نضال نعيسة
كاتب وإعلامي سوري ومقدم برامج سابق خارج سوريا(سوريا ممنوع من العمل)..
(Nedal Naisseh)
الحوار المتمدن-العدد: 1113 - 2005 / 2 / 18 - 11:55
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
عندما كانت أكوام التراب تنهال على الجسد المكفن بالعلم الوطني ذي الألوان الزاهية ,كانت,في نفس الوقت, تؤذن بنهاية محزنة لقصة حياة وكفاح وصعود مثير للرجال من القاع,وتحكي تقدم الفقراء والبسطاء من الصفوف الخلفية, ومجاهيل البيوت والأكواخ, لتتبوأ,وبجدارة, أعلى المراكز والمراتب وتهزم الزعامات التقليدية المشرشة في عالم النفوذ والرئاسات.ولكنها,وبكل أسف , انتهت بشكل تراجيدي وفي احد الشوارع التي أحبها ,جاعلة كل لحظات القوة والعظمة والسلطان غير ذات معنى عندما يتكلم التراب, كما هو الحال عندما يفاجئ الموت جميع المخدوعين بزيف هذه الحياة وعبثيتها, ولا جدوى للمناطحة فيها, وحب البقاء كون النهاية ستكون غير سعيدة, وعلى الجميع, في كل الأحوال, وعندما تسدل الستائر عن المشهد الأخير, ومهما استطال العمر وامتدت الأيام. ومن قرأ سوفوكليس ,ورائعته أوديب ملكا , يؤكد ماذهبت إليه الأسطورة الإغريقية بأنه لامهرب من الموت ابدا للبطل التراجيدي, ومهما فعل ,كما أوديب الملك,ومهما كانت الإحتياطات,فالمأساة تتوعد بالإنتظار. ومهما اكتنز الإنسان من الأموال, فقد يموت جائعا وهو خالي الوفاض, ومهما امتلك من الأراضي والهكتارات, فلن ينام نومته الأبدية إلا على بضعة أمتار, قد ينسى البعض مكانها بعد انتهاء أيام الحداد, فلا يغرنكم أبدا العز والجاه والسلطان, وفي النهاية إنها مأساة الإنسان وصراعه الأبدي مع المجهول وسعيه الدؤوب الدائم في لعبة فك الألغاز.
وهذه الحياة لا يؤمن جانبها, ولن يستتب لها حال ,ومهما كانت قوة الأبطال, وسطوة وعظمة الرجال, ومستواهم وإنجازاتهم.فكما كان محط الأنظار والأضواء في حياته, كذلك كان في مماته.وما عجز عن تحقيقه في حياته ,من أن يرى الكلمة تتوحد, والجموع تتحشد ,ولو اعتراها بعض الملاحظات أحيانا, والمشاعر تتدفق بعفوية وبساطة, وتتناسى تقاليد الرفض والمقاطعة, وإدارة الظهور والمناكب لكل دعوات اللقاء والمصارحة,فقد تحقق هذا كله يوم الأربعاء. فلم تشهد تلك الساحة ,التي أعاد بنفسه بناءها وأشرف على تفاصيلها ,حشدا بشريا كهذا في تاريخها على الإطلاق,وكانت الأمواج البشرية تتدفق من كل حدب وصوب ,لتسجل واحدة من أكبر الجنازات التي شهدها عالم العربان منذ وفاة جمال عبد الناصر في مطلع السبعينات .وكانت استفتاء عفويا,وبعيدا عن الرسميات والبروتوكولات الجامدة الصماء التي خربت كل العلاقات الإنسانية, نظرا لما تمتع به الرجل لدى أطياف متباينة من الناس, والطوائف, والجماعات, الذين وحدتهم أشياء كثيرة غير الموت, وشخص رئيس الوزراء السابق.وأكدت في الوقت نفسه عقم الوضع السياسي, ولجوء البعض إلى خيارات الموت والإقصاء كأحد الحلول السحرية لكل المشكلات, والخيارات الجاهزة والسهلة دوما لدى العاجزين والفاشلين وغير القادرين على النطق والحوار والكلام.وتحقق ولو بشكل رمزي مؤقت حلما من أحلام الراحل في وحدة وطنية لهذه البلاد ولو في الجنازات.
وتجمع الناس من كل حدب وصوب, فقراء وأغنياء, وبسطاء وطفيليون أحيانا ,وعاطلون عن الأعمال, وسياسيون,وطامحون ,وحالمون, ومتربصون بما سيحدث في الأيام القادمات. وأكدت بشكل ما على عبثية, ولا معنى الحياة, وأن الجميع غير محصن أمام عواصف الزمان العاتية,وأن الثروة ومهما كبرت وعظمت لن تنجي أحدا من الأقدار. وعند موت العظام, تؤخذ العبر,وتتجذر الحكمة , وتتأصل وتعلم الدروس لذوي الأبصار.فهنا يتساوى الكبار والصغار وكم من عظيم انزوى بعيدا في بواطن الأرض الغوار ,ليتساوى مع أقرانه في الإنسانية في عملية الإستلقاء, وتتوحد عندها المشاعروالعواطف والأفكار, ويصاب البعض بحالات من الزهد واليأس سرعان مايشفى منها عند العودة إلى غابة الحياة ويرى الوحوش والذئاب. وينسى الناس وقتها كل شيء, ويترفعون لبرهة وجيزة عن الصغائر والأحقاد.وكم اجتمع عند الموت "الإخوة الألداء" .وعندما كانت أمواج الحضور تتلاطم في الميدان ,تذكرت في علم النفس مايسمى بـ"غريزة القطيع" التي تجتاح الناس عند الكوارث والحروب والأحداث ,وتصبح العاطفة والميول والأهواء والسلوك جماعيا ,والكل يتحرك في نفس الإتجاه,والغريزة هي ما تحرك الجميع ,وتتعطل لغة العقل والتبصر والحكمة,وتسري الإشاعات مسرى النار في القش والهشيم واليباس.ويسير الناس بفعل قوى خفية تأخذهم ذات اليمين وذات الشمال ,ويصدقون كل مايقال .ورأينا مجموعات تردد وبعفوية شعارات ومقولات سمعتها من هنا وهناك في ذروة حمى توزيع الإتهامات التي رافقت الوفاة. وصحيح أن الرجل قد ودع الحياة بما يليق بمكانته ,ولكن ذلك يؤكدأيضا, ومهما يكن من أمر, فقد كانت الجنازة وبحق استفتاء شعبي لمكانة الرجل العامة عند أكثر من جهة, ولا تنسوا أيضا ,وهذا مهم جداهنا,ماقاله العربان في سالف الأيام,وعندما كانت التجاذبات تفعل فعلها في سياسةالأسلاف, "ليس حبا بعلي ولكن نكاية بمعاوية", وهنا وفي هذه الحال إذا كان هناك "علي" واحد, فلا شك أيضا فهناك عشرات "المعاويات".
وفي السياسة لا يوجد صداقات دائمة ,كما لايوجد عداوات دائمة ,ولكن هناك مصالح دائمة ,وعليها تبنى العلاقات وتحدد المسارات.وأيا كان الفاعل والجهة التي وقفت وراء الإغتيال فلا شك هناك أكثر من مستفيد, ومن طامع في أكثر من غنيمة, وقنص وأموال وولاء,والحلم بتحقيق "أرباح", ولوكان من وراء موت العظماء وعويل النساء.فلقد كان الرجل صخرة في وجه أكثر من تيار,وعند غير مجموعة , وبدت زعامته قوية وطاغية ومن الصعوبة بمكان إزاحتها إلا بهذا الشكل ,وحيث يتمتع بصداقة ونفوذ مؤثر لدى قوى إقليمية ودولية فاعلة, وما هبوط طائرة "مايسترو الفرانكوفونيات" في مطار بيروت,وبدون أي حضور رسمي, متخطيا كل البروتوكولات التي لا تحدث إلا في الدول تحت الإحتلال, حيث لم يستقبله أي مسؤول رسمي, في سابقة ديبلوماسية قل نظيرها في تاريخ التعامل بين الدولتين, إلا دليل على ذلك.وإني به ,ولو كان حيا ,ومن خصال الكرماء, لأوصى ,ومهما كان الفعل الجبان, بوجود كل الفرقاء, ولكان قد رفض استثناء أي واحد من حضور لهذا التجمع.
ولعل أكثر ما ظهر بفجاجة وبدا للعيان والجهلاء والعميان على حد سواء, هو استغلال الموت,وتوظيف الأحزان في أي حدث لتحقيق المكاسب السياسية الدنيئة,التي غلبت كثيرا وطغت على الفاجعة السوداء ,وهذه هي الحال دائما في سيرك العجائب, والغرائب, والأهوال الذي نتابعه بألم وحسرة في دنيا العربان, وإن كان الشكل التراجيدي, ومن يقف وراءه,وأيا كان, هو أحد الأسباب في ذلك .فلقد كانت حتى الأمس القريب, بعض الفضائيات تخصص حيزا كبيرا من وقتها للنيل من الراحل وبإسلوب ساخر, وفج, وممجوج أحيانا, وتحميله سبب كل "البلاوي" والأخطاء ,ولكن سرعان ماتحول إلى قديس يطلب نفس المذيعين والمذيعات والإعلاميين المنافقين الفصحاء بركاته وكراماته الوطنية لتوزيعها على "المحتاجين" السياسيين,والمتسولين على عتبات قصور القرار, وكما المتفرجين الضائعين بين تيارات الساسة ودهائهم وأحلامهم بالمناصب وتوزيع "التركات".وتؤكد لا أخلاقية السياسة على الإطلاق,ومتاجرتها بالدماء, وخلوها من المبادئ الإنسانية وأية اعتبارات.
لقد طويت بمأساة صفحة هذا الرجل العملاق,ولم تمهله الأقدار حتى الترجل والتقاعد,والتمتع بما جناه في أيام الصبا والشقاء,ولم تحمه الثروة من الولوج في أتون هذا البركان ,الذي يبتلع كل يوم المزيد من اللحوم في هذا الركن المفخخ من العالم ,والذي يبدو أنه لن يشبع لا من أجساد العظماء ولا البسطاء ,وسيظل منجل الموت الأرعن يحصد أرواح الأغنياء والفقراء لتقديمها قرابينا على مذابح السياسة المجنونة والجوعانة العمياء, وبيادر المصالح الجوفاء. وحالما يتضح الموقف وتنجلي الغبار,ويهدأ زخم هذا الفوران, وتنخفض مؤشرات الهيجان, فسيظل الموقف حابلا بكل الإحتمالات ,وإن كان من السابق لأوانه التكهن بمتى حدوثها,فمن الممكن التنبؤ باتجاهاتها وإحداثياتها ,من الآن, ودون انتظار نتائج التحقيقات ,"وعبقريةالخبراء".
إنه الموت..............قانون الحياة .
نضال نعيسةكاتب سوري مستقل
#نضال_نعيسة (هاشتاغ)
Nedal_Naisseh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟