أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - ياسين الحاج صالح - من منع الهجوم على العراق إلى تجديد الحياة السياسية العربية















المزيد.....


من منع الهجوم على العراق إلى تجديد الحياة السياسية العربية


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 260 - 2002 / 9 / 28 - 04:07
المحور: اخر الاخبار, المقالات والبيانات
    


 

 

أخبار الشرق - 27 أيلول 2002

هل من الممكن الحيلولة دون هجوم أمريكي على العراق؟ للسؤال أهميته لأن من المرجح أن هذا الهجوم سيتجاوز إسقاط نظام بغداد وتنصيب نظام ألعوبة مكانه إلى احتلال أمريكي للبلد من المرجح أن يدوم سنوات أو عقوداً، ولأن الكثيرين في المنطقة العربية يخشون من تقسيم العراق على أسس إثنية وطائفية بما يفتح باباً لتفكك وصراعات لا تنتنهي في المشرق العربي، ثم لأن من الوارد جداً أن يكون نظام ما بعد صدام حليفاً لإسرائيل بكفالة أمريكية.

من الناحية المنطقية الحيلولة ممكنة بحفز ديناميكيات مضادة، مكافئة على الأقل، للديناميكية السياسية والعسكرية والنفسية التي تتأهب للانطلاق مما وراء الأطلسي. السؤال إذاً: كيف يمكن إطلاق ديناميكية سياسية ومعنوية مضادة تقف في وجه الديناميكية الهجومية الأمريكية التي تزداد زخماً واندفاعاً وتكاد تصل طور اللاانعكاس؟

منطق السياسة "الواقعية"

لنجرب أولاً الافتراضات العقلانية التي تنطلق من مفهوم الدولة/ الدول ذات السيادة التي تتحدد خياراتها السياسية بتحقيق مصالح شعوبها وتجنيبها المخاطر.

إن تنسيقا جادا بين أطراف المثلث المركزي العربي، مصر والسعودية وسورية، مع احتمال ضم العراق والسلطة الفلسطينية، من شأنه أن يقوي موقع جميع هذه الأطراف المهددة، بدرجات متفاوتة، من قبل الأمريكيين. هناك برنامج جاهز لهذا التكتل: استعادة وحدة مشاكل المنطقة على الشاكلة التي طرحها العراق في 10 آب 1990، أي محورة "أزمة الشرق الأوسط" حول قضية فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي بدلا من الانطلاق من النتائج الجانبية لهذه الأزمة كالإرهاب وأسلحة الدمار الشامل؛ مع تشميل هذا البرنامج مسالة أسلحة الدمار الشامل الإسرائيلية المسكوت عنها.

يمكن لهذا البرنامج أن يكون محور مبادرة عربية تنطلق من الدول المذكورة وتطالب بانسحاب إسرائيلي شامل خلال مدة زمنية محددة من جميع الأراضي العربية المحتلة وبدء مفاوضات متعددة الأطراف لنزع أسلحة الدمار الشامل من المنطقة والبحث في ضمانات الأمن المتبادل، مع إرفاق هذه المبادرة بإجراءات عقابية جدية في حال رفض الطرفين الأمريكي والإسرائيلي لها. يمكن للسعودية مثلاً أن تجمد فوراً القواعد العسكرية الأمريكية على أراضيها وتعيد علاقاتها مع العراق وتشجع سحب أرصدة رعاياها من المصارف الأمريكية، ولمصر والسلطة الفلسطينية أن تجمدا فوراً علاقاتهما مع إسرائيل، ولسورية أن تحسن علاقاتها مع السلطة الفلسطينية وتوقف تعاونها الأمني مع الأمريكيين.

إن حملة دبلوماسية وإعلامية مُدارة بكفاءة على الصعيدين الرسمي والمدني، في أوروبا وأمريكا دون إهمال دول العالم الأخرى، وخصوصاً في "العالم الثالث" السابق، جرياً على عادة عربية تجمع بين التنفج والنفاق وتقلص العالم إلى الغرب؛ أقول إن حملة كهذه تجمع بين أقصى اعتدال في النبرة والأسلوب وأقصى وضوح في الهدف لن تسهم في شرح المبادرة وكسب تعاطف أو تفهم الرأي العام العالمي للحق العربي، بل هي أيضاً خطوة في طريق الانتقال إلى هجوم سلمي حقيقي يضع المعتدين الأمريكيين ومشعلي الحرائق الإسرائيليين في موقع الدفاع، بما يحقق إطلاق الدينامية المأمولة.

هل هذا احتمال واقعي؟ هل يمكن للفاعلين المذكورين أن يقوموا بالأفعال المزكاة أعلاه؟ هل يمكن للنظام الرسمي العربي أن ينتفض على نفسه ويضع استراتيجية متكاملة لمواجهة تغيير يهدد أركانه جميعاً؟ ليس هناك في ذاكرتنا الحديثة للأسف ما يمنح هذا الاحتمال أدنى حظ من الواقعية. من يذكر مصير مبادرة الأمير عبد الله التي تبناها مؤتمر قمة بيروت في الربيع الماضي؟ ومن يذكر المبادرة المصرية الأردنية قبل أقل من عام من اليوم لوقف "العنف" في الأراضي الفلسطينية المحتلة؟ ومن يذكر أنه كان ثمة مبادرة مصرية ليبية مشتركة لوقف الحرب الأهلية السودانية؟ لماذا إذاً نُتعب أنفسنا ونهدر اهتمام القارئ في سيناريوهات خيالية؟ الجواب ببساطة أن تقليب النظر في هذا الاحتمال المجرد مناسبة للتحليل والتعلم السياسي وفرصة لتدريب الخيال على التفلت من الواقع والواقعية، وهذا ضروري للعمل والفهم السياسي خلافاً للتصور الشائع الذي لا يمنعه إصراره على الواقعية من الاستسلام للطوبى أو من الخضوع التام للواقع كما هو.

تنتمي مفاهيم الواقعية والعقلانية السياسية إلى الحقل السياسي الديمقراطي وتكتسب معناها وتوظيفها منه. ويقود تطبيقها الأعمى في دول تحكمها سلطات غير منتخبة إلى عكس النتيجة المتوخاة منها: فهم قواعد العالم السياسي الفعلية من أجل حسن التوجه فيه والتحكم بمخاطره لتحقيق مصلحة الشعب الممثل ديمقراطيا بدولته، فتكتسب معنى المحافظة والرضوخ للواقع القائم والتجنب السلبي للمخاطر. فبقدر ما إن الواقعية والعقلانية هاتين محافظتان ومضادتان للتغيير فإن التغيير شرط مسبق لتحريرهما من التشوه المحافظ.

ليست الافتراضات السابقة عن محور استراتيجي عربي عقلانية إذاً إلا في ظل حكومات منتخبة ديمقراطياً ومسئولة عن تقديم كشف حساب أمام شعوبها. وإذا كان صحيحاً أن الدول العربية الحالية تحدد خياراتها على أرضية عقلانية، فإن القيمة المركزية التي تتحكم بهذه العقلانية هي دوام أنظمة الحكم وليست تحقيق الأصلح للشعوب؛ وقد يكون من الملائم أن نسمي هذه العقلانية المحافظة عقلانية التكيف السلبي أو العقلانية الصغيرة.

لقد أثبتت تجارب الانتفاضتين الأولى والثانية وحرب الخليج الثانية وصولاً إلى اليوم أنه يستحيل إطلاق ديناميكية مقاومة بالاعتماد على النظام الرسمي العربي ونخبه الحاكمة. فهذه النخب إما موالية للأمريكيين أو حريصة على استرضائهم، وسقفها "العقلاني" هو دبلوماسية الانحناء للعواصف حتى لتكاد تعيش منبطحة.

خيار التحرر الديمقراطي

ألا يكمن الخطأ كله في معظم النقاش الجاري حول المسألة العراقية في محورة هذا النقاش حول منع ضرب العراق أو إسقاط نظام الحكم فيه؟ ألا تتركز كل جهود النظم العربية الحاكمة حول إشكالية الحيلولة والتجنيب مع تذكير الأمريكيين بأن مصالحهم قد تتضرر من الهجوم (في أحسن حالاتها تتمحور استراتيجية النظام الرسمي العربي حول الممانعة)؟ وإذا كنا، مثقفين ديمقراطيين ومعارضة سياسية، نسعى بالفعل إلى إطلاق ديناميكية مضادة لديناميكية العدوانية الأمريكية، أو إلى توحيد مشكلات المنطقة، ألا يجب أن نكف عن اعتبار المنطقة العربية أو إقليم الشرق الأوسط مكوناً فقط من فاعلين دوليين فقط هم الدول العربية التي تجمع بين الدكتاتورية وشرعية مشكوك فيها في الداخل والتخاذل والتهاون حيال الخارج، ثم إسرائيل التي تجمع بين العدوانية والعنصرية والتفوق العسكري والتقني والسياسي، ثم الولايات المتحدة التي تحد دول العالم جميعاً اليوم لكنها تحيط بدول إقليم الشرق الأوسط من داخلها وخارجها وفوقها وتحتها؟

ألا ينبغي أن نتذكر أن هناك شعوباً مقهورة أسيرة في هذا النظام الشرق أوسطي الذي بات سجناً للشعوب كما كانت روسيا القيصرية (ووريثتها البلشفية)، وأول هذه الشعوب هو الشعب العراقي الذي تعقد منادب الرثاء المرائية في كل مكان باسمه اليوم؟ وهل تتوحد المشكلات المذكورة حول قاسم مشترك أهم من التحرر الديمقراطي وتقرير المصير الحر للشعوب في هذا الإقليم؟ وهل يمكن التحرر من هذا السجن المكون من أطراف "المثلث المصيري" بتعبير تشومسكي، أي الولايات المتحدة وإسرائيل والدول الاستبدادية العربية (عند تشومسكي الضلع الثالث هو الفلسطينيون)، دون تحطيم حلقته الأضعف التي هي الدولة الاستبدادية العربية؟ صدام لا قيمة له ولا يساوي شيئاً (وإن كان لا يتفوق في انعدام القيمة على أحد من قادة الأمة) فلماذا نجعل من بقائه محوراً للتفكير والسياسة؟

يصعب إطلاق ديناميكية مضادة مؤثرة إن لم تكن ديناميكية قاعدية تتصدى للهيمنة الأمريكية في سياق التحرر الديمقراطي وإعادة بناء الدول والمجتمعات العربية على قواعد احترام الكرامة الإنسانية وسيادة القانون وحماية الضعفاء وحرية الرأي. بعبارة أخرى، إن شئنا تجنيب العراق التدمير الأمريكي لا مناص من العمل على جعل المعركة العراقية جزءاً من معركة أوسع لبناء الدولة الديمقراطية الحديثة في بلادنا العربية، بما في ذلك العراق. الحيلولة والتجنيب ممكنان، ولكن فقط في إطار إعادة بناء الدولة والسياسة في العالم العربي المستسلم للحاوية الشرق أوسطية. السياسات الراهنة لا تضمن حلولاً لمشاكلنا، الحلول هي الانتهاء من هذه السياسات بالذات.

 لقد آلت النظم العربية الحاكمة إلى إفلاس أخلاقي وسياسي تام، وهي تحكم دولاً مفقرة مادياً ومضعفة عسكرياً ومجتمعات مهزولة عديمة المناعة ضئيلة الكثافة النفسية والروحية رغم المظاهر المعاكسة. هذه الأنظمة بلا برامج وبلا خطط وبلا قدرة على وضع استراتيجيات لأنها مبرمجة على تأبيد اللحظة الحاضرة. وإذا كان سقفها هو الحيلولة دون ضرب العراق فليس ذلك من أجل الشعب العراقي ولا من أجل الوطن العراقي ولا حتى من أجل النظام العراقي، بل لانها أنظمة محافظة بعمق تخشى التغيير وعدم الاستقرار ولا مطمح لها في هذه الحياة الدنيا إلا بقاء الأوضاع التي تؤمن لها السيادة. لنتساءل لحظة: ما هو الفكر السياسي لنخب الحكم في بلادنا؟ على أية عقيدة سياسية تستند؟ بم تؤمن؟ ما هي أهدافها؟ منذ أكثر من ثلاثين عاما تسير كل الدول العربية بلا عقيدة سياسية وبلا أهداف وطنية وبلا مراكز دراسات وبحوث محترمة، وبالطبع بلا رقابة اجتماعية وبلا أحزاب سياسية وبلا دساتير وبلا سيادة قانون وبلا قضاء مستقل وبلا إيمان.

لا يجوز الدفاع عن الأمر الواقع الراهن الذي استنفد طاقة المجتمعات العربية وجعل من العالم العربي بؤرة للطغيان والإرهاب والفساد والتفاهة، ولا يجوز أن ندافع عنه ضد أعدائه الحلفاء إلا في سياق كسر هذا التكامل القدري بين دول الطغيان والطاغية العالمي الأوحد. في اختصار يدور الأمر حول وحدة معركة الحرية: استقلال الوطن وحرية المواطن والإنسان؛ التحرر من السيطرة الخارجية لا كبديل عن الحرية السياسية والثقافية وحقوق الإنسان بل كأفضل شرط لتحقيقها. فبكل بساطة لا يمكن للشعوب أن تدافع عن دول تجوعها وتحاصرها وتساومها حتى على حقها في مناقشة الشئون العامة في أعماق البيوت. وفي كثير من الحالات من المشكوك فيه أن يكون النظام الذي ينصبه الأمريكيون هنا أو هناك أبشع من النظم التي نصبت نفسها بنفسها وأبّدت نفسها بنفسها؛ ونرجو اننا لم نخدش العفة القومية لأحد بهذا الكلام.

تغيير الإشكالية: من الدولة إلى المجتمع

من أجل ماذا تستنفر الشعوب ووسائل الإعلام والمثقفون منذ شهور؟ من أجل الانتصار في معركة عدم ضرب العراق وبقاء الأوضاع على حالها اليوم؟ وهل نطالب بالصحو من الغيبوبة وأنظمة الغيبوبة لا لشيء إلا لنكافح من أجل العودة إليها؟ أما من خيار بين أمريكا وإسرائيل وبين نظم تسلطية بشعة ولا إنسانية؟

يقتضي حفز ديناميكية مضادة الانتقال من الرهان على الحكومات وعلاقاتها الدولية إلى الرهان على الشعوب والمجتمعات المدنية وقدرتها على المقاومة والدفاع عن الذات والإبداع، ومن إشكالية الحيلولة والممانعة إلى بناء استراتيجيات وطنية للتحرر الديمقراطي والحداثة والتنمية.

فبقدر ما أن انتفاض نخب الحكم في الدول العربية على نفسها وارتفاعها إلى مستوى المسئولية التاريخية أمر مستبعد، فإن الانحصار في كيفية إنقاذ النظام العراقي أو منع ضرب العراق لن يتم اليوم - إن تم، وهذا غير مستحيل - إلا باسترضاء الأمريكيين (والإسرائيليين) مقابل أثمان سياسية واقتصادية واستراتيجية باهظة تدفع من مستقبل الشعوب العربية. ودلائل ما بعد 11 أيلول توحي بأن "عقلانية" نخب الحكم العربية توشك على تحقيق قفزة نوعية تنقلها من مقايضة مكاسب مادية أو أمنية ضئيلة من الأمريكيين مقابل تنازلات سياسية كبيرة لهم إلى تقديم التنازلات ذاتها مقابل مجرد رضى الامبراطور الأمريكي. كذلك تشير تجربة ربع القرن الأخير إلى أن نخب الحكم العربية مستعدة للانقلاب على ذاتها في اتجاه واحد: التخلي عما تدعيه من مبادئ ثابتة والتكيف مع انخفاض السقوف ولو إلى درجة الانبطاح والزحف.

بالمقابل لا شك في أن مواقف نخب السلطة العربية "مبدئية وثابتة" فعلا حين يتعلق الأمر بمطالب مجتمعاتها في مجالات الحريات العامة والشفافية ومكافحة الفساد والتضامن مع البلدان العربية الأخرى. والنقطة المهمة في هذا الصدد هو أن هذا الصمود البطولي في وجه الضغوط الاجتماعية ليس بلا علاقة مع ذلك الاستعداد البهلواني للانقلاب على الذات حين يأمر السيد الأمريكي. يروي مصطفى الحسيني (السفير 13/9/2002) أن مارتن إنديك، وهو سفير سابق لأمريكا في إسرائيل ومؤسس معهد الشرق الأوسط في واشنطن الذي انضم إليه مؤخراً رئيس الأركان الإسرائيلي السابق شاؤول موفاز، نشر في مطلع العام الجاري مقالا في مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية يعرض فيه ما يصفه بأنه "صفقة" تم التوصل إليها في أعقاب حرب الخليج الثانية، بين الحكومة الأمريكية وبين حكومتي كل من المملكة السعودية ومصر. "مضمون الصفقة ان تطلق واشنطن يد كل من الحكومتين في أمر المعارضين لهما، أي أن لا تثير اعتراضات ولا احتجاجات حول انتهاكات "حقوق الانسان" وألا تمارس ضغوطا بشأن الديمقراطية، مقابل تأييد هاتين الحكومتين للسياسة الأمريكية حيال الصراع العربي الاسرائيلي، على ان لا تعترض واشنطن عندما تتحدث الحكومتان بلغة أخرى للأغراض الداخلية". وكان انديك يدعو حكومة بلده الى تغيير هذه الصفقة الجائرة من وجهة نظره. لماذا؟ لأن "كلا من الحكومتين أساءت استخدام الرخصة التي منحتها لها الصفقة، فالحكومة المصرية وسعت مجال الرخصة التي قصد بها أن تقتصر على المعارضة الاسلامية فشملت بها قوى المعارضة "العلمانية" ما أدى الى اضعاف القوى التي كان من شأنها احداث التوازن مع نفوذ قوى الاسلام السياسي. أما الحكومة السعودية فآثرت "شراء" المتشددين الاسلاميين، بتوجيه أموال ضخمة الى مؤسسات اسلامية في الخارج، فاستخدمها القيمون عليها في تمويل شبكات الارهاب". واضح أن ما يريده إنديك هو تدريب الحكومتين على عقلانية كل شيء مقابل الرضا والسلامة. واضح أيضا أن سر صمود نظمنا هنا هو استعدادها للخضوع هناك.

من ناحية أخرى من يستطيع إدانة منفي عراقي يقول إنه لن يرجع إلى العراق حتى لو تحرر وأصبح ديمقراطياً؟ هذا الرجل الذي انكسر قلبه ليس وحيدا في تعرضه للتعذيب والذل والإهانة من على يدي النظام العراقي نفسه، ولا يقلل من حاجتنا إلى فهم معاناة ألوف العراقيين المنفيين وملايين الشعب العراقي الجائعة والمقهورة وجود ما يسميه جوزف سماحة "المعارضة الشلبية" أو معارضة الخمس نجوم. وليس أيمن الظواهري إلا رجل آخر انكسر قلبه بسبب ما تعرض له من تعذيب وحشي في سجون بلاده. وهناك مثلهما الكثير، عشرات الألوف من "قصص الموت المعلنة" لكن غير المعروفة، إما بسبب الخوف أو بسبب اليأس. ووراء هذه العقوبات العبثية بلا جرائم ثمة جرائم كبرى بلا عقاب، ويشكل مجموع العقوبات الانتقامية العبثية والجرائم الكبرى المحتمية بها فصلا عجيبا فظيعا مهينا هو العامل الأول في تفسير هذا السقوط القومي والإنساني المريع الذي نعيش فيه منذ أزيد من ثلاثة عقود.

ولعله يحسن بالمثقفين أن يركزوا على قضايا الحريات والكرامة الإنسانية ويبنوا منظورهم الوطني والقومي حولها بدلا من التنظير لسياسات الانحناء للعاصفة ورشوة الأمريكيين بجزر أمني تجنبا لعصاهم الحربية الغليظة. بالفعل قد تتجنب الدولة التي تكتب التقارير للأمريكيين بمواطنيها وغيرهم (هي نفسها الدولة التي ترهن "وطنية" مواطنيها بكتابة التقارير لأجهزتها وتجعل من الوشاية عنصرا أساسيا في الهوية الوطنية)، قد تتجنب هذه الدولة العصا الأمريكية، لكن بأي ثمن؟ لا أقل من استكمال نزع وطنية الدولة. اليمن أبرز الأمثلة، لكنه ليس الوحيد قطعاً.

إن محورة المثقفين جهودهم حول قضايا الحريات والحقوق السياسية لمواطنيهم والكفاح من أجلها ليس ضمانة للحقيقة واليقين، لكنه بالتأكيد عاصم من أسوأ الضلالات.

السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: هل هناك قوى اجتماعية فاعلة تستطيع تحقيق الربط بين الديمقراطية والتحرر من السيطرة الخارجية؟ كيف يمكن للاحزاب السياسية والمثقفين والطبقة الوسطى المنتجة والمهنية ورجال الدين غير الرسميين وغير المتعصبين أن يشكلوا كتة تاريخية تتعهد برنامج التحرر الديمقراطي الوطني؟ قد تكون هذه القوى ضعيفة، لكن انحصارها بين خيار "معارضة شلبية" وبين الانضواء في ظل أنظمة صدّامية لن يؤدي إلا إلى تفسخها وتفسخ المجتمعات الأسيرة الفاقدة للقيادة السياسية والمعنوية.

الشيء الواقعي الوحيد للرد على تحدي الامبريالية الجديدة هو تغيير سياسي جذري يمر حتماً عبر التحويل الديمقراطي لأنظمة الحكم في الدول العربية المركزية، ويضع حدا نهائيا لأنظمة التطرف والإرهاب التي لا تنتج غير التطرف والإرهاب.

__________ 

* كاتب سوري

 



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نقاش أمريكي في الشأن عراقي
- سورية في إطار الحملة على العراق
- تأملات على أعتاب شرق أوسط جديد
- نظرية الرؤوس الحامية وفلكلور الخطاب
- موقع الدول العربية على مقياس التنمية الإنسانية
- بعض جوانب إشكالية المجتمع المدني في سورية
- ازمة المعارضة السورية: لا معارض بل عدو
- خطاب الغضب العربي
- وعـي اللحظة الراهنة


المزيد.....




- تفجير جسم مشبوه بالقرب من السفارة الأمريكية في لندن.. ماذا ي ...
- الرئيس الصيني يزور المغرب: خطوة جديدة لتعميق العلاقات الثنائ ...
- بين الالتزام والرفض والتردد.. كيف تفاعلت أوروبا مع مذكرة توق ...
- مأساة في لاوس: وفاة 6 سياح بعد تناول مشروبات ملوثة بالميثانو ...
- ألمانيا: ندرس قرار -الجنائية الدولية- ولا تغير في موقف تسليم ...
- إعلام إسرائيلي: دوي انفجارات في حيفا ونهاريا وانطلاق صفارات ...
- هل تنهي مذكرة توقيف الجنائية الدولية مسيرة نتنياهو السياسية ...
- مواجهة متصاعدة ومفتوحة بين إسرائيل وحزب الله.. ما مصير مفاوض ...
- ألمانيا ضد إيطاليا وفرنسا تواجه كرواتيا... مواجهات من العيار ...
- العنف ضد المرأة: -ابتزها رقميا فحاولت الانتحار-


المزيد.....

- فيما السلطة مستمرة بإصدار مراسيم عفو وهمية للتخلص من قضية ال ... / المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية
- الخيار الوطني الديمقراطي .... طبيعته التاريخية وحدوده النظري ... / صالح ياسر
- نشرة اخبارية العدد 27 / الحزب الشيوعي العراقي
- مبروك عاشور نصر الورفلي : آملين من السلطات الليبية أن تكون ح ... / أحمد سليمان
- السلطات الليبيه تمارس ارهاب الدوله على مواطنيها / بصدد قضية ... / أحمد سليمان
- صرحت مسؤولة القسم الأوربي في ائتلاف السلم والحرية فيوليتا زل ... / أحمد سليمان
- الدولة العربية لا تتغير..ضحايا العنف ..مناشدة اقليم كوردستان ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- المصير المشترك .. لبنان... معارضاً.. عودة التحالف الفرنسي ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- نحو الوضوح....انسحاب الجيش السوري.. زائر غير منتظر ..دعاة ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- جمعية تارودانت الإجتماعية و الثقافية: محنة تماسينت الصامدة م ... / امال الحسين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - ياسين الحاج صالح - من منع الهجوم على العراق إلى تجديد الحياة السياسية العربية