حين وضع أفلاطون مشهداً لمدينته الفاضلة إنما جعل الناس في مدينته تلك طبقات. ولم يجد أفلاطون صعوبة في التوفيق بين وضع حدود صارمة بين طبقات المجتمع وبين الحديث عن العدالة المكرّسة لذلك التقسيم.
وحين جاءت الديانات السماوية لم تجد صعوبة بدورها في الحديث عن العدل الإلهي وعن قدر الإنسان في أن يكون فقيراً أو غنياً.
وهكذا حكم الأسياد والنبلاء اقنانهم في العصور الوسطى على قاعدة العدل الإلهي نفسه. إلى أن جاء عصر التنوير الأوروبي وفلسفته الوضعية لتنتزع مصدر العدالة من السماء وتضعها على الأرض فتُرجمت تلك العدالة بقوانين وضعية أسست لقيام الدولة الحديثة. فارتكزت هذه الدولة على حكم سلطات الشعب مصدرها والحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية أسُسُها. فانتظمت هذه الأسس في عقد اجتماعي يحدد العلاقة بين أبناء المجتمع وبين الدولة بوصفها تلك الشخصية المعنوية المتجسدة في مجموعة أنظمة ومؤسسات تعبر عن الإرادة العامة بدورها.
غير أن القوانين الوضعية وقيم العدالة والمساواة والديمقراطية التي أتت بها الدولة الحديثة لم تأتِ لتلغي الاستغلال الطبقي الذي كان سائداً منذ عهود مضت بقدر ما كانت تعبيراً عن اضمحلال طبقات قديمة كانت سائدة في النظام الإقطاعي وولادة طبقات جديدة عنونت لبزوغ المرحلة الرأسمالية.
وعلى الرغم مما جاءت به الفلسفات الوضعية من نزعة تفاؤلية حيال العدالة والمساواة وغيرهما من مبادئ الدولة الحديثة، فقد كان على الفكر السياسي أن ينتظر الفلسفة الماركسية لكي تنزع عن هذه الدولة صفة سلطة الشعب والإرادة العامة والحرية والمساواة ولتقول إن هذه الدولة، بتنظيماتها وتشريعاتها، ليست إلاّ الصورة الأيديولوجية لسيطرة طبقة اجتماعية على غيرها من الطبقات الاجتماعية الأخرى ... حيث تجري هذه السيطرة عبر التحكم بوسائل الإنتاج، وعبر فرض الإطار القانوني الذي يضمن الحفاظ على روابط الإنتاج على النحو الذي يمكّن الطبقة المسيطرة من إدامة سيطرتها.
وترى هذه الفلسفة أن الحديث عن "دولة القانون" وعن الدولة التي تقوم بدور "الحارس الليلي" ليست إلاّ حديثاً عن سيطرة اجتماعية تكون هي المعنية وهي المستفيدة. فالدولة "ليست شيئاً آخر سوى آلة قمع من قبل طبقة لطبقة أخرى".
غير أن المدرسة التي يطلقون عليها الماركسية المعاصرة ترى أن الدولة لا تمثل أداة في يد طبقة بعينها، ولا تعبيراً عن إرادتها في ممارسة السلطة، وإنما هي تعبر عن توازن عام بين قوى المجتمع، وتحمل هذا التوازن وتعكسه في أنظمتها ومؤسساتها وتشريعاتها.
أما نيكوس بولانتزاس، وهو أحد أبرز رواد المدرسة البنيوية، فيرى أن السمة الأساسية المميزة للدولة الحديثة هي أن الأشخاص لا يظهرون فيها بوصفهم عوامل إنتاج بل أفراداً أو مواطنين، أي أشخاصاً سياسيين. وهو يرى أن هذه الدولة تتميز بعدم ظهور السيطرة الطبقية في مؤسساتها، فتبدو دولة شعبية لا طبقية تقوم مؤسساتها على مبادئ الحرية والمساواة. ولا تستمد هذه الدولة شرعيتها من المشيئة الإلهية وإنما من إرادة مجموعة الأفراد بوصفهم مواطنين أحراراً متساوين من الناحية الشكلية، أي أن شرعيتها تستند إلى سيادة الشعب، بحيث يبدو هذا الشعب حاكماً الدولة لا بوصفه مؤلفاً من عوامل الإنتاج الموزعة بين الطبقات الاجتماعية المختلفة وإنما بوصفه جمعاً من الأفراد - المواطنين الذين يساهمون في الحياة السياسية القومية المشتركة عن طريق الاقتراع العام الذي يعبر عن الإرادة العامة. وتتسم العلاقات الإجتماعية الإقتصادية في هذه الدولة بسمة أساسية هي الأثر العازل للبنى القانونية والأيديولوجية التي يحكمها هيكل عملية العمل. وهذا الأثر العازل له دور أساسي في إخفاء العلاقات الطبقية... لذا تبدو الدولة الرأسمالية تعبيراً عن الوحدة السياسية في صراع إقتصادي يتميز بطبيعته بالتفتت والإنعزال. فهي تدعي تمثيل المصلحة العامة لجميع المصالح الإقتصادية المتباينة والمتنافسة التي تحول دون وعي عوامل الإنتاج بطبيعتها الطبقية. وهكذا تخفي الدولة الرأسمالية الطبيعة لسياسية الطبقية لمؤسساتها السياسية. وهذا يتحقق أيضاً من خلال العامل الأيديولوجي في هذا المجال.
بغض النظر إذن عن مدى تمثيل الدولة الحديثة مصلحة طبقية محددة فإن هذه الدولة قد تطورت عبر نماذجها وتجاربها المختلفة في التاريخ المعاصر في اتجاهات متمايزة في جوانب عدة، وخصوصاً على مستوى حدة الفوارق الطبقية داخل كل تجربة. إذ شهدت هذه التجارب تناقضات وصراعات طبقية كانت تؤدي في معظم الأحيان إلى فرض تشريعات وقوانين جديدة توفر بعض الشروط الفضلى لمصلحة الطبقات الدنيا. هكذا تطورت النظم الضريبية وسياسات التأمينات الاجتماعية ونظم التعليم وسياسات الدعم التي عملت على إعادة التوازن النسبي في توزيع الثروة الوطنية داخل المجتمعات الرأسمالية نفسها.
حتى إن أدبيات التنمية الرسمية راحت تركز أكثر فأكثر على البعد البشري للتنمية وعلى ضرورة تخفيف حدة الفوارق الطبقية. لكن دون أن يلغي ذلك أو يتجاوز الآليات الأساسية التي تقوم عليها الدولة الحديثة والتي تؤدي إلى استمرار الفوارق الطبقية، وخصوصاً في المرحلة التاريخية الرأسمالية. غير أن هذا السياق في تطور مفاهيم التنمية يواجه من جهة أخرى بنزعة عالمية نحو تهميش دور الدولة، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى إلغاء أو تراجع دورها كناظم للتوازن الاجتماعي النسبي. وإذا ما أخذنا في أحد المؤشرات المادية للفوارق الطبقية نرى انه بين عامي 1960 و1990 ارتفعت حصة أغنى 20 في المئة في العالم من 70 في المئة من الدخل العالمي إلى 85 في المئة من هذا الدخل، مقابل انخفاض حصة أفقر 20 في المئة في العالم من 2،3 في المئة من الدخل العالمي إلى 1،4 في المئة. بمعنى أن حصة أغنى 20 في المئة كانت عام 1960تمثل 30 ضعف حصة أفقر 20 في المئة وأصبحت عام 1990 تمثل 61 ضعف حصة أفقر 20 في المئة من الدخل العالمي. وعلى الرغم من أن هذا المؤشر مادي فهو بالضرورة ينعكس على كثير من المؤشرات الحياتية والمعنوية كالطبابة والتعليم والسكن والمعرفة والثقافة والرفاهية وغيرها.
تبقى مسألة الطبقات إذاً قائمة في مجتمع الدولة الحديثة في مرحلتها الرأسمالية، ما دامت يوتوبيا مجتمع اللادولة واللاطبقات غير وارد تحققها في المدى المنظور، ويبقى الحديث إذا في حدود تخفيف حدة التفاوت الطبقي في المجتمع وتوفير الحد الأدنى للحياة الكريمة لمختلف فئات الشعب. فالنمو الاقتصادي يجب ألاّ يكون غاية في حد ذاته بل وسيلة من أجل تحقيق حياة أفضل للإنسان. وهنا يأتي دور الخيارات التنموية الاقتصادية والاجتماعية لكل دولة، التي تؤثر على هذا النحو أو ذاك في عملية التوازن المجتمعي، ليس الطبقي فحسب بل القطاعي والمناطقي كذلك