|
جدل الواقع فى مجموعة مدينة طفولتى للكاتب طلعت رضوان
هدى توفيق
الحوار المتمدن-العدد: 3806 - 2012 / 8 / 1 - 02:00
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
مدينة طفولتى مجموعة قصصية للكاتب الكبير طلعت رضوان الصادرة عام 1990عن هيئة الكتاب المصرية فى طبعتها الأولى ثم أعيد نشرها فى مكتبة الأسرة عام 2001 . نلاحظ أنّ كل قصص المجموعة المكونة من 16قصة نـُشرت فى أعوام ماضية عن تاريخ اصدار الطبعة الأولى فى المجلات المصرية والعربية. وبعضها فاز بجائزة من الهيئة العامة لقصور الثقافة. إنّ الملمح الأساسى الذى يربط جميع قصص تلك المجموعة هو امتلاؤها بعالم من التفاصيل المُدهشة للوصول إلى اللحظة الكاشفة التى هى أشبه بومضات مضيئة مؤثرة متدفقة ، من خلال سرد عذب رقيق . وإنْ كان مناحى بعض القصص يأخذ منحىً فلسفيًا وجدليًا إلى حد بعيد ، لكن المبدع يبث فينا إحساسًا عميقـًا بالدفء والحب والحنين والشفقة على أبطال قصص المجموعة ، ونحن نتتبع أدق التفاصيل لحياتهم ، فتوضح لنا مدى الحيرة والقلق والألم الذى يحيا فيه الإنسان دونما سبب ظاهرى فى بعض القصص ، لكنها فى الحقيقة براعة المبدع الذى أخذنا لندخل إلى عوالم زاخرة ببواطن أسرار الإنسان وعراكه وجدله مع الواقع المحيط به : أى عالم الطفولة ، مثار اهتمام كل بصير وباحث عن الحقيقة ، حيث لحظات الاكتشاف الأولى لكل إنسان. لاشك أنّ هذا المبدع الصادق فنيًا غرز أظافره فى ضحاياه من شخصيات المجموعة ، ليُدرك مشاعرهم ودوافعم فى أشد المواقف حرجًا والتباسًا ، فيكون دور المبدع كالمرآة التى تـُظهر بواطن الحقائق بكل شفافية وصدق ، وهو ما أجاده المبدع فى تلك المجموعة. إنّ التحليل النفسى والتأمل وفلسفة الأمور أضفت على المجموعة جانبًا آخر مهمًا بجانب روح السرد العذب والرقيق ، الزاخر بالتفاصيل المدهشة ، إنها روح مليئة بالجدل والعراك والتمرد ، فى مواجهة المألوف والعادى . مدينة طفولتى هى واحدة من القصص التى أخذت عنوان المجموعة . تلك القصة بها بنيان سردى محكم وتـُعبّرعن لحظات رومانتيكية وشديدة الوطأة على نفس بطلة القصة (صفاء) فهى من المهجرين أثناء حرب 1956وقد عاشت طفولتها الأولى وهى فى سن السادسة أثناء العدوان الثلاثى على مصر. فقد مات أبوها فى الحرب ودكتْ القنابل الحى كله وماتت خالتها وأولادها وأخواتها وبقيت هى فقط وأمها وزوج خالتها فى بورسعيد. وبعد مرور عدة سنوات تذهب صفاء فى رحلة مع زملائها فى العمل إصرارًا منهم بمراعاة أنها كانت مترددة ، فأخذت خطيبها رأفت معها . وهناك فى تلك المدينة تفاجأ بإصرار موظفة الجمارك على تفتيشها ذاتيًا مع أنها لا تحمل أية بضائع مثل الأخريات . فتحنق صفاء من هذا الالحاح فتصاب بالانهيار النفسى مع إحساس عالٍ بالبؤس والشقاء ، نظرًا لما تعرّضتْ له من اقتحام خصوصيتها العقلية والأنثوية. ويأتى المزج البديع فى القصة بين إلحاح الموظفة والحنين إلى الماضى فى مدينة طفولتها التى بسبب الحرب تم تهجير أسرتها منها عنوة وقسوة بعد هزيمة يونيو67. وبعد انتهاء الحرب والقرار السياسى بعودة المُهجرين رفضت الأم العودة . هذا المشهد تتذكره صفاء وهى فى طابور التفتيش فقالت لنفسها ((كانت جثة أبى وأشلاء خالتى وأولادها وأخوتى ماثلة فى وعى أمى . تستيقظ من نومها فزعة وتحل الكآبة نهارها)) إنّ الخيط الذى يربط تلك القصة البديعة هو العرى فى مشهد سينمائى يمزج بين عرى البطلة (المادى) وخيام العرى ، أى أنّ المبدع وضعنا أمام عرى صفاء وعرى الواقع . ومن خلال مشهد طويل يتلاقى الخطان بكل مهارة ودقة حيث موظفة الجمارك تأمرها بكل برود أنْ تخلع ملابسها قطعة قطعة . تبدأ صفاء بأول شىء وهو أنْ تخلع الجاكت . ووفقـًا لقانون التداعى الحر انهمرت ذكرياتها : ((فى سنة 67رفضنا الخروج . قال زوج خالتى : مدينة بلا ناس يعنى الخراب)) ثم طلبتْ الموظفة منها أنْ تخلع البلوفر فيستمر التداعى الحر((خرجنا مع الخارجين . رفض زوج خالتى الخروج . اختبأ مع بعض الرجال قال وهو يُودّعنا : أقاوم أو أموت)) ثم طلبتْ منها أنْ تخلع البلوزة فيتصاعد التداعى ((فى سنوات المهجر تضاربت الأقوال عن أخبار زوج خالتى . قالوا أستشهد وقالوا اعتقل وقالوا أسر)) خلعتْ البلوزة فطلبت منها أنْ تتجرد من الباقى . فيصل التداعى إلى ذروته ((فى سنوات المهجر كان العرى سبيل اللقمة. رفضنا العرى وقاومنا الجوع)) وأخيرًا تقول لها الموظفة بكل هدوء ((إنت بريئة. إوعى تكونى زعلانه)) وفى طريق العودة من الرحلة تــُفكر فى مدينة طفولتها التى لم يبق منها إلاّ الذكريات ((فى سنة 56 كانت عروستى تحت الأنقاض . وفى سنة67ضاع كل شىء وبقيت الذكريات)) ويلتقط هذا المشهد السينمائى البديع خيطه النهائى بين عرى صفاء وعرى الواقع الذى انصهر بمشاعر متوحدة بين الأم والابنة ((وبتُ أفزع فى نومى كما كانت تفزع أمى . وكثيرًا ما أضبط نفسى وأنا أتحسس ملابسى بين لحظة وأخرى)) بينما فى قصة (كوب عناب ساخن) يُصبح هذا الكوب هو بطل القصة ليتحول بمعناه المجرد إلى رمز كبير لعلاقة غرامية بين رجل وامرأة عجوزيْن ، يحضران إلى مقهى ما لعدة سنوات ليقضيا وقتـًا محددًا من الساعة الرابعة إلى الساعة السادسة مساءً . والطرف الثالث هو راوى القصة الذى يتابعهما منذ عدة سنوات ، حتى يختفى الرجل وتموت السيدة حزنـًا عليه. فيقول الرواى ((فكرتُ : كم سنة وأنا أتردد على هذه المقهى ؟ خمس سنوات . ست . سبع. أستعيذ من وحدتى بأصدقائى فنلعب الكوتشينة أوالطاولة ، أحيانا نمكث حتى منتصف الليل يغلبنا التعب وهواجس الغد والعواطف المكبوتة فنفترق كل إلى وحدته)) يحزن الراوى لشعوره بالود تجاه هذيْن العجوزيْن دون أنْ يتحدث معهما أو يعرف حكايتهما ، ويزداد حزنه عندما يجد السيدة تأتى فى نفس الموعد وتنتظر حبيبها فلا يأتى . والجرسون يحضر كوب العناب فى نفس الموعد ولكنها لا تشربه وتبكى رجلها . وظلت تأتى لمدة أسبوع لتنتظر حبيبها ولكنه لم يأت . سبعة أيام وهى على هذه الحال ، حتى ماتت داخل المقهى . وعند تفتيش حقيبتها لم يتم العثور إلاّ على صور فوتوغرافية تجمع بينها ورجلها ومفتاحًا طويلا كمفاتيح الحجرات وبعض النقود ومنديلا . الراوى يلتقط مجموعة الصور التى تجمع بين الرجل والمرأة فى أعمار مختلفة ، مما جعله يبكى ويخبىء الصور فى جيبه. بينما عيناه لا تفارقان الكفيْن المتشنجتيْن على كوب العناب . ورغم جو الكآبة والحزن الذى أحاط المشهد ينتاب الراوى فرح غامض لأنّ الكوب لم يهتز ولأنّ العناب لا يزال فى الكوب . تختلف التيمة ويختلف الرمز، ولا يختلف المعنى الغائر فى أعماق المبدع الذى يسعى إلى إبرازه فى وجوه متنوعة فى أغلب قصص المجموعة. فهو تارة يُحدّثنا عن الحب والاخلاص والذكريات والفلسفة والهزيمة والفرح . فقصة (لقاء فى النفق) يتشابه الحدث مع قصة (كوب عناب ساخن) حيث ينجذب الراوى إلى إنسانة ما وينتظرها بالأيام لمجرد أنْ يراها فى نفق المترو ، جالسًا من الساعة الثالثة إلى الخامسة عصرًا وليس بينهما غير هذا اللقاء العابر. هى تقول له (مساء الخير) وهو يرد عليها بتلعثم (مساء النور) وقد جذبته روحها ، فالذاكرة تختزن زيها ولونه : تايير زرعى طويل . وتتوالى الأيام ولا تأتى . وتتوالى التفاصيل المدهشة. فقد تعوّد بطل القصة على أنْ يُطيل النظر إلى أكياس البلاستك فى أيدى الركاب . ويُميّز ما بداخلها : هذا عنب . هذه بطاطس . هذا عيش . ويحاول تخمين الكمية. وعدد الأرغفة. وهذا يُرشده إلى عدد أفراد الأسرة ، حتى اكتشف أنّ هذه العادة تضاعف ألمه. قرب نهاية القصة يلتقى الراوى مع حبيبته المجهولة ويدور بينهما حديث غامض . بعدها يفيق من غفلته ويتضح له أنّ هذا كله وهم يعيشه وأنّ مقولته هى الحقيقة الوحيدة من وجهة نظره فى بداية القصة ونهايتها (( إنّ الأصل هو العتمة وأنّ الظلام أصل الأشياء)) وهذا إيحاء دال على براعة المبدع بين اختياره لمكان وقوع أحداث القصة فى نفق المترو، وبين قصة حبه المُتخيّلة. أما فى قصة (أجنحة الصفاء) فنجد حالة خالصة من التأمل والبطل يسبح فى تفكيره فى الفضاء الممتد حيث يراه أشباح أشجار وأشباح مآذن وأشباح بنايات تسبح فى الرمادى فتـُعلل زوجته ذلك بأنّ روحه لا تشبع من التأمل فى الكون والفضاء لذلك اختار الطابق السابع . وفى هذا الصدد قال بطل القصة ((يأسرنى الغموض ويعمق وحدتى فها هى العتمة تشف ويبقى الظلام جاثمًا بداخلى . تلك الشاعرية تغمر روح القصة وتحلق بأجنحة الصفاء ، رغم أنّ البطل يعمل محاسبًا يختص بالمعادلات المحاسبية والرؤية المنطقية للأمور، بينما داخله مهموم بأفكار مغايرة تمامًا باحثــًا باستماتة عن السلام والصفاء وهو يستند بمرفقيه على سور البلكونة. إلى أنْ نعرف العلة الحقيقية لعذابه وسر عجزه الجنسى . قال ((هذه المرة برغوث يحرمنى من النوم)) قالت زوجته ((هذه ثالث ليلة تتحدث فيها عن البرغوث . ربما حساسية فى الجلد)) بينما السبب الحقيقى الذى يخفيه عن زوجته خوفـًا من نظرتها له إذا عرفت أنّ رئيسه فى العمل شبّهه بالحمار. والمعادل لهذا التشبيه هو(البرغوث) الذى يلدغه تكرارًا ومرارًا فيذكره بالإهانة العالقة فى ذهنه وتنخر فى نبضات قلبه كما ينخر البرغوث فى فخذه بين الحين والحين . وتلك الإهانة تؤلب عليه كل المواجع السابقة منذ طفولته ، والزمن يتسرب كالماء من بين أصابعه. وتتهاوى كل الأمنيات أمامه ويتوق بشغف إلى لحظة صفاء ، فأين تكون وقد استفحل العداء بينه وبين الزمن . ولم يبق أمامه إلاّ الانتحار. والمبدع كان شديد البراعة فى خلق هذا المشهد . إذْ أنّ بطل القصة يُجاهد بكل قوة كى يقتل الألم الذى استشرى فى كل أجزاء جسده بين الفخذيْن وتحت الإبط والرقبة حتى تغلغل إلى الحلق بل سرى إلى دمه من لدغات البرغوث المتكررة فيقرر أنْ يخلع كل ملابسه ويسير إلى البلكونة عاريًا تمامًا ويسلم نفسه لأجنحة الصفاء غايته ومنتهاه . أما فى قصة (أضلاع المثلث أربعة) بغير الحقيقة العلمية التى تقول أنّ المثلث أضلاعه ثلاثة. وهذا مجرد رمز استعمله المبدع للتعبير عن القهر الذى يعيشه الإنسان البسيط فى الحياة ، فنرى الأمور مقلوبة. فبطل القصة يُعانى من الأرق الشديد بسبب مرض ابنته الذى طال ، ولا يجد بابًا مفتوحًا أمامه غير صدر(تفيدة هانم) ليحاول أنْ يستدين منها مبلغ خمسين جنيهًا مقابل علاقة عاطفية غير متكافئة. لكنه لا يستطيع دفع الثمن ، فروحه وجسده غارقان فى اليأس والاحباط ، وبالتالى هو غير قادر على فعل الحب . والمرأة الثرية العانس تفيدة هانم تحاول أنْ تستميله بكل الطرق ، لتمارس متعتها التى تراها عوضًا عن الزواج ، الذى لا تحتاجه طالما أنها ثرية. والبطل يُعانى ويتألم بشدة بين حبه لزوجته والتفكير فى الغواية ، حيث يُكرر الرجاء لزوجته أنْ تبقى فى البيت وتكف عن غسل الملابس فى بيوت الأثرياء ، وعلى الناحية الأخرى فإنّ تفيدة هانم تحاول اقناعه بأنْ يكتفى بساعات العمل دون الاضافية ، ويرتاح ليحضر إليها مباشرة بعد العمل . والزوجة تـُعلل عملها بأنّ أجره لا يكفى وتكاليف الحياة كل يوم فى زيادة . وتفيدة هانم تـُعلل طلبها بعدم العمل ساعات اضافية ليخلو باله ويسترخى لتستمتع هى به. لكنه لا يتجاوب معها . والحوار الدرامى يملأ عقله بالهواجس ((أسأل زوجتى : هل يُضايقك أحد وأنت تعملين)) تنفى بشدة . قالت تفيدة هانم ((أنت لا تتجاوب معى)) فينقلنا المبدع مرة أخرى حيث يسأل البطل زوجته ((هل تعملين فى شقق العزاب ؟)) تعاتبنى برقة. قالت تفيدة هانم ((لا فائدة منك اليوم)) الحزن والألم يملأ عقل وقلب البطل ، مفعوله غائر إلى أدق أجزائه ، حتى كأنه بات سدًا منيعًا أمام زوجته وتفيدة هانم ، فهو يرغب ولا يستطيع . إذن علينا نحن القراء أنْ نبحث عن الضلع الرابع الذى لم يُشر إليه المبدع بشكل مباشر، ولكنه مبثوث فى ثنايا تفاصيل القصة. فى قصة (اللحظة)) نقرأ تعبير(يمين الطلاق) أكثر من مرة ، وهذا التعبير يتجاوز المعنى البسيط الذى يُعتبر استخدامه بالنسبة للبعض مجرد مزحة وفكاهة ولا يخلو من الكذب والتهويش . لكن بطل القصة (سائق التاكسى) يُقسم وهو صادق بأنه لن يُسلم السيارة لزميله ويستمر فى العمل ليُطبّق وردية أخرى . وهو نفسه لا يعلم لماذا أصر وفعل ذلك ، إنه لايُجهد نفسه فى تفسير الأمور، فقط يعرف الأشياء ولا يُناقشها . ورغم انغماسه فى مشاكل حياته اليومية مع زوجته وأولاده الذين ينتظرونه فى البيت لتلبية طلباتهم . يحلم بأنه سينقل الجنود إلى بيوتهم بعد أنْ سمع من الراديو وصول الدفعات الأولى من الجيش الثالث بعد فك الحصار عنهم أثناء حرب أكتوبر 73. فحلف يمين طلاق أنْ يفعل هذا مع أول جندى يقابله فى الشارع . وحدث ما تمنى حيث أمسك بأول جندى صادفه ثم حمل متاعه. فتح الجندى الباب الخلفى فمنعه وحلف يمين طلاق ليجلس بجانبه. ثم أخرج السائق علبة سجائره وقدّم واحدة للجندى الذى رفض . فأقسم السائق يمين طلاق فضحك الجندى وتناولها منه. رأى الجندى رجلا يمسك بخرطوم يندفع منه الماء منطلقــًا على الأرض فيتذكر أربعة أشهر من الحرمان بلا ماء ولا طعام . وكيف كانوا يُوزعون الماء ويقسمونه جرعة واحدة فى اليوم ومعها قطعة من البسكويت . وتذكر أيضًا لقب (الباشمهندس) الذى أطلقه عليه زملاؤه عندما حوّل دُشم العدو إلى فيلا يسكنون فيها . ونجد أنّ تلك المشاهد تدور فى فلك قصصى واحد للمبدع ، حيث تتضح مهارته فى استخدام التفاصيل وربط الماضى بالحاضر من خلال خيط عميق ومؤثر، وثاقب الرؤية. يهم الجندى بالنزول فى ميدان السيدة زينب ، فسأله السائق : أين المنزل ثم أقسم بيمين طلاق أنْ ينقله إلى باب البيت فى (عطفة المزين) ثم أخرج الجندى محفظة نقوده فسارع السائق وألقى يمين طلاق وقال : بالأمس أقسمتُ أنّ أول جندى يركب على حسابى . وأخرج السائق أمتعة الجندى وحلف يمين طلاق : لابد أنْ يحملها عنه حتى باب الشقة. حاول الجندى أنْ يفعل مثله ولكنه فشل . ويأتى المشهد الختامى البديع عن السؤال البديهى الذى يسأله الجندى (أو أى شخص فى مكانه) : ما اسمك ؟ من أنت ؟ والرجل لا يُبدى اجابة لأننا نعرف الاجابة حيث برع المبدع فى اخفاء الاجابة لأنها تبدو للقارىء المُدقق واضحة فى ثنايا القصة. ويتوالى الزخم القصصى ولاتفوتنا قصة (عيون) من خلال سكرتير تحرير مجلة ما وحواره مع المشرف الفنى بها . هذا الفنان المولع برسم صور آدمية لوجوه موفورة الصحة وأخرى شوّهتها المجاعات . دون أنْ يرسم الجسد ويُعلل ذلك بأن الوجه هو ما يهمه. ويزوره سكرتير تحرير المجلة فى منزله ويُباغت عندما يرى عنده فى حجرته صورة زوجة مسئول مهم كبير ، فيفر مذهولا ومرعوبًا . والفنان لا يفكر إلاّ فى العيون التى تـُلهمه حتى ولو كانت لزوجة شخص مهم . لذا لا يهتم بتفسير أعماله لأحد . وهل للعيون ذاكرة ؟ ربما . هذا ما أفصحت عنه قصة (عيون بلا ذاكرة) من خلال نظرات مُدققة بين (الأول) و(الثانى) ولا يذكر المبدع لكل منهما اسمًا . هما فقط يحاولان أنْ يتذكرا أين تقابلا . وعندما يئسا تشاغل الأول بقراءة الأرقام على عمود محطة الأتوبيس . والثانى بقراءة أسماء الأطباء والمحامين على واجهة المبنى المقابل للمحطة. فقال الأول وهو يلعن ذاكرته : كأنى رأيته كثيرًا . تعجب الثانى من نفسه وقال : كأنى أعرفه منذ زمن بعيد . يُجاهد الاثنان من أجل شىء واحد : وهو التذكر، ولا أمل . فقد تثاقلت الذكرى مع تأخر وصول الأتوبيس . وعودة مرة أخرى إلى ما تتصف به تلك المجموعة من قدرة فائقة على مزج المشاهد ، فى هذه القصة نلمح صراعًا بين العيون المحتشدة بماضٍ يؤكد أنّ ثمة معرفة سابقة ، وبين الذاكرة التى لم تــُسعف أحدهما . وأخيرًا يحاولان اللحاق بالأتوبيس المزدحم ، فينقضا كلاهما على الكتلة اللحمية العظيمة تعلقــًا بها ليذوبا فيها . والعيون والذاكرة تندثر بين زحمة الأتوبيس نصف الحديدى نصف اللحمى ، حتى تتكلس الذاكرة إلى الأبد . ويظل المبدع يتساءل ونحن معه : هل لتفسيرالأشياء عاشق ؟ فى تلك القصة (عاشق تفسير الأشياء) يستخدم الكاتب المنهج الفلسفى من خلال بطل يعشق الفلسفة ويُدرّسها وليس له اسم غير وصفه بالقصير. وهو يتحسر على حاله كفقير معدم ثابت على مبادئه واخلاصه لمنهجه الفلسفى ، الذى لا يساوى شيئًا أمام هذا العالم المتوحش والموغل فى الحياة المادية والاستهلاكية عديمة القيمة. فقال فى سره : ((سنوات وأنا على هذه الحال . تعودتُ على كل أشكال الزحام والطوابير.. فلماذا الضيق والنرفزة وتعكير الدم)) كالعادة يُعانى من الزحام الشديد داخل الأتوبيس الذى يركبه يوميًا فى رحلة ذهابه إلى العمل والعودة إلى منزله. ولكنه فى هذا اليوم بالذات يتقابل مع (الطويل) ويتحول الأتوبيس إلى مؤشر لكل أوضاع مصر، حيث المعاناة ومرارة الفقر، فالقصير هو رمز لكل الشعب المصرى ، الذى طال صبره على الفقر والمعاناة والانتهاك اليومى لكرامته. ويصل الحدث إلى ذروته داخل الأتوبيس عندما احتك القصير فى وقفته بالطويل ، وانتهى الأمر باتهام الطويل للقصير بسرقة محفظته. إنّ تلك القصة رغم أنها نـُشرت عام 1986ولكنها حية نابضة بأحداث اليوم ونحن فى عام 2012 . أيضًا ما يُحسب للمبدع أنه خلق من هذا المكان الضيق المزدحم واحة للأوصاف العذبة رغم قتامة المشهد ، فعلى سبيل المثال كتب على لسان الراوى ((الأوتاد تهتز والأجساد تتمايل كالأشجار تتحرك من مكانها والضغط على الصدور يتزايد والكل يتمايل على بعضه. والكل يضغط وينضغط)) كذلك تضاءلتْ أمنيات القصير((فى بضعة سنتيمترات كى يتمكن من تحريك قدميه وتبتعد الساق قليلا فتهدأ النار التى تأكل الفخذين وما بينهما)) ورغم التساؤلات البسيطة لأبطال القصة ، لكن بنظرة ثاقبة يكون المبدع قد أعطانا الاجابة الواضحة فى تفاصيل ثنايا القصة كما اعتدنا منه فى القصص السابقة. فحقــًا الأسباب عديدة ونجد تفسيرًا لكل ما حدث حتى يتقاتل الطويل والقصير، وربما يقتل أحدهما الآخر من أجل أسباب كثيرة وواضحة قالته تلك القصة المُميّزة ، بشكل فنى ودون أية مباشرة . ويستكمل المُبدع المغزى العميق فى قصة (البناء العجيب) بين الأطفال : سعيد الصغير وسعيد الوسطانى وسعيد الكبير الذين يُبهرهم البناء الذى يعلو ويعلو من علب السمن الصفيح أمام واجهة أحد المحلات . وهم يُريدون معرفة سر هذا البناء العجيب ، فيُقرّرون أنْ يناموا نهارهم حتى يتمكنوا من السهر حتى الصباح فى يوم إجازتهم من العمل . وقد تم هذا بالفعل . واقترح سعيد الوسطانى أنْ يخترعوا لعبة تــُسليهم وهى أنْ يقفوا فوق بعضهم ليروا هل سيطولون أعلى صف فى العلب أم لا؟ وقد أغرى سعيد الوسطانى صف العلب . فتبادر إلى ذهنه أنْ يأخذ كل واحد منهم علبة لأمه. فحدث ما هو خارج عن خيال طفولتهم البريئة : انهار البناء وسقطت العلب ، وأيقظتْ العامل الذى جرى وراءهم وصرخ فيهم : امسكوا الحرامية.. امسكوا الحرامية. ويكتشف سعيد الكبير فجأة أنّ هذا البناء وهم من الأوهام عندما لمح البناء يتصدع والعلب تتكوم على الأرض بلا نظام ، فلم يعد البناء عجيبًا ولا جميلا بل رآه مبعثرًا مشوهًا قبيحًا ، فتنفس بارتياح وضم صديقيه إلى صدره . لذا لا أستطيع غير أنْ أقول أنّ عذوبة السرد الزاخر بأسرار عن التفاصيل المدهشة هو ما يشغل حيز الكتابة فى تلك المجموعة القصصية المُتميزة التى سعى مبدعها بكل اخلاص لاكتشاف اللحظة الكاشفة لمعانٍ مغايرة وعميقة عن معنى الكون والأحلام والصداقة والحب والفراق والفلسفة ، بحكى قصصى مشغول بالهم العام والخاص ، دون صخب بل بروح فنان زاخر بالخيال وحنكة السرد والتأمل الحكيم . هنا فى تلك المجموعة نجد أنّ كل الجزئيات والتفاصيل الصغيرة يربطها رابط واحد يجمع أغلب قصص المجموعة وهو ألم الفقد والهزيمة والنصر فى آن واحد ، حتى يتم الانصهار فى نغم هارمونى تنبعث من روح فنان ، ربما تتعدد الوجوه وتتنوع التفاصيل ، إلاّ أنها تخرج من بوتقة واحدة ومن عنوان واحد هو(مدينة طفولته) وعالمه الممتد والمتغلغل فى جدل مع الواقع وتفاصيله. ***
#هدى_توفيق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عيسى الدباغ والثورة المضادة
-
مجموعة أرنى الله لتوفيق الحكيم
-
خلوة الكاتب النبيل
-
حاذث النصف متر تجاوزكل الأمتار
-
العداء العبرى لمصر وفلسطين
-
مقال عن أكابيلا ايدا وماهى
-
إلى زكي مراد
المزيد.....
-
قائد الثورة الاسلامية يستقبل حشدا من التعبويين اليوم الاثنين
...
-
144 مستعمرا يقتحمون المسجد الأقصى
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة
...
-
ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم
...
-
عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات
...
-
الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|