|
تصحيح المفاهيم المغلوطة – المقال الثاني يوليو 2012:
أنور نجم الدين حسن
الحوار المتمدن-العدد: 3804 - 2012 / 7 / 30 - 00:56
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تصحيح المفاهيم المغلوطة – المقال الثاني يوليو 2012: رداً على السائل خليل الخالد: بالعدد: 2743 - 2009 / 8 / 19 - 08:35 المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني مقدمة مهمة: مرةً أخرى قبل البدء - رجاءً ، فلنكن موضوعيين ولنحترم بعضنا بعضاً "كبشر" ، وأن نحترم العلم والتمدين ، بأن ندخل العراك أو الحوار الفكري بشجاعة وثقة في النفس ، إن كنا فعلاً نملك ناصية الحجة وقطعية الدليل ، وأتمنى أن أجدكم (من خلال الحوار الهاديء الهادف) باحثين عن الحقيقة وتبادل التواصل الحضاري وستجدوننا حريصين على أستيعاب كل أطروحاتكم الفكرية والعقدية بجدية وإستعداد كامل على تقديم كل عنايةٍ لازمة لمعالجة المادة المطروحة للتفاكر ، ثم الإجابة على كل أسئلتكم مهما بلغت محتوياتها من أذى ما دامت في إطار المجادلة التي توصل عادةً إلى الفهم الصحيح لا الجدل بالباطل لضحد الحق المبين الذي لا يقدم للمجادل شيئاً بل على العكس قد ينحدر بنا إلى أسفل سافلين فكرياً وإدراكياً ومصداقياً وثقة ، أما بعد من حديثكم كثيراً أنت والأخ رياض الحبيب وغيركم كثيرون لاحظنا وقوفكم كثيراً عند قصة مريم وعيسى وهارون وأخت هارون وعمران هذا وعمران ذاك ،،، مما يدل أن هناك إشكالية حقيقية في هذه المنطقة الحساسة للغاية بالنسبة لكل أو لأغلب أهل الكتاب وبالتحديد (بني إسرائيل) لأن منهم من إتهم الصديقة البتول "مريم العذراء" بالزنا (حاشاها الكريمة بنت الأكرمين) وبالتالي جاروا عليها وعلى آية الله "عيسى بن مريم" سلام من الله عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً ، فهؤلاء اسقطوا عنه كل حقوقه وقدسيته ، بل وحاربوه وسعوا إلى قتله كما قتلوا عدداً من أنبيا الله تعالى من قبل "هكذا تقول المراجع الموثوقة" ، وكادوا أن يفعلوا ما سعوا إليه لو لا أن الله تعالى رفعه ونجاه منهم بأن شُبِهَ لهم ولم يفعلوا ذلك يقيناً ، ومنهم من قدسه قدسيةً مبالغاً فيها حتى إشتبه عليهم الأمر لما رأوا عليه وحوله من الآيات والمعجزات التي أيده الله تعالى بها فظنوا أنه على درجة فوق درجة البشر المصطفين أنبياءَ ورسلاً وصالحينَ ، فظنوا أو إدعوا أنه "إبن الله" ، وتمادى آخرون في تقديسهم المبالغ فيه فإدعى أنه هو "الله" ذاته ، وذهب آخرون في إدعائهم بأن الله ثالث ثلاثة ، حيث قالوا (الله ، والإبن ، والروح القدس) ، تنزه الله عن كل ذلك وتعالى علواً كبيراً . فنسج الناس من خيالاتهم وإعتقاداتهم وتخرصاتهم حول هذه المفاهيم أحابيل وأباطيل يصعب على الفكر السليم تصورها . ولأن هذه التصورات والإعتقادات أصبحت خطيرة وجاء من ورائها فساداً كبيراً ومظالم شتى ، نزل الوحي على خاتم الأنبياء والمرسليم محمد بن عبد الله بآخر خبر من السماء على ولد آدم والجن قاطبة . وقد جاء الرسول الخاتم ونزل عليه القرآن لثلاث أسباب لا رابع لها ، فصلتها سورة "البينة" التي بينت الحيثيات بالتفصيل المطول ،، وبينت أن مجيء الرسول محمد "بالبينة" كان أمراً حتمياً ليس هناك مفر منه لأن مسألة الدين القويم والمرجعية الصحيحة قد فقدت لما حدث من تحريف وإضافات وإستبعادات وتغيير في الكتب السماوية السابقة فلم تعد كما أنزلها الله على عباده ورسله (موسى وعيسى وغيرهم) ، وحيث أن الأمر قد إصطدم بجدار فولازي متين ، وغياب المرجعية الموثقة التي يمكنها تصحيح هذا التدهور بالإحتكام إليها ، أراد الله تعالى أن يأتي بالبينة التي يجمع فيها كل مراده من الكتب السماوية قاطبة ، وإستمع معنا لقوله تعالى في ذلك وتدبر بقلب مفتوح وفكر ثاقب: سورة البينة: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ﴾ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴿1﴾ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً ﴿2﴾ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ﴿3﴾ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴿4﴾ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴿5﴾ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ﴿6﴾ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴿ 7﴾ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴿ 8﴾ ، في رحاب السورة الكريمة: هذه السورة الكريمة غاية في الروعة والجمال والبيان ، فهي تصف حال الكافرين جملةً وتفصيلاً قبل الإسلام وتجسده وتحلله ، وتبين أن هولاء الكافرين كانوا كياناً واحداً منسجماً على منهج الكفر والشرك بالله وإن تنوعت طوائفه وأختلفت ثقافاته وتوجهاته . الشرك هو إتخاذ إله مع الله سبحانه ، أياً كان ذلك المتخذ سوءٌ أكان إنساً أم جناً ، جماداً أم حيواناً أم طيراً ، أم جرماً سماوياً ،، الخ . فالذين كفروا من أهل الكتاب (بالطبع ليس كل أهل الكتاب!) كان الشرك بالله من ضمن صنوف الكفر والفسوق التي كانوا عليها ، فاليهود قالوا عزير ابن الله (وهذا شرك صريح) ، والنصارى قالت المسيح ابن الله (وهذا شرك) ، وبعضهم قال "إنه الله" ، آخرون منهم قالو "إنه ثالث ثلاثة" ، تعالى الله عن كل ذلك علواً كبيراً ، فثبتت عليهم بذلك صفة الشرك بجدارة رغم أنهم أهل كتاب وأنهم يعلموم يقيناً أنه سبحانه وتعالى (... لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد) . وهم في هذه الحالة (عند االله) يعتبروا كافرين (شركاً) . ولم تكن لديهم مرجعية سليمة ليرجعوا إليها ويصححوا بها موقفهم ويعودون إلى كبتهم المقدسة الصافية النقية (التورات والإنجيل) ، هذه الإشكالية الأولى . أما المشركمن من الأميين والأعراب الذين لا كتاب لهم من السماء ، فقد إتخذوا الأصنام والأوثان أنداداً من دون الله تعالى ،، وبالتالي ليس لديهم مرجعية يلجؤون إليها لتخرجهم من وهدة الوثنية البغيضة ، وفي نفس الوقت لا يعترفون بأي من الكتب المقدسة (التورات والإنجيل) ليصححوا بها مسارهم على ضوء هدي الله ،، وهذه الإشكالية الثانية ، ومن جراء هاتين الإشكاليتين كانت تقع على البشر مظالم كثيرة وكان الفساد في أعلى درجاته والقتل والغدر هو دستور تلك الفترة التي لا أمل في تغييرها إلى الأفضل إلا أن تتدخل السماء لخلخلة هذا الرباط الوثيق المتين الذي بات يربط (الذين كفروا) من أهل الكتاب والمشركين بذلك الرباط الذي يلزمه محرك: وما دام ذلك كذلك فقد إستوى الأمر عند الذين كفروا من أهل الكتاب مع المشركين في ملة الشرك فأصبح بينهم رباط قوي لا ينفك من تلقاء نفسه لأن مرجع أهل الكتاب هؤلاء من التورات والإنجيل الذَيْنِ قد حُرِفَا وبُدِلَاْ تبديلاً ، وشوها فأصبحا لا يصلحان أساساً لأن تأتي منهما بينة تخرج أصحابها من وهدة الشرك التي أوقعوا أنفسهم فيها بكفرهم الشركي ، أما الأميين من مشركي قريش والعرب فليس لهم بينة إبتداءً لا من دين سابق ولا ثقافة من حضارة . وبالتالي سيظلون جميعاً على حالهم تلك ، ورباطهم الشركي الذي إستوا عنده ما لم تأتيهم بينة من السماء تغير توجههم إلى الوجهة الصحيحة ، يقول تعالى ﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ ...﴾ ، بل مرتبطين بوثاق الشرك والكفر دون تمييز بينهم ، وسيظل حالهم كذلك دون تغيير محتمل أو متوقع ﴿ ... حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ 1﴾ . وهذه البينة اللأزمة لإصلاح أمرهم وفك رباطهم وتماسكهم على الضلال لن تأتي إلا من لدن العزيز العليم ، وهذه البينة بالطبع لا بد أن تكون ﴿رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ ...﴾ ، يصطفيه سبحانه من الأميين أنفسهم ليخاطبهم بلسان عربي مبين يقيم به عليهم الحجة ويوصد دونهم باب التمحك والمراوغة والإدعاء بعدم الفهم وقلة البيان ، وفي نفس الوقت تكون هذه البينة التي سيأتي بها هذا الرسول لمشركي أهل الكتاب قطعية الدلالة ، مقيمة للحجة عليهم لأنها ستأتي بما هو معروف لديهم من قبل في كتبهم السماوية "التوراة" على لسان نبيهم ورسولهم موسى عليه السلام "والإنجيل" على لسان نبيهم ورسولهم عيسى عليه السلام ، فكان ذلك المصطفى المؤهل تماماً لهذا الدور هو رسول الله محمد ابن عبد الله النبي الامي ، خاتم الانبياء والمرسلين (دعوة أبيه إبراهيم ، وبشارة عيسى) الذي جاءهم بآيات الله البينات بالقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ﴿... يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً 2﴾ متضمناً ما جاء بصحف إبراهيم وموسى ، ﴿فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ 3﴾ كل ما تضمنته الكتب السماوية السابقة من تورات وإنجيل وزبور . فأصبح الجميع أمام معتقد فاسد من أساسه أو معتقد فيه شيء من التشويه والتغيير والتبديل ،، وأمام بينة من السماء تحمل مصداقيتها معها ، لا يزيغ عنها إلا مكابر ومعاند . ولكن ما أن جاءت هذه البينة لهذا الكيان الشركي المترابط على الضلال والإضلال (رغم إختلاف مشاربه) حتى إنشطر إلى كيانين متمايزين متنافرين: • فالكيان الأول: هو فريق الأميين المشركين الوثنيين ، التي في باديء الأمر ظلت على حالها دون تغيير أو تطوير ، بل إنتهجت خيار العناد والمكابرة والتكذيب والسخرية من تلك البينة ، • والكيان الثاني: هو الفريق المكون من أهل الكتاب اليهود والنصارى ،، الذين تفرقوا وإختلفوا من بعد أن جاءتهم البينة ، إلى شيع وطوائف مختلفة ومتخالفة ومتشاكسة ، فقالت اليهود ليست النصارى على شيء ، وقالت النصارى ليست اليهود على شي . ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ 4﴾ . فكان الأجدر بهم أن يلتزموا تلك البينة التي جاءتهم نوراً يخرجهم من ظلمات الكفر ووهدة الشرك إلى نور الإيمان بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيناً ورسولاً خاتماً ، مصدقا لما معهم من كتاب فكانت فرصة سانة لهم ولكنهم أضاعوها بكفرهم وشركهم وصلفهم وعنادهم الذي لا مبرر له خاصة وأنه لم يطلب منهم الكثير بل طلب منهم إخلاص العبودية لله وحده لا شريك له وتأكيد ذلك بإلتزام مقتضيات هذه العبودية ، ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ ...﴾ الذي يعرفونه حقاً ، ويصححوا أخطاءهم وتجاوزاتهم في حق عبادته والإخلاص له وحده وتنزيهه عن الولد والند والشريك ﴿... مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ...﴾ بإلتزامهم ملة إبراهيم عليه السلام ، ويتبعوا هذا الإيمان بالعمل الذي طلب منهم القيام به ﴿... وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ ...﴾ ذلك هو الذي جاءت به البينة إليهم ، ﴿... وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ 5﴾ ولكن كثيراً منهم غلبت عليهم شقوتهم بعنادهم وتمردوا ولم ينفذا ويلتزموا ما أمروا به ، فباءوا بغضب من الله وأوردوا أنفسهم المهالك وجاءهم الوعيد "بشارة الشقاء والتعاسة" . ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ ...﴾ ، لا مخرج لهم منها إذ أن ﴿... أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ 6﴾ . ولكن الله تعالى قد ألان قلوباً من بين هؤلاء الأميين الوثنيين فصدق بعضهم رسوله الكريم , وتزايد عددهم ، ودخلوا في دين الله أفواجاً وفازوا بنور تلك البينة واهتدوا بهديها وآمنوا بالله وحده لا شريك له وأخلصوا دينهم لله وأصلحوا أعمالهم واتقوه فيها ، ففازوا بما يستحقونه من فضل وتكريم وجزاء ، بالإضافة طبعاً إلى البعض من أهل الكتاب الذين أدركوا أنفسهم ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ 7﴾ ، إذ أنهم فازوا فوزاً عظيماً فكان ﴿جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ ...﴾ ولأنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، ﴿... رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ...﴾ ، بصدقهم وإقبالهم عليه وتوحيده ، ﴿... وَرَضُوا عَنْهُ ۚ...﴾ حباً وتعظيماً ورهبة ، لما وجدوا من حلاوة في إيمانهم وجزيل العطاء من الله عليه فعشقوا الإيمان والعمل الذي يقربهم من ربهم ويرفع رصيد حبهم وطاعتهم له والتأسي برسوله الأمين ، فكان لهم كل ما يشتهونه وأكثر ، ﴿... ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ 8﴾ ، وهو فوز وفلاح كريم ليس مقصوراً فقط على هؤلاء الذين آمنوا فحسب بل هو أيضاُ لكل من خشي ربه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . والله أعلم . تذكر أن الدين الوحيد المقبول لدى الله تعالى قبل ظهور عيسى عليه السلام هو الدين اليهودي (التوراة) التي جاء بها موسى إبن عمران في الأساس ثم لحق به أخوه هارون نبياً عليهما السلام ولو رجهنا إلى الأحداث والملابثات التي إقتضت ضرورة تدخل السماء كانت أعمال ومظالم وإدعاءات فرعون الذي فعل ببني إسرائيل ما لم يفعله شيطان مارد . فكان ميلاد موسى عليه السلام في هذه الظروف القاهرة والمستحيلة على أي طفل ذكر أن يبقى على قيد الحياة وذلك لأن فرعون الطاغية أمر بقتل كل طفل يولد في زمن ميلاد موسى ، لأن البشارة بموعد ميلاد نبي ذلك الزمان لم تكن في صالح فرعون ، وقد علم منها أنه هالك لا محالة على يد ذلك النبي ، فلنذهب إلى تصوير القرآن لهذه الظروف الإستثنائية في سورة القصص بقوله تعالى: (طسم 1) وهي حروف مقطعة (ط س م) شأنها في ذلك شأن كل سورة من القرآن التي لديكم فيها إشكالية بيانية مثل سورة آل عمران التي أول آية فيها (أ ل م) ، وسورة مريم التي أول آية فيها هي (ك ه ي ع ص) ، وهذا يعني أنها مشفرة وسنناقش هذه الحروف لاحقا بإذن الله تعالى ، فقط أردنا هنا أن ننوه بذلك ، (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ 2) وليست مجرد حروف لا معنى لها ، (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 3) ، إذن الحيثيات والعلة هي (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ 4) فكيف بالله عليك يمكن أن تسكت السماء عن هذا الفساد والظلم والقهر والبطش ؟ ، إذن الغاية هي إيقاف هذه المظالم والتجاوزات ورفع الظلم والقهر عن الضعفاء والأبرياء ، (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ 5) ، ليس رفع الظلم والقهر عنهم فحسب بل ، (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ 6) . ولكن كيف سينجى موسى من القتل قبل أن يبلغ سن الرشد ليتولى أعباء الرسالة ، وفرعون يتربص بكل إمرأة حامل ليقتل وليدها لأنهم كانوا يحذرون منه إذا بلغ أن يكون قاتل فرعون ، فكيف المخرج من هذا المأذق ؟؟ إذن لا بد من عناية السماء وتولى هذه الحماية رب السماء ، قال: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ 7) ، وهذه بشارة رب العالمين ليس فقط لأم موسى ولكن لبني إسرائيل بأن الخلاص آتيهم من ربهم على يد هذا النبي الكريم ، ولكن كيف ذلك المستحيل وهو محاط بالخطر من كل جانب ؟ ولكن ربه القاهر فوق عباده سيربيه ليس في مخبأ أو مغارة ،،، لا بل في داخل منطقة الخطر وأمام ناظري أعدائه فرعون وملائه ، قال: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ 8) ، فلنقف هنا ولك أن تكمل القصة بنفسك إن شئت ، فهي موجودة عندكم بالتوراة (إن كانت لديكم نسخة موثوقة) ، إذن لا يرسل الله الرسل إلا لضرورة قصوى ، ولمعالجة إشكالات كبيرة من الطغاة والمتجبرين تستلزم أن يحسم أمرهم الله فيرسل من يشاء من عباده نبياً أو رسولاً ، والسبب في ذلك إن الله يريد أن يُعْبَدَ وحده في الأرض بدون ند ولا شريك ، وأن يعترف له كل الخلق بكل صفاة الكمال والجمال والجلال ، ولا يستطيع الشخص القيام بذلك ما لم يكن حراً آمناً لا سلطان عليه من أحد سوى ربه ، دون أي قوة تقهره على فعل شيء دون إرادته لسبب بسيط "لأن الله يريد أن لا يترك لأي عبد حجةً يحتج بها لعدم أداء العبادة كاملة لله وحده من تلقاء نفسه وحباً فيه وخشية ، لذلك يرسل الرسل مبشرين ومنذرين ، يقول الله تعالى في سورة النساء: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا 163) ، (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا 164) ، (رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا 165) ، لهذا فُرِضَ الجهادُ على المؤمنين ، ليس لمحاربة أهل الكتاب أو المشركين كما يظن البعض سفهاً ، ولكن في المقام الأول لرفع أي ضغوط أو إكراه لأحد أو هضم حقوقه الإنسانية التي من أهمها على الإطلاق هو (إختيار دينه الذي يرتضيه بقناعة تامة دون أن يكرهه أحد الجبابرة على إعتناق دين آخر غصباً حتى لو كان ذلك الإختيار عبادة غير الله تعالى) فقط المطلوب من كل مؤمن أن يوضح للناس كل الخيارات بشفافية ويتركه وشأنه . وقد رأينا كيف أن الله تعالى نصر بني إسرائيل على عدوهم فرعون وآله وملائه إلى أن أغرقهم في اليم أجمعين . ولكن بنو إسرائيل لم يلتزموا دين الله الذي أنقذهم من العذاب والهوان واتبعوا أهواءهم فأقرأ إن شئت كيف كانت حالهم مع نبي الله موسى وكيف أن الكثيرين منهم إبتعدوا عن التوراة وحرفوها وتفاصيلهم بآلاف الأيات التي تبين كيف أصبحوا فأعادوا الحالة التي كان عليها فرعون بل في بعض الحالات أصبحوا أسوء حالا منهم . لذا كان لا بد من تتدخل السماء مرةً أخرى ، وقد باتت الرسالة محصورة فقط في ذرية آل إبراهيم ، وذرية وآل عمران من الإصطفاءات الأربع التي إصطفاها الله تعالى على العالمين . يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ 33) ، (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 34) ، ومنطقياً ما كان يمكن أن يمتد إصطفاء آل عمران إلى عيسى عليه السلام عبر مريم البتول لأن الرسالة والنبوة إختص الله تعالى بها الذكور من المصطفين دون الإناث وما دام ذلك كذلك ، إذن لتكون ذرية مريم ضمن سلسلة إصطفاءات آل عمران كان لا بد أن يكون أبوه ضمن الإصطفاء وليس أمه "هذه هي الإشكالية" هنا ،، فلو أن إمرأة عمران وضعت ولداً ذكراً لكان الإصطفاء قد تخطى "مريم" تلقائياً بإعتبارها أنثى ، وإمتد بصورة طبيعية للوليد الذكر ثم إلى أبنائه وأحفاده الذكور وبالتالي يمكن أن يكون أي منهم صالحاً للإصطفاء للنبوة أو الرسالة ، ولكن إمرأة عمران لم تنتظر حتى تضع ما في بطنها بل طلبت من ربها طلباً أجابها الله عليه وقَبِلَهُ منها ، وهذا سر من أسرار الآية المحكمة (أ ل م) من سورة آل عمران ،، يقول تعالى (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 35) ، (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ 36) ، الإشكالية الحقيقية الآن هي أن إمرأة عمران إن لم يشأ لها أن تلد مرة أخرى ويكون مولودها هذه المرة "ذكراً" تكون مريم قد قطعت تسلسل إصطفاءت آل عمران التي تبدأ بعمران (الجد) والد موسى وهارون ، خاصةً إذا بلغت أمها سن اليأس بعد ميلادها ولم يبق لها حظ في الإنجاب مستقبلاً ، وبالتالي طبيعياً أن يكون أخر تسلسل آل عمران هو عمران (الحفيد) والد السيدة مريم البتول أخت هارون (إبن عمران الحفيد) . الآن أنظر معي إلى هذه الآية بتدبر هكذا: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ ... إِنِّي ... نَذَرْتُ ... لَكَ ... مَا فِي بَطْنِي ... مُحَرَّرًا ... فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 35) ، فهذه الكلمات الثلاثة (... إِنِّي ... لَكَ ... مُحَرَّرًا ...) ، نلحظ فيها (أ ل م) . وقد ترتب على هذه الكلمات الثلاثة أموراً قلبت موازين كثيرة وجاءت نتيجة لها معجزات وخوارق لا حصر لها ، والدليل على ذلك أن الله تعالى أستجاب لرجاء إمرأة عمران فتقبل منها ما رجت وحفظ لها مرادها في مريم وذريتها ، وها هو ذا قد أولاها عنايته الكاملة والخاصة قال تعالى: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ 37) . حتى طعامها كان غير معهودٍ لدى قومها ، فهو بذلك يكون أيضاً ضمن تلك الخوارق المبهرة العجيبة . وإليك فيما يلي خلاصة ما تقدم: أولاً: كانت إمرأة عمران تتوقع أو تتمنى أن يكون ما في بطنها ولداً ذكراً لتنذره لربها محرراً لخدمة الدين ، ولكنها حين وضعتها أنثى خاب رجاؤها ولكنها لم تتخل عن مرادها فإستدركت قائلةً (... وَإِنِّي ... أُعِيذُهَا بِكَ ... وَذُرِّيَّتَهَا ... مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) على أمل أن يتحقق رجاءها في زرية إبنتها مريم ، فكان لها ما رجت ، ثانياً: مجيء مريم "جاريةً" يخرجها تلقائياً من سلسلة إصطفاءات آل عمران ، وستنتهي السلسلة عند أبيها عمران (الحفيد) إذا لم تلد أمها ولداً ذكراً حتى ينتقل الإصطفاء إليه بصورة طبيعية ، ولكن لم يكن ذلك لعله لكبر سن أم مريم أو لبلوغها سن اليأس ، ثالثاً: لم تكن مريم فتاةً عادية ، بل منذ ميلادها كانت محاطة بالخوارق والإرهاصات ، فكانت عناية الله بها ظاهرة للعيان حتى أن سيدنا ذكريا كان في دهشة من أمرها ، إذن التحليل والإستنتاج المنطقي يقول: إن زواج السيدة مريم من رجل خارج سلسلة آل عمران المصطفاة يجعل إبنها الذكر "تلقائياً" خارج الإصطفاء أيضاً ، وفي نفس الوقت لا يمكنها الزواج من أحد ذكور آل عمران لأن الذكور فيها عمران (الحفيد) والدها ، وهارون أخيها ، فلا يمكن أن تتزوج من أبيها أو أخيها ، هنا تكمن الإستحالة المركبة والإشكالية الثانية التي تنشأ من جراء قول إمرأة عمران (أ ل م) ، ثم مجيء المولود "أنثى" قد زاد الأمر تعقيداً لأنها لا تصلح لمراد أمها الذي يقتضي أن يكون "ذكراً" ، وزيادةً على ذلك نجد أن ربها قد "تقبلها بقبول حسن" متميز ، "وأنبتها نباتاً حسناً" غايةً في الخصوصية والتميز ، "وكفلها ذكرياً" أكثر الناس أمناً عليها وحدباً على رعايتها ، "وتولى ربها أمر رزقها سبحانه" برزق لم يعهده قومها ولا زكريا نفسه ،، إذن ، لا بد أن كل هذه العناية غير العادية لأمر جلل أكبر بكثير من توقعات الكل وتصورات الجميع ، هناك أمر جلل أغرب من الخيال أوشك أن يحدث لهذه السيدة الشابة المباركة سيكون نقطة تحول كبيرة في حياتها ، وسيكون ذلك الأمر غير مستساغ أو مقبول عرفاً في المجتمع الذي تعيش فيه ،، لذا سيكون قبول هذا الأمر أخف وطأةً بكثير إذا سبقته حالة إعجازية خارج نطاق النواميس الطبيعية التي إعتادها الناس ، إذن فلننظر إلى ما يستجد من أحداث في سيرة آل عمران بعد أن قالت مريم لذكريا (... إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ 37) بلغ من ذكريا العجب مبلغه ، وإنفتحت شهيته ، وتذكر أمله القديم في الإنجاب الذي كان قد إنصرف عنه إستبعاداً وذلك للظروف الصحية التي كان عليها والتي كانت وظلت عليها حالة إمرأته ، قال تعالى: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ 38) ، فكانت الإجابة الفورية له ، (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ 39) ، مع إنه يعرف أنه أبعد ما يكون من الإنجاب بالطرق الطبيعية ، لعدة أسباب تجعل الأمر في غاية الإستحالة المركبة ، للأسباب الآتية: 1. أولاً قد أصبح ذكريا رجلاً كبيراً طاعناً في السن ، واهن العظم لا يشعر بأنه في تلك الحالة قادراً على مجرد التفكير في مسألة الإنجاب ، 2. ثانياً: إمرأته عاقراً لم تلد في السابق وليس فيها أمل الآن "بالطرق الطبيعية" أن تلد لكبر سنها وبلوغها سن اليأس من قبل أيضاً ، 3. لو فرضنا "جدلاً" أنه يمكن أن يقوم بمجرد المحاولة مع زوجة أخرى ، هناك عقبة أخرى كأداء وهي أنه مع ما بلغ من الكبر والوهن ايضاً صار رأسه مغطاً بالشيب تماماً ، لذا أي إمرأة "ولود" لا يمكن أن تقبل الزواج من شيخ في مثل حالة ذكريا تلك ، لذا جزع من تلك البشرى التي كان يتمناها لأنها ستخلق له مشكلة إجتماعية وشيكة لا يدري كيف يتصرف فيها ، ألا وهي: أنه سينجب غلاماً وهو في حالته تلك ، بل ومن إمرأته العجوز العاقر التي عرفت كذلك بين قومها ، إذن من سيصدقه ويستوعب تلك المعجزة الكبري، لذا: (قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ 40) ، لذا طلب من ربه أن يسعفه بدليل "آية" معجزة تساعده في إقناع الناس بأن الأمر ليس غريباً لأنه من عند الله ولا يد له فيه ، فقال ذكريا في ذلك : (قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ۖ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ۗ وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ 41) ، أليست قصة ذكريا الغريبة هذه تعتبر تمهيداً مناسباً يخلق جواً من تقبل الآيات الخارقة المعجزة إذ أنها ستستمر فترة من الزمن متداولة بين الناس لتكون تمهيداً مناسباً للأمر الجلل الأكبر الذي أصبح وشيك الحدوث للصديقة البتول مريم إبنة عمران ؟؟؟ قال تعالى: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ 42) ، إصطفاءً خاصاً بك ، لذا ، (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ 43) ، فقد جاءتك البشرى من الملائكة بأنك إصطفاء خاص بك من الله تعالى لأنه بمجيئك "أنثى" لن تكوني في تسلسل إصطفاء آل عمران ، فكنت إصطفاءً خامساً "خاصاً" ولكنه ليس بقوة الإصطفاءات الاربع السابقة التي كانت على العالمين بصفة عامة ، أما إصطفاء مريم فهو فقط "على نساء العالمين" ، فهذا فضل منه يستوجب عليها الشكر لرب العالمين ، خلاصة هذا الجزء: 1. أولاً: جاءت البشرى لذكريا بغلام إسمه يحيى ، فدهش لأنه لم يكن مهيئاً للإستجابة بهذه السرعة ، 2. ثانياً: سأل الله تعالى "آيةً" برهاناً يجعل الناس يصدقون أنه وإمرأته العاقر هما أبوا هذا الغلام الكريم المبارك ، 3. ميلاد يحي بهذه الطريقة المعجزة أفاد في التمهيد لحدث أكثر غرابة وهو ميلاد عيسى من عذراء بتول وبغير أب ، 4. بعد هذا التمهيد جاءت البشرى لمريم بأنها قد إصطفاها ربها ليطهرها ثم إصطفاها إصطفاءً خاصاً على نساء العالمين ، وهذه تهيئة هامة لها هي نفسها ، حتى يسهل عليها تقبل الحدث الأكبر وتحمل وقعه الشديد عليها وعلى نفسها وكيانها كله ، الآن وقد أصبح الكل مهيأً نفسياً ووجدانياً وكذلك البيئة الروحانية والأحداث الغريبة والإرهاصات التي كانت آنذاك وكرامات ذكريا ويحي ومريم التي كانت تدهش المجتمع الذي بات هو أيضاً مهيئاً نسبياً لما سيحدث وتلوح طلائعه في الأفق ،، لم يبق إلا النبي محمد الذي يتنزل عليه هذا الوحي بهذه الأحداث التي تحبس الأنفاس وتشد الأعصاب ، فهو يحتاج أيضاً إلى نفحة ولمحة رحمة من الله تعالى تمهيداً له وتهيئةً لسماع باقي القصة التي يصعب على الإنسان إستيعاب فصولها المتلاحقة المعجزة ، لذا كأنما قال له تعالى يا محمد لا تعجب من هذه القصة الغريبة فإنك لم ولن تسمعها من غيري ،، لأنه حتى الناس الذين عاصروها وساهموا في أحداثها لا يعرفون تلك الأحداث المتلاحقة إلا بالقدر اليسير الذي أذنت لهم به ، (ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ 44) ، لم تبق سوى مواجهة الصديقة "مريم" بالذي قضاه الله تعالى في حقها وتبليغها مباشرةً ، قال في ذلك: (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ 45) ، ليس ذلك فحسب ، بل (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ 46) . كيف تتوقع أن يكون وقع هذا الخبر على السيدة الكريمة "مريم" وهي ستواجه عاصفة كاسحة لا تدري لها حلاً ، فهو أمر صادر من رب الأرباب رب العالمين ، وتعرف أنه لا مرد له ولا مغير فهو أمر واقع لا محالة ولا فكاك البتة ، لذا رفعت دهشتها وإستغرابها ومخاوفها لربها لتعرف كيف ستلد دون زواج ، فجاءها الرد فوراً بأن الولد لن يكون نطفةً من رجل وإنما سيخلقه الله "خلقاً" خاصاً في داخلها بدون أب ،، الم يخلق الله آدم عليه السلام من قبل بدون أب ولا أم ،، فما الغرابة في ذلك ؟ إن الخلق عنده مجرد "كلمة" فقط "كُنْ .. فَيَكُوْنُ" ،، وقد قالها وأنتهى الأمر ، (قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ 47) ، والآن إذن ، ما هو المنهج وما هي المهمة لهذا الخلق الخاص "نبي الله عيسى بن مريم" من ذلك الإصطفاء الخاص "مريم البتول" ؟ قال تعالى: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ 48) ، بل ، (وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 49) ، (وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ۚ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ 50) ، (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۗ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ 51) ، كيف كانت أوصاف عيسى ومهامه في هذه الآيات: 1. إسمه – المسيح عيسى إبن مريم ، 2. سيكون حاله – وجيها في الدنيا ، والآخرة ، ومن المقربين ، 3. سيكلم الناس "في المهد" ، "وكهلاً" ، ومن الصالحين ، 4. ويعلمه الله الكتاب ، والحكمة ، والتوراة ، والإنجيل ، 5. سيبعثه الله تعالى رسولاً إلى بني إسرائيل ، 6. سيؤيده بآية من ربهم ، فيقول لهم: • أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ، • وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ، • وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ، 7. ومصدقاً لما بين يديه من التوراة ، لن يلغيها أو يبدلها أو يكفر بها بل "مصدقاً لها" مع الإنجيل ، 8. وليحل لهم بعض الذي حرم عليهم ، على لسان موسى عليه السلام ، 9. ويبلغ بني إسرائيل قائلاً: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ، مما تقدم نصل إلى الحقائق التالية: 1. أن السيدة مريم إبنة عمران هي إصطفاء خاص قائم بذاته ، 2. أن المسيح عيسى إبن مريم هو "خلق خاص" من "كلمة" ألقاها الله إلى مريم ولم يكن من نطفة رجل بل كان خلقه كَخَلْقِ آدَمَ عليه السلام (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ...) ، 3. سيكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين ،، (كُنْ .... فَيَكُوْنُ) ، 4. لم يخالف التوراة أو يلغيها بل كان "مصدقاً لما بين يديه من التوراة" تصديقاً كاملاً وإيماناً راسخاً بها لأنه أمر بذلك ، زيادةً على ذلك جاء بالإنجيل مع التوراة وليس بديلاً عنها كما يظن بعض السذج والمضللين بالآباطيل والأحقاد ، وذلك لأن الله تعالى قال: (ويعلمه الكتاب ، والحكمة ، والتوراة ، والإنجيل) معاً ، فهاذا هو منهجه كاملاً ورسالته التي لا تتجزأ ولا تقبل القسمة على 2 . 5. جاء مبعوثاً من الله تعالى "رسولاً" لبني إسرائيل ، وقد قال لهم ذلك بنفسه (مرةً واحدة !! فقط وليس مرتين كما يتوهم البعض أو يدعي) ، هو عبد الله ورسوله جاء بعد موسى بن عمران وبشر بأحمد خليل الله وخاتم أنبيائه ورسله الذي هو نهاية سلسلة إصطفاءات آل إبراهيم التي بدأت بخليله إبراهيم عليه السلام وختمت بخليله المصطفى أحمد/محمد (حفيد إبراهيم) وعلى كتفه الأيسر خاتم النبوة عرفه بها أحبار يهود أمثال ورقة بن نوفل وغيره ، 6. جاءهم بآية معجزة من ربه ليؤكد لهم بها صدقه وأنه مبعوثاً من ربه وربهم رب العرش العظيم ، 7. قال لبني إسرائيل إن الله ربه وربهم ، وأمرهم بأن يعبدوه ، مؤكداً لهم أن هذا المسلك هو الصراط المستقيم ، ولم يطالبهم بمال ولا جاه ولا سلطان ، ولم يقل لهم أنه إبن الله أو أنه الله ،، حاشاه ، الإشكالية مع سورة الصف: يا أخي: لماذا لا نستخدم اللغة العربية – لغة البيان – الإستخدام الصحيح الأمثل ؟ يا عزيزي أنا لا أشك أو أتشكك في قدراتكم البيانية أو أجند نفسي لتقييمها عنك ، فهذا شأن خاص بك لا يعنيني في شيء ، ولكنني فقط أعتب عليكم أنكم في المواضيع الحساسة تبخلون بأسمى ما لديكم من وسائل وأدوات بيان حتى تصلوا إلى غاياتكم التي أجهدتم أنفسكم في البحث عنها بدلاً من التكهنات والإفتراضات وتعطيل الفكر والتفكير ، ثم الدوران في متاهة النصوص هنا وهناك ، عفواً ،، ما علاقة قول عيسى عليه السلام في صورة الصف بقول آخر له بسورة مريم ؟ ومن قال لك إن عيسى قد ذكر بني إسرائيل بأنه رسول الله إليهم مرة واحدة أو مرتين أو خمسة ؟ في الحقيقة لقد ذكرهم بذلك كثيراً فلو كانت هناك إستجابة أو إلتزام وتصديق بقوله هذا ما الداعي إذن لتكرار تذكيرهم بذلك مرات ومرات كثيرة ؟؟ ، نعم لقد عرفهم بنفسه في المهد "نبياً" ، وذلك لغرض تبرير الموقف الذي كانت فيه أمه الصديقة آنذاك ، ولأن كلامه في المهد كان مقنعاً ، فقد بلغ حد المبالغة منهم أن إعتبروه "إلاهاً" من دون الله ، بل بالغوا في ذلك فإدعوا أنه "الله" ذاته ، وآخرون إعتبروه ثالث ثلاثة (الأب ، والإبن ، والروح القدس) تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً . أما كلامه مع بني إسرائيل بعد ذلك كان منه في زمن التكليف حين بلغ السن الشرعية التي تمكنه من تبليغ الرسالة ومجابهة المكذبين ، فكان يخاطبهم - رسولاً من الله إليهم) ،، فما الغضاضة في ذلك ؟ ولماذا كل هذه الحيرة والتخبط في أمور واضحة بينة كوضوح الشمس عند الزوال ؟ الإشكالية مع سورة مريم: لقد أدركت أن الإشكالية التي تقابلكم من الخلط الذي وقعتم فيه من جراء عدم وجود المرجع المناسب الذي يعينكم على الوصول إلى حالة "تطمئن فيها نفوسكم" إن كان هذا هو المسعى والمقصد ، لذا أسمح لي أن أبدأ من الآية رقم 22 من سورة مريم ،، حيث تصف الآيات الحالة النفسية والظروف القاسية التي كانت عليها السيدة الصديقة "مريم" عندما حملت بنبي الله ورسوله عيسى عليه السلام ، فقد كانت ترجو لو أن يتخطفها الطير أو تهوي بها الريح في مكان سحيق من هول وصعوبة الموقف الذي كانت فيه وهي تشعر بحنينها يتحرك في أحشائها ، ولا تدري ماذا تفعل وكيف تتصرف ، ليست لديها أي خبرة أو تجربة من قبل ، كما أنها وحيدة في مكانٍ قصي بعيداً عن أهلها وذويها ، قال تعالى في ذلك (فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا 22) ، بعيداً عن أهلها وأعين الناس ، (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا 23) فتمنت الموت حتى تتخلص من الحالة القاسية التي كانت عليها وحيدة ولا خبرة لها في المخاض ولا الولادة ، ولكن عيسى عليه السلام الذي جعله الله يتكلم ليس فقط في المهد بل كان يكلم أمه قبل ذلك ، كان من تحتها وأثناء مخاضها به يطمئنها و يوجهها كيف تتصرف أثناء المخاض وبعد الإنتهاء من الولادة (فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا 24) ، يقول لها لا تحملي هماً فأنا معك سأقوم بباقي المهمة فقط إتبعي توجيهاتي ، (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا 25) فأنت تحتاجين إلى غذاء كافٍ ، ولا تردي على أي سؤال من أي شخص بل قولي له أنك صائمة ، أما الآن (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا 26) . وقد أدركت من حديثه معها وتوجيهاته أنها ليست وحيدة كما ظنت بل هي في أمام ورعاية كاملة ، وأيقنت أنه وليدٌ غير عادي فأطمئنت إليه واتبعت توجيهاته ، (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ۖ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا 27) وكان ذلك إتهاماً صريحاً لها وإستنكاراً ، (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا 28) ولكنه قد نسق البرنامج معها مسبقاً حيث طلب منها أن تترك له مهمة الحديث معهم ، (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا 29) حديث الولادة لم يتعلم ملكة الحديث بعد ، ولكنه فاجأهم بكلام بليغ هادر (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا 30) ليس الأمر كما تظنون ، (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا 31) ، (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا 32) ، بل ، (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا 33) ، إلى هنا كان كل الذي قاله إنه منذ البداية وهو محمولٌ في المهد على صدر أمه البتول مريم ، قد أعلن عن نفسه بنفسه وعن برنامجه ومهمته مجملاً ، وبهذا رفع عن والدته الحرج وبين لهم بالأيات وبتفاصيل كاملة أنه عبد الله آتاه الله الكتاب وجعله نبياً ، ثم عرض عليهم برنامجه الذي جاءهم به من عند الله تعالى . ولكن يا أخي: هذا القول ليس له أدنى علاقة بما قاله عيسى عليه السلام في سورة الصف لأنه حينها قد أصبح رسولاً لبني إسرائيل بعد أن كبر وصار رجلاً ، ولكن بعضاً من بني إسرائيل هؤلاء لم يستمع إليه أو يصدقه ، بل ناصبه العداء الشديد وهم بقتله ، ظاناً منهم أن عيسى عليه السلام قد جاء بدين جديد يلغي دينهم (التوراة) ليحل محلها الإنجيل ، فيحكي الله ذلك الموقف من بني إسرائيل مع عيسى عليه السلام مما إضطره أن يخاطبهم "مذكراً إياهم" ، كما جاء بهذه الآية ، (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم ...) ، بتوراتكم التي أنتم عليها ، لم ولن أكذبها أو أستبعدها، إذ أنني (... مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ...) مؤكداً لكم بأنني على يقين من أنها حق "وصدق" لا ريب فيها عندي ، ولست لاغياً أو مبدلاً لها بل تابعاً لها ، (... وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ ...) ، وهذا ما أوحاه لي ربي ، ليس من عندي ولا أدري من هو "أحمد" بالتحديد ، وقد قدم لهم الدليل على صدق بشارته ، (... فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ ...) التي تؤكد تلك البشارة ،، وحتى عندما جاءهم النبي المُبَشَرُ به حقاً وصدقاً وظهر في مكة عند مقر أول بيت وضع للناس ببكةً لعبادة الله تعالى ، والذي رفع قواعده أجداده من آل إبراهيم (إبراهيم وإسماعيل) ،، تنكروا له وكذبوه رغم أنه مكتوب عندهم في كتبهم المقدسة ، عندها (... قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ 6) ، وهؤلاء هم أنفسهم الذين طعنوا في نسب عيسى عليه السلام وخاضوا في عرض وظهارة أمه البتول مريم رضي الله علنها وأرضاها . حتى أن الله تعالى يقول في سورة الصف (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ ۖ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ ۖ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ 14) ، لاحظ هنا أن الحديث "محايداً" ومتوازناً عن طائفتين ، كلتاهما من بني إسرائيل وليس بين بني إسرائيل وطائفة أخرى (نصارى مثلاً) ، وبالتالي فإن هذا دليل قطعي على أن المسلمين أتباع الرسول محمد ليس لهم عداءً شخصياً مع بني إسرائيل كأمة أو أي أهل كتاب آخر بل موقفهم متوازن مع كل البشر على حدٍ سواء ،، فمن أخلص العبادة لله الواحد القهار ولم يشرك به شيئاً أمرهم الله أن يسمونه "مؤمناً" فهذه مرجعيته في كل الكتب السماوية ، أما الذي ينفي وجود الله ، أو يتخذ إلاها من دونه أو شريكاً أو نداً له فقط أمرهم الله أن يسمونه "كافراً" وأيضاً هذه مرجعيته في كل الكتب السماوية ، فالطائفة الخيرة ذكرت بأنها خيرة "آمنت طائفة من بني إسرائيل" ، أما الطائفة التي كانت دون ذلك وتفرقت بها السبل وأعمتها الأحقاد ذكرت بوصفها الذي إختاره لها ربها "وكفرت طائفة" ،، • هل لاحظت هنا أن الطائفتين من بني إسرائيل كانتا أعداءً متحاربين رغم أنهم على دين واحد ؟ • ألا ترى معي أن الطائفة التي أيدها الله مع عيسى عليه السلام على الطائفة الأخرى أيضاً كانت من بني إسرائيل فكان الله تعالى معها وأكرمها ونصرها "فأصبحوا ظاهرين" عليهم ؟ • أليس هذا في نظرك دليل شامخ على أن المسلمين ليس لهم عداء مطلق مع بني إسرائيل عموماً بل موقفهم دائماً يبنى على إقامة الحق والعدل بين الناس وترك حرية الإختيار وتوفير الأمن لهم ، فمن عبد رب السموات والأرض ورب العرش العظيم "آخيناه في الله" له ما لنا وعليه ما عليناً ، ومن أجحف في حق خالقه ورازقه أسفنا عليه ونصحناه باللتي هي أحسن حتى ينقذ نفسه من شر يوم لا بيع فيه ولا خلة ، يومٍ لا مرد له من الله ،، أما من حاربنا وظاهر علينا غيره "إتقيناه" فإن قصد قتلنا أو إيذاءنا رددنا بأسه "دفاعاً عن النفس" وصداً للعدوان ، • أسمح لي هنا أن أعطيك نموذجاً من القرآن الكريم (جزء من سورة الروم) ، يعكس لك وجدان أتباع محمد الحقيقي نحو إخوانهم من أهل الكتاب ، ولك أن تحكم بعد ذلك بنفسك: عليك أيها المتدبر لآيات هذه السورة أن يتتبع مواطن إشارة ﴿ الم 1﴾ فيها لتعرف مراد ربك مما تشير إليه ، حقاً ، يعكس الله تعالى حال الروم "وهم أهل كتاب" فيقول ، ﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ 29﴾ في حربها مع عدوها الفرس الذين يدينون آنذاك بدين المجوسية وعبادة النار من دون الله ، في مكان قريب من أرضهم ﴿ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ...﴾ ، ولكن قدر الله تعالى نصرهم وغلبتهم على عدوهم بعد تلك الهزيمة ، فجاءت البشرى للمؤمنين ، ﴿... وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ 2﴾ ، ولن يطول بهم الإنتظار ، بل في وقت قريب ، ﴿ فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ ...﴾ لا تتجاوز تسع سنوات ، لن يخلف الله وعده فالآمر بات محسوماً سلفاً ، ﴿... لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ 3﴾ ، فهذا النصر أمر محسوم ولن يتغير فهو واقع قطعاً لا محالةً ، • ألا ترى معي أن هذه كانت بشارةً إلى أتباع محمد ، بأن الله سبحانه قد علم أنكم حزنتم لهزيمة إخوانكم النصارى (من الروم) لأنهم يعبدون ربكم الله الواحد القهار ؟ اسمع ماذا يقول الله تعالى في ذلك:﴿... وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ 4﴾ بنصر أهل الكتاب الذين يشاركونهم في توحيد الله وعبادته على المجوس الذين يلحدون به سبحانه ، فهو أيضاً فرح لهم ، ﴿ بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ ...﴾ لهم ولأهل الكتاب معاً ، النصر الذي وعدهم إياه ، ﴿... يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ 5﴾ ، ذلك ﴿ وَعْدَ اللَّهِ ۖ ...﴾ الذي وعده لعباده المؤمنين ، ﴿... لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ 6﴾ لإنشغالهم بأمور الدنيا ومصالحهم في حياتهم الدنيا ومعاشهم ورفههم ، ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ...﴾ ولا يعيرون كثير من آياتها الكونية المبينة ، كما أنهم لا يولون الآخرة بشيء من إهتماماتهم ولا يتذكرونها إبتداءً ، ﴿... وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ 7﴾ ، فلو جاز لنا أن نتغاضى عن إهتمامهم بالآخرة ، ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم ۗ ...﴾ وبديع صنعه فيهم من فكر ، وسمع وبصر ، وفؤاد ، ونوازع نفسية وشهوات مادية ومعنوية ،، ويتفكرون بينهم وبين أنفسهم في ملكوت السماوات والأرض وما بينهما من بديع خلق الله تعالى ؟ ، هل كل هذا الكون خلق عبثاً ؟ .. ﴿... مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ۗ ...﴾ ، فكل هذه الآيات والأدلة لم تجد مع هؤلاء المعاندين نفعاً ، ﴿... وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ 8﴾ . • هل لا زالت قناعتك بأن محمد وأبتاعه هم أعداء لليهود والنصاري عداءً عنصرياً مادياً دنيوياً ؟؟ نعود لموضوعنا: في سورة مريم يقول الله تعالى: (ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ۚ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ 34) ، (مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ۖ سُبْحَانَهُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ 35) ، (وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ 36) . ثانياً: أنت تقول هنا إن (عيسى يشهد على صحة كتاب التوراة الذي يبشر به) وقولك (، وهاهنا سؤال يطرح نفسه: ما الذي دفع عيسى لأن يصدق على كتاب التورات ؟ هل كذب بنو إسرائيل كتابهم المقدس فصدقه عيسى وقوى إيمانهم ليزيد تمسكهم به ؟) ثم تسترسل قائلاً بناءً على ذلك الإستنتاج "أنك ترى أن التصديق ههنا ليس له مبرر ، نقول إليك هنا ما يلي: 1. لم يقل عيسى أنه يشهد على صحة التوراة التي يبشر بها كما تقول ، بل قال لهم باالتحديد (... ومصدقاً لما بين يدي من التورات) معناها أنه جاء مصدقاً للتوراة التي جاءت قبله وليس مكذباً أو معادياً لها كما كان يظن البعض من بني إسرائيل المعاديين له بدون مبرر ، 2. من بني إسرائيل من كذب بكتابه "التوراة" ، ومنهم من حرفه لذلك جاء عيسى عليه السلام لأمرين: تصحيح وتأكيد مسار التوراة تماماً كما نزلت على موسى عليه السلام وإزالة ما لحق بها من تحريفات ، وبجانب ذلك جاء أيضاً بالإنجيل فيه تشريعات أخرى قال في بعضها (... ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) ، 3. لأن إستنتاجك هذا قد بني على مفهوم مغلوط ، نعتقد أنه في ضوء ما بينا وفصلنا في النقطتين السابقتين (1 و 2) أعلاه قد أصبح "في رأينا" لا معنى له ، إلا إذا كانت لك فيه إضافة أخرى ، ثانياً: إنك قلت أيضاً (... وعلى فكرة ان موضوع تحريف الكتب المقدسة لم يبتدعه إلا المسلمون بحجة أن كتابهم الصحراوي باطل أمام الكتب الأخرى ، وليس من سبيل لحل هذه المشكلة إلا بإعلان تحريف كل كتب العالم – المقدسة منها والغير مقدسة – فقط لأنها تخالف القرآن . يقول الله تعالى (مال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً !!) - يا أخي: الدين ليس فرقاً رياضية متنافسة بحيث أن مشجعي كل فريق يحاولون التغلب على الفريق أو الفرق المناقسة بأي ثمن ،، في رأينا أن ليس للإنسان أغلى وأثمن من دينه في هذه الحياة الدنيا ، "إذا كان ذلك الدين كله ولاءً لله الواحد القهار ، خالق كل شيء" وما دون ذلك نحسبه كماليات لا أكثر وضروريات البقاء على هذه البسيطة التي حلوها مر ومرها علقم ، لنكثر من العبادة لله تعالى حتى نفوز بالحياة الباقية التي لم تبدأ بعد . يا أخي نحن غير معنيين بأن نكون مسلمين فقط بالإسم والشكليات ، بل الذي يهمنا هو الإيمان ، ولا يقبل الله الإيمان الناقص المشروخ ، يقول تعالى: (قالت الأعراب آمنا ، قل لم تؤمنوا ، ولكن قولوا اسلمنا ، ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) . وقد وضع معياراً واحداً للإيمان لا يقبل غيره من أحد من العالمين حيث أحد ذلك في كل الكتب السماوية ، ويقول في سورة البقرة (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ 3) ، (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ..... وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ..... وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ 4) ، (أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 5) ، إذن الإيمان الذي يرتضيه ويقبله الله تعالى له أبوابٌ ستةٌ هي كما يلي: 1. (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ، بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره ، 2. (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) ، لعبادة الله الواحد الأحد دون سواه ، 3. (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) ، على الفقراء والمساكين والمحتاجين وعلى كل أوجه الخير ، 4. (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) ، يا محمد ، من قرآن وتكاليف وإلتزام للأوامر والنوهي ،،، الخ ، 5. (وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ) ، من كتب سماوية (صحف إبراهيم وموسى ، والتوراة ، وإنجيل ، وزبور) ،، إيمانا كاملا متساوياً لا إنتقائية فيه ، 6. (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) ، يقيناً جازماً لا ريب فيه بأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ، حيث يحاسب وقتئذٍ كلٌ على عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، والخلق كله في ذلك مستوون ، فالذين يلتزمون تلك الأبواب الستة هم فقط الذي يعتبرون مؤمنين (أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ) ، ومادام ذلك كذلك ، فقط أعتمدوا من الله بأنهم مؤمنين (وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، فقولك كتبنا وكتبهم وكتبكم ،،، هذا قول صبياني ساذج ، لا يليق بهذا المقام وهو جوهر الدين والعقيدة ،، أدعوك لأن ترجع إلى أي أية من القرآن الكريم كاءت في هذا الصدد ، فستجد ما يدهشك بل ما يزهلك حين تدرك بالدليل القطعي أن الكتاب عند المسلم لا يعني فقط القرآن ، بل يعني جميع الكتب السماوية الأربع (التوراة التي نزلت على موسى إبن عمران ، والإنجيل الذي نزل على عيسى إبن مريم عليه السلام ، والزبور الذي نزل على داؤد عليه السلام ، والقرآن الذي على النبي الخاتم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم . ولكن المقصود بهذه الكتب هو "الكتب الأصلية" التي نزلت على هؤلاء الأنبياء الكرام وليس التي كتبت بأيدٍ عابثة ماكرة ، أو تلك الكتب التي بها شك وحولها تخاصم حتى بين أهل الكتاب أنفسهم ) يقول تعالى (ويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً ، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) ، أما قولك عن كتاب الله الكريم بأنه "كتابهم الصحراوي" فهذا إن دل إنما يدل على أحد أمرين: إما عدواناً مرسلاً غير مبرر وهذا أمر يصعب التخلص منه لأنه مرض وجداني مزمن ومن النوع الذي يتكاثر كالخلايا السرطانية في مواطن حساسة من الدماغ ، وفي النهاية يقضي على صاحبه إن لم يشفه الله منه ،، أو أنه ضعف في الملكة اللغوية والبلاغية الكافية لإستيعاب كنوز أكبر مصحح لأكمل لغات البيان على البسيطة ، الكتاب الذي أزهل بمكوناته وتراكيبه أهل العلم والفكر والأدب لأكثر من أربعة عشر قرناً ، ولا يزال ، ثالثاً: أيضاً ارك تقول ( من ثم أين كتاب الأنجيل الذي آتاه الله لعيسى وهو صغير ، كما ورد في الآية 30 من سورة مريم ،،، الخ ، وتقول لماذا لم يذكر عيسى كتاب الإنجيل خاصة وكان الأولى به أن يذكره ، كيف لا ) ،،، هو يعرف عن نفسه على أنه رسول الله ؟ ، كيف يكون رسولاً قبل أن يبرز الرسالة ؟ 1. هذا السؤال نحن الذي يطرحه دائماً على المحاورين من أهل الكتاب ،، ونقول لهم "إين الكتاب الذي كتبه عيسى عليه السلام بيده أو كُتِبَ له بإملاءاته" إن كنتم صادقين ؟ فإن كان هذا الكتاب موجوداً فعلاً فأرونا منه الآية أو الآيات التي قال فيها عيسى عليه السلام إنه "إبن الله" أو إنه "الله" أو إنه "ثالث ثلاثة" ؟؟؟ نبؤونا بعلمٍ إن كنتم صادقين ، لم يترك عيسى عليه السلام أي كتاب لا بخط يده ولا خُطَ من إملاءاته ،، فكتاب موسى "التوراة ، وقوله وفعله لا ريب فيه عندنا لأنه وحي من عند الله تعالى نصدقه ونقدسه كما نقدس القرآن والسنة ، كما أن كتاب عيسى عليه السلام "الإنجيل وقوله وفعله" كله لا ريب فيه عندنا لأنه وحي أيضاً من عند الله تعالى نصدقه ونقدسه كما نقدس القرآن والسنة ،، وسيظل إختلافنا قائم ما دامت الحجة قائمة (إن الكتب التي لديكم قد يكون فيها شيء من التوراة والإنجيل الأصليين) وهذا جيد ، ولكن هناك الكثير مما حرف ودس وبدل ، وهذا القول ليس إجتهاداً من عندنا (فحاشا لله أن نكذب أي أية من أيات الله سواءً في التورات أو الإنجيل أو الزبور ،، ولكن لدينا المعايير الموثوقة التي تؤكد لنا ما هو هذا التحريف وأين يكمن وما نسبة خطورته على البشرية والعقيدة ،، للأسف الشديد . يقول تعالى (قالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ...) ، فالتحريف مفصل وموثق وليس إدعاءً ، فليس من مصلحتنا ولا ولن يسعدنا أن نرى أي شبهة تتهدد كتب الله السماوية لأن القرآن بكامله متضمن المفاهيم الأساسية المشتركة وهي توحيد الله تعالى والإيمان بالغيب وإقامة العدل بالقسط ،،، الخ , 2. الكتاب المعني ليس كما تصورته بخيالك ، بمثابة غلافين سميكين بينهما ورق مثبت من أحد أطرافه فالكتاب هو "الإنجيل" الذي أنزله الله تعالى على قلب نبيه عيسى عيه السلام ، ونحن نؤمن به يقيناً لأنه كتابنا أيضاً ، ولكنه لم يدون كما نزل ، وسؤالك أين هو؟ سؤال غريب !! ألم يبلغ عيسى عليه السلام الكتاب الذي آتاه الله له لقومه وللحواريين الذين آمنوا به بعد أن خزله بعض من بنو إسرائيل وقد لجأ إليهم لما أحس من هؤلاء الكفر ؟ 3. عيسى هو رسول من عند الله تعالى ، لا كذب ، وقد أبرز رسالته بمنتهى الوضوح وهي التوراة مصدقاً بها والإنجيل مبشراً به ،، يمكنك مراجعة فقرة "أوصاف عيسى من هذه الآيات ومهامه" أعلاه إن شئت ، رابعاً: أما قولك (من المعلوم لدى المسلمين أن بني إسرائيل لم يؤمنوا ولم يصدقوا قول عيسى بدليل أنهم لم يتبعوه وقالوا عن معجزات عيسى إن هذا إلا سحر مبين ، لا بل عزموا على صلبه ليقتلوه ، ومع ذلك نحد أن عيسى يبشر بني إسرائيل برسول من بعده اسمه أحمد . كيف تبشر يا عيسى قوماً لا يؤمنون بك أصلاً ؟ إن أمرك مضحك ومبكي بنفس الوقت . إذهب بشر الحواريون مثلاً ، بشر مريم بنت عمران ، لكن لا تبشر اليهود الذين أصلاً لم يؤمنوا بك أنت فكيف سيؤمنون بقولك وبأحمد هذا ، بأي منطق تتكلم ، حينما كنت صغيراً يا عيسى كنت تجيد الكلام أفضل من الآن ، فاليهود صدقوك بمجرد أن تكلمت أما الآن فأنت تقيم الميت وتشفي الأبرص ومع ذلك فشلت في إقناعهم وإعتقدوا أن ما تعله ما هو إلا سحر . يا أخي: قد يختلط عليك الأمر وتتشعب لديك المعاني ، فهذا أمر طبيعي ، وقد تتشكك في أمر ما أو أمور كثيرة أو ترفضها جملةً وتفصيلا فهذا وارد ومقبول ومتوقع ، ولا غرابة في ذلك ،، ولكن الغريب والمستهجن أن نتحدث عن أنبياء الله تعالى ورسله وإصطفاءاته بهذه اللهجة غير الكريمة التي لا تليق أن يخاطبون بها فهم أرفع قدراً وأجل شأناً من ذلك – جمعنا الله تعالى بهم جميعاً يوم نلقاه ، وأكرمنا بصحبتهم والنظر إليهم . هل تعتقد أن نبي الله موسى إبن عمران عليه السلام سيكون راضياً عن الإساءة الكبيرة التي تتفنن فيها ضد إخوانه وأحبائه عيسى إبن مريم ومحمد بن عبد الله عليهم الصلاة والسلام ؟ لا والله لن يكون راضياً ؟ المسلمون لا يقولون قولاً مرسلاً ولا يتطاولون على أحد وأنا متأكد تماماً أنك تعرف هذه الحقيقة تماماً ولكنه "الشنآن" الذي لا تشفي غليله الحقيقة ولا غيرها ، فهذا وجدان ووجد وإحتقان غير مبرر ، حمانا الله من مثله وعف ألسنتنا عن السوء وقول الزور والبهتان . المسلمون يعتقدون من خلال آيات القرآن والتوراة والإنجيل ، والذي يقوله الله تعالى لهم . فما قاله الله تعالى على ألسنة أنبيائه أن بعضاً من بني إسرائيل فقط هم الذين لم يؤمنوا بعيسى عليه السلام لظنهم أنه جاء ليبدل دينهم بدين آخر ، ولشكهم قبلاً في عيسى وأمه الصديقة ، وبالفعل قد حاربوه وسعوا إلى قتله كما فعلوا بأنبياء غيره آخرين ، أما البعض الآخر فقد آمن بعيسى ولكنهم كانوا قلة ، يقول تعالى في ذلك (فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله ...) ، هذا هو ما عند المسلمين من حقائق موثوقة وليس لهم في ذلك أي هوى خاص ضد هؤلاء أو أولئك . دعنا من هذا وذاك ، فإن موقفك العدائي والتهكمي والإستفذاذي الساخر من أنبياء الله ورسله الكرام أصحاب أهم كتابين أنزلهما الله تعالى يكفي تصديقاً لما جاء عن الذين كذبوا هذين النبيين الكريمين ، ولو إتفق أن ظهر أمامك كل من عيسى ومحمد وأبتاعهما في صعيد واحد فلا أظنك بهذه الروح وهذا الوجد المتجزر تتردد لحظة واحدة في إراحة البشرية من شرهم ، وأن تسقط عليهم قنبلة نووية أحدث وأفتك ما قدمته التكنولوجيا الغربية الرحيمة ، كما فعل رواد السلام العالمي وحقوق الإنسان على نسق باقة الورود التي أسقطت على هيروشيما وناجازاكي والبوسنة والهرسك ، والعراق وأفغانستان ، ذلك الكرم الفياض الذي يفوح أريجه عقوبات إقتصادية وحصار دبلوماسي من تلك القلوب الرحيمة التي تريح هؤلاء البسطاء والفقراء من عنت الحياة بنفحة كريمة تهب عليهم من الكرام البررة لتوصلهم إلى الموت البطيء جوعاً ومرضاً وسوء تغذية وفساد وشقاءً ، حرصاً منهم على إستمتاع ضحاياهم بهذه الورود والنفحات إلى آخر رمق في حياتهم " تحت سمع وبصر ومباركة أدعياء حقوق الإنسان والحيوان معاً" ، فأين العدل إن لم تكن هناك حياة أخرى يلقى فيها هؤلاء في جهنم ، جزاءهم الذي يستحقونه على ما فعلوا بالتعساء المساكين ؟ (لا يلقون فيها برداً ولا شراباً ، إلا حميماً وغساقاً ، جزاءً وفاقاً ، إنهم كانوا لا يرجون حساباً ، وكذبوا بآياتنا كذاباً ، وكل شيء أحصيناه كتاباً ...) ، إن البشارة بأحمد صلى الله عليه وسلم بشارةً حقيقيةً صادقةً فهي بشارة خير لمن أراد الله له الهداية والنجاة من الشقاء المقيم والعذاب الأليم ، وبشارةً شؤم وصغار لمن إستحق غضب الله تعالى وعذابه وخزلانه ، يقول تعالى (فبشرهم بعذاب أليم) ، وبشارة سعادة في الدارين للصابرين والصادقين والمنفقين والمستغفرون في الأسحار ، وبشارة تعاسة وخزي وعار على من قال الله تعالى فيهم (أحشروا الذين ظلموا وأزواجهم ...) ، على أية حالٍ ، إننا نتفهم حال وموقف الذين درجوا على سب رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وهم يعادونه كل هذا العداء المستحكم ، لا لشيء إلا لأنه جاء بقرآن دقيق الوصف والتبيان ، صادق التصوير والتوثيق ، حيث كشف الخبايا والمستور وفضح المكر والحيل إبتداءً من ولد آدم قابيل وهابيل إلى آخر ما يحدث الآن ضد الأنبياء والصالحين والمسالمين والصادقين ،، ولكن الذين يعادون القرآن والكتب السماوية إنما يعادون الله تعالى مباشرةً ويعلنون الحرب الشعواء ضده ، وهو قد أعلنها عليهم من قبل وقفل دونهم باب العودة يقول تعالى في سورة البقرة (إن الذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ، ختم الله على قلوبهم ، وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم) ، فلم يبق لهم سوى اللجاجة والتحسر ولكن هيهات ، (يقول الإنسان يومئذ أين المفر !!) ، إن الذين بشرهم عيسى من بني إسرائيل هم أولئك الذين آمنوا له وصدقوه منهم وليس جميع بني إسرائيل قاطبةً ، وبالتالي خاطبهم بإعتبارهم من قومه وأتباعه وهو بإعتباره رسولهم الذي أرسل إليهم فاليهود هم بشر كغيرهم من ولد آدم لكل منهم مطلق الحرية في إختيار دينه ونبيه أو إختيار المجوسية أو الكفر (كل نفس بما كسبت رهينة) ، فما الإشكالية هنا عندك يا ترى ؟؟؟ ، أما مسألة محاولة قتله وصلبه هذه حقيقة لا يختلف فيها أثنان ، ولكن من الذي حاول القتل أو الصلب الله أعلم به وسيجزيه الجزاء الأوفى ، ولكن المؤكد لدى المسلمين أن أحداً منهم لم يستطع فعل هذه الجريمة البشعة به بل شُبِهَ لهم ونُفِذَتْ بالفعل ولكن في غيره ، وقد رفعه الله تعالى إليه . فالمشكلة عند أهل الكتاب أنفسهم ، لا دخل للمسلمين أتباع محمد في ما بينهم من إتهامات متبادلة فمن عبد منهم الصليب وإتخذ عيسى إبن مريم عبد الله ورسوله إلاهاً من دون الله يتهم من إعتبره كاذباً ومدعياً أنه ليس بنبي ولا رسول . نعم !! إن عيسى عليه السلام تكلم صغيراً في المهد فأبان وأسمع وأجاد فأبدع ، تماماً كما تكلم كهلاً (ويكلم الناس في المهد وكهلاً) ، أيضا بذات الإبانة والإجادة والإسماع ، ما تبدل ولا تغير ولا نكص على عقبيه صلى الله عليه وسلم ،، فما الإشكالية هنا ؟
فيما يتعلق بالتجاوزات والسباب والعصبية والتشنج فهذه عادةً ما تظهر عندما تقل الفطانة وتضعف الحيلة والقدرة على التعبير وتوصيل الفكرة المقنعة للآخرين ويفقد الشخص ملكة ضبط النفس ، فهذه أمراض نفسية وفكرية شائعة في زمننا هذا ، وتتكاثر تماماً كالبكتيريا أو الجراسيم وقد تصل حد الأورام السرطانية ، فهي في كثير من الأحيان تكون مزمنة غير قابلة للتراجع لأنها تنخر في الوجدان فتترك بها نتوءات وبشور وتقيحات لا يسلم صاحبها من شرها وحرها إلا إذا عاد إلى الإعتدال وإلتزم السلوك القويم ، إن إستطاع لذلك سبيلاً . لقد سمعتك كثيراً تتحدث عن الإرهاب والإعتداءات والجرائم ضد الإنسانية ،، وكل هذه الإسطوانات المشروخة ، ألم تقف مرة واحدة أمام نفسك "متأملاً" الذي تقوم به الآن من السباب والإهانة والتطاول على أنبياء الله تعالى ، أو حتى على أناس قد ماتوا قبل آلاف السنين وأنت لا تعرف عنهم إلا ما سمعت عنهم من الأحقاد والكراهية ،، إن لم يكن هذا هو أسوء أنواع الإرهاب والإعتداء والتجني على حقوق الإنسان وإنتهاكها دون رادع تخشاه أو قانون "أممي !!!!!" تهابه ، فما هو الإرهاب بالله عليك ، خاصة وأنت تؤذي مشاعر آلاف الملايين من البشر الذين لم يؤذوك بشيء ولم ترهم أو يرونك ؟؟ ما الذي ستستفيده من كل هذا التشنج والإحتقان والكراهية سوى سوء الخلق التي لا يمكن أن يتحلى بها كريم أو حليم ، وفي النهاية أنت الذي تتكبد مشقة التوتر وتضخم الشرايين والإحتقان والتكدر ، وقد يصل الأمر إلى الإصابة بأمراض العصر من ضغط بالدم ، أو إرتفاع السكر ، أو التضخم بالقلب . على أية حال ، إن كانت هذه التجاوزات الخلقية تضفي على نفسك السعادة والإنشراح والتشفي ، إذن هنيئاً لك بها ، فأكثر منها وإستمر فيها كيفما شئت ومتى شئت ولكن تذكر جيداً There is no free sandwich . نحن بمنتهى الأدب نقف في ساحة الحوار البناء في إنتظار أي حقائق موضوعية أو إتهامات مبنية على وقائع على الأقل فيها شيء من الصحة لكي تجادل بها ، فإن كان الأمر عندك مجرد عبث بالآخرين لمجرد التسلية أقول لك صادقا إنك لا تهلك إلا نفسك فحسب ولا ولن يكون لهذه الخطرفة واللجاجة والتطاول أي مردود على من تسب وتشتم لأنهم هامات سامقة العلو شاهقة البنيان لن يصلها ذلك العدوان والله قاهر فوق عباده وهو منتقم جبار وتذكر ما فعله بالمعتدين على مدى التاريخ القديم والحديث ولك الخيار . إن بشارة عيسى بمحمد بحق لم تكن سعيدة للذين كفروا ولن تكون كذلك أبداً لسوء حظهم وتعاستهم التي أدخلوا أنفسهم فيها بأنفسهم ، فهي بشارة تؤكد لهم الهلاك والثبور ، فالذي ينتظرهم ليس كريماً ، يقول تعالى في سورة النبأ: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا 21) ، ِلمَنْ ! ، (لِّلطَّاغِينَ مَآبًا 22) ، إلَىْ مَتَىْ ! ، (لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا 23) ، وكيف الجَوُ هُنَاكَ ! ، (لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا 24) ، مطلقاً ؟؟ ، (إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا 25) ، ولِمَ كُلُ هَذَاْ ! ، (جَزَاءً وِفَاقًا 26) ، على ماذا ؟ ما الذي فعلوه ! ، (إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا 27) ، ليس ذلك فقط ، بل ، (وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا 28) ، لقد فعلوا فعلتهم ظلماً لأنفسهم ولا يدرون ما في الغيب والخفاء من رقابة عليهم ، (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا 29) ،، فلم يبق لهم بعد سوى دخول النار حقيقةً حيث يقال لهم ، (فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا 30) . ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى من غضبه وعذابه . ولكنها بالنسبة لآخرين الذين آمنوا بموسى وعيسى وبمحمد وأخلصوا دينهم لله ربهم وخالقهم ، فهي بشارةً سعيدةً غايةً في السعادة وهي بشارة تستحق الوقوف عندها كثيراً يقول تعالى في هذه البشارة الكريمة (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا 31) ، مرتفعاً عالياً بعيداً عن مزالق العذاب ، ولكن ما حالها وما بها ! ، (حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا 32) ، للتفكه والإستمتاع ، (وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا 33) ، أزواجاً لهم كراماً ، (وَكَأْسًا دِهَاقًا 34) ، كرماً وإكراماً ، لكن كيف الجو العام هناك ! ، (لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا 35) ، و م كل هذا الكرم الفياض ! ، (جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا 36) ، (رَّبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَٰنِ ۖ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا 37) ، متى يكون كل هذا الوعد والوعيد ! ، (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا 39) ، (ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ۖ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ مَآبًا 40) ، من ولد آدم كلهم وحتى تقوم الساعة ، كل حسب إختياره لنفسه وتوفيق الله له ، لذا يقول للكل (إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا 41) . الهم أجعل لنا نصيباً وحظاً وافراً كريماً في فضل بشارة عبدك ورسولك عيسى بنبيك وخاتم رسلك محمد بن عبد الله وأكفنا النِذَارَةَ وبِشَارَةَ السَوْءِ ،، آمين آمين آمين . نعم لقد كان عيسى عليه السلام بشيراً بمجيء نبي يأتي من بعده إسمه "أحمد" وهو النبي الخاتم "وقد جاء حقاً وصدقاً" ، أما محمد (أحمد) فهو ليس بشيراً فحسب ، بل كان (بشيراً ونذيراً) ،، بشيراً لأهل السعادة ورضى الرحمن ، الذين إتخذوا إلى ربهم سبيلاً ، ونذيراً لأهل التعاسة والشؤم والصغار الذين عرضوا أنفسهم "بغيهم وطغيانهم وسفههم" لغضب الرحمن وإنتقامه منهم وقد إختاروه لأنفسهم بأنفسهم ولم يفرضه عليهم أحد ، فما الإشكالية هنا ؟؟؟؟ ومع كلٍ ، يستطيع أي شخص من البشر سابقاً أو حالياً أن يختار لنفسه المنزلة التي يريدها إما البشارة أو النذارة ويعمل عملها لينال خراجها يقول تعالى (ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ۖ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ مَآبًا 39) ، (إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا40) ، ومن طلب المغفرة من ربه غفر له ولا يبالي يقول تعالى في حديث قدسي (يا ابن آدم إن جئتني بملء الارض ذنوب وخطايا ولم تشرك بي شيئاً غفرت لك ولا ابالي) أو كما قال . في إنتظار أي قضايا أو إشكالات أخرى للنقاش أو الحوار (لا الخوار) ، إن أردت ذلك طبعاً . عَبْدُ اللهِ - أنور
#أنور_نجم_الدين_حسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تصحيح المفاهيم المغلوطة: رياض الحبيب:
المزيد.....
-
المقاومة الإسلامية في العراق تعلن مهاجتمها جنوب الأراضي المح
...
-
أغاني للأطفال 24 ساعة .. عبر تردد قناة طيور الجنة الجديد 202
...
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|