|
الإمام علي رائد الوحدة الإسلامية
فاطمة العتابي
الحوار المتمدن-العدد: 3811 - 2012 / 8 / 6 - 17:26
المحور:
حقوق الانسان
((ما عرفك يا عليُّ حقَّ معرفتك إلاَّ الله و أنا)) بهذه الكلمات اختصر الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) السبل لمن يريد معرفة حقيقة الإمام عليِّ (عليه السلام)، فهي حقيقةٌ صعبةٌ لا يدركها إلا الله سبحانه وتعالى ونبيٌّ من طراز النبيِّ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، لهذا لم يقل ( إلا الله و الأنبياء ) لأنَّ مثل هذه الحقيقة تحتاج إلى من هو من طراز النبي محمد ليعرفها و ليس ثمة من يشاكله من جميع الأنبياء والمرسلين ( عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام). ومع هذا لا يمثل هذا القول حجر عثرة بوجه من يريد أن يسلط الضوء على بعد من أبعاد شخصية أمير المؤمنين المتعددة ، فهو ليس إلا تنبيه للعقول على أنَّ حقيقة أمير المؤمنين أعظم مما يخيل لها أجلّ . ولنا أن نقول ما قاله ميخائيل نعيمة في مقدمته لكتاب الأديب اللبناني الكبير(جورج جرداق) (( إنَّه ليستحيل على أيِّ مؤرخ أو كاتب مهما بلغ من الفطنة و العبقرية أن يأتيك حتى في ألف صفحة بصورة كاملة لعظيم من عيار الإمام علي .. فالذي فكَّره وتأمَّله وقاله وعمله ذلك العملاق العربي بينه وبين نفسه وربِّه لمما لم تسمعه أذن ولم تبصره عين، وهو أكثر بكثير ممَّا عمله بيده أو أذاعه بلسانه وقلمه، وإذ ذاك فكلُّ صورة نرسمها له هي صورة ناقصة لا محالة .)) . ومن هنا أجد في نفسي بعض الجرأة لتسليط الضوء على خصلة مهمة من خصال أمير المؤمنين لم يتنبَّه عليها إلا القليل من الدارسين لحياة هذا الطود العظيم، أو تكون قد ضاعت في خضم نزاعات الأمة الإسلامية عن قصد أو عن غير قصد ، هذه الخصلة التي لو أعطيت حقها من الدراسة والعرض لأغنت الأمة عن كثير من الأقاويل والنزاعات وأعني بها ريادته في توحيد الأمة الإسلامية ووقوعه موقع صمام الأمان للأمة من الفرقة والاختلاف. فالأمام عليٌّ بحق رائد الوحدة الإسلامية وبلا منازع. وقد يتعجب الكثير ممن يسمع بهذا القول فالإمام عليّ عليه السلام هو أكبر شقة خلاف بين المسلمين على مرِّ العصور، وهو الهوة التي يطيح فيها أبناء الأمة حيث لا قرار لأمرهم، فضلا عن قلة من تطرق لمثل هذا القول من الباحثين وآمن به حتى غدوا شبه معدومين . أمَّا كونه الهوة التي يطيح فيها أبناء الأمة فهو ليس بالباطل لأنَّ أمير المؤمنين قسيم الجنة والنار وهو الصراط المستقيم والعروة الوثقى وسفينة النجاة التي من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو بكل هذه الصفات يستحق أن يكون تلك الشقة التي يختلف فيها أهل الحق وأهل الباطل لاختلاف نهجيهما، ولكن هذا لا يمنع من أن يكون صمام الأمان للأمة لأنه يدور مع الحق حيث دار فلا يداهن ولا يماكر ولايظلم ولا يجور. و أمَّا قلة من تطرق لمثل هذا الموضوع فهو أمر جاء نتيجة التعمية المتعمدة لدوره في الحفاظ على الأمة العربية من الضياع، والحفاظ على بيضة الإسلام من الهدم والثلم، ومن ثم كان قليل منهم من يتطرق لهذا، فأخذ بعضهم جانب الإنسانية في شخصية الإمام علي ( عليه السلام ) مثل الكاتب جورج جرداق في سفره الضخم ( الإمام علي صوت العدالة الإنسانية ) وهو جانبٌ له علاقة وثيقة بالوحدة ؛ لأنَّ احترام إنسانية الإنسان يؤدي إلى الوحدة لا محالة . ومنهم من أخذ جانب الوحدة الإسلامية بعينها و تحت هذا المسمى بالذات وهو كاتب أشهر من أن يغفل قوله أو تهمل آراءه ألا وهو المفكر الكبير الشهيد الدكتور علي شريعتي الذي كتب فصلا كاملا تحت عنوان (عليٌّ مؤسس الوحدة) في كتابه (الإمام علي في محنه الثلاث) . و على الرغم من شهرة مؤلفاته وتناقل أبناء المذاهب الإسلامية جميعا لهذه المؤلفات ولاسيما كتابه (التشيع العلوي والتشيع الصفوي) الذي أحدث ضجة كبيرة استمرت منذ أكثر من ثلاثين عاما وحتى اليوم، على الرغم من كل هذا لم يحض هذا الكتاب بالاهتمام الذي يستحق والذي كان من المؤمل أن تتلقفه أيدي أبناء الأمة كما تلقفت كتاب (التشيع العلوي والتشيع الصفوي). طبعا إنَّها الأهواء ولا شيء غير تلك الأهواء المضلة هي التي جعلت من لا يرغب بالوحدة يصم الآذان ويعمي العيون عن واحد من أروع ما كتب عن أمير المؤمنين، والذي يحكي واحدة من أهم الحقائق التأريخية التي أراد لها البغاة أن تموت كي لا تنير طريق السالكين . أيا كان الأمر بعد هذا فإنَّ ما يهمَّنا الآن أن نبحث عن الوحدة الإسلامية في فكر أمير المؤمنين ( عليه السلام )، ونترك الأسباب التي دعت إلى تجاهل هذه الحقيقة فحسبي أن أردد ما قاله الكاتب اللبناني الكبير سليمان كتاني : " أصحيح يا سيدي أنَّهم بدل أن يختلفوا إليك اختلفوا فيك " ليكون العزاء والسلوى. وقد قسم هذا البحث على ثلاثة محاور هي :- المحور الأول :وحدة النوع الإنساني عند الإمام عليِّ ( عليه السلام ) و أثر ذلك في دولته . المحور الثاني : (لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين) . المحور الثالث: كيف نعود إلى الوحدة الإسلامية عن طريق الإمام علي ( عليه السلام ).
المحور الأوَّل : وحدة النوع الإنساني عند الإمام علي عليه السلام و أثر ذلك في دولته : قال الله جل وعلا وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ(الحجرات: من الآية13)، بهذه الآية الكريمة وضح الله سبحانه وتعالى سبب اختلاف أعراق البشر والمقياس لكرامتهم عند ربِّ العزة، وقال جل ثناؤه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ(الحجرات: من الآية10) ليبين العلاقة التي ينبغي أن تكون بين من تجمعهم عقيدة واحدة وهي أسمى علاقة إنسانية في الوجود وأقلها إذعانا للأهواء والمصالح، ألا وهي (الأخوة) . هذان المعنيان القرآنيان طبقا في سيرة أمير المؤمنين- وهو القرآن الناطق- تطبيقاً عملياً، فعبَّر عنهما ربيب النبوة بقوله في تصنيف الناس بأنهما صنفان ( إمَّا أخٌ لك في الدين – مشيرا إلى الآية الكريمة الثانية -، أو نظير لك في الخلق – مشيرا إلى الآية الأولى ) .ليكون تطبيق الإمام عليٍّ (عليه السلام) العدالة بحق الناس جميعا منطلقه في امتثال أمرِ الله تعالى و ترجمة عملية لهاتين الآيتين. فالإنسان بمعناه العام – إن صح التعبير – هو الشيء المهم عند أمير المؤمنين دون سواه، لهذا لا نجد عنده أثَرَة ولا عصبية لالجنس بعينه ولا لقبيلة من قبائل العرب ولا لبيت من بيوتها حتى لو كان بيت أبي طالب نفسه؛ وفي فعله بأخيه عقيل أكبر دليل على ذلك ، بل لا نجد عنده أثرة لمسلم على مُعَاهَد أومسلمة على معاهَدة . وقبل أن نعطي أدلة وبراهين على وحدة النوع الإنسانيِّ عند الإمام عليِّ (عليه السلام) علينا أن نعرف الأسباب التي كوَّنت هذه النظرة لديه، وهذا يحتاج إلى أن نتطرق إلى أشياء مهمة في البحث هي :
أولاً : ما هو الإنسان في نظرة الإسلام ؟:_
بطبيعة الحال الإنسان في الإسلام يختلف جذريا عن الإنسان في غيره من الديانات فهو في الإسلام أسمى كائن خلقه الله في هذا الكون؛ لأنَّه خليفته على الأرض إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (البقرة: من الآية30)، وهو الذي نفخ فيه من روحه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي (الحجر: من الآية29) ، و هو الذي علمه من علمه وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا (البقرة: من الآية31) ثم كان بعد كل هذا حامل الأمانة العظيمة على اختلاف المفسرين في حقيقة هذه الأمانة إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ(الأحزاب: من الآية72). فالإنسان إذاً في الإسلام يختلف عنه في غيره من الأديان إذ هو " ليس كائناً مستحقراً وذليلاً أمام الله " وقد عرف الإمام عليٌّ ( عليه السلام ) قيمة إنسانية الإنسان وقدَّرها له .
ثانيا : الأصلان المميزان في مذهب علي وأتباعه (العدل والإمامة):-
ربما يكون الدكتور علي شريعتي أفضل من عبر عن الأصلين المميزين لأصول الدين في المذهب الجعفري ( العدل و الإمامة ) إذ قال إنَّ الإسلام من دون هذين الأصلين هو ( دين الإسلام ناقصا الإسلام ) . وهو في ذلك محقٌ كل الحق ، إذ كلا الأصلين ( العدل و الإمامة ) يمثلان ركيزة مهمة للدين الإسلامي تميزه من سواه من الأديان سماوية كانت أو وثنية ؛ إذ كل الأديان على اختلاف مشاربها تؤمن بالإلهيات ، كما أنها جميعا تحتوي على واسطة بين تلك الآلهة والناس وهم الرسل عند الأديان السماوية و المصلحين أو الكهنة عند غير الأديان السماوية .ثم أنَّها جميعا تؤمن بعالم آخر يجازى فيه المحسن ويعاقب فيه المسيء ، وهو أمرٌ طبيعي فلولا المعاد لما وجد إيمان بعقائد أغلبها تعتمد الغيب محوراً لها . أمَّا العدل الذي هو أصل من أصول الدين في التشيع فهو إحدى صفات الإله الثبوتية الكمالية، فهو عادل غير ظالم َّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ(قّ: من الآية29) ومن ثمة لا يجور في قضائه و لا يحيف في حكمه ، فهو يجازي العاصين إن أراد ويثيب المطيعين ، و لا يكلف عباده إلاَّ وسعهم ، و لا يعاقبهم زيادة على ما يستحقون . والعدل الذي يؤمن به التشيع نزه الله تعالى عن كلِّ فعلٍ قبيحٍ، في حين نرى الكثير من الأديان حتى السماوية التي انحرفت عن مسارها ترى أنَّ الله قد يظلم عباده ، وقد يحملهم فوق طاقتهم ، وكذلك الحال عند بعض المذاهب الإسلامية ممن لا يمثل العدل ركنا من أركان العقيدة عندهم إذ أغلب تلك المذاهب تؤمن بالجبر وهو ظلم محض تنتفي الحاجة معه إلى العقاب فضلا عن الثواب . ومن هنا كان هذا الركن أهمَّ ركنٍ يميز الإسلام من سواه من الأديان وهو أمر على المسلم أن يفتخر به . والإمامة التي هي الأصل المهم عند الشيعة، والتي خالفت فيها جميع المذاهب السنية، بل خالفت فيها حتى الأديان هي كما يقول الشيخ المظفر رحمه الله "كالنبوة لطفٌ من الله تعالى، فلابد من أن يكون في كلِّ عصرٍ إمامٌ هادٍ يخلف النبي في وظائفه من هداية البشر و إرشادهم إلى ما فيه الصلاح و السعادة في النشأتين ، وله ما للنبيِّ من الولاية العامة على الناس لتدبير شؤونهم و مصالحهم و إقامة العدل بينهم ورفع الظلم و العدوان من بينهم " . فالإمامة إذاً هي استمرارية للنبوة وبالنتيجة هي استمراريةٌ لدين الله و سنته في استخلاف الإنسان على الأرض . ولو نظرنا إلى معنى الإمامة عند الشيعة لوجدناها مغايرة تماماً لما يفهم منها عند سواهم، لأنَّها عند الشيعة أعلى شأنا و أكثر شمولية و أجل قدراً ؛ لهذا هي أعلى من النبوة و إن كان الإمام غير نبيٍّ في حين أنَّ جميع أولي العزم من الرسل هم أئمة على ما ذكر المظفر عن الإمام الصادق (عليه السلام) . والذي يعنيه الشيخ رحمه الله من أنَّ الإمامة ألعى من النبوة يفسره ما جاء عن الإمام الباقر (عليه السلام) إذ قال: " إنَّ الله اتخذ إبراهيم ( عليه السلام ) عبدا قبل أن يتخذه نبيا و اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا و اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا ، و اتخذه خليلا قبل أن يتخذه إماماً ، فلما جمع له هذه الأشياء .. قال له ..( إني جاعلك للناس إماما ) فمن عظمها في عين إبراهيم قال ( ومن ذريتي ) قال ( لا ينال عهدي الظالمين ) " . وهنا نجد الربط بين الإمامة و العدل في سؤال إبراهيم ( عليه السلام ) أن تكون الإمامة في ذريته و جواب الله تعالى على ذلك بقوله ( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(البقرة: من الآية124) ، فالظلم نقيض العدل ومن هنا جاء الربط الإلهي بين العدل و الإمامة . فالله العادل في أصول الدين عند الشيعة لا يولي إماما على عباده الذين ينتمون إلى الإنسانية بمعناها الدقيق غير العادل الذي لم يشب تكوينه ظلم، وليس هنالك من هو أحق من الإمام عليٍّ ( عليه السلام ) الذي لم يعرف الظلم لتكوينه سبيلا فهو الذي لم يعرف إلها سوى الإله الحق؛ فقد قال تعلى في كتابه إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (لقمان: من الآية13) وفيها يقول السيد الطباطبائي في ميزانه: ((أطلق عظمته من غير تقييد بقياسه إلى سائر المعاصي يدل على أنَّ له من العظمة ما لا يقدَّر بقدر)) . إذن الإمام كما يقول د. علي شريعتي ليس قائدا سياسيا أو اجتماعياً أو غيره إنَّما هو ( المثل الأعلى ) أو بحسب تعبير الدكتور " ذلك النموذج الأعلى الذي كانت الإنسانية على طول تاريخها تشعر بالحاجة إليه " ، فهل جاءنا بعد النبي ( صلى الله عليه و آله وسلم ) مثلا أعلى مثل الأمام علي ؟!. ولو تتبعنا سيرته الشريفة لوجدنا العدل ميزة كبيرة وجلية لا يمكن تجاهلها حتى أصبح اسمه الشريفٍ مرادفا لها. العدالة الإنسانية أي التي لا تمييز فيها ولا عنصرية ولا تعصب فهو في خطبته الشهيرة بعد أن اعتدى جنود معاوية على الأنبار قال " ولقد بلغني أنَّ الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة، والأخرى المعاهدة فينتزع حجلها وقُلْبَها و قلائدها و رِعاثها، ما تمتنعُ منه إلاَّ بالاسترجاع والاسترحام … فلو أنَّ امرأً مسلماً مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما " . فهو قرن المعاهدة بالمسلمة وجعل المسلم – المسلم الحق – حريا بالموت أسفا على ما حدث من دون أن يميز إحداهما من الأخرى فكلاهما تشتركان في صفة مهمة ينظر إليها الإمام علي (عليه السلام) وهي المهمة في نظره دون سواها وهي صفة الإنسانية والإنسانية لا غير . وهو قائل بعد " ولو سلكتم الحق .. وأضاء لكم الإسلام لما ظلم منكم مسلم ولا معاهد " تأكيدا آخر منه على أهمية العدل للجميع من دون تمييز، هذا الشيء أي حب العدل والسعي إلى تحقيقه جعله يؤكد غير مرةٍ على ولاته بأنَّ غير المسلمين " أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا" في الحرمة . وهو الذي نادى دوما بأن "لا يضاموا و لا يظلموا ولا ينقص من حقوقهم " . وهذا الشيء هو الذي جعله كذلك يصرخ متعجبا لما رأى الشيخ النصراني يستعطي قائلا: (ما هذا ؟! (ما هذا) وليس (من هذا) فما دام العدل بين الناس قائما و مادام يعطى لكل ذي حق حقه من دون تمييز فمادامت هذه هي سمة حكومته فإنَّ الإنسان من خلال انتمائه إلى الإنسانية دون سواها محفوظ الكرامة . فاستمع إليه وهو يقول :" و الله لأن أبيت على حسك السعدان مسهدا، و أجر في الأغلال مصفدا ، أحبُّ أليَّ من أن ألقى الله و رسوله يوم القيامة ظالما لبعض عباده ، وغاصبا لشيء من الحطام " ، ثم يقول :" و الله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت " .
المحور الثاني : ( لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين … ) :_
في المحور السابق عرفنا أهمية الإنسان عند الإمام عليٍّ ( عليه السلام ) ، الإنسانُ مجرَّداً من كلِّ صفة غير صفة الإنسانية ، فإذا كانت نظرة الإمام إلى الإنسان نظرة وحدوية فكيف هي نظرته إلى المسلم ؟ المسلم الذي شهد الشهادتين . لا ريب في أنَّ الإسلام متمثلاً بالشهادتين أعظم أهمية عند الإمام من كلِّ شيءٍ ، حتى لو كان هذا الشيء حقه و نفسه .. فما هي أدلتنا على ذلك؟! قد يرى بعضهم ذلك صعبا أو مستحيلا ، فمدة حكومة الإمام عليٍّ ( عليه السلام ) بدأت بحرب الجمل التي قُتِل فيها آلاف المسلمين، ولم تنته هذه الخلافة إلا بعد أن قضى على أربعة آلاف ممن يشهد الشهادتين في معركة النهروان وما بينهما صفين وما أدراك ما صفين ؟!. أقول لا يقاس عدل المرء بكثرة حروبه فقد كانت للنبي حروبه الكثيرة مع اختلاف العدو في هذه و تلك ؛ و لكن السبب المهم الذي يجمع بين حروبهما عليهما أفضل الصلاة و السلام أنَّهما كانا يقاتلان من أجل هدف واحد و رسالة واحدة هي الرسالة الإسلامية . ومن الأدلة على كون الإمام علي (عليه السلام) رائد الوحدة الإسلامية والذي اتخذه الدكتور علي شريعتي دليله الأوحد هو تضحيته بحقه لمدة تزيد على الخمسةِ و العشرين عاما من أجل وحدة المسلمين ، وليس هذا زعم من دون دليل أليس هو القائل (لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليَّ خاصة)، وهو الذي كان يأمر من امتنع عن البيعة من المسلمين بالدخول فيما دخل فيه الناس خوف الفرقة و الشقاق فقد روي أنَّ بريدة الأسلمي قال لا أبايع حتى يبايع عليٌّ و امتنعت قبيلة أسلم بامتناعه من المبايعة؛ إذ كان قد سمع النبي (صلى الله عليه وآله) قال لأسلم: علي وليكم بعدي. فما كان من أمير المؤمنين إلا أن يقول له : " يا بريدة أدخل فيما دخل فيه الناس ، فإنَّ اجتماعهم أحبُّ إليَّ من اختلافهم اليوم " . كذلك صرح في كتابه إلى أهل مصر الذي بعثه مع مالك الأشتر بذلك قائلاً:" أمَّا بعد فإنَّ الله سبحانه بعث محمدا (صلى الله عليه وآله) نذيرا للعالمين ، ومهيمنا على المرسلين، فلما مضى عليه السلام تنازع المسلمون الأمرَ من بعده ، فوالله ما كان يُلْقَى في رُوعي، ولا يخطر ببالي أنَّ العربَ تُزْعِجُ هذا الأمرَ من بعده (صلى الله عليه وآله) عن أهل بيته، ولا أنهم مُنَحُّوه عني من بعده، فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه ، فأمسكت يدي – أي كففتها عن العمل وتركت الناس وشأنهم – حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمد (صلى الله عليه وآله) فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما أوهدما، يكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل " . وهو القائلُ أيضا:" قد جرت أمور صبرنا فيها وفي أعيننا القذى، تسليماً لأمرِ الله تعالى فيما امتحننا به، رجاء الثواب على ذلك وكان الصبر عليها أمثل من أنْ يتفرق المسلمون وتسفك دماؤهم " . وهو بعد لم يظلم إنسانا بسبب ميله إلى أعدائه ، فقد أرسل إلى عبد الله بن عباس عامله على البصرة يلومه على تنكيله وغلظته على بني تميم لأنهم كانوا في حرب الجمل مع الأعداء فكتب إليه يقول:" قد بلغني تنمُّرُك لبني تميم، وغلظتُك عليهم، … فارتع أبا العباس – أي أرفق – رحمك الله فيما جرى على لسانك ويدك من خير وشرٍّ " . وطلب الوحدة هذا لم يمنعه كذلك من خوض الحروب الداخلية حفاظا على الإسلام من الردة والانحراف، حربا تلو أخرى . وكذلك طلب الوحدة هو الذي جعله نعم المستشار لمن استشاره من الخلفاء السابقين له، حتى قال قائلهم" لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبا الحسن " ، فهو لم يبخل بالمشورة التي قد تؤدي إلى استرداده حقَّه حفاظا على بيضة الإسلام، فقد استشاره الخليفة الثاني غير مرةٍ في الخروج إلى الأعداء بنفسه فقال له:" إنَّك إن شخصت من هذه الأرض، انتفضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العَوْرات أهمَّ إليك مما بين يديك، إنَّ الأعاجم إنْ ينظروا إليك غداً يقولوا (هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم) فيكون ذلك أشدَّ لكلبهم عليك، وطمعهم فيك " . وهذه واحدة من أهمِّ الدلائل على أهمية بيضة الإسلام عنده ، و على كونه صمام الأمان لهذا الدين و هذه الأمة من الخطر و الخطل ، و قد يرى من لا بصيرة له أنَّ هذا توهين من أمير المؤمنين لعزيمة ابن الخطاب للخروج لقتال الكفار بنفسه ، وهو أمرٌ مدحوضٌ بأنَّ أمير المؤمنين لم يكن هو نفسه يذهب لقتالهم ما دام الأمر لا يحتاج إلى أكثر من قائد يقود الجيش وينفذ الأوامر التي تعطى له، فقد خطب مرة يلوم الناس على تقاعسهم عن الجهاد فقالوا له:إن خرجت لقتالهم خرجنا معك ، فقال عليه السلام معنفا إياهم :" إنَّما أنا قطب الرحى تدور عليَّ و أنا بمكاني ،فإذا فارقته استحار مدارها – أي تردد - واضطرب ثِفالها " . وهو أيضا الذي لا يبتدئ أحدا بقتال حتى لو كان أهل الشام ، فلامه أصحابه على ذلك فقال :" أمَّا قولكم ( أكلُّ ذلك كراهية الموت ؟ ) فوالله ما أبالي أدخلت إلى الموت أو خرج الموت إليَّ، وأمَّا قولكم ( شكاَّ في أهل الشام ) فوالله ما دفعتُ الحرب يوماً، إلاَّ وأنا أطمع أنْ تلحق بي ائفة فتهتدي بي ، وتعشو إلى ضوئي، وذلك أحبُّ إليَّ من أنْ أقتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها" ، وهو أرقى احترام لإنسانية الإنسان المسلم بالحفاظ عليه من الهلاك المؤدي إلى الخلود في جهنم . فمن ينعم النظر في سيرته (عليه السلام) يتأكد لديه أنَّه كان يمثل صمام الأمان للأمة الإسلامية من الفرقة و الشَتات، وحصن الإسلام عن الردة والهلاك بلا منازع ولا مشارك. ويبقى سؤال مهم يدور في الأذهان، كيف كان مفهوم الوحدة الإسلامية عند أمير المؤمنين (عليه السلام)؟ . هل كان مفهوما مفتوحا أو بتعبير أدقٍّ تخاذليا بلا حدود و لا ضوابط ؟ أو كان وفقا لضوابط معينة ؟. كل من يعرف علي بن أبي طالب سواء ممن عاصره أو ممن قرأ سيرته يعرف أنه لا تأخذه في الحق لومة لائم فهو كما وصفه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):(يدور مع الحق حيث دار) ومثل هذه الصفة ستجعل حب الوحدة والرغبة فيها يقف عند ضوابط وحدود هي إحقاق الحق، لهذا نجد عليا (عليه السلام) الذي صبر على حقه خمسا وعشرين عاما لم يصبر على معاوية بن أبي سفيان ولم يداهنه و لم يماكره؛ ليس لأنه والي عثمان على الشام و إلا كان قد عزل كل ولاة عثمان بالسرعة التي أمر فيها بعزل معاوية؛ ولكن لأنَّه كان قد استأثر بالملك وجعل مال الله دُوَلة بين الأغنياء دون الفقراء، فهو الذي وصفه أمير المؤمنين وقومه بقوله:" والله لا يزالون – أي في ظلمهم- حتى لا يدعوا لله مُحرَّما إلاَّ استحلوه، ولا عقدا إلا أحلوه، وحتى لا يبقى بيت مدرٍ ولا وبرٍ، إلاَّ ودخله ظلمهم، ونبا به سوء رعيهم، وحتى يقوم الباكيان يبكيان، باكٍ يبكي على دينه، وباكٍ يبكي على دنياه " . وقد فعل ذلك مستندا إلى قوَّة مستمدة من الحق الذي هو منبع القوة الأولى والأقوى في الكون . وهذه القوة التي مصدرها الحق هي التي جعلت أمير المؤمنين يأذن لطلحة و الزبير بمغادرة المدينة حينما استأذناه للذهاب إلى الحج وهو يعلم كذب حجتهما وإنهما ذاهبان ليؤلبا الناس عليه؛ لكنَّه أبى أن يسلبهما حقاً من حقوقهما كمواطنين – بحسب تعبير العصر الحديث- لهما الحق في التنقل في البلاد كما نصت المادة الثانية عشر من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أعلن بعد أكثر من ثلاثة عشر قرنا من رحيل أمير المؤمنين. ولم يأمر باعتقالهما أيضاً لأنَّ هذا الفعل مناف لحقوق الإنسان التي أقرها الإمام علي ( عليه السلام ) قبل أن تكون هي المادة التاسعة من حقوق الإنسان و التي تنص على أنَّه : " لا يجوز القبض على الإنسان أو حجزه أو نفيه تعسفاً ". ثمَّ قاتلهما وقتلهما وهما معتديان ؛ لأنَّ الحقَّ عنده لا يعرف بالرجال . إذاً طلب الوحدة عند أمير المؤمنين لا يعني تضييع الحقوق ولا يعني التخاذل و الخنوع، بل هو قوة تريد إحقاق الحق، وحفظ الكرامة؛ وإحقاق الحق هو بعينه ما تريده الشريعة الإسلامية، وكذلك حفظ الكرامة هي من غايات الشريعة الإسلامية، فحفظ هذين هو حفظٌ للشريعة الإسلامية وتضييعهما تضييع لها؛ والإمام علي هو الأصل المهم من أصول الإسلام والمطبق لأهمِّ أصلٍ يميِّز هذا الدين ممثلا بإلهه من غيره من الأديان والآلهة وهو (العدل) .
المحور الثالث : كيف نعود إلى الوحدة الإسلامية عن طريق الإمام عليٍّ( عليه السلام ): لقد تبين لنا في المحور السابق بالأدلة و البراهين أنَّ الإمام عليَّاً ( عليه السلام ) هو رائد الوحدة الإسلامية، وليس هو من شقَّ عصا المسلمين وفرقهم شيعاً كما يدعي من لا حظّ له من الإنصاف، ومن يدعي ذلك لا يظلم الإمام عليَّاً (عليه السلام) إنَّما يظلم الحقيقة وطلابها، ونحن حينما نبرئ ساحة أمير المؤمنين (عليه السلام) من الفرقة نكون قد أنصفنا الحقيقة أكثر من إنصافنا لأمير المؤمنين (عليه السلام)، فبمثله" يتوحَّد الناس و يتداعون إلى التعاون من أجل الخير " كما يقول جورج جرداق؛ ومع هذا هو أجل شأنا وأرفع منزلة وأبعد من أن يحتاج إلى تبرئة أو كشف تزييف وقع عليه؛ لأنَّ أمير المؤمنين و سيرته نور يستضيء به طلاب الحق والخير والسلام. فأحرى بنا ونحن ندعي أننا اتباع عليٍّ ( عليه السلام ) أو أننا ننتمي إلى الدين نفسه الذي قاتل من أجله أمير المؤمنين صبيا وكهلاً أن نقتدي بسيرته، وأن نتخذه مشعلا نستضيء به في حلكة أيامنا هذه فضلا عن غيرها ما دام عزيزا علينا أن نجد من هو من طراز أمير المؤمنين ليقود الأمة. وأصعب به من أمرٍ أن نجد من هو من طرازه . ولم يكن هديه الذي نطلبه كما تبيَّن في توحيد كلمة المسلمين و حفظ بيضة الإسلام اعتباطيَّاً ولا تخاذلياً إنَّما طلب الوحدة على وفقِ ضوابط عملية مهمة يمكن أن نلخصها بما يأتي : _ 1- حفظ حقوق الإنسان لانتمائه إلى النوع الإنسانيِّ دون غيره من الانتماءات الدينية والمذهبية والقبيلة وسواها . 2- النظر إلى المسلم باعتبار الشهادتين دون سواهما ، و حفظ دمه و ماله و عرضه بهذا الاعتبار فقد نصت الشريعة الإسلامية على من شهد الشهادتين بلسانه حفظ دمه وماله وعرضه . 3- رفض المداهنة ؛ لأنَّ المداهنة تضييع للحقوق ، وتضييع الحقوق ليس من الوحدة في شيءٍ إنَّما هو ضعفٌ وتخاذل . 4- ليكون شعار الساسة قول أمير المؤمنين (عليه السلام) :" لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين و لم يكن بها جورٌ إلاَّ عليَّ خاصة " لا العكس من هذا القول الذي نراه اليوم من تقديم مصالح الساسة الشخصية و الفئوية على مصالح العباد و البلاد . ولأنَّ دستور الوحدة الإسلامية و الإنسانية من وضع الإمام عليٍّ ( عليه السلام ) علينا أن لا نغض الطرف عن عليٍّ وسيرته ، بل نتحدث عن عليٍّ، وعن سيرة عليٍّ، وعدل عليٍّ، وعظمة عليٍّ، وحقِّ عليٍّ (عليه أفضل الصلاة والسلام)، نتحدث عن كلِّ ذلك من دون مواربة ولا خوف من الفرقة والاختلاف؛ لأنَّ عليَّاً (عليه السلام) والحديث عنه لا يؤدي إلى الفرقة والاختلاف، بل إلى الوحدة بين أبناء الإنسانية جمعاء من جهة وبينهم وبين الوجود من جهة أخرى.كيف لا وهو معشوق كلِّ طلاب العدل والفضيلة والحق مهما اختلفت مشاربهم .
#فاطمة_العتابي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مقطوعتان
-
قصة قصيرة
المزيد.....
-
الأمم المتحدة تحذر: توقف شبه كامل لتوصيل الغذاء في غزة
-
أوامر اعتقال من الجنائية الدولية بحق نتانياهو
-
معتقلا ببذلة السجن البرتقالية: كيف صور مستخدمون نتنياهو معد
...
-
منظمة التعاون الإسلامي ترحب بإصدار المحكمة الجنائية الدولية
...
-
البنتاجون: نرفض مذكرتي المحكمة الجنائية الدولية باعتقال نتني
...
-
الأونروا: 91% من سكان غزة يواجهون احتماليات عالية من مستويات
...
-
الإطار التنسيقي العراقي يرحب بقرار الجنائية الدولية اعتقال ن
...
-
وزير الدفاع الإيطالي: سيتعين علينا اعتقال نتنياهو وغالانت لأ
...
-
قرار الجنائية الدولية.. كيف سيؤثر أمر الاعتقال على نتانياهو؟
...
-
أول تعليق للبنتاغون على أمر الجنائية الدولية باعتقال نتانياه
...
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|