|
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والحلول المحتملة ب-الوضع الراهن في الشرق الاوسط والمستجدات المحتملة -4
عبدالله اوجلان
الحوار المتمدن-العدد: 1112 - 2005 / 2 / 17 - 07:56
المحور:
القضية الكردية
ما يُقصَد بالثورة الذهنية هو وعي المجتمع الحر وعقيدته. والوعي ليس مجرد معرفة المجريات والحوادث. بل هو أيضاً معرفة كيفية العمل إزاءها. في حين أن العقيدة تعني إيمان المرء بما يعرفه، وقيامه بمتطلباته. إنها تعبِّر عن قدرته وعزمه في التنفيذ. لا يمكن خوض صراع أيديولوجي صائب وقدير، دون الإدراك الحسن للذهنية المسلَّطة على مجتمع الشرق الأوسط، ودون التمييز والفصل بين جوانبها الواجب تخطيها، وجوانبها الواجب أخذها كميراث؛ بالإضافة إلى معرفة القوالب الذهنية الواجب خوض الصراع تجاهها. وكسب الذهنية يعني كسب الوعي والعقيدة الاجتماعيين اللذين يجب تعبئة أنفسنا وإعدادها بهما، عبر سلوكِ موقفٍ أخلاقي، وبذلِ كدحٍ عظيم ودؤوب. مَن لا يُعَظِّم من عالَمه الذهني، لن يستطيع خوض صراعه من أجل الحرية على المدى الطويل. اللحظة والمكان اللذين يبدأ فيهما التردي والانحطاط بالظهور، هما نفس اللحظة والمكان اللذين تتجوف فيهما الذهنية وتَفرُغ وتزول. كل ما قام به جميع الحكماء والأنبياء في الشرق الأوسط، هو صراع ذهني في مضمونه. لا قيمة للذهنية ما لم ترتبط بالأخلاق. والأخلاق بدورها هي قوة السير في الوجهة التي ينوِّرها الوعي، رغم كل القلاقل والأخطاء. وتعني أيضاً الإصرار على القيم الوجدانية للمجتمع كشرط لا استغناء عنه. أما انقطاع الأواصر بين الوعي والأخلاق، فيعني تفشي الثرثرة والهذر والبطالة والانسياب مع التيار. على ذهنيتنا أن تبلغ ذهنية الطرف المقابل أيضاً، وأن تقتات منها بالقدر المطلوب. لقد نَظَّمَت ذهنيةُ قوةِ الدولة ذاتها بشكل راسخ في كل زمان. لا يمكن استصغار ذلك أو الاستخفاف به. حيث لا يمكن تحقيق أي انطلاقة أو حل، دون تطويق هذه الذهنية. أما السياسة والعملية (بما فيها المجال العسكري أيضاً) المنقطعتان عن الذهنية والأخلاق، فقد تنفجران بنا في أية لحظة كلغم موقوت. لذا يجب ممارسة سياساتنا وعملياتنا على الدوام على ضوء ذهنيتنا وبموجب موقفنا الأخلاقي. وإلا، فلا خلاص لنا من أن نصبح آلة أو أداة للحملات السياسية للذهنيات المضادة. إننا ننوه على الدوام إلى مهالك البدء بالحملات السياسية دون النجاح في خوض الصراعات الذهنية في ظل هذه البنود الأساسية. لأجل هذا ينزوي الزاهدون والمتنسكون العظماء في التاريخ على أنفسهم لاكتساب القدرات الذهنية، بغرض تلقين البشرية دروساً وعظات، ولعرقلة تكرار هذه المهالك والأخطار. لا تعمل أمريكا عبثاً على تأسيس المئات من الذهنيات والأفكار والآراء (تينغ – تانغ)، رغم كونها قوة إمبراطورية. إنها تدرك يقيناً، انطلاقاً من التجارب التاريخية، أنه بقدر امتلاكها معلومات واسعة بحق المناطق التي تتوجه صوبها، ستقوم بما هو صحيح حسب ما ترتأيه هي. أما الإسلام والطرائق المنتعشة مجدداً في المنطقة، فقد تولَّدت أصلاً انطلاقاً من رغبة بعض الشرائح الاجتماعية في كسب الذهنية اللازمة لها. لا يمكن خوض صراع ذهني صائب، دون تحليل الطرائق الدينية، وبشكل عام دون البحث والتدقيق في تأثير الإسلاموية المنتعشة مجدداً، على المجتمع. الأمر صحيح بالنسبة للقومويات أيضاً. إذ لا يمكن خوض صراع أيديولوجي وعملي قدير وكُفء في منطقة الشرق الأوسط، بدون فهم شيوعة وسريان مفعول الذهنية القوموية في المجتمع، والتي هي ضرب من ضروب الإثنية المعاصرة، وكذلك بدون فهم كيفية نشوئها وتنظيمها ذاتها. هذا ويجب استيعاب ذهنية القوة الإثنية المتبدية على شكل ميول عائلية وقبلية، والمستمرة في وجودها حتى الآن؛ والرد عليها بشكل صائب. كما يتوجب رؤية أن إدراك وتطويق كل هذه الذهنيات، وإمداد المعنيين بها بالقيم الذهنية الحقيقية اللازمة لهم؛ إنما هي واجبات أولية لازمة وضرورية، ولكنها أصعب من الصراعات العملية بأمثال مضاعفة. يتوجب علينا لدى الشروع بالصراع الذهني في الشرق الأوسط، أن نفعل تماماً مثلما فعل سيدنا موسى في إدارته لقبيلته العبرية، ومثلما تصارع سيدنا داوود مع "جولياد Golyat"، ومثلما أَعَدَّ سيدنا عيسى حوارييه وأَهَّبَهم، ومثلما حث سيدنا محمد (ص) المؤمنين به على العمل. هذا ويجب علينا معرفة قول "اعرف نفسك" بحماس سقراط، وقول "أعطِ الديمقراطية قيمتها" بنشوة وغبطة بركليس (Perikles)، وقول "افتح الطريق للإسكندر" بعِلْم أرسطو. إن اكتساب الذهنية في الشرق الأوسط يعني الهرع نحو الطبيعة، وحب الإنسان، والتعطش إلى العلم بحماس النهضة؛ ويعني ثقب الدوغمائيات الدينية واختراقها، والتحلي بالعقيدة اللازمة في الذات عبر الإصلاح؛ ويعني نقل العلم والفلسفة والفن إلى الشعب، وتأهيب حركة المتنورين وإعدادها على مجموعات متتالية في سبيل الحرية عن طريق التنوير. لا يمكن أن تُضفى المعاني على عملية التفكير لدى المسير، والسير لدى التفكير في الشرق الأوسط؛ إلا إذا تزامن مع ذهنية معرَّفة على هذا الشكل. حينها فقط ستُكتَسَب حيوية العصور النيوليتية الطبيعية، وقوة التقرب الحماسي والمقدس من كل شيء. وحينها ستُفتَح أمامنا صفحات الفكر الميثولوجي للعصور الحضارية المليء بالعظات، وصفحات كُتُب الحكمة واحدة تلو الأخرى. وسنقرأ وقتئذ تاريخ الأنسنة والحضرنة المروِّع والمقدس، المجمِّد للعقول والمحمِّس إياها، المتسامي بالحياة والهاوي بها إلى الأسفل في آن معاً. وستزدهر المعاني الحقة لتجارب أولئك الأنبياء العظام في الكتب المقدسة. وستتدفق أنهر الحضارة، التي كانت نضبت، واحدة تلو الأخرى؛ وتتمدن الأطلال. وستبرز القروية الشفافة مزدهرة فوق جُثوات التراب المتكدسة فوق المقابر. وستنهمر كل القيم، البيضاء منها والسوداء، إلى الميدان؛ بدءاً من أظلم الظالمين حتى أغنى الأغنياء، ومن نمرود إلى قارون، من أيوب إلى مظلوم وفرهاد وكمال. وما الصراع الذهني سوى تعبير صريح عن كافة هذه القيم، ونقشها في عقولنا وأفئدتنا. حينها لن يكون بالإمكان التذرع بأي قوة، أو بأي احتياج بسيط في الحياة، أو بأي إهمال أو إمهال. سنحللها جميعها ونتخطاها بوعينا الذي بقدر البحر، وبإرادتنا الحماسية والغبطة بقدر السيل الجارف. وآنئذ، سنركِّز بكل دهاء على كل ما يسمى بالسياسة والعسكرتارية، لنرد عليها بأجوبتنا الملحمية. من المحال الوصول إلى أي منزلة بالمواقف الدينية والقوموية الكلاسيكية، اليسارية منها واليمينية، في الأرضية والزمان الحاليين لمنطقة الشرق الأوسط. بل ومن الصعب النجاة من "الكفر" عبرها، على حد قول الأنبياء. هذا ومن العسير بلوغ أي مرتبة عبر اليسار الجديد، أو المجتمع المدني الهوائي غير المتجذر، أو حركة المرأة الجاهلة بالتاريخ والغريبة عن الكدح. أما السير عبر البورجوازية الصغيرة المدينية المفلسة والمنحصرة في خناق ضيق، وعبر مثل تلك المسيرات المفتقرة إلى الذهنية والإيمان؛ فيمكن الوصول به إلى مكان للتنزه والاستجمام، لا غير. أما بالأعجوبات الغارقة في السمسرة، والمنجرّة وراء هيام المنصب؛ فلا يمكن الدفاع عن أية فكرة أو عقيدة. بهذه الشاكلة، من المحال تلبية احتياجات وآمال إنسان الشرق الأوسط وشعوبه التي طالما رأت الشمس والأيام المزدهرة، وطالما تلقت الضرب المبرح في العديد من أماكنها. ستؤول بنا تعبئة أنفسنا بذهنية يمكن تعريفها بهذا النحو، والسير بموجبها لدى الشروع بالتحرك فوق الواقع الاجتماعي للشرق الأوسط؛ إلى التاريخ المخفي في الأغوار، وإلى فؤاده المتحول إلى رماد. وستبلغ بنا إلى حقيقته التي طالما بحثت عن النور. حينها فقط سنكون بدأنا بالصراع النبيل اللائق بتاريخه الحقيقي وبالهائمين بالحرية. وآنئذ لا يمكن إيقاف هذا الصراع. وحتى إنْ حُرِّف عن مساره، أو تعرض للخيانة؛ فإنه سيهدأ ويهتدي في بعض الأماكن، ليتجه نحو هدفه. حينئذ، سيكون التاريخ لنا، وسينبض القلب معنا على الدوام. وستتحول حقيقتنا الاجتماعية إلى ألوهيتها التي أوجدتها. وستتمتع شعوبنا بحرياتها التي طالما تاقت إليها واستحقتها على مر آلاف السنين. يجب أن يتضمن الخيار السياسي المزايا التي تخوله ليكون الجواب المرتقب لمشاكل الحرية العالقة، أثناء خروج المجتمع الشرق أوسطي من الفوضى، ليس على الصعيد الإقليمي فحسب، بل وفي المستويّة الكونية أيضاً. إن مصير الحملة العالمية هو الذي يُرسَم في المنطقة. الأمر كذلك لأن نجاح النظام القائم بالزعامة الأمريكية سيحدد مستقبل العالم برمته. وبما أن استمرار وجود أحلاف السلطة (المؤلفة من مختلف القوى الإقطاعية في القرن العشرين) كما هو عليه، يُعتَبَر الاحتمال الأصعب؛ فستُضطَر القاعدة الواسعة للمجتمع، والتي تعاني من عبء التسلط تقليدياً؛ للدخول في جدول الأعمال، والبروز إلى الميدان. الأمر هكذا لأنه يلبي حاجة القوى الرأسمالية العالمية الساعية لإعادة البناء أيضاً. لكن إمكانية تحديد نطاق الحشود الغفيرة، التي ستستيقظ وتنتفض من سباتها، وفق هذه الرغبات فقط؛ أمر محفوف بالشكوك. ذلك أنه مجهول ما سيخرج من داخل علبة بندورا. وما سيبدد هذا الغموض هو الجهود الخلاقة والتحريرية بالذات، والتي ستُبذَل في مساحة الفوضى البينية. سنشهد مرحلة تغيرات سياسية كثيفة بما لا يقاس بأي مرحلة أخرى من التاريخ. فإعادة بناء المجتمع دخلت جدول أعمال التاريخ، تماماً كما تُبنى المدن الحديثة. تتوارى هذه الحقيقة في خلفية كل المصاعب المعاشة في الشرق الأوسط. ستُخاض الصراعات من أجل إعادة بناء النظام الحاكم من جهة، وإعادة بناء قوى الحرية للشعوب والمجتمعات من الجهة الثانية، في أوساط مشحونة بالعلاقات والتناقضات المحتدمة. علينا إعادة التعريف السياسي للأحلاف حسب خصوصيات المنطقة أولاً، قبل الولوج في مسألة إعادة بنائها. حيث تشمل التعاريفَ الحالية أول الدائمية للسياسة بإعتبارها الإدارة العملية للمجتمعات. يمكن تعريفها أيضاً بسياسة القفزة، إذا كانت السياسة المتزمنة هي السائدة، وإذا كانت ستؤدي إلى تجميد المجتمع وجعله يتراوح في مكانه. أما التعريف الثالث لها فيمكن أن يُعنى بالمضمون. حيث يمكن تعريفها بالسياسة الدولتية إن كانت معنية بحلف الدولة، أو تعريفها بالسياسة الديمقراطية إن كانت معنية بالحشود الموجودة خارج نطاق الدولة. هذا ويمكن الوصول إلى صياغة تعريف لها في ميادين أخرى من قبيل الاقتصاد، السياسة، الثقافة، علم الاجتماع، والفن. حيث يمكن تعريفها بالسياسة العليا فيما يخص المتغيرات العليا المعنية بالمجتمع؛ أو تعريفها بالسياسة القاعدية أو الضحلة والسطحية فيما يخص المتغيرات العليا المعنية بالساحات الأدنى أو الأضيق نطاقاً. تتمثل النقطة المشتركة لكل هذه التعاريف في إطلاق تسمية السياسة على فنون الإدراة والتنفيذ والتغير والتحول الاجتماعي. يُعنى النشاط السياسي بأعمال بناء المجتمع. وفي حين يكون النشاط الذهني معنياً بصياعة اليوتوبيات والمشاريع والمخططات، سيكون النشاط السياسي معنياً بالتدريب والتعليم والتنظيم والعملية. يتميز عدم الخلط بين الأنشطة الذهنية والأخرى السياسية بأهمية قصوى، تماثل أهمية عدم الخلط المعاكس أيضاً. أما مسألة الإعمار، والعامل والمحترِف؛ فبالمقدور تعريفها بالفن (الفن السياسي) الذي يتطلب عناية فائقة للغاية في المجال الاجتماعي. إذن، فممارسة السياسة تستلزم إعداد النفْس في الميدان الذهني، وتعبئة الذات بالقوة اللازمة من أجل إدارة شؤون المجتمع وإحداث تغيره وتحوله في الميدان العملي. أي أنها تتطلب مهارة التدريب والتعليم والتنظيم والعملية. إذ لم تُطلَق تسمية "الفن المقدس" على السياسة عبثاً. في الحقيقة، يتم التنويه إلى الفن الإلهي لدى القول بالمَلك الإله، أوبالسلطان ظل الإله، أو بالدولة في حالة الإله المجسَّم. لذا يجب قراءة السوسيولوجيا، أو علم الإجتماع، بوجهة نظر كفء وقديرة، لدى تحليل الدين والميثولوجيا. تتم إعادة الإعمار العسكري والسياسي بكثافة ملحوظة في الشرق الأوسط، من أجل أمريكا وشركائها النخبة. لكن، يجب الفصل بين السياسة والممارسة العسكرية العملية. فاسم السياسة يغدو "الحرب" أو "العسكرتارية" في الوسط المشحون بالصراع المسلح المحتدم. والقتالية في مثل هذه الأوساط، هي المعيِّن الأصلي. في حين تظهر السياسة أمامنا كامتداد للأنشطة المرتبطة بالجيش، في الوسط الذي تصمت فيه البنادق (الأسلحة). أي أن الدارج هو عكس صياغة" كلوزاويتزClausewitz". بمعنى آخر، فالحرب هي التي تحدِّد السياسة، لا السياسة تحدِّد الحرب. وهذه الحقيقة عارية ومنكشفة أمامنا تماماً في العراق. فالحرب التكنولوجية الأمريكية الأخيرة هي التي تشق طريق السياسة (السياسة الجديدة) في العراق. هذا وطالما كانت الحرب منتصبة في بداية درب السياسة طيلة تاريخ ميزوتوتاميا. تعكس الحرب الأخيرة هذه الحقيقة التاريخية بكل صدق وأمانة. تتسارع وتيرة الأنشطة السياسي كامتداد للحرب، لدى انخفاض مستوى حِدّة الحرب، أو توقفها كلياً. إذن، فالسياسة هي القسم غير المسلح من الحرب. أو هي القسم المعني بالتدريب والتعليم والتنظيم والعملياتية، دون اللجوء إلى السلاح، ولكن المسيَّر اعتماداً على الذهية الكامنة وراءه. بهذا المعنى، تقوم أمريكا وشركاؤها على تسيير عملية إعادة البناء السياسي، وإطراء التحولات والتغيرات فيه، كدعامة أساسية لذهنية "مشروع الشرق الأوسط الكبير" في عموم منطقة الشرق الأوسط، وفي العراق وأفغانستان في الصدارة؛ تحت غطاء المساندة العسكرية الكثيفة. وقد اختصرنا هذه الأنشطة على شكل ثلاثة سيناريوهات في القسم السابق. مقابل ذلك، تبرز الأهمية القصوى لتسليط الضوء على أنواع وأشكال الصراع السياسي المكلَّفةُ به قوى الحرية المناهِضة للأنشطة الآنفة الذكر، على خلفية الدفاع عن الشعب والمجتمع. لهذا الغرض قمنا أولاً بصياغة تعاريفنا اللازمة بصدد الذهنية، بالإضافة إلى التعاريف السياسية. تتجسد المهمة الأولى في المخطط المرسوم، لدى لملمة السياسة المرئية أشلاءها، في تأمين نهوض الشعوب انطلاقاً من موقفها الديمقراطي، ومن المجتمع المشاعي غير المتمحور حول الدولة؛ وفي تسيير عملية الدمقرطة بناء عليه، وتطويرها وإضفاء النوعية عليها. يجب تناول مسألة عدم التمحور حول الدولة، من الناحية المبدئية. فالحرية الاجتماعية تتنافى والأنشطة المتمحورة حول الدولة. ذلك أن النشاط المتمحور حول الدولة لا يمكن تسييره إلا باسم القوى التسلطية. وبما أن المهمة الأولية للقوى الاجتماعية المتخِذة من الحرية أساساً، تتمثل في مناهضة التسلط، لا إقامة العلاقات معه؛ فمن المفهوم تماماً أن تتمحور حول الديمقراطية، باعتبارها سياسة خارجة عن نطاق الدولة. إننا نَفصُل هنا تعريفنا للديمقراطية عن تلك الديمقراطية التي تكون غطاءً بورجوازياً للدولة. بل ويجب التمييز والفصل بكل عناية ودقة، بين الديمقراطيات الحقة ـ منذ ديمقراطية أثينا، بل وحتى منذ ديمقراطيات أُولى المدن السومرية ـ وبين الدولة. حيث من المستحيل أن تكون إحداهما امتداداً للأخرى. بل إن تكاثر إحداهما يعني تناقص الأخرى، مثلما أن زوال إحداهما يعني الانتصار التام للثانية. أما الديمقراطية التي تفرضها أمريكا وشركاؤها، فهي ديمقراطية نصف بورجوازية ـ نصف إقطاعية، معنية بوسط محدود للغاية، ومعتمدة على الجهاز العسكري والسلطوي المكثف. في حين أن قوى الحرية الاجتماعية تَعَتبر السياسة الديمقراطية نشاطاً أولياً لها، حتى ولو ارتكزت إلى قوة أصغرية للدفاع عن المجتمع. أما السياسة الديمقراطية، فتشمل بدورها أنشطة تدريب كافة الأفراد والمجموعات الاجتماعية القابعة في ظل التحكم؛ وتنظيمها وخرطها في العمليات (التظاهرات، الاحتجاجات، الانتفاضات، والحرب – لدى فرض الظروف ذلك – لأهداف سياسية وقانونية واقتصادية). إما أن تكون هذه الأنشطة ممارسات يومية، أو فعاليات معنية بالإصلاح والتغيير العاديَّين. أما إنْ كانت تشمل تغييراً أرفع نوعية، فهي إذن نشاطات ثورية. وبقدر ما تتكاثف نشاطات السلطة والديمقراطية للنظام الحاكم، يتم تكثيف نشاطات الديمقراطية لقوى الحرية بنفس القدر وبشكل متداخل، وتسيَّر أحياناً وجهاً لوجه مع الأولى. مهم للغاية عدم الوقوع في الأخطاء التي دخلتها الثورات الإنكليزية والفرنسية والروسية في التاريخ. هذا بدوره ما يتطلب توخي الدقة الفائقة في عدم الوقوع في خطأ تاريخي فادح (يمكن تسميته أيضاً بالحقيقة الإرغامية) وفاجعة وخيمة من قبيل إنكار النشاطات الديمقراطية لكلا الطرفين المعنيين بعضها بعضاً، أو قضائها على بعضها البعض، أو انصهار إحداها في بوتقة الثانية. فبالإمكان أن تتواجد العلاقات والتناقضات على السواء بين كلتا الديمقراطيتين. وكيفما يمكن أن تكونا متداخلتين، فقد تكونان وجهاً لوجه أمام بعضهما. الأمر الأساسي هنا هو عدم الوقوع في خطر الانفراد بالذات بصهر إحداهما للأخرى، عبر الجنوح إلى إنكار الأخرى أو القضاء عليها. هذا ويجب التحلي بالاستيعاب التام لقواعد وشروط ومبادئ وأسس أن تكونا متداخلتين معاً، أو متواجهتين. أما الانفراد بالذات فهو اتجاه خطير دائماً في الديمقراطيات، حيث يؤدي فيما بعد إلى الإنكار الديمقراطي. يتمثل الجانب المتفوق للدهاء الديمقراطي في إبداء الحساسية الفائقة إزاء الخيار الديمقراطي الخاص بكل مجموعة في الداخل والخارج. أما العكس، فهو سياسة المَلك الفيلسوف الأفلاطوني، وسياسة المَلك الإله الميثولوجي. كما أنه سياسة الفاشية والتوتاليتارية والهرمية والاستبدادية وكافة أنواع الديكتاتورية. وفي المحصلة يكون ممثلاً للديمقراطية المناوئة الخاصة بجميع النظم التسلطية والتحكمية. ثمة احتمال كبير بأن تتسم الديمقراطية، التي ستتطور في الشرق الأوسط، بماهية مختلطة. حيث من المحتمل أن تشتمل على مطاليب الطبقتين البورجوازية والإقطاعية، ومطاليب الطبقات والمجموعات الكادحة معاً بشكل متداخل. حيث أن عهد الديمقراطية البورجوازية لوحدها قد عفا عليه الزمان. وبالأصل، هي لم تُطبَّق بشكلها النقي أبداً، تماماً مثلما لم تطبَّق ديمقراطية القوى الشعبية الاجتماعية لوحدها، وبشكل منفرد. بالطبع، لا تعني هذه التعاريف بأن الديمقراطيات الاجتماعية الشعبية، والديمقراطيات البورجوازية، لن تكون منفصلة عن بعضها بتاتاً. ذلك أن كل مجموعة شعبية تعيش ديمقراطيتها بكثافة، ويجب أن تعيشها هكذا. فبقدر ما تهضم ديمقراطيتها الذاتية، سيكون بإمكانها تسيير ديمقراطية مشتركة مع المجموعات والطبقات الأخرى، وبنحو أكثر مبدئية وخبرة. كذلك ستقدر حينها على تغييرها وتحويلها. لِنَرَ العلاقة الكامنة بين الظواهر المجتمعية والديمقراطية عن كثب أكبر في منطقة الشرق الأوسط، في ضوء هذه التحليلات. لقد وجدنا أن مصطلح "دمقرطة الدولة" ليس بمصطلح صائب. أما الصواب فهو "حساسية الدولة تجاه الديمقراطية". والحساسية تعني القبول والاعتراف بالذهنية الديمقراطية، وبالبناء والممارسات الديمقراطية. بالمستطاع القول أن قوة الدولة وضخامتها تَحُدُّ من هذا الوضع. هذا صحيح. ووجود الديمقراطية أصلاً يعني الحد من نطاق الدولة، وتحجيمها. يجب إعادة تعريف الدولة بأنها شكل التنظيم والتمأسس الضروري والاضطراري، لتلبية الاحتياجات في ميدان "الأمن العام" و"الساحة العامة المشتركة" ذات الماهية نفسها؛ وذلك في البلدان التي تنشط فيها الديمقراطية وتتفعل بكفاءة. لا وجود للدولة التسلطية الكلاسيكية في الديمقراطيات. ضمن هذا الإطار فقط، يمكن أن تتواجد الدولة والديمقراطية معاً. وفي شروط عصرنا الحالي، ليس هناك إمكانية للوجود الكلي للدولة الكلاسيكية، ولا للوجود الكلي للإدارة الديمقراطية. بهذا المعنى، فإننا نسمي عصرنا بعصر الانتقال من الدولة إلى الديمقراطية. حيث تتواجد المؤسسات الأولية – القديمة منها والحديثة المعنية بالمستقبل – معاً بشكل عام في العصور الانتقالية. تماماً مثل المراحل التي شهدت الإقطاعية والرأسمالية معاً. يتصف تطور الديمقراطية في واقع الشرق الأوسط الملموس بالمحدودية الكبرى. حيث لم تستيقظ أفكاره وردود فعله بعدْ بشكل كلي. فإلى جانب حنين المجموعات الغائر إليها، إلا أن جبروت الدولة المهيمن منذ آلاف السنين قد أدخلها في السُّبات بممارساته القمعية الصارمة والمجحفة. ورغم حدوث الانفجارات والعصيانات بين الفينة والأخرى، إلا أن السمة الاستبدادية الظالمة للدولة دفنت تلك الأشواق والحنين في جوف الأرض تكراراً ومراراً. لكن، وبالمقابل، فبروز التناقض الجذري بين حقيقة العصر تلك، وبين هذه البنية للدولة؛ قد أيقظ تلك الأشواق وذاك الحنين إلى الديمقراطية والحرية والمساواة. مر القرن العشرون وهو مليء بالدلائل المشيرة إلى حصول تطورات في هذا الاتجاه. أما في القرن الحادي والعشرين، فيبرز الاحتمال الأكبر بتحول الشوق إلى حقيقة متحققة. والجغرافيا التي تترقب هذه الأمور من أبعد المسافات تخلفاً، هي البلدان العربية. ذلك أن إتباع البنية الدينية والإثنية بالدولة، وتقييد السمات الدولتية لشريحتها العليا بروابط متينة على أساس المنفعة؛ إنما يُصَعِّب من استيقاظ ردود الفعل الديمقرايطة ومباشرتها بالحركة. لذا تتولد الحاجة للمداخلة الخارجية.
#عبدالله_اوجلان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط ، وا
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني 3- العودة الى الأيكولوجيا الاجتما
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني -2 تحرير الجنسوية الاجتماعية
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني ب- افكار تخطيطية (مشاريع) بصدد ال
...
-
الدفاع عن الشعب الفصل الثاني ب- افكار تخطيطية (مشاريع )بصدد
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني ب- افكار تخطيطية (مشاريع) بصدد ال
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني ب- افكار تخطيطية (مشاريع)بصدد الم
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني ب- افكار تخطيطية(مشاريع) بصدد الم
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و
...
المزيد.....
-
هيومن رايتس ووتش: ضربة إسرائيلية على لبنان بأسلحة أمريكية تم
...
-
الأمم المتحدة: من بين كل ثلاث نسوة.. سيدة واحدة تتعرض للعنف
...
-
وزير الخارجية الإيطالي: مذكرة اعتقال نتنياهو لا تقرب السلام
...
-
تصيبهم وتمنع إسعافهم.. هكذا تتعمد إسرائيل إعدام أطفال الضفة
...
-
الجامعة العربية تبحث مع مجموعة مديري الطوارئ في الأمم المتحد
...
-
هذا حال المحكمة الجنائية مع أمريكا فما حال وكالة الطاقة الذر
...
-
عراقجي: على المجتمع الدولي ابداء الجدية بتنفيذ قرار اعتقال ن
...
-
السعودية.. الداخلية تعلن إعدام مواطن -قصاصًا- وتكشف اسمه وجر
...
-
خيام غارقة ومعاناة بلا نهاية.. القصف والمطر يلاحقان النازحين
...
-
عراقجي يصل لشبونة للمشاركة في منتدى تحالف الامم المتحدة للحض
...
المزيد.....
-
سعید بارودو. حیاتي الحزبیة
/ ابو داستان
-
العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس
...
/ كاظم حبيب
-
*الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 *
/ حواس محمود
-
افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_
/ د. خليل عبدالرحمن
-
عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول
/ بير رستم
-
كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟
/ بير رستم
-
الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية
/ بير رستم
-
الأحزاب الكردية والصراعات القبلية
/ بير رستم
-
المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية
/ بير رستم
-
الكرد في المعادلات السياسية
/ بير رستم
المزيد.....
|