سيار الجميل
الحوار المتمدن-العدد: 1111 - 2005 / 2 / 16 - 10:33
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
كلمة لابد منها
اجمع العالم كله على ان العراقيين قد اجتازوا نفقا صعبا وفازوا في اهم حدث تاريخي يأتي بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003 ، خصوصا مع جلاء دور الناخبين في المشاركة السياسية الحقيقية لبناء مستقبلهم. ومهما كتب عن الانتخابات من مدائح المعجبين او سخط المعارضين. فلا احد ينكر ما حققه العراقيون في الثلاثين من الشهر الماضي من انتصار على تهديدات الارهاب لهم، وقد ذهبوا يتحدونها واستجابوا لنداء وطني قبل ان يستجيبوا لمطلب اميركي. فهم بذلك قدّموا للعراق اولا وللمنطقة ثانيا فائدة تاريخية لا تقّدر بثمن ابدا. ذلك لأن الارهاب بدأ يزحف من العراق الى جيرانه واذا لم يسحق في العراق، فانه سيتحرك ممتدا وملتويا نحو جيران العراق قاطبة.
ان ما يهمنا اليوم ليس الانتخابات وردود الفعل الموجبة او السالبة ضدها، بقدر ما تهمنا الاستحقاقات التي تنتظر العراق والعراقيين لما بعد الانتخابات. وكم كنا نتمنى على كل الذين قاطعوها المشاركة فيها، لأن ما حصل من نجاح سيعطي الشرعية المكتسبة للفائزين في ان يكونوا متسلحين بها مهما حدث من نقائص تلك "الشرعية" التي كسبوها من خلال صناديق الاقتراع مهما قيل من اعتراضات ومهما اثير من مجادلات وخلافات.
المقاطعون قد خسروا!!
ان اللعبة التي ادّاها العراقيون بملايينهم الثمانية من اصل اربعة عشر مليونا قد افقدت قسمات كبرى من المجتمع العراقي دورهم في تحقيق من يريدونه على رأس المسؤولية. ومهما كان المرشحون ومهما كانت انتماءاتهم ومرجعياتهم وبرامجهم، فان اكثر من مئة حزب عراقي (ما عدا الاحزاب التي قاطعت الانتخابات) لا يمكن ان يتجاهلها اي عراقي يسعى حقيقة الى بناء عراق جديد في القرن الحادي والعشرين. لقد كان على العراقيين ان يزاولوا جميعا هذه اللعبة الرائعة التي اعتقد انها توفّر فرصة تاريخية من اجل ايجاد حلول انقاذ عملية لا مثالية طوباوية للواقع المأسوي التي عاشه ويعيشه العراقيون منذ امد طويل. انني اقول، ثمة فرزاً ثنائياً لا ثالث له، فإما ان تكون مع عراق جديد واما ان تكون مع عراق قديم. الصراع واضح تمام الوضوح بين الاتجاهين. ان كلا من هذين الاتجاهين يعاكس الاخر. فمن منهما سيفوز في نهاية المطاف؟
لقد كنت اتمنى على كل القوى السياسية القومية والاسلامية (السنية) التي عارضت الانتخابات وفي مقدمها هيئة العلماء المسلمين ان تشارك في العملية السياسية مهما كانت درجة معارضتها للاوضاع، اذ انني اعتقد بأنها اليوم قد خسرت ادوارها السياسية واضرت بمصلحة التوازن السياسي في المجتمع العراقي. كان عليها ان تشارك كل العراقيين حملتهم التاريخية ، حتى وان افترضنا أن العملية برمتها (اميركية) كي تضرب جملة من العصافير بحجر واحد، اذ انها ستثبت للعالم كله انها ليست ضد الديموقراطية وستحقق نسبة التوازن السياسي الحقيقي الذي كان ينتظره العالم بأسره، وكانت ستقول أن مجرد دخول كل العراقيين الناخبين مراكز الاقتراع ، هو رد تاريخي ضد الارهاب والارهابيين وتقول للعالم كله أنها لم تكن مع نظام صدام حسين ولا تريد ارجاع القديم الى قدمه، وتقول " لا" للحكومة الموقتة التي رأى الكثير من العراقيين فيها حصيلة من الاخطاء، سعيا لمجىء قادة وزعماء جدد يمكن ان يكونوا افضل من سابقيهم، وانها كانت ستحاول كسب بعض المقاعد في اروقة الجمعية الوطنية لتمثيل من انتخبها سياسيا، وربما كانت ستكسب جملة من التحالفات السياسية ضمن آليات العمل التي اشتغلت عليها قوى واحزاب اخرى دينية وليبرالية وكردية واقلية... الخ.
الحاجة الى الوعي السياسي
ان الوعي السياسي في اقوى درجاته كان لابد ان يعمل عراقيا وبمنتهى الذكاء والدهاء كي يفرّق ضمن هذه العملية بين الاحتلال وما يمكن عمله لازالته خصوصا ان استخدام اسلحة الخصم عملية ذكية للتوّصل الى ما يمكن تحقيقه من دون سفك دماء او ازهاق ارواح! كان على من عارض الانتخابات ان يفرق هنا بين المرشحين (سواء اعتبرهم عملاء ام وطنيين) والناخبين الاحرار! انه هنا افتقد الطريقين معا بعدم مشاركته ! ناهيكم عن ان التوقعات والفرضيات التي تسوقها العواطف الساخنة والتشنجات والاحتقانات قد جعلها حقائق ثابتة وبنى عليها، مما افقد اصحابها ادوارهم ليس الوطنية بل السياسية. لقد رأينا أن هناك بعض الزعماء السياسيين او الدينيين قد احجموا عن المشاركة والترشيح، ولكنهم لم يمنعوا تياراتهم ولا احزابهم من المشاركة على عكس تيارات واحزاب وهيئة العلماء المسلمين الذين نددوا وشجبوا ووقفوا بالضد باسم "السّنة العراقيين"، وطالبوا الرأي العام بعدم المشاركة من دون ادراك النتائج العملية سلفا، فماذا كانت النتيجة؟ لقد شجعوا المعارضين واخافوا الخائفين ، فخسر قرابة نصف الناخبين المؤهلين في المجتمع العراقي اصواتهم. وجاء المنددون بالامس كي يباركوا للشعب العراقي بهذا الفوز! كما ان اجتماعات تنعقد من اجل اشراكهم الان بعد "التي واللتيا" في العملية السياسية!
مستلزمات العملية السياسية
اعود الى الساسة العراقيين جميعا لأقول لهم ان السياسة فن حقيقي لا يمكن ان يمارسه او يزاوله كل "من هّب ودب" سواء باسم شعارات مؤدلجة ، او ضمن نزوعات دينية تصطدم بوقائع مدنية او بتنوعات متغايرة. وقد قلت سابقا واكرر انه لو لم يكن هناك تحديات امام العراقيين بعد عذابات عاشوها فانهم سوف لا ينجزون اي عملية سياسية كالتي كانت الانتخابات بدايتها. واقولها صراحة، انه لو لم تكن هناك قوة مهيمنة ومسيطرة للاميركيين تقضي بأن تكتمل الانتخابات في اليوم المحدد سلفا لما انجز العراقيون مهمتهم ابدا، اذ رأينا كم كانت الخلافات والترددات بين الزعماء والساسة العراقيين محتدمة بين القبول والتأجيل! اذ لا احد ينكر ما كانت عليه مواقف غالبية المسؤولين الكبار في الحكومة الموقتة وزعماء احزاب وقادة تجمعات... ليس لكونهم ضد العملية السياسية او الانتخابية، بل لأسباب أمنية جعلت العراقيين ينقسمون على انفسهم بين من يذهب الى مراكز التصويت وبين من يحجم عنها. فماذا نقول لاولئك الذين وقفوا معارضين للعملية برمتها؟ انهم بقدر ما اضروا أنفسهم، فقد اضروا بقسمات كبرى من المجتمع العراقي ، فضلا عن ضررهم الذي سيلحق بمستقبل العراق نتيجة احجامهم ذاك .
الاستحقاقات الاساسية للعراق الجديد
ان استحقاقات العراق والعراقيين لما بعد عملية الانتخابات كبيرة جدا اذ لا يمكن العراقيين ان يكتفوا بما حصلوا عليه من نتائج ايجابية ومكاسب معنوية كونهم استجابوا للتحديات ونجحوا في الانطلاق، اذ "ستأتي الفكرة بعد ان طارت السكرة" – كما يقول المثل - وعليهم ان ينجحوا في الحفاظ على مكتسبهم التاريخي واثراء العملية السياسية وطنيا واخلاقيا من اجل تكوين سيادي مؤسسي جديد للعراق. فهل سينجح كل المنتخبين في تحقيق اي حدود عليا او دنيا من المطالب الوطنية للشعب العراقي؟ وماذا سيكون عليه وضع الاستحقاقات المؤجلة من النواحي السياسية والاقتصادية؟ وهل سينجح العراقيون في ادائهم السياسي؟ هل ستنجح توافقاتهم السياسية من دون حدوث اي خدش او خلل او انقسامات؟
هل سيقبل العراقيون فرض اجندة دينية او طائفية او عرقية معينة، وهي غير سياسية، يمكن ان يطرحها زعيم معين او كتلة معينة او جماعة معينة وكلها من داخل اروقة المجلس الوطني المنتخب؟ هل يمكننا ان نشهد قدوم حكومة قوية ونظيفة ونزيهة ودائمة اختارها الشعب العراقي ام سنجد عددا من مسؤولين وزعماء ووزراء ووكلاء وزارات يعتبرون انفسهم موقتين ايضا لينهبوا ويختلسوا ويسرقوا على عينك يا تاجر؟
هل ستبقى الحكومة المنتخبة خائرة وضعيفة وليس لها ارادة قوية في ان تفرض احكامها وقراراتها بشكل صائب؟ والاهم من كل هذا وذاك: هل سينجح العراقيون في تشريع "دستور" دائم يتضمن مبادىء العراق العليا ويحقق الضمانات ليس لاكثرية او اقلية من الشعب العراقي، بل لمستقبل العراق وضرورات اجياله القادمة؟
هل سيكون دستور عراقي وطني يتضمن الاسس المدنية الحقيقية للعراق الجديد من دون اي اجندة متطرفة او مغالية تغدو اشواكا في حلق العراق لا يمكن انتزاعها بسهولة ابدا؟ هل سيتجرد الزعماء العراقيون الجدد من اية مطامع شخصية او عائلية او من مصالح فئوية او انتماءات حزبية او نزوعات ايديولوجية او محاصصات طائفية كي يعملوا للعراق باعتباره وطنا للعراقيين جميعا كما كان منطقة انتخابية واحدة اتت بهم الى مواقع المسؤولية؟
هل ستنجح الحكومة الجديدة في تحقيق الامن والاستقرار في ربوع العراق كي ينطلق من اجل البناء والاعمار وتحقيق الفرص التاريخية الضائعة؟ هل سيتقدم العراق خطوات الى الامام من خلال خلق مناخ سياسي جديد من تداول السلطة وتحقيق المطامح الحديثة في التحولات التي ستقود الى التأثير المباشر على الاخرين؟ هل سينجح العراق في تأسيس علاقات متطورة مع العالم الخارجي؟ وهل سينجح العراقيون المنتخبون الجدد سواء اولئك الذين يقولون "نعم" للاحتلال او الذين يقولون "لا" له ان يحددوا طبيعة العلاقة الجديدة بين العراق والولايات المتحدة؟ وهل ستدرك المعارضة السياسية بشتى صنوفها بأن مسار التغيير قد بدأ في العراق ولا يمكن ابدا ارجاع القديم الى قدمه، ولابد من العمل مهما اختلفت الوسائل والطرق لبناء عراق جديد؟ وهل سيقتنع كل العراقيين بأن اجندة مؤتمر لندن لما قبل سقوط الطاغية تحقق اليوم بحذافيرها؟ والمهم، هل سيفرح العراقيون انهم انتخبوا اناسا لهم نظافتهم وامكاناتهم ووطنيتهم ام سيصابون بخيبة امل مريرة لا يمكن تخيلها؟
واخيرا: العراق لا ينتهي من اسئلته!
كلها اسئلة سنواجه بها من سيتولى امر العراق في المرحلة المقبلة، فهل سينجح العراقيون يا ترى في مهمتهم الجديدة؟ هل سيتعلمون كثيرا من اخطائهم وفرص نجاحاتهم السابقة؟ هل سيدرك المسؤولون العراقيون القادمون: ما الشفافية؟ ما الاصلاح؟ ما الفيديرالية؟ ما تداول السلطة؟ ما الارادة الوطنية؟ ما التخطيط لمرحلة مقبلة؟ هل سيحقق الساسة العراقيون التوافقية ام سيحل الانقسام "وفي تالي الليل نسمع العياط" – كما يقول المثل العراقي -؟ هل سيبدأ فصل جديد من تحديد العلاقات مع الاميركيين والقوات المتعددة الجنسية؟ هل سينتهي مسلسل العنف لمصلحة السياسة؟ هل سيجد العراقيون الحقيقيون انفسهم يعملون ضمن مبادىء وتشريعات جديدة كانوا يحلمون بها، ام سيحدث العكس؟
هل سيجد العراقيون فرصا جديدة للعمل والقضاء على البطالة؟ هل سيبدأ بناء العراق واعمار البنية التحتية وتوفير الخدمات ام لا؟ هل سيشعر كل العراقيين بأن هناك تكافؤاً للفرص من دون استحواذ القوي على الضعيف؟ هل سينتهي الفساد الذي استشرى في كل مكان من ارض العراق؟ هل ستنتهي الفوضى التي تعم كل ارجاء العراق ؟ هل ستحاول الحكومة الجديدة تحقيق العدالة في اي حدود من حدودها وان لا يشعر اي عراقي بالضيم؟ هل سينعم العراق بالديموقراطية والفصل بين السلطات وتحديث المؤسسات وتغيير المناهج؟ وهل سيجد الاعلام العراقي نفسه نظيفا ووطنيا وخاليا من كل امراض التفرقة والطائفية والانقسام؟ انني اقول ان حقق العراقيون الحدود الدنيا من استحقاقات ومتطلبات الآتي من الزمن، فستنجح تجربتهم التاريخية، وان اخفقوا في ذلك، فسيدخل العراق في نفق طويل لا اعتقد انه سيخرج سالما معافى منه ابدا.
--------------
مؤرخ عراقي
#سيار_الجميل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟