وشخوصه. يفترض أن هناك نصوصا ذكورية من تأليف عبد الله المتقي، وهناك نصوصا نسوية من تأليف فاطمة بن محمود. ومادامت هذه النصوص خالية من أي شيء يميز بعضها عن الأخرى، من حيث نسبتها إلى مؤلفها، فهذا يعني أنها تتقاسمها الذكورة والأنوثة، وهو الشيء الذي يوازيه كونها "مفتوحة"، أي منشطرة بين أكثر من جنس أدبي (= منشطرة بين أكثر من جنس آدمي). وهذا ما تؤكده بطاقة الهوية المرسومة على غلاف الكتاب، أي "نصوص مفتوحة". فهي إذن، مفتوحة على:
الــذكر والأنثى الشــعر والقصة الماضي والحاضر النــهار واللـيل اليـقظة والحلـم ***
الخلاصة:
يتطور العنوان "أحلام تمد أصابعها"، في هذا التناص، من صيغته الأصلية "ألف ليلة وليلة" إلى صيغته المتطورة "أحلام تمد أصابعها"، وهو ما يمكن اختصاره، في صيغته الأولى، إلى "ليال=جمع"، وفي صيغته المتطورة إلى "أحلام=جمع"، دون أن نغفل علاقة فضاء الحلم بفضاء الليل. إن هذا التطور، في إطار التناص المذكور، يقود، من حيث الشكل، إلى إضعاف التمييز الجنسي على المستوى الأدبي، وهو ما يوازي، من حيث المضمون، إضعاف التمييز الجنسي على المستوى الآدمي. إذا سلمنا بأن في هذه النصوص هجوماً على ظاهرة شهريار، فينبغي ألا نتوقف عند القول بأن من يقود ميمنة هذه النصوص ذكر (عبد الله المتقي)، و من يقود ميسرتها أنثى (فاطمة بن محمود)، وما يتفرع عن ذلك من الدلالات، بل ينبغي ألا نغفل الإشارة إلى العلاقة العميقة القائمة، أو الممكنة، بين "اتحاد" هاذين الجنسين الآدميين ضد شخصية (ظاهرة) شهريار، و"اتحاد" جنسين أدبيين (على الأقل) ضد حكايات "ألف ليلة وليلة" باعتبارها، ليس جنسا أدبيا كلاسيكياً فحسب، وإنما أيضاً باعتبار ما يتم استبطانه من العلاقة الرمزية التي تربط الجنس الأدبي (الحكاية ) بجنس آدمي (المرأة)، وما يترتب عن ذلك من الذبذبات الإيحائية التي تظهر بمقتضاها الحكاية كمقابل رمزي لـ "التواصل الجنسي" بين الرجل والمرأة التقليديين من طراز شهريار وشهرزاد. ولكي نبسط ما استطعنا هذه الخلاصة، لننطلق من كون هذه النصوص تحمل جينات "شعرية" و"سردية" في آن معا، وسنخلص إلى ما يلي:
(1) شـعر + جنس أدبي رجــل+ جنس آدمي
(2) حكاية + جنس أدبي امـرأة + جنس آدمي
(3)
الرجل والمـرأة (+ جنسان آدميان) ← (شهـــــــريار + جنس آدمي) الشعر والحكاية (+ جنسان أدبيان) ← (ألف ليلة وليلة + جنس أدبي)
إن الصيغة رقم (1) أعلاه تذكر القارئ بأن النصوص التي تتكون منها مجموعة "أحلام تمد أصابعها"، تحاكي النصوص الشعرية الحديثة من حيث امتدادها عبر الفضاء الورقي في الحد الأدنى، وهذا يعني أن الشعر حاضر كجنس أدبي، وهو يقابل حضور الرجل كجنس آدمي على مستوى التأليف. وتشير السهام العمودية إلى التناظر بين العنصرين. أما الصيغة رقم (2) فهي تذكر وترمي إلى استجماع تركيز القارئ على أن القيمة السردية لهذه النصوص التي تتكون منها مجموعة "أحلام تمد أصابعها"، باعتبارها جنسا أدبيا، تناظر (تساوي) المرأة كجنس آدمي على مستوى التأليف. لكن ينبغي هنا التفريق، بشكل دقيق، بين الحكاية كموضوع، والحكاية كإطار. فالأولى تتمثل في كلمة "الحكاية" التي يتحدث عنها السارد، أما الثانية فهي تتمثل في النص الذي يكتنف حديث السارد عن تلك الحكاية أو غيرها، وأعني هنا نصا من نصوص "أحلام تمد أصابعها". إذا كانت الحكاية الموضوع ترمز للمرأة "الموضوع"، فإن الحكاية الإطار تناظر المرأة "الواضع" (المؤلفة). إذن، فهذا التناظر هو ما يشير إليه السهم العمودي بين "الحكاية والمرأة". أقول هذا حتى لا يلتبس الأمر على القارئ، فيظن بأنني أقصد هنا العلاقة التي تحدثت عنها طوال هذه الدراسة بين المرأة والحكاية، والتي تقابلها عناصر الهجوم على الجنسية الأدبية الكلاسيكية التي تحملها نصوص "ألف ليلة وليلة". السهام العمودية، في صيغة رقم (3)، تشير إلى العلاقة التناظرية، بينما تشير السهام الأفقية إلى التضاد (التوتر) الذي تمثله عناصر الهجوم على ظاهرة شهريار، في هذه النصوص، على مستوى المضمون.
*** ملاحظة: لقد حذفنا بعض الرموز (كالسهام الأفقية والعمودية التي توضح بعض الصيغ المختصرة، والمعتمدة عادة في الدراسات النقدية) نظرا لصعوبة نشر ذلك رقيما بشكل سليم، متمنين ألا ينتج عن هذا الحذف كثير من الإخلال بالفكرة الأساسية.
***
الهوامش:
[1] فاطمة بن محمود وعبد الله المتقي: أحلام تمد أصابعها، الطبعة الأولى، سنة 2012، دار الوطن للصحافة والطباعة والنشر، الرباط-المغرب. [2] المركب الشهرزاري: كلمة ارتأيت نحتها اختصارا لاسمي شهريار وشهرزاد. [3] سعيد بودبوز: مناقشة بارباروسا- دراسة نقدية لرواية بعنوان "بارباروسا" للروائي المصري مصطفى سليمان، الكتاب مازال مخطوطا وغير مطبوع لحد اللحظة التي أكتب فيها هذه الكلمات، وهو، أي المخطوط، موجود عند المؤلف. [4] أحلام تمد أصابعها، ص40. [5] المرجع السابق، ص23. [6] المرجع السابق، ص66. [7] المرجع السابق، ص84. [8] المرجع السابق، ص87. [9] المرجع السابق، ص17. [10] المرجع السابق، ص24. [11] المرجع السابق، ص28. [12] المرجع السابق، ص33. [13]سعيد بودبوز: تناسخ النص-مقاربة سيميولوجية لمجموعة قصصية بعنوان "رقصة زوربا" للقاص المغربي عبد الواحد كفيح، الكتاب مازال مخطوطا وغير مطبوع لحد اللحظة التي أكتب فيها هذه الكلمات، وهو، أي المخطوط، موجود عند المؤلف. [14]أحلام تمد أصابعها، ص35. [15] المرجع السابق، ص41. [16] المرجع السابق، 42. [17] ورد هذا الاسم، في الطبعة التي بين يدي، كما يلي: "شهرزاد". ولكن السياق يوضح بأن المقصود هو "شهريار. [18] المرجع السابق، ص91. [19] المرجع السابق، ص28. [20] المرجع السابق، 101. [21] المرجع السابق، ص98. [22] المرجع السابق، ص113. [23] المرجع السابق، ص115. ***
سعيد بودبوز/مكناس-المغرب
29-7-2012
#سعيد_بودبوز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المدافن الجماعية في سوريا ودور -حفار القبور-.. آخر التطورات
...
-
أكبر خطر يهدد سوريا بعد سقوط نظام الأسد ووصول الفصائل للحكم.
...
-
كوريا الجنوبية.. الرئيس يون يرفض حضور التحقيق في قضية -الأحك
...
-
الدفاع المدني بغزة: مقتل شخص وإصابة 5 بقصف إسرائيلي على منطق
...
-
فلسطينيون يقاضون بلينكن والخارجية الأمريكية لدعمهم الجيش الإ
...
-
نصائح طبية لعلاج فطريات الأظافر بطرق منزلية بسيطة
-
عاش قبل عصر الديناصورات.. العثور على حفرية لأقدم كائن ثديي ع
...
-
كيف تميز بين الأسباب المختلفة لالتهاب الحلق؟
-
آبل تطور حواسب وهواتف قابلة للطي
-
العلماء الروس يطورون نظاما لمراقبة النفايات الفضائية الدقيقة
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|