|
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والحلول المحتملة ب- الوضع الراهن في الشرق الاوسط والمستجدات المحتملة -3
عبدالله اوجلان
الحوار المتمدن-العدد: 1111 - 2005 / 2 / 16 - 10:33
المحور:
القضية الكردية
أما القضية الكردية، فهي أكثر تعقيداً وتنوعاً في اتجاهاتها. حيث لها مشاكل غائرة مع بنى المجتمعات والدول العربية والإيرانية والتركية، لأنه لا يُسمَح لها حتى بالانتفاع من أبسط الحقوق المدنية. أما الحقوق السياسية والاقتصادية، فلا تًطَرح أصلاً في جدول الأعمال. من جهة أخرى، ثمة مجزرة ثقافية مُعاشة. قد تسفر الفروضات الأمريكية الأخيرة عن بعض التحركات والتململات البسيطة، أو تولِّد بضعة انفتاحات محدودة للغاية. نخص بالذكر هنا فيدرالية كردستان العراق، المنفتحة للتحريض والإثارة. إذ يُنتَظَر تأجيجات أكثر بتأثير من هيئة الأمم المتحدة والناتو وقوى الائتلاف. فالوضع الكردي الراهن يكافئ التحريض لإثارة تمردات جديدة. وإذا لم تُبْدَ المواقف المتبعة بطراز حل قابل للديمومة، ديمقراطي وذي معنى؛ فمن الوارد تحَوُّل المنطقة إلى جغرافيا دموية، تترك في حِدّتها الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني في الوراء، لتضاهيه بأضعاف مضاعفة. ستُزيد الاشتباكاتُ التي ستندلع في الجغرافيا الوعرة والشاهقة، مع الجماهير الكردية التي تتراوح بين أربعين وخمسين مليون نسمة؛ من ثقل المشاكل في المنطقة أكثر فأكثر، وستُقحِم المنطقة في حال منفتحة لجميع أنواع المستجدات المحتملة. لا يمكن ترسيخ الحلول الجذرية الطويلة الأمد، إلا بتعزيز وتحقيق حقوق الإنسان والدمقرطة والتنمية الاقتصادية داخل المجتمعات والدول الإيرانية والعربية والباكستانية والجمهوريات التركية. لكن التزمُّت والتحجُّر الموجود في بنى تلك المجتمعات والدول، وكذلك الأحلاف المنفعية الوطيدة؛ سوف تقاوم إلى أقصى حد. وإنْ أمكن الوصول إلى الشعب وطرح البدائل الحلاّلة، ولم يُنقِص النظام المهيمن من همته القمعية رغم ذلك؛ فلن يتحقق التحول داخل النظام إلا بحدود ضيقة. من اللازم وجود القوة العسكرية والاقتصادية بمقدار هائل ضمن المراحل الثلاث. فإمكانية تنفيذ مشروع الشرق الأوسط ستستلزم على الدوام حصول التمشيطات العسكرية والاقتصادية. إلى جانب ذلك، تتميز تنشئة الأفراد الليبراليين وحرية المرأة – التي طالما يتم التنويه إليها – بأهمية حياتية لا غنى عنها. فإنْ لم تستيقظ المرأة، ولم تشهد حريتها ولو بالحدود الأصغرية؛ فإنَّ كل المساعي الأخرى محكوم عليها بالعقم الوخيم. هذا ومن المحال تحقيق تحرر كافة الشرائح الاجتماعية – وفي مقدمتها المرأة – ما لم تترسخ الحرية الفردية في العموم، دون التمييز بين كلا الجنسين. خلاصةً، بالإمكان رسم ثلاثة سيناريوهات في موضوع النفاذ من فوضى الشرق الأوسط: أولها: ستسعى بلدان المنطقة المتكونة فيما بعد الحربين العالميتين، وكذلك العاملون على حماية الوضع القديم القائم؛ للإصرار على أنموذج الدولة القومية، على الصعيدين السياسي والاقتصادي. لكن هذا الأنموذج سيَعسُر عليه – حقاً – السير وفق حالته القديمة، بسبب بطلان مفعول التوازن السوفييتي – الأمريكي وخلله، وبسبب التحامل الأمريكي على المنطقة بطرازه الإمبراطوري. إذاً، لا مفر أبداً من التحول الاقتصادي والسياسي والثقافي. فالبنى الدولتية والقوموية والاقتصادية، وكذلك السياسية الدينية، والمتبقية جميعها من الماضي العتيق؛ تشكل حجر عثرة من جميع النواحي، إزاء حملة العولمة الجديدة. من المنتَظَر التحاق الرأسمالية المللية بالنظام مجدداً، بسبب مرور عصرها عليها منذ أمد بعيد من جهة، وبسبب ضيق الخناق على إمكانياتها في تسيير سياساتها التوازنية المتبعة في القرن العشرين بدرجة ملحوظة من الجهة الأخرى. ما ستسعى للقيام به هو مجرد الالتحاق بالنظام بزيادة أسعارها قليلاً. وستعمل على تأمين ذلك عبر أساليب الدعايات الإعلامية التي يمكن استساغتها بين صفوف القاعدة الجماهيرية؛ وذلك بتقمص المظاهر القوموية والمحافظية والاجتماعية. أما هذه المحاولات – التي يصعب علينا نعتها بالتطور – الضحلة والسطحية والعقيمة المعاشة حالياً بكثافة بارزة؛ فهي مجرد أسلوب ديماغوجي مخادع بكل معنى الكلمة، مهما سُعِيَ لتصويرها بأنها سياسة. ما تسعى هذه المجموعات المنفعية التقليدية الدولتية (سواء كانت جمهورياتية أم مَلَكية، فهذا ليس مهماً) الدينية والمذهبية إلى إنقاذه؛ إنما هو السمسرة الاقتصادية والسياسية. من غير الوارد أن تسير البؤر الرأسمالية (أمريكا، الاتحاد الأوروبي، اليابان، وحتى الصين أيضاً) التي تتزعم الدعاية والعزم على إعادة بناء النظام وفق معايير عصر المعرفة والمعلوماتية؛ مع هذه البنى السمسارية الاقتصادية والسياسية. بل عليها الإدراك يقيناً أن الرأسمالية الكومبرادورية الكلاسيكية قد عفا عليها الزمن. نخص بالذكر هنا مدى المشقات التي ستزداد أمام كل من تركيا، مصر، باكستان، وإيران؛ والتي تسعى جميعها للحفاظ على الوضع الراهن، ومدى صعوبة صمودها تجاه تحاملات النظام المتكاثفة على المنطقة. حيث أن شروط وظروف إمكانية استمرارها في وجودها بالاتفاقات والتحالفات الجديدة، سواء فيما بينها أو مع الخارج؛ ليست كما كانت عليه سابقاً. ولن يكون منطقياً كثيراً تخمين وجود خيارات أمامها عدا الالتحاق مجدداً بالنظام تحت ظل الزعامة الأمريكية، وضمن إطار المشروع الكبير؛ ولو بدلال وغنج. السيناريو الثاني هو عملية إعادة البناء في ظل الوزن الأمريكي. حيث يُخطَّط لممارسة أشبه بما قامت به كل من إنكلترا وفرنسا بُعَيد الحرب العالمية الأولى. يمكن التفكير به كوضع وسطي كائن بين الدولة القومية والاستعمار الحديث. سيرجح احتمال تحقيق هذا السيناريو الثاني عملياً، في حال استمرت أمريكا في إصرارها على المنطقة، وأبرزت الوضع الراهن في المنطقة كهدف للناتو المتسع نطاقاً والتابع لها بشكل أكبر؛ وفي حال إدراج هيئة الأمم المتحدة أيضاً في ذلك. وإذا ما حاولنا إعطاء مثال شبيه؛ فيمكننا الإشارة إلى إعادة بناء أوروبا واليابان ضمن إطار مشروع مارشال، بعد الحرب العالمية الثانية. بمقدورنا إضافة بلدان الجوار أيضاً إليها، كالمكسيك وكندا. لكن، ساطع سطوع الشمس أن البنية الموجودة في الشرق الأوسط تستدعي تطويرها بشكل مغاير تماماً لتلك الأمثلة الماضية. بالتالي، بات ضرورياً جداً على كافة الدول، التي نسميها بالعربية – وفي مقدمتها مصر – بالإضافة إلى الدول التركية وتركيا وإيران وأفغانستان وباكستان أيضاً؛ أن تعي دروسها جيداً في عملية إعادة البناء، باعتبار أنه من المحال استمررها بطرازها القديم. يتمثل المنطق الأولي لعملية إعادة البناء تلك في التوجه نحو الليبرالية في الميدان الاقتصادي، والتحرر (خاصة لدى المرأة) في الميدان الاجتماعي، والدمقرطة (الديمقراطية البورجوازية) في الميدان السياسي ضمن إطار النظام القائم. سوف تصر أمريكا على تحقيق هذه البلدان تحولاتها القصيرة والمتوسطة والطويلة المدى، بكسبها مؤازرة أوروبا واليابان، وبتأمين مشروعيتها عبر هيئة الأمم المتحدة، وبإشهارها عصا الناتو الجديدة أيضاً إن تطلب الأمر. وستجذب كل من يزرع العراقيل أمامها إلى النقطة المطلوبة، بلجوئها إلى كافة الخيارات التي بحوزتها، العسكرية منها والسياسية والديبلوماسية والاقتصادية (صندوق النقد الدولي IMF، والبنك الدولي). وإلى جانب عدم إطراء تعديلات جدية على الحدود السياسية الراهنة في هذا السيناريو، إلا إنه سيتم تفضيل بنية سياسية أكثر مرونة من البنية المركزية البيروقراطية (مثلما شوهد في كل من أفغانستان والعراق، بل وحتى جورجيا ودول البلقان)، وأكثر ديمقراطية؛ بحيث تترسخ فيها الإدارات المحلية، وتبلغ مستوى الفيدرالية. ومن الناحية الاقتصادية، ستولى الأولوية لبنية اقتصادية معتمدة على القطاع الخاص والشركات الخارجية، بالإضافة إلى الشركات المتعددة الجنسيات؛ بعد تفكيك وتفتيت الاقتصاد الدولتي. وبينما يتم الإيداع اللازم من أجل المساعي الثقافية والفنية المعتمدة على حرية المرأة والفردانية، فسوف يعاد بناء القوة الإعلامية أيضاً على نحو يسخِّرها لخدمة عملية إعادة البناء هذه. ويمكن أن تكون العراق وأفغانستان النموذج المصغر لهذا السيناريو. لكن الجانب الأضعف لهذا السيناريو يكمن في المشقة البالغة لتنفيذه بإرادة النظام الأحادية الجانب. حيث سيُكرَه على تقديم التنازلات أمام الدول القومية القديمة الثابتة من جهة، وأمام المطاليب المتزايدة للمعارضة الاجتماعية من الجهة الثانية. سيقود عجزُ النظام عن تحقيق الالتحاق به بإرادته الأحادية الجانب، إلى بقائه منفتحاً للبنى الأكثر تعقيداً وتشابكاً. أما السيناريو الثالث، فسيتطور على خلفية الرد على هذه الاحتياجات المفروضة. حيث سيفرض النظامُ التساومَ والوفاق على كلا الطرفين، بشرط أن يكون هو القوة الرئيسية المهيمنة. وسيتحول ما كنا نسميه سابقاً بالخنوع والإخضاع إلى وفاق يتماشى وشروطنا الحاضرة. علاوة على أنه لن تُعطَ الفرصة للحركات التحررية الوطنية أو الانتفاضات الشعبية الشاملة والطويلة الأمد والواسعة الآفاق، مثلما لم تُعطَ الفرصة سابقاً لأشكال الاقتصاد العقيمة وغير المثمرة والمسرفة، ولا للدول القومية المنفردة بذاتها. بل سيُفرَض خياران: إما الوفاق السريع أو الانسحاق. يمكن أن يكون التعبير الملموس لهذا السيناريو شبيهاً بضرب من ضروب الوضع الحالي، الذي تمر به بلدان أوروبا الشرقية وبلدان أوروبا الغربية القديمة. بمعنى آخر، لن يكون الوضع مثلما كان في المكسيك وكندا، ولكنه لن يبقى مثلما في تركيا ومصر وباكستان. بل سيتم تخطيه بالتوجه قُدُماً نحو الديمقراطية البورجوازية الأكثر تطوراً. من المنتَظَر أن يزداد تأثير القوى الشعبية، ويُشَلّ تأثير قوى الدولة القومية الثابتة تدريجياً. وقد نشهد تجربة غريبة الأطوار بين كل من الديمقراطية ذات الأرضية الشعبية، والديمقراطية ذات أرضية الدولة البورجوازية. كما تتطلب حالُ التوازن بين القوى أثناء الخروج من الفوضى – بالضرورة – عدمَ إغفال مثل هذه الخيارات. النقطة الأساسية الواجب الانتباه إليها هي، عدم الدخول في مقاومة عمياء، ولا في وفاق لا مبدئي تجاه كافة عمليات النظام في إعادة البناء. كذلك عدم تكبد الخسائر الكلية في حال التطلع إلى الربح الكلي، مثلما شوهد في الكثير من التجارب. من المحتمل ظهور المساعي للخروج من فوضى الشرق الأوسط وتطوير الحلول في غضون ربع القرن المقبل، عبر تطبيق هذه السيناريوهات الثلاثة بشكل متداخل، وبخيارات قد تزداد أكثر فأكثر. لكن النطقة الأهم تكمن في كيفية تطوير يوتوبيات وسيناريوهات القوى الشعبية الكادحة ذات الأرضية الاجتماعية، والتي تُبرِز نفسها عن طريق اجتماعات بروتو آللاغرا. لم يُحدَّد التاريخ حسب الإرادة الأحادية للقوى التسلطية، في أي وقت من الأوقات. بل إن التحديد الراسخ والدائم قام به السلوك الديمقراطي المشاعي للمجتمعات. 3 – بمقدورنا تشبيه الشرق الأوسط الراهن بحال الإمبراطورية الرومانية في قرنها الرابع. فالمنطقة تماثل حال ولايات روما، فيما عدا شرقي نهر دجلة. فبينما فتحتها المسيحية بتوسعها السريع من الداخل، قامت التدفقات البربرية – الحركات الوطنية في راهننا – بفتحها من الخارج. أما رد النظام الإمبراطوري، فكان صهر كلتا الحركتين في بوتقة بنيته. لقد ألحقت روما الشريحة العليا للحركات الإثنية والاجتماعية عبر سياسة التنازلات، بعد محاولتها سحقها بالأسفار المجحفة، التي شنتها مدة طويلة شملت القرنين الثاني والثالث. لكن هذا اللقاح لم يكن مُجدِياً أو نافعاً كثيراً، بل أدى بالأغلب إلى التردي والانحطاط وإبراز أمارات التبعثر والتشتت. حيث انتهت أحلام اليقظة للإمبراطور "جوليان Jullian" في إنعاش الإشراك والكفر بالله، الذي كان سائداً قديماً، وفي أن يكون هو الإسكندر الثاني؛ بالخسارة الكبرى في حملته الإسكندراوية (نسبة إلى الإسكندر) على ضفاف دجلة. يجب ألا يساورنا الشك في أن الرئيس الأمريكي "بوش G.W.Bush" باشر بحملة إسكندراوية ثالثة ضمن نفس المعايير العقائدية التاريخية. فالحقيقة المعلومة علم اليقين، هي مساعيه في نشر التبشير بالإنجيل (وإنْ لم يكن إشراكاً بالله) كمذهب مختلط (يشمل الموسوية والمسيحية، بل وحتى الإسلامية في بعض نواحيه). حيث تلعب الإنجيلية (التبشير بالإنجيل Evangelism) دوراً يشبه دور الإشراك بالله (Paganism) تجاه العلمية الراهنة التي هي أشبه بضرب من ضروب الدين. يكمن التشابه في مناهضتها لما هو حاكم وسائد في الماضي. لقد تقهقرت الإمبراطورية الرومانية بسرعة بعد عهد جوليان. وبعد فترة وجيزة انقسمت إلى قسمين. لقد توفي الإمبراطور جوليان حوالي عام 365، في حين حصل انقسام روما في عام 395. التشابه ملفت للنظر في المعايير الأخرى أيضاً. فقد كان الدين المسيحي في تلك الأثناء في حقيقته حركة للفقراء، أكثر بأضعاف مضاعفة مما كانت عليه الاشتراكية المشيدة. حيث رسخ نظاماً مشاعياً بحساسية فائقة. وكانت أديرة الراهبات كيانات شيوعية حقة، حيث تحدَّت روما طيلة ثلاثة قرون. لكنها أُلحِقَت بالنظام في عهد قسطنطين الأكبر، بعد تردّيها في عام 312م من الداخل. في حين استمرت القاعدة الفقيرة في المقاومة، وعلى رأسها الآريوسية. أما المقاومات والهجومات المستمرة مدة طويلة شملت قروناً عديدة، والتي شنتها القبائل البدوية البربرية المشابهة للحركات التحررية الوطنية الراهنة، وبالأخص تلك التي شنتها الإثنيات ذات الأصول الجرمانية والخونية؛ فقد تسارع التحاقها بالنظام بعد ترويم شريحتها العليا (تطعيمها بالصبغة الرومانية). هكذا، وبينما تبدو الإمبراطورية الرومانية وكأنها تتعاظم وتتقوى بحلفائها الجدد من جانب، فهي من الجانب الآخر – وفي الحقيقة – تتقزم وتتشتت (في مضمونها). وكانت المستجدات اللاحقة كشفت النقاب عن حقيقة هذه المرحلة. حيث اندحرت وتقهقرت وتجزأت وانهارت لأنها فقدت قيمها التي جعلت منها "روما"، ولعجزها عن الاستجابة لمطاليب الشعوب. تُشبِه إمبراطورية أمريكا الراهنة روما في الكثير من الأبعاد. فقد بلغت هي أيضاً مستوى الإمبراطورية العالمية، ووصلت ذروتها. حيث أن حملتها الكبرى الثالثة في العولمة، تعني بلوغ منزلة الإمبراطورية العالمية. لقد كانت روما دخلت مرحلة الاهتراء والتفسخ والتشتت والتجزؤ، عندما كانت في أوجها. وأمريكا أيضاً تشير إلى الكثير من أمارات التبعثر بينما تواصل وجودها كإمبراطورية فوضى. فتوزيعها المفرط لقوتها يجلب معه تشتتها أيضاً. أما حالة التجزؤ، فتعيشها بشكل مثالي مع الاتحاد الأوروبي. والتشبيه الأعمق هو إذابتها للاشتراكية المشيدة (مسيحية تلك المرحلة) ضمن بوتقة النظام الرأسمالي. إن الشبه الكامن بين عام 1990 وعام 312 ملفت للأنظار حقاً. فالمسيحية الحديثة بزعامة الاشتراكية المشيدة السوفييتية نكثت عهدها مع فقرائها، وخانتهم بوفاقها (وفاق الشريحة العليا البيروقراطية) مع النظام الأساسي، بعد مقاومات دامت فترة طويلة. الشبه الآخر الملفت للأنظار هو وفاق الأنظمة التحررية الوطنية الأوسع نطاقاً مع الإمبراطورية الأمريكية. حيث تحوَّل الزعماء التحرريون الوطنيون (كأمثال الجرمان والخونيون في الماضي القريب) إلى وُلاة في الولايات المتحدة الأمريكية. لدى وصولنا أعوام الألفين، نجد أن كل هذه المراحل من الانصهار والتجزؤ، قد بلغت ذروتها. وأياً كانت الزاوية التي ننظر منها، فالحملة الحاصلة عُقب حادثة 11 أيلول، هي حملة عرقلة التبعثر والتجزؤ والتقهقر، لا حملة توسُّع النظام. يجب رؤية الفارق الكامن بين كلتيهما جيداً. بالطبع، فهذا لا يعني أن نفس أشكال التطورات ستحدث بعد هذا التشابه الموجود. فأمريكا ذرائعية إلى أقصى الحدود (Pragmatist: ذرائعي. Pragmatism: فلسفة الذرائع: وهي فلسفة أمريكية تتخذ من النتائج العملية مقياساً لتحديد قيمة الفكرات الفلسفية وصدقها – المترجم). حيث بإمكانها إطراء التحويلات على النظام على شكل انتقالات مرنة وسَلِسَة، عبر سياسة التنازلات الواسعة الآفاق؛ عوضاً عن المضي بالنظام نحو الانهيار في نهاية المآل، مثلما شوهد في الإمبراطوريات على مر التاريخ. يجب وضع هذا الاحتمال نصب العين، وأخذه على محمل الجد. وبالأصل، فإن تعاظمها المستمر حتى الآن منوط عن كثب بتقرباتها البراغمائية (الذرائعية) والتوفيقية. وقد أسفر سلوك النظام العسكري للأساليب العسكرية والاستخباراتية والاقتصادية والثقافية والإعلامية والفنية والدعائية، مع القوة العلمية والتقنية، ومع القمع والوفاق بشكل متزامن؛ عن نتائج مثمرة وموفقة. لا يمكن للشعوب والكادحين أن يتخلصوا من الانصهار في بوتقة النظام الحاكم بعقد وفاق مسيحي وبربري ثانٍ، إلا بتوحيدهم للقوة الذهنية مع الموقف الديمقراطي أولاً، وبتجديدهم الحملة الحضارية الديمقراطية، وفرضهم إياها على النظام، مع عدم إهمال الوفاقات المبدئية بالطبع. مثلما يتسم سياق التطور التاريخي للقوى التسلطية بالتكامل كحلقات السلسلة، فإن قوى الحرية وحركاتها أيضاً تسير ضمن سياق تطوري دياليكتيكي مشابه. حيث تضيف نفس التَّوق إلى الحرية إلى الحلقات الموجودة على مر العصور، وإنْ كان شكل كل حلقة مضافة مغايراً للآخر. هنا يبرز مرة أخرى أن دور الشكل منحصر في الصون والحمل. في حين يتسم المضمون بميزته في التعددية والغنى والعمق والكسب. وتُحقِّق الحلقات حَملها للغنى وتَحَلّيها به، قليلاً أم كثيراً، ارتباطاً بطرازات الشكل الموجود. يقال لهذه الحلقات في لغة المجتمع "بناء، أو انتظام". الحاجة إلى الحرية عامة، بسبب وجود التسلط. وترتبط هذه الحاجة (أو الطراز) إلى الحرية لدى كل شعب، بوضع التسلط المسلَّط عليه. وكلما استمرت التسلطية في نفوذها وحكمها، سواء كانت فردية أو مجتمعية في أبعادها؛ فإن الحاجة إلى الحرية والنضال في سبيلها سيستمران ايضاً. الحاجة إلى الحرية شرط لا غنى عنه من أجل التقدم. ولا يمكن أن يحدث العَدَم غلا بمجزرة الحرية. وما دام لم يتحقق العَدَم، فمن المحال إيقاف أو صَدّ إرادة تدفق الحرية ضمن مغامراتها، بثقبها لكل جدار قمعي مطوِّق إياها إن دعت الحاجة، تماماً كالأعشاب والنباتات التي تمزق الصخور وتفلقها. من المهم بمكان تناول ومعالجة مشكلة الحرية للشعوب الشرق أوسطية بالارتباط مع التقاليد التاريخية، من حيث تأمين التكامل والتسلسل الحلقاتي. لنضال الحرية تاريخ مستمر في كل زمان. المهم هنا هو تحديد هذا الزمان التاريخي ضمن مضمار حريته. الفاعلية الأخرى المهمة التي فلحت فيها القوى التسلطية، هي دحض وإنكار مشكلة المجتمعات والشعوب في الحرية. وكذلك إقناعها للشعوب والأفراد بأنه لا مشكلة لهم من هذا القبيل، وأن الحقيقة الوحيدة الدارجة هي تاريخها الكوني والمطلق، الألوهي والجليل والبطولي، والمفعم بالقدسية. إنها مهارتها في دحض تاريخ المجتمعات الوافر الغنى بنسبة خارقة، وذلك عبر القيم العنصرية التجريدية والمفتقرة للمعنى؛ وبالتالي تقديمها تاريخَها – غير الموجود أصلاً، أو بالأحرى الدموي للغاية، بل والاستغلالي لدرجة تفوق الوحشية – على أنه مسيرات إلهية. يكمن أحد أهم أسباب خسارة التحرريين الاجتماعيين في فشلهم الذريع أمام مثل هذه المزاعم للتاريخ التسلطي. يكمن الأمر الضروري والأولي اللازم لتفوقهم ونجاحهم، في تحليهم بالمهارة في إبداء قدرتهم على عيش تاريخهم هم. وذلك من دواعي اتباع السلوك الأخلاقي إزاء تاريخهم في الحرية، وإزاء تقاليدهم (حتى ولو لم تكن موجودة). حيث لا يمكن أن تكون هناك عدم رغبة أو تَوق إلى الحرية، ما دام هناك قمع وكبت. إننا نقوم بهذه الدراسات التجريدية في سبيل إضفاء المعنى على حقيقة المجتمع الشرق أوسطي، الذي يبدو ظاهرياً وكأنه جامد وبليد. ثمة تاريخ للحرية الاجتماعية في منطقة الشرق الأوسط. بل وهو كثيف جداً وغائر الأعماق. تتمثل المهمة الأولية لمناضلي الحرية في تمييزه وحسمه عبر التاريخ، وتسليط الضوء عليه. فالعُشب لا ينمو إلا بجذره. كذلك هي حال نضال الحرية الراهن، الذي لا يمكن أن ينمو ويزدهر إلا بجذوره وتقاليده في الحرية. لن ندخل في تكرار ذلك، لأننا طرحناه في بداية كتابتنا على شكل مخطوطة. إننا نعيش ضمن حدود الإمبراطورية الرومانية العصرية، وتحت ظل حصار مختلف قوى الأقاليم والمقاطعات. عادةً ما يكون وُلاة المقاطعات (أي دول المنطقة في راهننا) ظالمين، مثلما شوهد ذلك بكثرة في التاريخ. فوالي مقاطعة يهودا "بيلاتوس Pilatus" هو الذي صَلَب سيدنا عيسى. وسيدنا عيسى في الحقيقة هو مجرد رمز. وما المسيحية سوى انفجار جارف للآلاف من سيول الظواهر المشابهة. هذا وكثيراً ما يُشاهَد في التاريخ بأن وُلاة المقاطعات ثائرون متمردون. وقد ينتصرون في بعض الأحيان، ليصبحوا أباطرة بعد فترة معيَّنة، أو يتم إصلاحهم فيهتدون، أو يغرقون في خضم تمرداتهم. ما هذا سوى حدث يحصل ضمن النظام ذاته، ولا قيمة له بالنسبة للحرية بمعناها الاجتماعي. وحتى إن وُجِدَت تكون غير مباشرة. لذا، من الضروري عدم الخلط بين مثل هذه المقاومات الإقليمية، وبين حركات الحرية الاجتماعية. وبدون تجاوز حقيقة الإمبراطورية العصرية على مستوى الفهم والإدراك، فكل صراع تجاهها، إما أن تكون فرصته في النجاح معدومة، أو أن تحصل نتيجة الصُّدف، وحينها لا تكون ذات قيمة تذكر. تنبع الحاجة إلى إعادة بناء مقاطعات المنطقة، من ماهية الفوضى المعاشة. لطالما نتحدث عن الواقع الخاص بحالة الفوضى. ذلك أن الفوضى هي مساحة زمنية وجيزة ومشحونة بفرص الحرية والخلق والإبداع. والحاجة الماسة الأهم (بالنسبة لجبهة الحرية) في هذه المسافة الزمنية البينية الوجيزة، هي قوة المعنى اللازمة. أي المعرفة، معرفة تاريخها وعصرها. إن انفجار النظام في مساحة الفوضى البينية بعد مراحل الهيمنة التي يبلغ عمرها خمسة آلاف عاماً عموماً، ومائتي عاماً حتى ستين عاماً في الماضي القريب (مرحلة الهيمنة الرأسمالية)؛ هو عبارة عن ظاهرة تستوجب المعالجة المُرَكَّزة. لقد أظهرنا إجابات الإمبراطورية العصرية بالزعامة الأمريكية على الفوضى، على شكل سيناريوهات أساسية. وقمنا بذلك بغرض رسم سيناريوهات الشعوب وقوى الحرية الاجتماعية، بعين موضوعية. إذ لن يكون جواب القوى الاجتماعية على شاكلة ردود المسيحية من الداخل تجاه روما القديمة، ولا كما فعل البرابرة إزاءها من الخارج. بالمقدور استنباط الدروس من هذه الأمثلة، ولكن من المحال تقليدها. هذا ولا يمكننا أن نرد في راهننا بنمط الاشتراكية المشيدة أو التحرر الوطني. ذلك أن هذه الردود، ورغم نجاحاتها وتفوقها، لم تنجُ من اللحاق بالنظام القائم، أو لم تتوانَ عن فعل ذلك، انطلاقاً من أخطائها الرئيسية. أما جوابنا، فهو نمط مرافعتنا
#عبدالله_اوجلان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط ، وا
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني 3- العودة الى الأيكولوجيا الاجتما
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني -2 تحرير الجنسوية الاجتماعية
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني ب- افكار تخطيطية (مشاريع) بصدد ال
...
-
الدفاع عن الشعب الفصل الثاني ب- افكار تخطيطية (مشاريع )بصدد
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني ب- افكار تخطيطية (مشاريع) بصدد ال
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني ب- افكار تخطيطية (مشاريع)بصدد الم
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني ب- افكار تخطيطية(مشاريع) بصدد الم
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و
...
المزيد.....
-
حماس تدعو للتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية لجلب نتنياهو و
...
-
وزير الدفاع الإسرائيلي يوقف الاعتقالات الإدارية بحق المستوطن
...
-
133 عقوبة إعدام في شهر.. تصاعد انتهاكات حقوق الإنسان في إيرا
...
-
بعد مذكرتي اعتقال نتنياهو وغالانت.. سيناتور جمهوري يوجه تحذي
...
-
قادة من العالم يؤيدون قرار المحكمة الجنائية باعتبار قادة الا
...
-
معظم الدول تؤيد قرار المحكمة الجنائية باعتبار قادة الاحتلال
...
-
اتحاد جاليات فلسطين بأوروبا يرحب بمذكرتي اعتقال نتنياهو وغال
...
-
الأمم المتحدة: نتائج التعداد بيانات عامة دون المساس بالخصوصي
...
-
وزير الدفاع الإسرائيلي ينهي الاعتقالات الإدارية بحق المستوطن
...
-
من هم القادة الذين صدرت بحقهم مذكرات اعتقال من المحكمة الجنا
...
المزيد.....
-
سعید بارودو. حیاتي الحزبیة
/ ابو داستان
-
العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس
...
/ كاظم حبيب
-
*الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 *
/ حواس محمود
-
افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_
/ د. خليل عبدالرحمن
-
عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول
/ بير رستم
-
كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟
/ بير رستم
-
الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية
/ بير رستم
-
الأحزاب الكردية والصراعات القبلية
/ بير رستم
-
المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية
/ بير رستم
-
الكرد في المعادلات السياسية
/ بير رستم
المزيد.....
|