|
في عيد الصحافة الشيوعية
ابراهيم الحريري
الحوار المتمدن-العدد: 3804 - 2012 / 7 / 30 - 11:16
المحور:
الصحافة والاعلام
الايقاع الموسيقي / الكوني في كتابة أبو سعيد إلى معلِّمَيْ في الكتابة والموسيقى : "أبو سعيد" وعلي الشوك
هل كنت تعلم وانت تتجه لملاقاة ذلك الرجل القصير داكن السمرة، الناحل، تقدم رجلا وتؤخر أخرى، إن إيقاع أقدامكما الثابت من جانبه والواهن المتردد، من جانبك سيتداخل ويفترق، سيتشابك على مستوى أعلى، ويفترق... ثم يرقى ابو سعيد ،ثابت الخطوة مراقي الشهادة، فيما يبعد عنها خطوك الواهن المتردد.
كان ذلك أواخر عام 1952، بدء العام الدراسي بالضبط، كنت في بدايات التحاقك بالحزب وبدايات ظهور حركة السلم العراقية، تتابع ما يصدر عنه وما ينشر عنها، تسمع عن كراس جديد صدر بعنوان "السلام العالمي" لعبد الجبار وهبي، وتبحث عنه في "سوق السراي" فلا تجده، لعل الشرطة السرية "لمّته" فيما كانت تلم من الاصدارات التقدمية عراقية وعربية وأجنبية. حتى تراه، ماثلا أمامك، في بهو الكلية الجعفرية في العباّخانه، تقترب منه، سائلا إياه عن كتابه، ولعله وقد مر به مثل هذا الموقف مرات عديدة من ناشئة يودون "الاحتكاك" بكاتب مثله، يتردد، بل لعله يتوجس. وهو "المعميل" الدائم لدى أجهزة الأمن، مطاردا ونزيلا، من مكيدة أخرى، فيردك ردا مجاملا، متأدبا، يجمع بين الريبة والاشفاق على فتى يضع خطواته الأولى على الطريق ذاته ، الطريق الذي أفضى به إلى الشهادة، ثابت الخطوة يرقى ملكا. وشتّ بك. لكن لذلك قصة أخرى.. كتبت عنها وكتب عنها آخرون. *** أوائل عام 1959، تصدر "اتحاد الشعب"، يُطلب منك أن تلتحق بها، فتلتقي "أبو سعيد" ويتشابك وقع أقدامكما مرة أخرى على مستوى أعلى، كان وقع أقدامه، الراسخ، الواثق يتسلل بين سطور كتاباته، محللا ناقدا لاذعا، محذرا، لكنه في كل الأحوال يبعث الفرح ويستحث، حتى في أشد الظروف حلكة ، الأمل. فيما كنت تدرج في "حكايات حمدان" ، التي لفتته ولفتت غيره ،خطواتك الأولى، فيشجع، يلاحظ، وينتقد ويعدل ،بأبوة عطوفة حانية وكنت تفرح أن تجد كتاباتك صدى لدى معلم قدير مثله.. لم يتذكر بالتأكيد، ذلك الفتى الذي اقترب منه، قبل حوالي العقد إلا قليلا، فلقد كان نبت للفتى شارب، وعلا وجهه السهوم المبكر ، تظل وغيرك تحاول أن تعرف مصدره. وسيأخذ بيدك أخذ المعلم، "سيشاقيك" ويسخر من جدك المبالغ به، أحيانا، مقلدا إيقاع الدراجة البخارية، وأنت تترجل عنها قادما إلى مقر الجريدة في الشيخ عمر "ترم.... ترم..." ثم ينفجر بالضحك. يأخذك مرة إلى اتحاد الأدباء، إلى مجلس جمع الجواهري وعلي جواد الطاهر، والمخزومي، ويدور الحديث مناحِيَ شتى، ولعله يقارب الموسيقى وبتهوفن وسمفونيته التاسعة " .ويحاول أبو سعيد أن يتذكر مقطعها الختامي ،" "نشيد الفرح" لشيللر، حتى تردده أمامه، فيتفاجأ وتتفاجأ. فثمة أمر آخر يجمعكما: "صوت الموسيقى". الآن وأنت تعيد قراءة "أبو سعيد"، فتنفتح على طريقة "أبو سعيد" في الكتابة، تكتشف "صوت الموسيقى:" بناءه، إيقاعه، ثم الضربة الختامية، "القفلة" بلغة الموسيقى، أو بيت القصيد بلغة الشعر، في عموده. وإذ تفرح بما تكتشف، تتذكر الـ ""Ode de Joy لشيللر، وبتهوفن، صوت الموسيقى الذي قاد ابنته، أنوار فيما بعد ، إلى معهد للموسيقى في ألمانيا، ويطل عليك وعلى غيرك وجه "أبو سعيد" يبعث فيك الفرح والأمل.. رغم كل شيء.. رغم كل شيء.. ***
يمكن لأي قارئ، خصوصا، إذا كان على إلمام بالموسيقى، وحتى "سميعا" كما يقول المصريون، أن يكتشف ما اكتشفته، أعني البناء الموسيقي في كتابة "أبو سعيد". الفكرة الأساسية التي يبثها بصوت خافت، الا ما ندر ، و حيث تتطلب الضرورة ، مطلع كتاباته، تختفي وتعود على مستوى أعلى، فأعلى في كل مرة، حتى تكاد تصرخ في الضربة الختامية. وسأعرض ها هنا أحد نماذجه: عمود "صاروخ روسي" 8/4/1960 يبدأ أبو سعيد "الصاروخ الروسي" بإيقاع فرح : البصرة أيام العيد، جنة يحلم بها الصغار حين ينامون.." إيقاع يذكر بالسمفونية السادسة لبيتهوفن. "السمفونية الريفية" أو "الباستورال" كما عرفت. هنا حركة دواليب، في الباستورال حركة عجلات القطار المتوجه إلى الريف. يتداخل الاعمام والاخوال والعيديات والملابس الزاهية وما هي الا "تنويعات" على الايقاع الرئيس المتصاعد، اوضح، اقوى: " ليس العيد الا الدواليب". هنا يدخل صوت آخر: " ثم يرتفع صوت الطبل والحان "الهيوا" في مقاطع قصيرة سريعة متكررة" ويتداخل بصوت الدولاب وحركته:" حتى اذا تسارعت دورة الدولاب انسحب الجوق من مكانه، قليلاً الى الامام وتجمع في نصف دائرة" يتداخل صوت آخر: " ..... ثم تبدأ" الصفقة" والرقص على ايقاع سريع من الطبل الافريقي... والحان الهيوا.." دولاب العيد.. كركرات الصغار.. الطبل، رقص الهيوا... الصفگة. الصوت والصورة والايقاع تتداخل تداخلاً مذهلاً، في صاروخ ابو سعيد حتى تنفتح على لحن متفائل تقطعه وتتسيده ضربات الطبل الكبير ليندغم بايقاع الحياة: تحرر عبيد البصرة والصاروخ الروسي الذي يشق اجواء السماء ، مبشراً بتقدم الاشتراكية، او هكذا رآه واراده ابو سعيد وحلم به... هل كان ابو سعيد يعرف، او يتعمد هذا البناء الموسيقي في كتاباته؟ اشك في ذلك، الا ان صوت الموسيقى كان يسري في روحه وفي قلمه، ويكيف كتاباته، بناءً وايقاعاً وخاتمة . وقد يجوز لي القول، وقد انتبهت الى ذلك متأخراً وتحدثت عنه، ان الامر يحدث معي، احياناً، فيما اكتب، وخصوصاً في العمود. *** بسبب ذلك، كان يمكن لابي سعيد، لو انتبه، لو اراد، ان يكون كاتباً مبرزاً للقصة القصيرة جداً، فهو يمتلك كل الادوات : القدرة على التكثيف، التصعيد ، الضربات السريعة الموحية التي تشكل الملامح الرئيسية للوحة، والنفس الشعري الطاغي، هذا فضلاً عن الايقاع الموسيقي واجادته اجادة رائعة محكمة، لضربة الختام التي تشد البناء بأكمله. لكن لعل هاجس الدعاية والتبشير و التحريض والتثقيف كانت بالنسبة له، الاقرب الى ما يريده ؛ اي الاقتراب من الناس والمساهمة الفاعلة في تشكيل وعيهم . وهو يتحدث عن هاجسه، طريقته كما يسميها: "انني ابحث عن الخبر لا في الكواليس والدهاليز المعتمة "الضيقة" بل في عرض البحر، وعند سطوع الشمس... انا اذهب الى الشعب.. الى الجمهور الواسع من الناس. "فأندس" بين صفوفهم... واستنطق آلامهم.. وآمالهم، واصطاد هناك... في الشارع والمقهى، والتاكسي والسينما، والسوق والعمل.. اصطاد ما اشاء من الاخبار.. والافكار". "ابو شوارب" 12/ 4/ 1960 ولهذا كان الاقرب الى الناس وسيظل... ومن اجل ذلك، ومن اجل ايصال الكلمة البهية، الطيبة، المضيئة، النظيفة الى الناس ، كرس كل طاقاته وتعلم كتابة الحرف وصف وطباعة الحرف... ذلك انه كان النموذج الحي للمثقف العضوي الذي تحدث عنه غرامشي، وسيظل!
*** كيف قدر لابي سعيد أن يكون، ان يحقق، ذلك كله؟ كان ينبغي ان يكون سليل المنطق العقلاني المعتزلي. وكانت البصرة موئله، وسليل انتفاضات العبيد وثوراتهم( ربما بالمعنى الحرفي للكلمة، راجع " جدي فيروز" ) وهنا، ايضا، كانت البصرة، حاضنته. فيتشكل لديه حسها وحسهم الثوري، رفضهم اللامهادن للظلم ونشدانهم الازلي للحرية والعدل. وكان ينبغي، فضلا عن ذلك ان يكون استاذا للفيزياء، أي عالما، وربما متحدا ، بقوانين نشوء الكون وحركته اللانهائية . وبقوانين الجدل الهيغلي/ الماركسي، وبالحركة الجبارة للمضطهدين، شعوبا وطبقات، منذ فجر التاريخ، صُعّدا الى اوائل القرن التاسع عشر ، صعودا الى اواسط القرن العشرين ، الى مابعد الحرب العالمية الثانية وهزيمة الفاشية . كان ينبغي ، ان يعي، ان يكون ذلك كله، لتكتسب لديه حركة دولاب العيد، ودورانه المتكرر، الصاعد، في كل مرة، أعلى فأعلى، معنى اكثر شمولا وعمقا يلهمها، يحفزها صعود الصاروخ الروسي وقتذاك. ان يتحد في لحظة معينة من وعيه أو لا وعيه، هي لحظة الابداع، حين يتحد الخالق والمخلوق في فعل الخلق،( كانت الكتابة لدى ابو سعيد فعل نزع فطلق فولادة تمتد احيانا ساعات ، و حين نسمع ضحكته المجلجة كأنها زغرودة الفرح بالولادة ندرك انه اطلق ، اخيرا ، عموده ) فعل الخلق الساري في الكون مسرى الروح والايقاع، أن يتصل لديه دولاب البصرة بعجلة التاريخ ، ليصبح أبو سعيد، ذاته وغير ذاته، ذاته العليا، أي لحظة متألقة متوهجة ، تسكنها روح التاريخ ، فتدور مع تروسه ، وتتحد بايقاعه، ليتكوّن ابو سعيد، خلقا جديدا آخر غير خلقه الأول ، عندما يواجه اللحظة المصيرية: أن يكون ... او لايكون ! وقد اختار ، وهي لحظة اختياره الوجودي الحر، في أقصى درجات توترها، اختار ، في وقت حسب الجلادون انه، بَعْدُ، لن يكون، وانهم نفوا كينونته، انهوها، اختار ان يكون، اشد ما تكون الكينونة حضورا ، فعلا متوهجا وخلودا، بما هو جزء من ذلك الدولاب العتيد، الصاعد في البصرة ، دولاب العيد، وبما هو لحظة مضيئة في العملية التاريخية الجبارة، المعقدة، المنتصرة، في النهاية، برغم الانكفاءات والتراجعات، رغم كل شيء، وقودها حلم الكادحين بالحرية والعدل ، وضحكة " ابو سعيد" المجلجلة ، مثل جرس نصر هائل، معلنة هزيمة الجلادين، التاريخية، وانتصار" ابو سعيد" التاريخي ، بكل ما يمثله . من هنا تكتسب كتابة "ابو سعيد" ليس ايقاعا موسيقيا فحسب، بل ايقاعا كونيا، هو جوهر، روح ، كل الأعمال الموسيقية والابداعية الخالدة، بما هي تعبير عن روح العصر وروح كل عصر أي: الروح الكوني . *** ابو سعيد ! بعد عام او يزيد من الأِمحال والصمت والسهوم الذي حرت وغيرك في تفسيره، تمتد اليّ يدك من البعيد... البعيد ، لتنتشلني من بئر الذات اللا قرار له، فاذا بك الاقرب من كثير من "القريبين" و " الاقربين"، واذا ايقاعك يكسر ايقاع الصمت الذي كبل روحي وشلّها. واذا ضحكتك المجلجلة تتداخل مع كل الايقاعات ؛ ايقاعاتك، وايقاعات الحياة وتتسيدها، تبعث، من جديد، فيّ وفي غيري، روحك المرح المتفائل: ايقاعك الخالد... رغم كل شيء! رغم كل شيء!
#ابراهيم_الحريري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تعقيب أخير
-
تعقيب على تعقيب تحرير سالم الاعتراف-.... الأَخير!”
-
تعقيب على تعقيب تحرير سالم
-
عن -سن الذهب- ادافع لا عن مفيد !
-
الى الصديق سعدي يوسف - التفسير المادي لسن الذهب !
-
أزمة كهرباء... أم أزمة حكم؟
-
لم يعد السكوت ممكناً
-
لم يعد السكوت ممكناً .. نقطة سطر جديد
-
ضد التعذيب! لم يعد السكوت ممكنا...
-
نديم
-
يا عين موليتي
-
حوار مع الكاتب ابراهيم الحريري
-
اصداء - مناقشة هادئة للموقف الوطني
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|