|
نار بروميثيوس لن تنطفئ أبدا
حميد كشكولي
(Hamid Kashkoli)
الحوار المتمدن-العدد: 1111 - 2005 / 2 / 16 - 11:03
المحور:
حقوق الانسان
كفاح الإنسان الأبدي مدعوما بالفكر و المعرفة في سبيل الإنعتاق من سجن المادية الميكانيكية و الأنانية و للولوج في حياة أكثر تحررا ، و أكثر قيمة و أكثر عقلانية سيستمر . وإن ّ النضال في سبيل الحريات و الديمقراطية و حقوق الإنسان ، يعني فيما يعني النضال ضد السلطات الحاكمة ، و القيود المرئيّة و الخفيّة المكبِّلة للإنسان ، و التي تتجلى بأشكال وصور مختلفة. و السلطة ، طالما تمثل طبقة أو شرائح متميّزة للمجتمع ، من طبيعتها الفساد و الانفساد والإفساد ، و إنّه حتّى الحكّام المنتخَبين من قبل الشعب تغرّر بهم مناصبهم و نفوذهم ، وهم بشر بأنفُس أمّارة بالسوء ، فلا يلبثون ينسون مسؤولياتهم تجاه الكلمة الحرة ، والعملية الديمقراطية ، و يتمادون في الطغيان حين لا يكون ثمة من رادع أخلاقي أو قانوني ّ. و قد علّمتنا التجارب التاريخية للإنسانية المتمدّنة أنّ الديمقراطية و حقوق الإنسان هما مفتاح العمل والتقدم. الشخصيات التاريخية مثل سقراط و افلاطون و برونو و جروتيوس و فولتير و باين و جيفرسون و ثوريلد كانت و لا تزال أمثلتنا العليا في هذا الكفاح. وإن الوثيقة العظمى " ماغنا جارتا" ، واعلان الإستقلال ،و اعلان الحقوق، و اعلان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، و اتفاقية حقوق الطفل أمثلة على وثائق كتبها البشر تدريجيا كضروريات استلزمها التطور و التقدم الاجتماعي ، وهي دليل على ما يترجّاه الانسان و يتمناه من أن يخلق لنفسه والأجيال القادمة عالما اكثر عقلانية و بالتالي أفضل و أكثر أمنا و أمانا. و نرى " بروميثيوس" مثالا رائعا لهذا الكفاح الأبدي ، وهو مكبَّل و مثبَّت إلى صخرة في القوقاز ، يعاقبه الإله " زيوس" لقيامه بسرقة نار الآلهة ، و منحها للبشر . ففي الأساطير القديمة ثمة حلم بأن الإنسان سينجح يوما من أن يحرّر نفسه من سلطة القوى الجائرة ، و نيل حياة حرة و كريمة. والحلم بحياة أفضل قديم قدم الإنسان نفسه. و وفق الميثولوجيا الاغريقية ، كان بروميثيوس هو خالق الإنسان من الطين. و إنّ الإله الأكبر " زيوس" شعر بتهديد الإنسان ، هذا الكائن الموهوب و المقدام ، ولكي يحول دون تطوره ، قام باخفاء النار عنه . فصعد " بروميثيوس " خلسة إلى الأولمب ، تناول بضعة جمرات ، وضعها في شقّ ساق نبات ، هابطا بالنار للبشر ، ليتمكنوا من صنع الطابوق و بناء البيوت ، فاستطاعوا بمساعدة النار استخدام أنواع المعادن ، و تربية الحيوانات ، و بناء السفن و القيام بعمليات الحساب و الكتابة. ولولا هذه النار لما كان هذا التطور البشري الهائل ، وقد أدّى هذا بزيوس أن يجنّ و ينتفض غضبا . فأصدر أمرا بمعاقبة " بروميثيوس" لإقدامه على هذه الخدعة ، والخيانة العظمى و ذلك بتتثيبته على صخرة عالية في منطقة وعرة بعيدة و مهجورة في القوقاز. وقد تم تكليف " هيفايستوس" ، ربّ النار و فنّ الحدادة ، بتنفيذ هذه العقوبة، التي كان يتردد في تنفيذها ، بسبب الإحترام المتبادل بينه و بين بروميثيوس و البشر الآخرين. وإنّنا لنعلم خلال هذه الأسطورة كيف يجري تهرب من تنفيذ أوامر السلطات و الالتفاف على مقررات الآلهة من قبل البشر، مثلما يحدث في عصرنا .
و ثمة نسر يأتي يوميا ينهش كبد بروميثيوس المكبّل. و كل ليلة كان كبده ينمو من جديد ، وأن هذا التعذيب الفظيع استمر لآلاف السنين لكون بروميثيوس مثله مثل الآلهة يحوز على حياة أبدية . و في مسرحية آيخولوس " بروميثيوس المكبّل" نسمع هذا الغول يصرخ من الألم : أيّتها الفضاء المقدسة ، أيّتها الأنسام المجنّحة السريعة ، يا منابع الأنهر، ويا أيتها البحار الواسعة التي تلتمعين بأمواجك ، يا أرض، يا أمّنا، و يا عين العالم، أيتها الشمس ، أناديكم: انظروا كيف أعاني ، أنا الاله ، من ثأر الآلهة . انظروا ! الجرح الذي أصابني و الذلّة التي أنا فيها من جراء المعاناة القاسية الأليمة التي تدوم لآلاف السنين. لقد سمّرني السلطان المتوج حديثا على شعب الاولومب بحبال التحقير . ويل ، ويل! صدري يزفر ثقيلا على هذه الحالة الشاذة. متى ستزول هذه المعاناة التي فرضتها عليّ الأقدار ؟
لا يزال بروميثيوس يعيش بيننا ، و يعاني كما كان في الماضي السحيق ، ليس من آلهة الأولومب ، بل من قبل " أربابنا" سلاطيننا في هذا الزمان. إنّه حاضر في كل منّا كأمل و رجاء، و كتمرّد على السلاطين الجشعين و الحكام الفاسدين ، و إنه خالد خلود الكفاح في سبيل النور و العقل و المعنى.
كم بروميثيوس يعانون و يمنعون من الاتيان بالنور لمجتمعاتنا ؟ و كم بروميثيوس مُزّقت أكبادهم كعقوبة لهم من قبل آلهة العصر ، لقيامهم بسرقة النار ، أو محاولتهم لها؟ بروميثيوس ضروري للوجود البشري و الجمال ، و بدونه تنطفئ الأنوار في المجتمعات المتنورة ، و تبقى الظلمات مخيّمة على الربوع القفر ، و بدون بروميثيوس تتفسخ القيم الإنسانية وتنحط ّ ، و لن يعدو التطور البشري أبعد من رقصة حول العجل الذهبي ، و أداء فروض الطاعة للسلطان المستبد . و بدونه سنعود القهقرى إلى فترات الظلام ، و ستنزل الكوارث على البشر ، وهم فاقدين الأمل ، لا حول و لا قوة لهم في مواجهتها. فلتشب نار بروميثيوس في كل كهف و في كل قبو مظلم ، بل في كل الأنحاء . هذه النار إنّما هي روح الإنسانية ، و قيمها الجمالية . و بدونها يغدو العلم و التكنولوجيا شّرا مستطيرا على البشر ، و موتا زؤاما . إنه بروميثيوس دائما ينبّهنا أن المعارف و العلوم مهما بلغت من الدقة و الاتساع ، بقيت جهالة في جهالة ما لم يكن الصلاح في لبّها و نواتها . و خير شاهد على ذلك في العلم الحديث كيف يستسلم بجملته إلى قوى الويل و الدمار الشامل و يمسي عبدا ذليلا للدولار و الدينار . و لو أنّ العلم قام على الصلاح و حبّ الخير للناس لما وجدنا عالما واحدا في خدمة مصنع لأسلحة كيمياوية و ذرية ، و لا في خدمة التصنيع الحربي لحكومة فاشستية ، أو دولة امبريالية . يحدث كل هذا في غفلة عن بروميثيوس الحاضر في كل إنسان خيّر .
#حميد_كشكولي (هاشتاغ)
Hamid_Kashkoli#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما أغناي ! لي الدنيا كلّها
-
البقرة الحنون
-
سونامي العراقية
-
معجزات أم التجرّد من الشعور الإنساني؟
-
سُوْرَة المشاهدة - للشاعر الإيراني سهراب سبهري ( 1928_ 1980
...
-
للشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد ( 1935_ 1967 ) لا يبقى إلا الص
...
-
أحد سكان العراق سنة 38هجرية : ... ما ينهاهم دينهم عن سفك الد
...
-
هل يمكن للإسلام السياسي ألّا يكون ارهابيا؟
-
التهاب الخواطر
-
!واحتس ِ نسمة ً من ريح ِ الخريف
-
جذور العلمانية تكمن في السعي للحياة الأفضل
-
ثلاث شمعات تضئ دربنا في زمن العتمة المطبقة
-
قراءة في كتاب - العابرة المكسورة الجناح ، شهرزاد ترحل إلى ال
...
-
ليلي من وراء الليل
-
إسفلت وقصائد أخرى للشاعر السويدي آرتور لوندكفيست
-
الخليج، عربيّ أم فارسيّ؟..فتلك مشكلة القوميين العرب و الفرس
...
-
في الإنتخابات العراقية: ألا مِن ُممثّل يمثلّني؟
-
المدينة الصناعية وقصائد أخرى
-
دماء شيوعية
-
أرملة قائد الثورة ستقاتل في سبيل الثروة
المزيد.....
-
تمديد اعتقال ضابط إسرائيلي مشتبه بتورطه في قضية -وثائق السنو
...
-
أزمة جديدة بين فرنسا وإسرائيل بعد اعتقال موظفين في قنصلية با
...
-
5 مصابين واعتقال العشرات بعد شغب مشجعين إسرائيليين بهولندا
-
قدم الآن.. المعين المتفرغ 2024 فرصة لدعم ورعاية ذوي الاحتياج
...
-
هل يستطيع العراق حقاً محاكمة ترامب من خلال مذكرة اعتقال قديم
...
-
قاض فيدرالي يلغي برنامج بايدن للمهاجرين غير الشرعيين
-
اعتقال 3 أشخاص على علاقة بوفاة نجم -وان دايركشن- ليام باين
-
منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في قطاع غزة تجتمع مع نت
...
-
مصادر تكشف لـCNNعن خطة حلفاء ترامب لترحيل جماعي للمهاجرين غي
...
-
الأمم المتحدة: إسرائيل لا تسمح بدخول الأغذية والمياه إلى شما
...
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|