|
مشاهد سورية الجديدة وملامحها
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3810 - 2012 / 8 / 5 - 21:57
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
طوال نحو نصف قرن من الحكم البعثي، وفي عقود الحكم الأسدي الأربعة بخاصة، كان في سورية فاعل سياسي وحيد هو "النظام". وكان هذا مردودا إلى نواة صلبة ضيقة، سياسية أمنية، علاها طاغية فرد ثلاثين عاما، ثم أسرته منذ دزينة من السنين. المجتمع السوري، وهو أكثر مجتمعات المشرق تعقيدا، كان ممنوعا من السياسة والتعبير عن نفسه. المعارضة السياسية مقموعة ومحطمة. الجيش "عقائدي"، أي منزوع الصفة الوطنية العامة، وتابع للنظام. بعد نحو 17 شهرا من الثورة يتشكل مشهد سياسي سورية جديد، معقد، لا يشكل النظام غير طرف واحد منه. كان النظام "طرفا" اجتماعيا خاصا على الدوام، فاقدا للصفة العامة، وإن احتجب ذلك بفعل الاستيلاء على الدولة العامة. ومن المحتمل جدا أن نراه في وقت قريب صريحا في طرفيته، يعمل لحسابه الخاص بعد أن أيقن بخسارة الدولة. هناك اليوم طيف سياسي عريض، يتشكل من معارضين سياسيين تقليديين، ومن منشقين عن النظام، ومن مثقفين ومهنيين يعملون سياسيين. ويعرض هذا الطيف انقساما وتخاصما مألوفين، تفاقما بعد الثورة، دون أن يكون في ذلك أي جديد. ففي كل مرة يبدو فيها الترتيب السياسي القائم مزعزعا أو موشكا على التغير، يشتد الانقسام ويحتدم التنازع داخل الطيف السياسي السوري. للأمر على الأرجح صلة باستبطان الضآلة وعقد النقص حيال نظام نجح في إبادة معارضيه سياسيا طوال عقود، وبتهافت موقف قطاعات من المعارضة التقليدية (تعترض على النظام سياسيا، لكنها توافق عليه ثقافيا ونفسيا وتخشى تغييره). وفي الأساس هناك ضعف الإجماعات الوطنية السورية، فكريا ومؤسسيا. وهو ما يحيل بدوره إلى حداثة كيان البلد و"اصطناعه"، وانقضاء أكثر من نصف تاريخه في ظل نظم سياسية وإيديولوجية تنكره لمصلحة ما فوقه نظريا (الأمة العربية) وما دونه عمليا (القرابات الدموية والعقدية). وفي سنوات الحكم الأسدي بخاصة تحولت إدارة انقسامات التكوين السوري المعقد إلى أداة حاسمة للسيطرة السياسية ودوام النظام. وما يؤخذ على المعارضة التقليدية في هذا الشأن، أكثر حتى من انقساماتها وخصوماتها، هو مقاومتها العنيفة لإدراك جذور هذا الانقسام في تكوين سورية والمجتمع السوري وفي تاريخهما. ولعلها لذلك في سبيلها إلى أن تطوى مع انطواء النظام الذي تعارضه، ودخول سورية في طور جديد وأكثر جدية من الصراعات الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية. غير النظام وطيف سياسي متسع، يدخل المشهد السوري العام طرف ثالث يزداد اتساعا وقوة، عسكريون ومقاتلون، يملكون القوة المادية، ويسددون ضريبة دم عالية (ربما ربع عدد الشهداء الكلي، فوق 18 ألفا حتى مساء 2 آب) تعود عليهم بشرعية مضمونة، ويعبرون أكثر وأكثر عن مواقف سياسية صريحة. منها مثلا مشروع للمرحلة الانتقالية، صدر عن "القيادة المشتركة للجيش السوري الحر في الداخل"، ويتضمن تأسيس مجلس أعلى للدفاع، ومجلس للأمن الوطني، ومجلس وطني أعلى لحماية الثورة، تتبعه أقل من 11 هيئة متنوعة، فضلا عن مشروع لحكومة انتقالية، تضم لا أقل من 38 وزيرا، وهيئة مستشارين. وتمنح القيادة نفسها حق تعيين وزيري الداخلية والدفاع ووزيرا ثالثا لشؤون رئاسة الحكومة، وتؤسس هي مجلسا رئاسيا من ست شخصيات. هذا مشروع معقد وبلا رؤية، لكنه إعلان واضح عن طموحات العسكريين السياسية، ودخولهم كطرف جديد إلى المشهد السوري. ووراء هذه الأطراف الثلاثة الظاهرة هناك مجتمع نشط وغاضب، شارك ملايين منه في الثورة بصورة مباشرة، وقدم ألوف الشهداء، منهم 1375 امرأة وطفلة و1207 طفلا ذكرا، وعشرات ألوف المعتقلين، وما يقترب من ثلاثة ملايين مهجّر ونازح داخل البلد وخارجها حتى اليوم. وليس واردا في أي وقت قريب أن يهدأ هذا الجمهور سياسيا، أو يركن إلى سياسيي المعارضة وعسكرييها الطامحين، وهو الذي ثار على النظام الأسدي المتماسك. وإلى ذلك تسجل الجماعات الأهلية حضورا يزداد قوة، وتفرض نفسها سياسيا. ويظهر إلى جانبها انقسامات جهوية، خفيت عقودا. ولا يبعد أن تعيد قطاعات من المعارضة التقليدية تدوير نفسها بالارتباط مع العسكر و/ أو الروابط الأهلية والجهوية. هذه اللوحة المرسومة بخشونة تكفي للقول إن الأمر لم يعد يتعلق في سورية بثورة تعمل على إسقاط النظام أو التغيير السياسي على ما جرى في بلدان عربية أخرى. الأمر أوسع وأكثر عمقا بكثير. قيامة. وما يرجح أن تتمخض عنه هذه القيامة، هو إعادة تشكيل سورية مجتمعا ودولة ومؤسسات، عسكرية وسياسية ومدنية. ومعها أو قبلها إعادة تشكيل سورية كمعنى أو هوية، بصورة تستجيب لتكوين المجتمع السوري، ولكفاح السوريين طوال 17 شهرا حتى اليوم. وهذا ما يدرج الثورة السورية في خانة الثورات التاريخية الكبرى التي تفيض فيها المجتمعات على الأطر السياسية والفكرية القائمة وتحطمها، وتدوم عملياتها وارتداداتها سنوات طويلة، وتتسبب في اضطراب واسع في مجمل إقليمها، ويمتنع تقدير نهاياتها. وهذا كله مقترن بعنف واسع، متولد عن انهيار الأبنية الفكرية والهياكل السياسية التي كانت توفر إجماعا من نوع ما، ولو سلبي، فتقنن العنف. ينهار النظام الأسدي وعقيدته البعثية، وتصور سورية الموروث من أزمنة ما بعد الاستقلال، "القطر العربي السوري"، وتتقدم الجماعات المتنوع بسردياتها وأساطيرها ومقدساتها ورموزها. ويزيد المشهد تعقيدا دخول فاعلين إقليميين ودوليين يتجاوز تأثيرهم النطاق السياسي والظرفي إلى النطاقين الإيديولوجي والاقتصادي، وعلى مدى أطول، ويصعب تقدير تفاعلاته. وللنظرة الأولى، قد يبدو أن سورية تتجه لأن تشبه نفسها قبل الحكم البعثي، الزمن الذي فرض عليها نسيانه قسرا، والمرشحة لذلك بالذات إلى تكراره: حياة سياسية مضطربة، ومشاركة أكبر للعسكريين فيها، وتعرض البلاد لتجاذبات إقليمية ودولية. لكن نقدر لذلك أن يكون وجها واحدا لتشكل سوري جديد، وما يرجح أن نراه هو مجتمع أكثر نشاطا واختلافا، أكثر حرية وحيوية وقلقا، لكن أكثر سورية. هل في صعود السورية ما يؤسس لإجماعات وطنية جديدة، تستوعب الأهلي وتتجاوزه؟ وكيف سينعكس ذلك على خيارات سياسية الجيوسياسية؟ وأي وضع للعروبة ضمن الوطنية السورية الجديدة؟ هذه أسئلة للمستقبل. أما مجمل مفاعيل التحرر المنتزع بعد صراع عنيف فربما تأخذ سنوات أطول قبل أن تظهر.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تكوين الثورة وعمليات تشكل سورية الجديدة
-
حقوق الأقليات أم جمهورية المواطنين؟
-
فصل رابع من الصراع السوري
-
على درب القيامة الكبرى في دمشق
-
لماذا، وضد من يثور السوريون؟
-
الثورة السورية وظاهرة -الانشقاق-... أية سياسة؟
-
في عالم انفعالات الثورة السورية
-
الثورات العربية وصعود الإسلاميين السياسي
-
إبطال وظيفة السجن... حوار حول كتاب -بالخلاص، يا شباب!-
-
في جذور الحرب وامتناع السياسة...
-
صعود العدمية المقاتلة في سورية
-
ثلاثي الحرب السورية... دولتان قوميتان وطغمة
-
أجساد سورية العميقة وأرواح سورية الظاهرة
-
على مشارف الحرب السورية
-
من الأبوات إلى الأنوات... جيلان من السياسة والثقافة
-
نظام الأسد بلا... أسد!
-
صورة -الشوايا- وحال منطقة الجزيرة السورية
-
الثورة وإفلاس نماذج التحليل السائدة
-
أنا والتلفزيون والثورة
-
الثورة والسلاح: خطوط عريضة من القصة
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|