|
ميزانية 2012 : ميزانية تفقير المفقّرين والتخلي عن -السيادة المالية- لصالح الولايات المتحدة الأمريكية وفتح الباب أمام المالية الإسلامية
عبدالله بنسعد
الحوار المتمدن-العدد: 3802 - 2012 / 7 / 28 - 11:49
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تصدير : «بما أن الدولة قد نشأت من الحاجة إلى لجم تضاد الطبقات وبما أنها نشأت في الوقت نفسه ضمن الاصطدامات بين هذه الطبقات ، فهي كقاعدة عامة دولة الطبقة الأقوى السائدة اقتصاديا والتي تصبح عن طريق الدولة الطبقة السائدة سياسيا أيضا وتكتسب على هذه الصورة وسائل جديدة لقمع الطبقة المظلومة واستمرارها. فالدولة القديمة والدولة الإقطاعية لم تكونا وحدهما هيئتين لاستثمار العبيد والأقنان ، بل كذلك الدولة التمثيلية الحديثة هي أداة لاستثمار العمل المأجور من قبل رأس المال. (…) كذلك يجدر بالذكر أن إنجلز يصف بصورة جلية قاطعة حق الإنتخاب العام أيضا بأنه أداة لسيادة البرجوازية. فقد قال آخذا بعين الإعتبار بصورة جلية الخبرة التي اكتسبتها الاشتراكية الديموقراطية الألمانية خلال وقت طويل أن حق الإنتخاب العام هو دليل نضج الطبقة العاملة ولا يمكنه أن يكون ولن يكون أبدا أكثر من ذلك في الدولة الراهنة. إن الديموقراطيين صغار البورجوازيين ، أشباه الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة في بلادنا ، وكذلك أشقاءهم جميع الاشتراكيين-الشوفينيين في أوروبا الغربية ، ينتظرون من حق الإنتخاب العام أكثر من ذلك بالضبط. إنهم يؤمنون هم أنفسهم ويوهمون الشعب بفكرة مغلوطة مفادها أن حق الانتخاب العام في الدولة الراهنة يستطيع أن يظهر في الواقع إرادة أكثرية الشغيلة وأن يضمن تطبيقها. لا يسعنا هنا غير الإيماء إلى هذه الفكرة المغلوطة، غير الإشارة إلى أن تصريح انجلز الجلي والدقيق والملموس تماما تشوهه في كل لحظة دعاية وتحريض الاحزاب الاشتراكية الرسمية (أي الانتهازية)». - لينين ، الدولة والثورة - مقدّمة لا بدّ منها لقد جلب إنتباهي وأنا أقرأ أو أستمع إلى السياسيين أو الإعلاميين وهم يتحدّثون عن ميزانية 2012 التركيز فقط على الميزانية التكميلية لسنة 2012 بينما لا أحد يتحدّث عن الميزانية الأصل أي "ميزانية الدولة" لسنة 2012 التي أعدّتها الحكومة المنصبة التي قادها الباجي قائد السبسي وإعتمدتها الحكومة الرجعية المؤقتة. لذلك فمن الأسلم عند الحديث عن الميزانية أن نقول ميزانية 2012 وليس الميزانية التكميلية بإعتبار وأنها الميزانية الأصل التي صدرت بالقانون عدد 7-2011 المؤرّخ في 31 ديسمبر 2011 وقد جاءت في 49 فصلا بينما الميزانية التكميلية التي صدرت بالقانون عدد 1-2012 المؤرخ في 16 ماي 2012 لم تقم إلاّ بتنقيح بعض فصول الميزانية الأصل إذ وقع تنقيح الفصول من 1 إلى 9 فقط كما وقعت بعض الإضافات لبقية الفصول. لكن وقبل الدخول في تفاصيل قراءة هذه الميزانية أريد أن ألفت نظر القراء إلى أنّ هذه الميزانية سجّلنا فيها وجود مسألتين خطيرتين تحصلان لأوّل مرّة في تاريخ القطر رغم عمالة النظام السابق منذ سنة 1956 الذي لم يجرؤ على القيام بذلك وسيسجّل التاريخ أنّ الحكومة الرجعية المؤقتة بقيادة حركة النهضة هي من كان وراء هذا العمل الشنيع. المسألة الخطيرة الأولى : الولايات المتحدة الأمريكية تتوسّط لتونس للحصول على قروض من السوق المالية العالمية مقابل ضمانات وهو ما يعني بأنّ تونس مرّت عمليّا من سيطرة الإستعمار الفرنسي إلى سيطرة الإستعمار الأمريكي بوضع السيادة المالية تحت تصرف هذه الأخيرة. المسألة الخطيرة الثانية : فتح الباب أمام المالية الإسلامية لتكتسح المؤسسات المالية والبنكية في القطر بما يعني ربط إقتصاد القطر بإقتصاديات بلدان البترودولار (بلدان الخليج) المرتبطة هي نفسها بإقتصاديات البلدان الإمبريالية التي تعيش أزمة كبيرة لم يشهد التاريخ لها مثيلا. لنفسّر ذلك الآن : 1. الولايات المتحدة الأمريكية تقدّم ضمانات قروض لتونس ؟ وسط تعتيم إعلامي مقصود وصمت حكومي مبرمج وجهل شعبي لا مثيل له وقّعت تونس والولايات المتحدة الأمريكية يوم الجمعة 8 جوان 2012 على إتفاقية لتقديم واشنطن ضمانات لتحصل تونس على قروض من السوق المالية العالمية. وفعلا فقد حصلت تونس عبر البنك المركزي التونسي (الذي أصدر بلاغا في الغرض يوم الإثنين 16 جويلية 2012) على أول قرض رقاعي (والبقية تأتي) يبلغ حجمه أكثر من 792 مليون دينار (485 مليون دولار أمريكي) وذلك بضمان من الولايات المتحدة الأمريكية من خلال الوكالة الأمريكية للتنمية. وقد أشار بلاغ البنك المركزي إلى أنّ هذا القرض سيقع سداده على 7 سنوات بنسبة فائدة تناهز 1.686 بالمائة سنويا ، فهل تقدر تونس على سداد هذا القرض في هذه المدة الوجيزة ؟ شخصيا أشكّ في ذلك. وقال وزير الخزانة الامريكي "تيموثي جايتنر" في بيان ، بعد أن وقّع (اعلان نوايا) مع وزير المالية التونسي حسين الديماسي في اكتوبرمن سنة 2011 (لطالما تبجّح وزير المالية الحالي حسين الديماسي قبل 14 جانفي برفض الليبرالية الشرسة) "ضمان القروض هذا سيكون ركيزة لذلك الدعم وهو ما يساعد تونس في تحقيق الاهداف الرئيسية للتنمية ودعم تحولها الاقتصادي." لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه هو : لماذا قامت الولايات المتحدة الأمريكية بهذا الإجراء ؟ هل هو حقا لدعم أهداف التنمية حبا في تونس وشعبها أم لسبب آخر ؟ لكن لكي نجيب على هذا السؤال علينا أن نعود إلى ما حدث خلال الإجتماع المذكور. فحسب الوثائق المقدّمة كما يقول الهاشمي عمارة (أنظر مقاله بعنوان : تونس تفقد استقلالها يوم الجمعة 13 افريل 2012) " فانّ حكومة الولايات المتحدة ستتولى في اقرب الاوقات مهمة ضمان سندات القروض التونسية اي بلغة اوضح و بكل بساطة لمن لا يفهم المصطلحات الاقتصادية المعقدة ستصبح وزارة المالية التونسية تحت الادارة المباشرة لوزارة الخزانة (المالية) الامريكية التي سيكون لها وحدها حق التحدث باسم تونس في الاوساط المالية العالمية وتحديد السياسة المالية للدولة وسعر صرف الدينار التونسي ونسب الفائدة على القروض والتحويلات النقدية" أي أنّ الحكومة الرجعية المؤقتة الحالية تخلّت عن "سيادتها المالية أو بالأحرى الإقتصادية" لصالح الولايات المتحدة الأمريكية وبما أنّ الإقتصاد هو محرّك العلاقات والسياسات بين الدول (السياسة هي تكثيف للإقتصاد) فإنّ ما حصل يذكّرنا كما قال الهاشمي عمارة بـ "الكوميسيون المالي الذي فرض على تونس في نهاية القرن التاسع عشر و كان دوره تحويل الديون الخاصة الى ديون عمومية انتهت بفرض الرقابة المالية على الحكومة التونسية و كانت نتيجتها النهائية فرض نظام الحماية الفرنسية على تونس سنة 1881 (الإستعمار المباشر) واليوم يعيد التاريخ نفسه مع تغيير شكلي فالبلد المستعمر الجديد هو الولايات المتحدة الأمريكية" التي عوّضت فرنسا التي إستعمرتنا لمدة عقود من الزمن (من الإستعمار المباشر إلى الإستعمار غير المباشر). النتيجة هي أنّ الإقتصاد التونسي أصبح رهينة بكل ما في الكلمة من معنى لدى الأمريكان لأنّه في صورة عجز تونس عن سداد الديون التي ضمنت فيها أمريكا فإنّ هذه الأخيرة يمكن أن تضع يدها على ما تشاء من مؤسسات البلاد وخيراتها. الم تستعمر فرنسا تونس بمثل هذه الطريقة ؟ أمّا الضمانات التي تحصلت عليها أمريكا فإنّ "ألسنة السوء" تتحدّث على أنّ الحكومة الرجعية المؤقتة مكّنت الولايات المتحدة الأمريكية من قواعد عسكرية شمال البلاد وجنوبها ممّا سهّل لحلف الناتو ، على سبيل الذكر لا الحصر ، من حسم المعركة في ليبيا وإسقاط العقيد القذافي في وقت وجيز جدا. أي أنّ الضمانات تتمثل في التواجد العسكري المباشر في عديد القواعد من الشمال (بنزرت) إلى الجنوب (الصحراء التونسية) من أجل تنفيذ مخططات الإمبريالية الأمريكية في منطقة شمال إفريقيا بما فيها تونس. 2. فتح الباب أمام المالية الإسلامية لأول مرّة في القطر : الدور المفضوح للإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية بقيادة دويلة قطر العميلة (بها أكبر قاعدة أمريكية في العالم) فيما سمّي بـ "الربيع العربي" أو "الثورات العربية" مسألة غير قابلة للشك (بل أصرّ وأؤكّد بأنّ الإمبريالية هي من دفع بجزء من الشعب العربي – أي البلدان التي وقعت فيها الإنتفاضات - للقيام بذلك عبر إعتمادها على ثلاث آليات هي : ويكيليكس للتحضير والفايسبوك للتنظيم وقناة الجزيرة للتحريض وسأعود في مرة قادمة لكتابة مقال حول هذا الموضوع). لكن لسائل أن يسأل ما هي مصلحة الإمبريالية في تغيير أنظمة خاضعة لها تماما وتأتمر بأوامرها ؟ الجواب بسيط جدّا ويتعلّق بالوضع الإقتصادي العالمي الذي يتّسم بحصول أكبر أزمة رأسمالية عرفها التاريخ (أكبر حتى من أزمة 1929 : أنظر دراستنا المنشورة بجريدة الشعب – جانفي/فيفري 2009 - تحت عنوان "وجهة نظر إشتراكية حول الأزمة الرأسمالية") فالدول الإمبريالية التي تقودها حاليا الولايات المتحدة الأمريكية وفي إطار الصراع بين الإمبرياليات الذي أطنب في الحديث عنه معلم البروليتاريا لينين ، وبعد أن خسرت أمريكا أغلب بلدان أمريكا اللاتينية وخاصة الغنية منها والتي كانت تمثّل قاعدتها الخلفية وخوفا من خسارتها للشرق الأوسط وشمال إفريقيا نتيجة تداعيات الأزمة المالية على تلك البلدان (عبر إنتفضات شعبية يمكن أن تفرز قيادات ثورية) قامت الإمبريالية الأمريكية بعملية إستباقية عبر ما يعرف بنظرية "القتل في المهد" (Tuer dans l’œuf) التي وضعت أسسها جمعية تعرف بإسم "مشروع القرن الأمريكي الجديد" (Projet pour le nouveau siècle américain) وذلك سنة 1995 ، وهذه الجمعية تضم العناصر المسيحيّة الأكثر تطرّفا داخل الإدارة الأمريكية والأكثر موالاة للصهيونية ، يمكن أن نذكر منها على السبيل الذكر لا الحصر : ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي الأسبق ، لويس لبّي مستشاره الخاص دونالد رامسفيلد وزير الحرب السابق ، بول وولفويتز مساعد وزير الدفاع ، بيتر رودمان سكريتير السياسة الخارجية ، فرانسيس فوكوياما صاحب كتاب نهاية التاريخ ، جاب بوش الأخ الأصغر للرئيس بوش وحاكم ولاية فلوريدا ، دان كايل نائب الرئيس بوش الأب ، فراد إيكلي نائب وزير الدفاع لدى بوش الأب وفرانك قافني ضابط بالبنتاغون والمعروف بعدائه الشديد للشيوعيين وللعرب. ونقرأ في التقرير الذي كتبوه ما يلي : «يجب أولا تحديد الدول التي تستطيع خلق ديناميكية جيوستراتيجية وبإمكانها تهديد النظام العالمي الحالي. وفي مرحلة ثانية وضع الإستراتيجية الضرورية لإحتواء هذه الدول أو إلجماها قبل أن تمثّل خطرا على الولايات المتحدة الأمريكية». وفعلا تمثلت هذه العملية الإستباقية في وضع الآليات التي تحدثنا عنها سابقا (ويكيليس والفايسبوك وقناة الجزيرة) من أجل تأطير الإنتفاضات وتوجيهها نحو الأهداف التي رسمتها لها والتي تتمثّل أساسا في تصعيد الأحزاب الدينية التي أثبتت عمالتها للإمبريالية منذ تأسيس أول تنظيم ديني على يدي حسن البنا. وقد كتبنا وقلنا منذ السبعينات بأنّ الأحزاب الدينية هي إحتياطي البورجوازية. وقد جاء الوقت الآن لتقع دعوة هذا الإحتياطي للقيام بالدور المناط بعهدته في مصر والمغرب وتونس واليمن وربما سوريا عن قريب. دور الأحزاب الدينية إذا هو المحافظة على المصالح الإمبريالية بالمحافظة على منوال التنمية الليبرالي المملى من طرف مؤسسات النهب الإمبريالي (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والمنظمة العالمية للتجارة) وتشبيك إقتصاديات بلدان المغرب العربي وبعض بلدان الشرق الأوسط بالرأس مال المالي العالمي. في هذا الإطار بالضبط يتنزّل فتح الباب أمام "المالية الإسلامية" لأول مرة في القطر التونسي عبر قانون المالية لسنة 2012. فقد وقع إرساء "نظام جبائي خاص بالتمويل الإسلامي" خصّص له إثني عشر فصلا بالتمام والكمال في قانون المالية 2012 (من الفصل 28 إلى الفصل 39 مكرّر). ومن أجل تثبيت هذا النظام الجديد بالسوق المالية التونسية وقع أولا سحب كل الإمتيازات والإعفاءات المسندة بموجب التشريع الجبائي أو التشريع المتعلق بالإستثمار الجاري به العمل على عقود التمويل الإسلامي وهي أربعة : عقود بيع "مرابحة" وعقود "إستصناع" وعقود "إجارة" وعقود بيع "السلم" وثانيا وقع تنقيح عديد التشريعات لتشمل عقود التمويل الإسلامي المذكورة ومنها "مجلة معاليم التسجيل والطابع الجبائي" و"مجلة الضريبة على دخل الأشخاص الطبيعيين والضريبة على الشركات" و"مجلة الأداء على القيمة المضافة". وعملية التثبيت والتجذير للمالية الإسلامية لن تشمل فقط تنقيح التشريعات بل ستتجاوزه إلى تنقيح برامج التعليم العالي حيث عمدت عديد الكليات والمعاهد العليا للإقتصاد والمالية ، بتوصية من وزير التعليم العالي المنصف بنسالم القيادي النهضوي المعروف بتطرّفه ، إلى بعث شعب خاصة بما يسمّى بالمالية الإسلامية بل وقع بعث جمعية تحمل إسم "الجمعية التونسية للمالية الإسلامية" (Tunisian Association Of Islamic Finance) بدعم من البنك الإسلامي للتنمية (تأسّس سنة 1975 بالرياض بقرار من وزراء مالية البلدان الإسلامية) والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب (مؤسسة تابعة للبنك الإسلامي للتنمية تأسست سنة 1981). وتهدف الجمعية إلى تعميق البحث العلمي في مجال المالية الإسلامية والتثقيف في مجال المالية الإسلامية والتكوين وتطوير الخبرات العلمية وتقديم المشورة. هذه هي إذا إنجازات الحكومة الرجعية المؤقتة لـ "تطوير الإقتصاد التونسي" (سنعود في مقال ثان للحديث عمّا يسمّى زورا وبهتانا بالإقتصاد الإسلامي الذي هو ليس سوى إقتصادا ليبراليا ألبسوه عمامة الربا المقنّن). إذا فتح الباب أمام المالية الإسلامية الهدف منه هو فتح الباب على مصراعيه أمام الرأسمال الخليجي الذي يسيطر عليه أصحاب العمائم الوهابيين (على سبيل الذكر لا الحصر حاضر في ندوة نظمتها الجمعية التونسية للمالية الإسلامية المذكورة آنفا يومي 21 و22 جانفي 2012 المدعو الشيخ "خالد مذكور" وهو رئيس اللجنة الإستشارية العليا للعمل على إستكمال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية التابعة للديوان الأميري في دولة الكويت) هكذا !!!!. لكنّ خطورة هذا التمشّي لا تقف عند هذا الحد المتمثّل في أن يصبح البترودولار يصول ويجول في القطر (أنظر إستثمار ديار قطر في مشروع سياحي ضخم في توزر علما وأنّ هذا المشروع هو موجّه للأمراء الخليجيين أساسا لمواصلة صيد "الحبارة" هذا الطائر المهدّد بالإنقراض علما وأنّ وزارة أملاك الدولة باعت 40 هكتار من الأراضي للقطريين بثمن بخس جدّا : 15 دينار للمتر الواحد أي أنّ الحكومة الرجعية تفرّط في ملك الشعب من وراء ظهر الشعب) بل الأخطر من ذلك بكثير هو التداعيات التي يمكن أن تصيب إقتصاد القطر في صورة مزيد إحتداد الأزمة الرأسمالية الحالية أو وقوع أزمات جديدة بحكم أنّ الرأس مال الخليجي في تشابك كامل مع الرأس مال المالي العالمي. والدليل أنّه عند حصول الأزمة المالية العالمية سنة 2008 والتي تحولت فيما بعد إلى أزمة رأسمالية لم تتضرّر تونس كثيرا لأنّ السوق المالية في ذلك الوقت لم تكن مرتبطة بالرأس مال العالمي بينما بالمقابل تضرّرت كثيرا الأسواق المالية الخليجية وأفلست عديد البورصات مثل بورصة دبي. هذا هو إذا منوال التنمية الذي تهدينا إياه الحكومة الرجعية المؤقّتة والذي لن يقود إلاّ إلى مزيد المآسي الإقتصادية والإجتماعية. 1. التعريف النظري للميزانية إعدادا ومصادقة ومراقبة ومقارنته بما حصل في القطر الميزانية في معناها العام هي النفقات والإيرادات المقرر تحقيقها خلال مدة محددة. بالنسبة لميزانية الدولة هي الوثيقة التي تبين مجمل النفقات والإيرادات التي تعتزم الدولة تحقيقها خلال سنة ، فالدولة هي التي تضع الميزانية و تنفذها بعد أن تصادق عليها السلطة التشريعية و تجدر الإشارة إلى أن إيرادات الميزانية تستمد بالدرجة الأولى والأساسية من مختلف القطاعات الإقتصادية لذلك تعتمد الدولة على تقوية تلك القطاعات بتوزيع الموارد بين الإستهلاك العام أي إشباع الحاجات من الخدمات و بين الإستثمار أي تحقيق تراكم رأس المال الضروري لنمو الإقتصاد. و تسجل الميزانية فائض إذا كان مجموع الإيرادات من الضرائب و أمثالها يغطي مجموع النفقات النهائية وتسجل عجزا (يسمى عجز الميزانية) إذا لم تستطع تغطيتها. ويمكن تلخيص العناصر والمبادئ الأساسية التي ترتكز عليها الميزانية فيما يلي : أ) عنصر التقدير: و معناه أن الإيرادات (الموارد حسب قانون المالية لسنة 2012) التي أعدت بناء عليها الميزانية لغرض تغطية نفقات محددة هي في الأساس تقديرية مبنية على تحصيلات تمت في السنة التي سبقت إعداد الميزانية المقترحة. ب) مبدأ وحدة الميزانية : أي إدراج جميع النفقات و الإرادات العامة المقررة خلال السنة المقبلة في وثيقة واحدة أي عدم تعدد الميزانية ج) مبدأ سنوية الميزانية : أي انه يتم إعدادها لفترة مقبلة تقدر بسنة واحدة وهي فترة مألوفة. د) مبدأ توازن الميزانية : أي تساوي الإيرادات مع النفقات غير أنّ هذا المبدأ أصبح غير مؤكّد على المستوى العملي بإعتبار وأنّ ميزانيات الدول في المستعمرات وأشباه المستعمرات أصبحت تسجّل عجزا دائما بحكم خضوعها كما قلنا لتوصيات الإمبريالية. تحضير الميزانية وتنفيذها : نظريّا يمرّ تحضير الميزانية وتنفيذها ومراقبتها بثلاث مراحل هي مرحلة الإعداد ومرحلة الإعتماد ومرحلة المراقبة : مرحلة الإعداد : من المعمول به في مختلف الأنظمة أنّ إعداد الميزانية يتم من طرف السلطة التنفيذية نظرا لما تتمتع به من إمكانيات ووسائل و دراية بالميدان المالي والاقتصادي وتعتبر وزارة المالية الإطار الأساسي لتحضير الميزانية فيتم اعدد مشروع الميزانية على معطيات واردة إليها من قطاعات الدولة (الوزارات) كل قطاع حسب ما يتوقع من إيرادات ونفقات. وإذا قارنا ما هو نظري بما حصل في القطر بالنسبة لإعداد ميزانية سنة 2012 نقول بأنّ الحكومة الرجعية المؤقّتة ومن أجل إمتصاص غضب الجماهير الشعبية (التي لم تكفّ عن الإحتجاج ولو ليوم واحد في مختلف أرجاء القطر) قامت بتنفيذ ما سمّي بـ "الإستشارة الجهوية لتحضير الميزانية" والتي لم تكن إلاّ إستشارة وهمية حيث أنّ المشروع النهائي للميزانية لم يأخذ بعين الإعتبار كل المقترحات التي صدرت عن اللجان الجهوية والمحلية بل قامت الحكومة بعملية إستنساخ للميزانيات السابقة التي كان ينجزها نظام بن علي العميل أو ما يعرف بالفرنسية بـ (copier/coller) ووقع بالتالي إسقاط عديد المشاريع التي وقع إقتراحها محليا وجهويا بل لم يقدر ما يسمّى بـ "نواب الشعب" على تعديل أي شيء في الميزانية وهو دليل على أنّهم لا يمثلون الشعب وإنما يمثّلون الطبقات الرجعية الحاكمة (البورجوازية الكمبرادورية والإقطاع). مرحلة الاعتماد : نظريا تعتمد الميزانية من طرف المجلس التشريعي من خلال دراسة المشروع الذي تعرضه الحكومة على نواب الشعب وبعد دراسته بتأنّ ومناقشته علنيا في متّسع من الوقت والقيام بالتعديلات اللازمة إن إقتضى الأمر تقع المصادقة عليه وبعدها يؤشّر رئيس الجمهورية على قانون المالية ويمنحه الصيغة التنفيذية. والسؤال الذي يطرح نفسه : هل وقع إعتماد هذا المبدأ عند إعتماد ميزانية 2012 ؟ طبعا لا فهذه الحكومة الرجعية المؤقتة التي أكّدت ألف مرّة إستهزائها بالشعب و"بنوابه" ومارست وتمارس سياسة الإكراه لم تحترم هذا المبدأ لا عند مناقشة ميزانية 2012 "الميزانية المصدر" ولا عند مناقشة الميزانية التكميلية. علما وأنّ ميزانية 2012 التي أعدّتها حكومة الباجي قائد السبسي المنصّبة إعتمدتها حكومة الجبالي الرجعية المؤقّتة دون أي تغيير أو تحوير. والكل يتذكّر السجال الكبير الذي وصل إلى حدّ السباب بين نواب الأغلبية وما يسمّى بنواب المعارضة بل لقد قاطع هؤلاء الجلسة بتعلّة إنعدام الوقت الكافي لمناقشة قانون الميزانية الأصل خلال شهر ديسمبر 2011. لكنّ أغلبية 105 أعضاء في المجلس من بين النواب الحاضرين الـ 142 أقرّت عرض مشروع القانون للنقاش والمصادقة في الآجال المطلوبة قانونيا قبل موعد 31 ديسمبر 2011 وإعتبرت أنّ ذلك هو أمر حيوي للبلاد واقتصادها ولخطط الاستثمار. بل ذهب وزير المالية حسين الديماسي (الديمقراطي جدّا) الذي حضر الجلسة العامة بمعية ثلة من خبراء وزارتي المالية والتخطيط "أن البلاد تعيش مرحلة حساسة تقتضي عدم إضاعة الوقت وتجاوز الشكليات والتركيز على الأولويات في مناقشة مشروع قانون المالية". هكذا !!! تعتبر الدعوة لتمكين النواب من الوقت الكافي لمناقشة أول ميزانية بعد ما يسمّى بـ "الثورة" أمرا شكليا. وبالمقابل فقد أعلن النائب فاضل موسى (نائب عن القطب الديمقراطي الحداثي) قائلا "لو كان لدينا متسع من الوقت لأبدينا رأيا مخالفا لبعض المسائل الواردة في مشروع القانون". كما اعتبر عديد المتدخلين أن مشروع قانون المالية يشكو من نقائص كثيرة أهمها أنه لا يولي اهتماما بالتنمية في الجهات وهي القضية التي كانت منطلقا "للثورة". وقد صادق المجلس التأسيسي على الميزانية التي عرضت عليه يوم الخميس 29 ديسمبر في اليوم الموالي أي يوم الجمعة 30 ديسمبر 2011 بموافقة 136 نائب وإحتفاظ 38 نائب بأصواتهم وإعتراض نائب واحد. لكنّ ما تجدر ملاحظته أنّ نفس هذه الممارسة حصلت عند مناقشة مشروع الميزانية التكميلية لسنة 2012 ، فلإن برّرت الحكومة الرجعية المؤقّتة عدم وجود متّسع من الوقت لمناقشة الميزانية الأصل بإعتبار وأنّه يجب المصادقة عليها قبل 31 ديسمبر 2011 لتسيير دواليب الدولة فإنّ هذه التعلّة إفتضحت عند مناقشة الميزانية التكميلية وظهر بارزا للعيان أنّ هذه الحكومة تريد فرض إرادتها وتمرير كل القوانين التي تقرّرها هي خاصّة في ظلّ غياب أي توازن بين ما يسمّى بالرءاسات الثلاث لأنّ رءاسة الحكومة أو لنقل حركة النهضة هي التي تسطّر وما على البقية (حزبي المؤتمر والتكتّل) غير التصفيق. فلا الرئيس المرزوقي الذي هو مجرّد رئيس مجرّد من الصلوحيات (إتضح ذلك خاصة عند تسليم رئيس وزراء ليبيا السابق البغدادي المحمودي) ولا مصطفى بن جعفر (الذي أصبح ملوكيا أكثر من الملك عند إدارته لأشغال المجلس التأسيسي بدعم نواب حركة النهضة على بقية النواب بمن فيهم من ينتمي إلى حزبه) قادران على وقف دوران عجلة النهضة التي تسير بسرعة سيارة سجين إنفتحت فجأة أبواب السجن أمامه ووجد نفسه في قيادة سيارة لم يحلم البتة بركوبها. فلم تخصّص إلاّ أيام معدودات لمناقشة الميزانية التكيميلية في مسعى واضح لتمرير خيارات حركة النهضة وقد صادق على مشروع الميزانية التكميلية يوم 5 ماي 133 عضوا من جملة 158 عضوا حاضرا (لاحظوا أنّ الغيابات دائما كبيرة داخل المجلس التأسيسي) وإعترض عليه 22 عضوا وإمتنع 33 عضوا عن التصويت. مرحلة الرقابة : تهدف الرقابة على تنفيذ الميزانية الى ضمان سلامة تنفيذها طبقا لما قررته السلطة التشريعية و تتم هذه الرقابة عبر هيئات ثلاث وهي : * الرقابة الإدارية التي تقوم بها الإدارة التابعة لنفس جهة التنفيذ عن طريق موظفين حكوميين (المحاسب العمومي). * الرقابة السياسية و تقوم بها السلطة التشريعية و يمكن أن تكون رقابة عند التنفيذ أو رقابة لاحقة أي في نهاية السنة. * الرقابة المستقلة وهي رقابة خارجية يقوم بها مجلس المحاسبة (الإدارة العامة للمحاسبات). هذا من الناحية النظرية أمّا في قضية الحال فإنّ الحكومة الرجعية المؤقتة لا تضمن إستقلالية أيّ من هذه الرقابات. فالمراقب العام للميزانية أو المحاسب العمومي هو شخص تعيّنه السلطة التنفيذية ولا يمكن أن يكون إلاّ تابعا لها. نفس الشيء بالنسبة لدائرة المحاسبات التي هي هيكل تسيطر عليه السلطة التنفيذية وترفض هذه السلطة سلطة رقابية مستقلة كما هو معمول به ببعض الأنظمة الديمقراطية. أمّا المجلس التأسيسي فلن نكرّر ما قلناه حوله سابقا فهو ليس سوى هيئة "تشريعية" مهمتها التصديق على ما تقرّره السلطة التنفيذية (مفارقة لا يمكن أن تحدث إلاّ في تونس التي يحكمها الإسلاميون المتعطّشون منذ سنين للحكم ولم يكونوا يحلموا به البتة). وإذا أخذنا بعين الإعتبار الصندوق الذي سيقع يعثه (البعض سماه صندوق 23/23 على وزن 26/26) والذي لم يحدّد قانون المالية طريقة تسييره ولا التصرف فيه فإنه من حقنا التخوف في ظل غياب أية رقابة فعلية ، من إمكانية توظيف هذا الصندوق وغيره من أبواب الميزانية من طرف حركة النهضة لخدمة مشروعها الحزبي من أجل مزيد التمكّن وتثبيت وجودها في الحكم. وفي خاتمة هذا التعريف نقول بأنّ ميزانية الدولة تمثّل إذا سياسة الحزب أو الأحزاب الحاكمة (الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة) ومدى سيادة قرارها الوطني. لكن في حالتنا هذه وإذا إتفقنا بأنّ طبيعة النظام هو شبه مستعمر وشبه إقطاعي فإنّ الحكومة الرجعية المؤقتة لا تملك أي سيادة على قراراتها فهذه الأخيرة مملاة من طرف الدول (أمريكا وفرنسا أساسا) والدوائر الإمبريالية النهابة (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والمنظمة العالمية للتجارة أساسا). وكما قلنا آنفا فإنّ ميزانية الدولة تنقسم إلى موارد ونفقات. تتمثل الموارد بالنسبة لميزانية الدولة التونسية حسب قانون المالية المذكور آنفا في 5 أجزاء : المداخيل الجبائية الإعتيادية ، المداخيل غير الجبائية الإعتيادية ، المداخيل غير الإعتيادية ، مداخيل موارد الإقتراض والموارد الموظفة لصناديق الخزينة. أمّا النفقات فتنقسم أيضا إلى 5 أجزاء هي : نفقات التصرف ، فوائد الدين العمومي ، نفقات التنمية ، تسديد أصل الدين والحسابات الخاصة في الميزانية. 2. ميزانية 2012 والميزانية التكميلية بالأرقام ضبط حجم الميزانية التكميلية للدولة لسنة 2012 في حدود 276 25 مليون دينار بزيادة 466 2 مليون دينار وهو ما يمثل 10.8 بالمائة بالمقارنة مع تقديرات قانون المالية الأصلي. وفي هذا المشروع تم الترفيع في الاعتمادات المرصودة لفائدة التشغيل بـ 100 مليون دينار لتصبح 511 مليون دينار مقابل 411 مليون دينار مقدرة أولية. و تم الترفيع في حجم الاستثمارات المباشرة بـ 1000 مليون دينار للإستجابة لبعض الاقتراحات الصادرة عن الجهات في إطار الاستشارة الوطنية التي نظمت للغرض وكذلك الترفيع في الاعتمادات الموجهة لفائدة العائلات المعوزة تبعا للترفيع في العدد من جهة والمنحة من جهة أخرى. هذا على مستوى الإنفاق أما على مستوى الموارد فإنّ تقديرات الاقتراض خفضت بحوالي 1000 مليون دينار وحصرت في حدود بـ5757 مليون دينار مقابل تقديرات أولية بـ6791 مليون دينار والتعويل على الموارد الذاتية الوطنية بتعبئة 3500 مليون دينار إضافي بالمقارنة مع التقديرات الأولية. وعلى مستوى التوازنات فقد يبلغ عجز الميزانية حسب الفرضيات المعتمدة لإعداد مشروع الميزانية إلى مستوى 4568 مليون دينار أي ما يعادل نسبة 6.6 % من الناتج المحلي الاجمالي وهي نسبة تعتبر عالية جدا لن تزيد إلاّ في تأزيم الوضع الإقتصادي المتأزّم بطبعه. ويمكن تلخيص الميزانية حسب الواردات والنفقات كما يلي :
* الموارد : - موارد العنوان الأول : 000 400 000 17 - مورد العنوان الثاني : 000 000 195 7 - موارد الحسابات الخاصة في الخزينة : 000 600 080 1 - جملة الموارد : 000 000 276 25
* النفقات : - نفقات التصرف : 000 900 694 14 - تسديد الدين العمومي (الأصل والفوائد) : 000 000 089 4 - نفقات التنمية : 000 500 411 5 - نفقات الحسابات الخاصة في الخزينة : 000 600 080 1 - جملة النفقات : 000 000 276 25 1.2. هيكلة الميزانية في باب النفقات عندما قلنا بأنّ هذا النظام هو إمتداد لنظام العمالة الذي عرفته تونس منذ 20 مارس 1956 هذا التاريخ الذي لم يكن يمثّل في أي حال من الأحوال تاريخ إستقلال تونس مثلما يروّج له وإنما مثّل تاريخ 20 مارس تغيير شكل الإستعمار من إستعمار مباشر إلى إستعمار غير مباشر ، فلم نكن نتجنّى على النظام والدليل أنّ حوالي خمس الميزانية 089 4 مليون دينار مخصّص لخلاص الديون التي تحصّلت عليها المافيا التي كانت جاثمة على صدور التونسيين. بالمقابل لم يخصّص إلاّ مبلغ 333 1 مليون دينار لوزارتي الشؤون الإجتماعية (العائلات المعوزة ، الصناديق الإجتماعية ، التأمين على المرض وغيرها) ووزارة التكوين والتشغيل (التكوين المهني ، برامج التشغيل وغيرها). أمّا عن الثقافة فحدّث ولا حرج إذ لم تخصّص لها هذه الحكومة الرجعية المؤقّتة إلاّ مبلغ 108 مليون دينار فقط وهو ما يمثّل أقل بكثير من عشر ميزانية وزارة الداخلية. 2.2. ميزانية تفقير المفقرين المختصون في الإقتصاد في تونس يسمّون ميزانية 2012 بأنّها "ميزانية تقشّف" لكنّني شخصيّا أصرّ على تسميتها بـ "ميزانية تفقير المفقّرين" بسبب ما تحتويه من إجراءات لاوطنية ولاشعبية سأقتصر على ذكر بعضها : * لم تحتوي ميزانية 2012 على أي زيادة في الأجور لكن بالمقابل برمجت زيادة في الأسعار بـحوالي 4.7 % (وقع تجاوزها خلال الأشهر الأخيرة حيث قاربت 6 % حاليا) * ستقع زيادة في الضريبة على دخل الأجراء بـ 16.5 % بينما لن توظّف على مداخيل الأعراف إلاّ زيادة بـ 5.5 % فقط. * سيرتفع الضغط الجبائي على الطبقات الشعبية من خلال الأداء على القيمة المضافة بحوالي 2 %. * هذا الانحياز المفضوح لرأس المال يتمثّل أيضا في تمكين الأعراف من عديد الامتيازات الجبائية للتشجيع على الاستثمار لكن الدولة أو بصفة أدقّ دافعي الضرائب هم الذين سيتكفلون بتسديد هذه الامتيازات الشبيهة بامتيازات سنة 2011 (نفس منوال التنمية الذي يخدم البورجوازية الكبرادورية والإقطاع على حساب العمال والفلاحين الفقراء) المتعلقة بمساهمة الأعراف في الضمان الاجتماعي والتكفل بنسبة من فائض قروض إعادة الجدولة أو قروض تمويل اصلاح الأضرار وغيرها من الإمتيازات. 1.2.2. سنة 2012 سنة مزيد تدهور المقدرة الشرائية ما يسترعي الإنتباه في ميزانية 2012 هو تراجع الحجم الجملي للأجور من 36,7 % سنة 2011 إلى 34,02 % سنة 2012 وهذا التراجع لم تقابله زيادة في نفقات التنمية يمكن أن يقع القبول بها لأنّ نسبة الأجور في نفقات التصرف قد تراجعت هي الأخرى حيث مرّت من حوالي 61 % سنة 2011 إلى حوالي 58 % سنة 2012. وحتى الزيادة في حجم الأجور التي مرّت من 669 7 مليون دينار سنة 2011 إلى 643 8 مليون دينار سنة 2012 فإنها تعود أساساً إلى الانتدابات الجديدة (25 ألف وظيفة مبرمجة سنة 2012) وكذلك إلى التدرج الوظيفي. أمّا قبول الحكومة الرجعية المؤقتة تحت ضغط الإتحاد العام التونسي للشغل للزيادة في أجور الشغالين سنة 2012 فسيجبرها على إقتطاع الميزانية التي ستخصص للزيادات من بعض أبواب الميزانية الحالية وهو ما يعني إلغاء مشاريع إقتصادية مبرمجة أو مزيد التداين الخارجي وفي كلتا الحالتين فالنتيجة واحدة وهي مزيد تأزيم الوضع الإقتصادي. 2.2.2. أكبر نسبة من المداخيل الجبائية يدفعها الأجراء تبيّن موارد العنوان الأول بميزانية 2012 التكميلية بأنّ الصنف الأوّل المتمثّل في "الأداءات المباشرة الإعتيادية" من الجزء الأوّل "المداخيل الجبائية الإعتيادية" يساوي 302 6 مليون دينار موزّعة كما يلي : 821 3 مليون دينار مداخيل الضريبة على المرتبات والأجور وما شابه و481 2 مليون دينار مداخيل الضريبة على الشركات بما في ذلك الشركات البترولية التي تحقق سنويا رقم معاملات يمثّل عشرات الآلاف من المليارات. يعني ذلك أنّ الضريبة على الدخل التي يدفعها العامل تمثّل أكثر من مرة ونصف (1.5) الضريبة على الدخل التي يدفعها رأس المال بما في ذلك الشركات البترولية أو نسبة 60 % من مجمل المداخيل الجبائية. 3.2.2. أعلى نسبة من الأداء على القيمة المضافة يدفعها الفقراء مفارقة اخرى نسجّلها بهذه الميزانية تتمثّل في مداخيل الأداء على القيمة المضافة. فهذه المداخيل التي يعبّر عنها بـ "معاليم الأداءات والمعاليم غير المباشرة الإعتيادية" والتي تمثّل مبلغ 500 387 7 مليون تدفع أغلبها الطبقات الكادحة من شعبنا. فهذه الأخيرة تساهم بمبلغ 900 440 4 مليون (أي أكثر من 60 % أيضا) موزّعة كما يلي : 070 2 مليون دينار كأداء على القيمة المضافة نظام داخلي ، 580 1 مليون دينار معلوم إستهلاك (بنزين ، تبغ ، مشروبات كحولية...) ، 100 675 مليون دينار كمعاليم تسجيل عقود وغيرها ، 500 235 مليون دينار كمعاليم نقل وغيرها وأخيرا 900 157 مليون دينار كمعاليم مختلفة (خطايا ...). وإذا أردنا التفصيل فإنه وقعت إقرار زيادات في معاليم التسجيل والطابع الجبائي على الفواتير وبطاقات الهاتف وعمليات تمويله ومعلوم المرور بالطرقات السيارة والتي تمثل كلّها إجراءات لن تؤدّي إلا إلى مزيد إضعاف القدرة الشرائية للكادحين. 3.2. الميزانية في خدمة البورجوازية الكمبرادورية والإقطاع كما قلنا آنفا فإنّ ميزانية الدولة تعبّر عن السياسات التي ينفذّها الحزب أو الأحزاب الحاكمة (في حالتنا الترويكا بقيادة حركة النهضة) أي الطبقات الحاكمة وبما أنّ هذه الطبقات الحاكمة هي طبقات رجعية (البورجوازية الكبرادورية والإقطاع) فإنّ هذه الميزانية وضعت لخدمة تلك الطبقات على حساب الطبقات الشعبية الكادحة. لتبيان هذا الأمر سنعود لمساهمة العمال والأعراف في الميزانية عبر ما يدفعونه من ضربة على المداخيل. فإذا قارننا بين ما يدفعه العمال والأعراف (من غير الشركات البترولية المملوكة من الرأس المال الخارجي) فإنّنا نتحصّل على النتيجة التالية : يساهم العمال كما قلنا بمبلغ 821 3 مليون دينار بينما لا يساهم الأعراف إلاّ بمبلغ 063 1 مليون دينار أي أنّ العمال يدفعون حوالي 4 مرات أكثر من الأعراف (هل هذه جباية عادلة تنطلق من التوزيع العادل للثروة ؟ قطعا لا). أمّا أهمّ دليل يمكن ذكره لتأكيد ما ذهبنا إليه من أنّ الميزانية هي في خدمة البورجوازية الكبمرادورية والإقطاع فهو تعدّد الفصول التي تتحدّث عن العفو الجبائي أو التخفيض في المعاليم الديوانية وغيرها. فقد أحصينا ذكر عشرات المرات في الفصول الـ 49 التي إحتواها قانون المالية لسنة 2012 ، الإمتيازات التالية : تيسير طرق إستخلاص الضريبة ، التخفيض في المعاليم الديوانية المستوجبة عند التوريد ، توقيف العمل بالمعاليم الديوانية المستوجبة عند توريد البذور والمشاتل ، الإعفاء من المعاليم على الإستهلاك للسيارات ، منح الإمتيازات الجبائية للسيارات الجديدة ، مواصلة العمل بالعفو الجبائي بعنوان خطايا التأخير ، تعليق آجال المراجعة الجبائية المعمّقة ، الإعفاء من دفع ما تبقى من المعاليم والأداءات وغيرها من الإمتيازات. بينما بالمقابل لم يحضى العمال ولا الفلاحين المفقرين بأي إمتياز في هذه الميزانية.
4.2. أي مكانة للتنمية والتشغيل في ميزانية 2012 ؟ الكل يعلم بأنّ الإنتفاضة عندما قامت فإنها إنطلقت بشعارات تطالب بالتشغيل والتنمية. وقد إنطلقت من المناطق الداخلية وليس من المدن الساحلية وهو دليل على فشل منوال التنمية المتبع منذ سنة 1956 وخاصة في المجال الفلاحي في تلك المناطق. وبالتالي كان من المفروض (وهذه الحكومة تدعي بأنها حكومة الثورة) أن تتجسّد هذه المطالب في الميزانية الحالية وهي اول ميزانية بعد إنتفاضة 14 جانفي. لكن هيهات فهذه الميزانية وكما قلنا فإنّ هذه ميزانية إنبثقت عن منوال تنمية مستنسخ عن منوال التنمية السابق الذي وضعه نظام بن علي العميل منذ تركيز برنامج الإصلاح الهيكلي سنة 1986. فالتحفيزات الموجهة للمؤسسات الإقتصادية الخاصة لدفع التشغيل والمتمثلة في الطرح من أسس الضريبة الموظفة على الدخل (50 %) والإعفاء من الأداء على التكوين المهني ومن المساهمة في صندوق النهوض بالمسكن وتكفّل الدولة بمساهمة الأعراف في النظام القانوني للضمان الاجتماعي هل يمكن أن تساعد على التشغيل؟ وما هي أوجه اختلافها أو تميزها عن التحفيزات المعمول بها قبل 14 جانفي؟ وهل نسيت الحكومة الرجعية المؤقتة أنّ الحكومات السابقة لم تلتزم بدفع ما عليها للصناديق الإجتماعية ؟ وهو ما يعني بأنّ مثل هذا الإجراء لا يمكن إلا أن يزيد من الصعوبات المالية لهذه الصناديق. ثمّ لماذا الإصرار على تعميم هذه التحفيزات على كل القطاعات وعدم توجيهها إلى القطاعات ذات المردودية العالية والمشغلة لليد العاملة ذات الكفاءة العالية ؟ أسئلة عديدة تدلّ على أنّ سلطة القرار ليس بيد الحكومة الرجعية المؤقّتة وإنما بيد البلدان والمؤسسات الإمبريالية. ولنتفحّص الآن الأرقام فنفقات التنمية لم تتجاوز 500 411 5 مليون من الحجم الجملي للميزانية البالغ 000 276 25 مليون وهو ما يمثّل حوالي خمس الميزانية فقط. وإذا أخذنا بعض العينات نقول بأنّ وزارة التنمية الجهوية والتخطيط على سبيل المثال لم يخصّص لها في هذه الميزانية سوى مبلغ 483 710 مليون فقط أي أقل بكثير من وزارات الداخلية (639 885 1 مليون) والدفاع (443 046 1 مليون). أما بالنسبة لوزارة الفلاحة التي تشغّل نسبة كبيرة جدّا من التونسيين سواء كفلاحين (561 ألف) أو معينين عائليين (317 ألف) أو كعمال قارين (52 الف) فقد خصصت لها ميزانية تقدّر بـ 027 194 1 مليون بينما حظيت ميزانية وزارة الصناعة بمبلغ قدره 254 111 2 مليون أي أنّ دعم الصناعة أهم بكثير من دعم الفلاحة لدى هذه الحكومة الرجعية المؤقتة. أما بالنسبة للشتغيل ، حيث بلغت البطالة في تونس حجما لم يسبق له مثيل إذ قارب عدد المعطلين عن العمل المليون فرد منهم حوالي النصف من أصحاب الشهائد العليا فإنّ ميزانية 2012 حافظت على نفس آليات التشغيل السابقة ولم تعمل تحمّل الدولة على تحمّل أي مسؤولية في هذا المجال وكل ما فعلته هو الوعد بتشغيل 25 الف موظف في قطاع الوظيفة العمومية أي تشغيل حوالي 0.0025 % من المعطلين. وهي تأمل أن يقوم القطاع الخاص بدور المشغّل (بإعتبار وأنّ منوال التنمية هو نفسه) بينما تعلم بأنّ القطاع الخاص لا ولن يلعب هذا الدور بل كل ما فعله ويفعله هو إبتزاز الدولة بالحصول على المساعدات والإعانات والإعفاءات الجبائية لمراكمة رأس ماله ثم يقوم بطرد العمال الذين ينتدبهم لفترة وجيزة ثم ينتدب غيرهم وهكذا. 3. قراءة في ميزانية وزارة الداخلية : الميزانية تكريس للدولة البوليسية الميزانية التي خصصت لوزارة الداخلية تبلغ 000 639 885 1 مليون منها 000 607 731 1 مليون للتصرّف و000 032 145 مليون فقط للتنمية. أمّا إذا خصصنا أكثر فإننا نجد بأنّ الميزانية المخصصة للمشاريع ذات الصبغة الأمنية (بناءات وتجهيزات مختلف وحدات الأمن) تبلغ 080 99 مليون بينما تبلغ الميزانية المخصصة للمشاريع ذات الصبغة المدنية (أي المخصصة للجماعات المحلية : الولايات والمعتمديات والبلديات) 510 77 مليون أي أقل بـ 20 % من الميزانية الأولى. مقارنة أخرى يمكن أن نقوم بها وتتمثّل في الميزانية المخصصة للبناءات العسكرية والمدنية. * الميزانية المخصصة للبناءات العسكرية - ترميم وتوسيع ثكنات ومراكز الحرس الوطني : 600 مليون - ترميم وتوسيع ثكنات ومراكز الأمن الوطني : 1000 مليون - بناء ثكنات ومراكز الإدارة العامة للحرس : 6350 مليون - بناء ثكنات ومراكز الإدارة العامة للأمن الوطني : 11650 مليون - الجملة : 600 19 مليون * الميزانية المخصصة للبناءات المدنية - ترميم مقر الولايات والمعتمديات : 1680 مليون (بالنسبة لـ 24 ولاية) - بناء مقر معتمديات ومساكن : 1200 مليون (بالنسبة لـ 24 ولاية أيضا) - بناء مقر ولاية سيدي بوزيد : 7000 مليون (هل يعقل أن يقع بناء مقر ولاية بهذا المبلغ الضخم ؟ ولماذا سيدي بوزيد بالذات ؟ أهو إستبلاه لأهالي هذه الجهة المناضلة بمحاولة إسكاتهم أم ماذا ؟ - الجملة : 9880 مليون أي ثلث المبلغ المخصص للبناءات الأمنية ملاحظة أخرى تجلب الإنتباه والمتمثلة في شراء المعدات فنقرأ مثلا أنّ الميزانية المخصصة لإقتناء وسائل النقل (المقصود به سيارات الشرطة والحرس) تبلغ 13 مليون دينار ، الميزانية المخصصة لإقتناء تجهيزات خاصة (غير معرّفة في الميزانية) تبلغ 8.5 مليون دينار ، الميزانية المخصصة لإقتناء تجهيزات إتصالات تبلغ 6.6 مليون دينار أمّا الميزانية المخصصة لإقتناء مدرّعات (للحرس والشرطة) فتبلغ 3.4 مليون دينار. نستخلص إذا أنّ ميزانية وزارة الداخلية التي كان من المفروض أن يخصّص أغلبها للتنمية الجهوية والمحلية عبر دعم البلديات (لم تخصص إلاّ ميزانية تبلغ 80 مليون دينار لمشاريع التنمية البلدية) والمعتمديات والولايات للتقليص من التفاوت الجهوي واصلت على نفس المنهاج السابق أي منهاج الدولة البوليسية التي تعمل على قمع شعبها وليس العمل على النهوض به. 4. المنهجية الخاطئة في إعداد الميزانية والبرنامج الإقتصادي والإجتماعي من المضحكات المبكيات ايضا أو لنقل من إنجازات هذه الحكومة الرجعية المؤقّتة هو إعداد الميزانية قبل إعداد البرنامج الإقتصادي والإجتماعي (لا يمكن أن يحدث هذا إلاّ مع حكومة اللاكفاءات التي كان أغلب أعضائها غائبين تماما عن المستجدات العلمية والإقتصادية والتقنية والإدارية. فإذا بهم يفعلون العجب العجاب : أنظر ما يحصل في وزارات الداخلية والخارجية والفلاحة والصناعة والعدل وغيرها). فمن الناحية المنهجية ومن أبجديات السياسات الإقتصادية في مختلف بلدان العالم هو إعداد برنامج إقتصادي وإجتماعي يرتكز عليه الخبراء لإعداد ميزانية الدولة وليس العكس. فالبرنامج الإقتصادي والإجتماعي هو الذي يؤطّر الميزانية وليس العكس. لكن ما حصل في تونس هو سابقة لم أسمع بها من قبل. فالبرنامج الإقتصادي والإجتماعي وقعت المصادقة عليه من طرف الحكومة يوم السبت 31 مارس 2012 ووقع تقديمه للمجلس التأسيسي يوم 3 أفريل 2012 بينما الميزانية الأصل وقعت المصادقة عليها يوم 30 ديسمبر 2011 كما ذكرنا آنفا. 1.4. خطط عمل البرنامج الإقتصادي والإجتماعي ما تجدر الإشارة إليه أيضا هو أنّ ما سمّي بـ "البرنامج الإقتصادي والإجتماعي" لا يعدو أن يكون نصا إنشائيا هزيلا ينمّ عن جهل واضعيه بقواعد التنمية الإقتصادية والدليل أنّه لم يؤدّ إلى تحسين الوضع الإقتصادي بل بالعكس زاد في تأزيمه مما حدى بمؤسسات التصنيف الإئتماني إلى التخفيض في ترتيب تونس. فهذا البرنامج يشتمل على 17 إجراءا موزعة حسب أربع خطط عمل أفقية ، هي "التشغيل" و"مساندة المؤسسات الاقتصادية وتمويلها" و"التنمية الجهوية" وأخيرا "العمل الاجتماعي". • التشغيل يهدف البرنامج إلى إحداث 45 ألف موطن شغل سنة 2012 (تحدثت النهضة عن إحداث 400 ألف موطن شغل خلال حملتها الإنتخابية ؟؟؟) من خلال انتداب 25 ألف شاب وشابة بالوظيفة العمومية وتوفير 20 ألف موطن شغل إضافي في المؤسسات الاقتصادية الخاصة "من خلال برنامج دعم ودفع الإقتصاد". وستتكفل الدولة بـالأخذ بيد 200 ألف شاب وشابة من خلال برامج للتربصات المهنية والإحاطة وتقديم المساعدات (برنامج "أمل" بالخصوص) كما ستتكفل أيضا بالتمويل الذاتي للمشاريع التي يقترحها على البنك التونسي للتضامن باعثون لا يتوفر لديهم التمويل الذاتي لبعث هذه المشاريع "مع تمكينهم من التجمع في شكل شركات". كما سيتم مضاعفة المبالغ المرصودة لفائدة برامج العمل للمصلحة الوطنية في الجهات من أجل الترفيع في عدد المشتغلين بها وتحسين أجورهم. ما نلاحظه في خطة العمل المتعلقة بالتشغيل أنها لم تأت بحلول جذرية لمشكل البطالة وحافظت على الآليات القديمة التي أثبتت فشلها زمن بن علي فالحديث عن برامج التربصات المهنية وبرنامج أمل هو تكريس وتقنين لأشكال العمل الهشة التي أدّت بالشباب إلى الإنتفاض ضدّ النظام العميل. فكيف تعمد هده الحكومة الرجعية المؤقتة (التي لا يتركها أعضاؤها مناسبة مهما كانت بسيطة لتقديم أنفسهم على أنهم يمثلون حكومة الثورة) إلى تقنين أشكال العمل الهشة ؟ أمن أجل هذا إنتفض الشباب المعطّل عن العمل ؟ • مساندة المؤسسات الاقتصادية وتمويلها أقرت الحكومة برنامج مساعدة ودعم للمؤسسات التي تمر بصعوبات اقتصادية ظرفية حتى تحافظ على أنشطتها وعلى مواطن الشغل فيها. ويتمثل البرنامج في تكفل الدولة إلى نهاية العام الحالي بجزء من مساهمة الأعراف في التغطية الاجتماعية (بين 50 و100 %) وبنقطتين من أسعار الفائدة على الديون المجدولة. كما يهدف البرنامج أيضا إلى إعادة هيكلة نظام القروض الصغيرة ونظام تمويل المؤسسات الصغرى والمتوسطة مع إنشاء مجمعات بنكية للتمويل في المستوى الجهوي. كما تقرر اتخاذ إجراءات جبائية ومالية استثنائية لفائدة الاستثمارات خاصة في الجهات ذات الأولوية عبر الترفيع في نسب تحمل الدولة لمصاريف الشبكات الخارجية (كهرباء ، ماء ، طرقات ...) بالنسبة للمشاريع المنتصبة بمناطق التنمية الجهوية. كما تشتمل هذه الخطة أيضا على عديد الإجراءات المحفّزة للأعراف كالتخفيض في نسبة الأداء على القيمة المضافة من 12 % إلى 6 % بعنوان التجهيزات الموردة والتي ليس لها مثيل مصنوع محليا ، التخفيض في نسبة فائدة التأخير بعنوان تقديم سندات الإلزام مضمونة الدفع الموظفة على المطالبين بدفع المعاليم والأداءات الديوانية التي تفوق 5000 دينار من 6 %حاليا إلى 3 % ، الترفيع في النسبة المخولة للمؤسسات المصدرة كليا لبيع منتجاتها أو خدماتها بالسوق المحلية من 30 % حاليا إلى 50 %، تمكين المؤسسات المسجلة لفائض ضريبة على الشركات من تسبقة بنسبة 50 % من المبلغ الجملي للفائض المذكور دون مراقبة مسبقة وفي أجل 30 يوما من تاريخ تقديم مطلب استرجاع فائض الأداء بعنوان الضريبة على الدخل أو الضريبة على الشركات ، التمديد في جدولة الأقساط بالنسبة إلى المنخرطين في العفو الجبائي لسنة 2006 من الذين لم يستكملوا خلاص كامل الأقساط موضوع الجدولة المحددة بـ5 سنوات (ينقضي آخر أجل فيها بتاريخ 31 مارس 2011) لفترة إضافية لا تتعدى ثلاث سنوات وذلك بهدف منح المنخرطين في العفو الجبائي لسنة 2006 مزيدا من التسهيلات وإعطائهم فرصة إضافية لتفادي سقوط حقهم في الانتفاع بالامتيازات المخولة في هذا الإطار ، حذف تسبقة الـ1 % الموظفة على كل بيوعات مؤسسات الإنتاج الصناعي والمؤسسات التي تتعاطى تجارة الجملة إلى الأشخاص الطبيعيين غير الخاضعين للضريبة على الدخل حسب النظام الحقيقي. إلى غير ذلك من الإجراءات التي لا تعني العامل لا من قريب و لا من بعيد بل لا تخدم إلاّ البرجوازية الكبرادورية والإقطاع إذ ستصرف الدولة عشرات المليارات لخدمة هؤلاء. • التنمية الجهوية إقرار خطة إضافية لدفع التنمية بالولايات رصدت لها إعتمادات مالية بقيمة 250 مليون دينار ما يرفع جملة الإعتمادات الموجهة لتمويل البرامج الجهوية للتنمية في حدود 333 م د سيخصّص جزء منها لمشاريع البنية الأساسية ولتحسين ظروف العيش وللمساعدة المباشرة على التشغيل خاصة بالمناطق والجهات ذات الأولوية مع تمكين السلطات الجهوية من تفعيل آليات التشغيل والإحاطة الاجتماعية في المستوى الجهوي مع الحرص على الالتزام بإجراءات سريعة وشفافة إضافة إلى تشريك مكونات المجتمع المدني والتوصية بحل المجالس الجهوية وتعويضها بنيابات خصوصية تضم ممثلين عن الإدارة والمجتمع المدني والكفاءات الجهوية. نلاحظ إذا أنّ هذه الخطة المتعلّقة بالتنمية الجهوية هي خطة مبهمة لا تحتوي على آليات واضحة وعملية بقدر ما تركّز على إقتراحات قابلة للتطبيق لكن أيضا قابلة للرفض أو الإلتفاف عليها من السلط الجهوية التي أصبحت تسيطر عليها حركة النهضة (ولاة ، معتمدون ، عمد ، مديرون جهويون ...). فالمجالس الجهوية للتنمية لازالت قائمة ولم يقع حلها كما تقترح الخطة ومكونات المجتمع المدني يقع التعامل معها بسياسة المكيالين إذ تستدعي السلط الجهوية الجمعيات التي تسير في ركابها فقط تماما مثلما كان يفعل بن علي. المسألة الثانية التي تسترعي الإنتباه هي الميزانية التي خصصت لتمويل البرامج الجهوية للتنمية والبالغة 333 مليون دينار. فماذا تعني هذه الميزانية في وقت يتحدّث فيه الجميع عن وضع حدّ للتفاوت بين الجهات ؟ فهل بمثل هذه الميزانية الضحلة يمكن تحسين البنية الأساسية الرثة جدا في الأغلبية الساحقة من الجهات الداخلية ؟ وهل بمثل هذه الميزانية يمكن تحسين ظروف العيش وقد إفتضحت كذبة النظام العميل السابق في خصوص نسبة الفقر فقد إتّضح بعد 14 جانفي أنّ نسبة الفقر تمسّ حوالي ربع التونسيين (25 %) ؟ وهل بمثل هذه الميزانية يمكن تشغيل الشباب المعطّل عن العمل حيث تبلغ نسبة البطالة في بعض الجهات الداخلية مستى عالي جدّ (نسبة البطالة في قفصة تساوي حوالي 30 %) ؟ • العمل الاجتماعي ترتكز خطة العمل الإجتماعي أساسا على مراجعة عدد العائلات المعوزة حيث سيقع إسناد حوالي 185 ألف أسرة معوزة ومنح قروض صغيرة أو تحسين ظروف السكن لحوالي 20 ألف عائلة. الملاحظة التي تفرض نفسها في خصوص ما يسمّى بالعائلات المعوزة هي رفض صندوق النقد الدولي لكيفية وطريقة تحديد العائلات المعوزة التي تعتمدها وزارة الشؤون الإجتماعية وهذا يعني بأنّ ما وقع إقراره قابل للإلغاء في كل لحظة بإعتبار وأنّ السياسات الإقتصادية والإجتماعية مملاة من طرف هذه المؤسسة لذلك نقول بأنّ هذه الإختيارات هي إختيارات لا وطنية ولا شعبية. 2.4. البرنامج الإقتصادي والإجتماعي : مضمونه الليبرالية الشرسة ، آلياته الخوصصة وأدواته الإستثمار الخارجي تصرّ الحكومة الرجعية المؤقّتة على المحافظة على الإتفاقيات التي أبرمها نظام بن علي العميل وخاصة منها أكثر الإتفاقيات خيانية مثل برنامج الإصلاح الهيكلي وإتفاق الشراكة مع الإتحاد الأوروبي اللتان لم تزيدا الشعب إلا تفقيرا والإقتصاد مزيدا من التشبيك مع البلدان والمؤسسات الإمبريالية. وهذا الإصرار يعني أنّ الليبرالية الشرسة التي فرضتها مؤسسات النهب الإمبريالي مثل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي منذ أواسط الثمانينات تتواصل بعد إنتفاضة 14 جانفي مع هذه الحكومة التي ستواصل تبعا لذلك إعتماد الخوصصة كخيار إستراتيجي رغم المآسي التي حصلت جراء ذلك خلال السنوات الأخيرة من غلق للمؤسسات وطرد تعسّفي وإستحواذ الرأس المال المالي العالمي (ومنه الصهيوني) على عديد المؤسسات والقطاعات الإستراتيجية (قطاع الإسمنت مثلا). ورغم ما يمثّله تغلغل الرأس المال الأجنبي من خطورة لا إقتصادية فقط وإنما سياسية وثقافية أيضا فإنّ الحكومة الرجعية المؤقتة تصرّ على المضيّ قدما في هذا الإتجاه بعدم تغيير منوال التنمية الحالي. إذ يمثل تدخّل الرّأسمال الأجنبي المُباشر في الاقتصاد المحلّي ركيزة أساسيّة للنظام الاستعماري القائم. فتُونس هي خامس بلد إفريقي والبلد 51 في العالم من حيث رصيد الرّأسمال الأجنبي الذّي تجاوز 25 مليار دينار، في بداية سنة 2011. كما يُساهم بنسبة 24,7 % في إجمالي الاستثمار وبنسبة 7 % في الناتج المحلّي الخامّ. كما يكرّس التدخّل الرّأسمالي الأجنبي التقسيم المجالي الموروث عن الاستعمار المُباشر (Division spatiale) ، حيث يقسّم المجال التونسي إلى جزء صالح ، ينتصب فيه ويُدمجه في مجال إهتمامه (حوالي 90 % من الشّركات الأجنبيّة منتصبة بالساحل والشّمال الشّرقي) وجزء غير صالح لا يلتفت إليه. وبالتّالي فهو المسؤُول الرّئيسي عن انخرام التّوازن الجهوي ما بين جهات محظوظة وقع إدماجها في دائرة العولمة الرأسماليّة وأخرى مهمّشة بقيت خارج الدّورة الاقتصاديّة. ملاحظة أخرى نسوقها حول النتائج المدمّرة للإستثمار الأجنبي. فهذا الأخير نجده يركّز على استغلال الموارد الطبيعيّة ، وتحديدا في مجال المحروقات (حوالي نصف إجمالي استثماراته) لحساب حوالي 60 شركة نفطيّة وغازيّة ، تستغل أكثر من 60 رخصة تنقيب واستغلال المحروقات برّا وبحرا ، مُعيدا بذلك إنتاج النّموذج الاستغلالي خلال الاستعمار المباشر (نهب خيرات الشعب التونسي). ولتأمين هذا التدخّل وتوفير الربحيّة القصوى له ، سنّت السّلطة الدّكتاتوريّة العميلة ، سنة 1999، مجلّة خاصة بالمحروقات ضاربة عرض الحائط بالسّيادة الشعبيّة على الموارد الطبيعيّة الوطنيّة التّي أباحتها الحكومة الرجعية المؤقّتة مجدّدا للنّهب الرّأسمالي الأجنبي. وللذكر لا الحصر يمكن أن نقدّم كمثال على ذلك ما حاف من شبهات بالإتفاقيتين اللتين أبرمتهما هذه الحكومة مع دويلة قطر العميلة لإستغلال منجم الفسفاط بسراورتان ومصفاة الصخيرة. وقد أكدت الجمعية التونسية للشفافية في الطاقة والمناجم أنّ "الحكومة الحالية لم تحترم التشاريع الجاري بها العمل في إسناد الصفقات العمومية ولم تعتمد كراسات الشروط المضبوطة للغرض ولا طلب العروض وإعتمدت ممارسة بعيدة عن مبادئ المنافسة النزيهة والشفافية"وطالبتها بالمقابل برفع الغموض عن اللزمتين المذكورتين وتمكين دافعي الضرائب من حقهم في الإطلاع الفوري على كل ما يتعلّق بهاته المشاريع وغيرها. وهنا نتساءل ألم تفهم الحكومة الرجعية المؤقّتة أنّ إحدى الأسباب الرئيسية للإنتفاضة هو رفض الإنخرام الجهوي الذي أسّس له بورقيبة ودعّمه بن علي ؟ فلماذا هذا الإصرار على التركيز على الإستثمار الأجنبي "لدفع عجلة الإقتصاد" كما يقولون ؟ هذا يدعونا إلى القول بأنّ الجماهير الشعبيّة في القطر و بالرّغم من كونها قد أنجزت إنتفاضة عظيمة مكنتها من طرد الدكتاتور وعصابته فإنها بالمقابل لم تسترجع حرّيتها التّي لا تزال مُقيدة بقيود خَارجيّة تتمثّل في الاتفاقيّات الاقتصاديّة غير المتكافئة ، سواء كانت متعدّدة أو ثنائيّة الأطراف والتّي تتنافي وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها من دون وصاية أجنبيّة. إنّ من حقّ الشعب الذّي تخلص من استبداد الدّكتاتور أن ينقض ما قد عقد من اتفاقيّات باسمه وأن يعتبرها لاغية وغير مُلزمة له أو على الأقلّ أن يعيد التفاوض فيها وفق ما تمليه مصالحه. ولإعطاء فكرة حول هذه الإتفاقيات نقول بأنّ النظام العميل والجاثم على رقاب التونسيين منذ سنة 1956 ومن أجل دعم الإستثمار الخارجي سنّ ترسانة كاملة من الاتفاقيّات الاقتصاديّة غير المتكافئة والمُقيّدة والمُكبّلة والمعادية لشّعبنا العربي في تونس بدأت بالاتفاقية المُبرمة في جوان 1966 مع "المركز الدّولي لفضّ النّزاعات المُتعلقة بالاستثمار بين الدّول ومواطني الدّول الأخرى" التّابع لمجموعة البنك العالمي لتصل حاليا إلى حوالي 54 إتفاقية لدعم وحماية الإستثمار الأجنبي تهدف خاصة إلى : • تسهيل دخول رؤوس الأموال إلى تونس وتأمين الشّروط السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة الأفضل لاستخدامها قصد تحقيق الرّبح الأقصى • ضمان التّرحيل الكامل للأرباح • فتح السّوق المحليّة أمام الدّخول الحرّ للسّلع الرأسماليّة المصنّعة (معفاة من الضرائب) وللمواد الفلاحيّة المدعومة. في الختام نقول بأنّ البرنامج الإقتصادي والإجتماعي للحكومة الرجعية المؤقّتة هو برنامج يرتكز على منوال تنمية مستنسخ من عهد المخلوع بن علي لن يزيد إلاّ في تفقير المفقّرين (العمال والفلاحين الفقراء) وإغناء الأغنياء (البورجوازية الكمبرادورية والإقطاع). 5. ملاحظات أخيرة حول الميزانية 1.5. موارد غير مضمونة العجائب والغرائب التي رافقت هذه الميزانية من الإعداد إلى التصويت وصولا إلى فترة تطبيقها (عمليا ستطبّق خلال نصف سنة فقط أي خلال النصف الثاني من سنة 2012) تواصلت مع المحتوى الغير علمي والغير واقعي لبعض الفصول فيها. ففي خصوص الموارد نقرأ في الميزانية أنه سيقع تعبئة 078 2 مليون دينار عبر ثلاث آليات هي : صندوق المواطنة (صندوق 23/23 كما يحلو للبعض تسميته) الذي سيوفّر مبلغ 450 مليون دينار ، الأموال المصادرة التي ستوفر مبلغ 200 1 مليون دينار وأخيرا الهبات الخارجية التي ستوفّر مبلغ 428 مليون دينار. فهل يعقل أن ترتكز ميزانية دولة على مجرّد إحتمالات ؟ فمن يضمن تعبئة مبلغ ضخم يساوي 450 مليون دينار عبر صندوق المواطنة المساهمة فيه تطوّعية ؟ اللّهمّ إلاّ إذا وقع إعتماد نفس طرق النظام العميل السابق بإجبار المواطنين على الدفع ؟ ثمّ هل هناك عاقل واحد يمكن أن يصدّق أن تبلغ الهبات الخارجية 428 مليون دينار ؟ فالكل يعرف بأنّ أغلب دول العالم تعيش أزمة إقتصادية لم يسبق لها مثيل وبالتالي فإنّ تقديم الهبات إلى الدول الفقيرة لم يعد ممكنا إن لم نقل مستحيلا خاصة مع تفاقم أزمة الإتحاد الأوروبي. أمّا عن الـ 200 1 مليون دينار من الأموال المصادرة فهذه لا يمكن أن تكون إلاّ كذبة كبيرة لا يمكن أن يصدّقها إلاّ من وضعها. فالكل يعلم بأنّ عمليات المصادرة تتطلّب أشهرا عديدة في التقاضي وهي ليست مضمونة دائما فقد خسرت الحكومة قضايا مصادرة ضدّ سليم شيبوب والهادي الجيلاني وغيرهما فكيف تحدّد مبلغا ضخما مثل هذا وتبني عليه ميزانيتها ؟ 2.5. نسبة نموّ غير واقعيّة إرتكزت ميزانية 2012 على مؤشرات إقتصادية تتمثّل في نسبة نموّ بالأسعار القارة في حدود 3.5 % من ناحية ومعدّل سعر برميل النفط في حدود 110 دولار. فهل يعقل ان نمرّ من نسبة نمو سلبية خلال سنة 2011 إلى نسبة نمو بـ 3.5 % بخيارات إقتصادية مستنسخة من الحكومات العميلة السابقة ؟ فلا الوضع الأمني تحسّن أو هو قابل للتحسّن ولا الإستثمار الداخلي إنتعش (عديد رجال الأعمال عازفون عن الإستثمار في ظل الظروف الحالية) ولا الإستثمار الخارجي المكبّل بأزمة إقتصادية عالمية قابل للنموّ ولا المديونية سائرة نحو الإنخفاض وغيرها من العناصر الهشة جدّا في الإقتصاد التونسي التي لا يمكن أن تساعد على بلوغ نسبة النمو المقترحة. 3.5. نسبة عجز غير علمية حدّدت الميزانية نسبة العجز بـ 6.6 % من الناتج المحلي الإجمالي أي ما يعادل بالدينار 568 4 مليون دينار. هذه النسبة أيضا نعتبرها غير علمية نظرا لما سبق وأن قلناه في عدم ضمان تعبئة الموارد المتأتية من صندوق المواطنة والأموال المصادرة والهبات الخارجية. وإذا أضفنا لها ايضا إمكانية إرتفاع سعر برميل النفط إلى حد يفوق السعر الذي إنبنت عليه الميزانية وإرتفاع نسبة الفائدة على القروض التي ستلجأ لها الدولة وذلك نتيجة التخفيض في الترقيم السيادي الذي حصل منذ أسابيع إضافة إلى الإنهيار المتواصل للدينار التونسي وتواصل إرتفاع سعر صرف الدولار فإنّ العجز سيكون أكثر بكثير ممّا توقّعته الميزانية مما سيزيد في تأزيم الوضع الإقتصادي والإجتماعي. 6. الآفاق الإقتصادية : الأزمة ستتواصل كل المؤشرات تدلّ على أنّ الأزمة الإقتصادية والإجتماعية التي نعيشها في القطر والتي أدّت إلى إنتفاضة 14 جانفي لكنها تفاقمت بعد ذلك ، سائرة نحو مزيد الإحتداد أخذا بعين الإعتبار لعاملين رئيسيين : أولا منوال التنمية الذي لم تعمل الحكومة الرجعية المؤقتة على تغييره بل تمسّكت بكل مضامينه وآلياته وأدواته وثانيا إحتداد الأزمة الرأسمالية في بلدان أوروبا الغربية التي تمثّل الشريك الأساسي لتونس (توريدا وتصديرا) وعاملين آخرين ثانويين : أولا التخفيض في التصنيف السيادي لتونس وثانيا تدهور قيمة الدينار التونسي. 1.6. منوال تنمية يرتكز على المديونية المتفاقمة كخيار إستراتيجي تتميّز الشّروط الجديدة للمديونيّة التي برزت في بداية ثمانينات القرن العشرين ، في ظلّ العولمة الليبرالية الشرسة ، بتثاقل ملحوظ لعبء المديونيّة. ممّا جعل الكثير مما يسمّى بدول العالم الثالث تواجه صعوبات جمّة في سبيل ضمان تسديد ديونها. ولقد بلغ الأمر بالبعض منها مبلغا جعلها تُشرف على الإفلاس (الأرجنتين سنة 1985 على سبيل الذكر لا الحصر) في المقابل تمثّل ردّ الرأسماليّة العالميّة على ما عرف بأزمة الدين في إخضاع تلك البلدان إلى برامج الإصلاح الهيكلي لبيع مؤسسات القطاع العام من اجل خلاص ديونها. وتعتبر تونس من الدول الأكثر مديونية في العالم ذلك أن حجم الديون الخارجية لوحده قد تجاوز 24 مليار دينار، أي نسبة تداين تساوي 58.5 % من النّاتج الدّاخلي الخامّ مقابل 37.9 % سنة 1986. فعند استيلاء بن على على السلطة إثر إنقلاب 7 نوفمبر كانت تونس مَدِينةً بأقلّ من 5 مليار دولار وعند طرده تركها مدينة بـحوالي 30 مليار دولار. خلال فترة حكمه سدّدت تونس (خدمة الدّين) حوالي 46 مليار دولار وتداين بن علي بما قيمته 39 مليار دولار (ديون جديدة) أي أنّ تونس خسرت 7 مليار دولار (46 نخصم منها 39). نلاحظ إذا أنّ تونس قد سدّدت بعنوان الاقتراض الخارجي أكثر ممّا تلقّت وهو ما يعني بأنّ تونس (وكل البلدان التي تلجأ للإقتراض) هي التّي تموّل المؤسّسات والأسواق الماليّة الدّوليّة وليس العكس أي أنّ البلدان الفقيرة هي التي تقوم بإعانة البلدان الغنية وليس العكس. بعبارة أخرى تُبرم الدّولة التّونسيّة قروضا جديدة لغاية وحيدة ألا وهي تسديد خدمة الدّين الخارجي، وليس بغاية تمويل التّنمية المزعومة. ما يعني بأنّ خدمة الدّين تحُول دون ترجمة النّمو الاقتصادي إلى تحسّن فعلي لمُستوى عيش التونسيّين وذلك نتيجة لتحويل جزء هام من فوائد هذا النموّ نحو دوائر النهب الإمبريالي بالخارج وذلك على عكس ما يدعيه منظروا الفكر الليبرالي السّائد الذين يزعمون أن الدّين الخارجي هو محرّك للتنمية في بلدان العالم الثالث نظرا لأنّه يمكّن من تفادي "النّقص الهيكلي للادّخار المحلّي". ولمزيد دحض هذا الإدعاء نعيد التأكيد بأنّ ميزانية 2012 رصدت مبلغ 098 4 مليون دينار لتسديد أصل الدين (798 2 مليون دينار) وخدمة الدين (300 1 مليون دينار) وهو ما يعني تخصيص حوالي 43 % من الناتج الداخلي الخام لمواجهة أعباء الديون. هذا يعني بكل بساطة أنّ حوالي نصف الجهد التنموي لميزانية 2012 ستستنزفه المؤسسات المقرضة. وللتذكير فإنّ سنة 2011 سجّلت التجاء الحكومة المنصّبة التي قادها الباجي قائد السبسي للتداين بنسق لم يحدث في تاريخ القطر ففي حين بلغ حجم التداين في سنة 2010 : 1.9 مليار دينار ، قفز حجم التداين سنة 2011 بمرتين ونصف وبمبلغ قدر بــ 5 مليار دينار أي بزيادة قدرت بــ 3.2 مليار دينار. تطور إجمالي الدين الخارجي لتونس بين 1980 و2009 (الوحدة : مليون دينار) 1980 1985 1990 1995 2000 2005 2007 2008 2009 خدمة الدين 171 550 1110 1481 2536 2716 3296 3276 3755 الأصل 90 340 739 982 1884 2716 2425 2134 2500 الفوائد 81 210 370 499 652 840 871 1142 1215 المصدر : البنك المركزي التونسي للتذكير يتحكّم أربعة دائنين لوحدهم بما يقارب 66 % من الديون التونسية وهم : الأسواق الماليّة (التي تسيطر عليها الإمبريالية الأمريكية) بنسبة 30.2 % والدّولة الفرنسيّة بنسبة 13.8 % والبنك الإفريقي للتنمية بنسبة 11.8 % وأخيرا البنك العالمي بنسبة 10 %. وعلى سبيل المقارنة بلغت خدمة الدّين الخارجي سنة 2009 ، 3.8 مليار دينار بينما بلغ إجمالي ميزانيّة التعليم العُمومي (أساسي وثانوي وتعليم عالي وتكوين مهني) 2.9 مليار دينار فقط. المديونية تعمّق أزمة النظام العميل اتّسم النصف الأول من سنة 2008 بأطول حركة احتجاج شعبيّة شهدها القطر منذ سنة 1956 إذ مثّلت إنتفاضة الحوض المنجمي التعبير الجماهيري عن الأزمة الاجتماعيّة التي يعاني منها نظام العمالة منذ عدّة سنوات ردّ عليها بقمع بوليسي لم يسبق له مثيل أدّى لإستشهاد 4 شبان وجرح العشرات والزج في السجن بمئات آخرين . وقد أتت إنتفاضة 14 جانفي العظيمة كردّ حتمي لحالة الفقر المدقع التي أصبحت تعيشها الطبقات الكادحة في القطر نتيجة الإختيارات اللاوطنية واللاشعبية واللاديمقراطية. فقد تدهورت كل المؤشرات الإقتصادية نتيجة لثقل حجم المديونية (سواء على مستوى الاصل أوخاصة خدمة الدين) إذ نزلت نفقات التصرف في الميزانية من 17.6 % سنة 2008 إلى 12.8 % فقط سنة 2009 كما نزلت نفقات الأجور خلال نفس الفترة من 10.1 % إلى 6.5 % فقط. أما إحداثات مواطن الشغل فقد شهدت هي الأخرى تراجعا من 13.4 % سنة 2008 إلى 10.3 % سنة 2009 كما تراجعت ميزانية صندوق التعويض من 2.1 % من الناتج الداخلي الخام سنة 2008 إلى 1.5 % سنة 2009. وقد واكب كلّ ذلك ارتفاع حاد لأسعار أغلب الموادّ الأساسيّة وخاصة منذ سنة 2005 ، وهو ما أثر بشكل كبير على السوق المحلّية التي رفعت عنها الحماية الجمركيّة بشكل شبه تامّ على إثر إمضاء إتفاق الشراكة مع الإتحاد الوروبي سنة 1995. وكنتيجة لذلك سجّلت أسعار التفصيل لمجمل الموادّ الأساسيّة في السّوق المحليّة ارتفاعا كبيرا، خاصّة خلال سنة 2010: بنسبة 13.9 % لأسعار الموادّ الغذائيّة كما شمل ارتفاع الأسعار خدمات النقل بزيادة بلغت (9.5 %) والسّكن (7.6 %) وكذلك الحال بالنسبة لأسعار المحروقات التّي ارتفعت بنسبة (19.7 %) إلى غير ذلك من المواد والخدمات. في الختام نتساءل إذا كانت المديونية تسبب كل هذه المآسي فلماذا تصرّ هذه الحكومة التي تدّعي أنها "حكومة الثورة" على إعتماد المديونية كخيار إستراتيجي تخصص له خمس ميزانية 2012 ؟ ألا يحقّ لنا وصفها بأنها حكومة الإلتفاف على الثورة وليس "حكومة الثورة" كما تدعي ؟ 2.6. تفاقم الأزمة الرأسمالية في أوروبا وتداعياتها السلبية على تونس بدأت الأزمة الاقتصادية تصيب دول الاتحاد الأوروبي الواحدة تلوى الأخرى. فبعد كارثة اليونان ها هي بلدان أخرى قد تشهد نفس المصير وهي أسبانيا وإيطاليا والبرتغال وإيرلندا والمملكة المتحدة وحتى ألمانيا التي رفعت في وجهها وكالة موديز للتصنيف السيادي يوم 24 جويلية الجاري "البطاقة الصفراء" بالتهديد بوضعها في التصنيف السلبي. يضاف الى ذلك تراجع أسعار اليورو (هذه العملة التي تربعت على عرش العملات الأجنبية وأعطت قوة إقتصادية وسياسية لدول الإتحاد الأوروبي خلال العقد الأخير من الزمن) إلى أدنى مستوى لها في مقابل الدولار الذي عادت له انتعاشته بعد السنوات العجاف التي أعقبت إنطلاق الأزمة الاقتصادية العالمية سنة 2007 بما عرف بأزمة السوق العقاري في الولايات المتحدة الأمريكية. و قد حذّر رئيس البنك الدولي جيم يونق كيم من أنّ تواصل الأزمة في منطقة اليورو وإحتدادها سيؤدي بالضرورة إلى تدنّي إجمالي الناتج المحلي في البلدان النامية إلى حوالي 4 % او أكثر وهي نسب كافية لإحداث كساد عالمي كبير. لكنّه أضاف أنّه حتى إن أمكن احتواء أزمة ديون منطقة اليورو ومعالجتها بسرعة فإنّ تقلص معدل النمو خلال السنوات القادمة في معظم مناطق العالم شيء لا مفرّ منه. لكن قبل أن نستعرض التداعيات على الإقتصاد التونسي نريد التأكيد على أنّ ما يحدث الآن في بلدان الإتحاد الأوروبي يمثّل بداية الأزمة. ولقد أكدنا سابقا بأنّ الأزمات هي ظاهرة ملازمة للرأسماليّة ومن النّاحية النّظريّة فإنّ المرحلة التي تمتدّ من بداية أزمة حتّى بداية أزمة أخرى تسمّى الحلقة الإقتصاديّة و هذه الحلقة تشتمل على أربعة أطوار وهي الأزمة فالرّكود والإنتعاش ثمّ النّهوض. وهو ما يعني بأنّ ما يحصل في الإتحاد الأوروبي الآن سيتواصل لسنوات عديدة وبالتالي سيكون له تأثير سلبي على تونس. الأزمة : هي الطّور الأساسي من الحلقة المذكورة. وهي تتّسم ، تاريخيّا وقبل ظهور الأزمة الحاليّة ، بفيض إنتاج البضائع الذي ينجرّ عنه هبوط الأسعار بسرعة وكثرة الإفلاسات وإستشراء البطالة وهبوط الأجور وتقلّص التّجارة الداخليّة والخارجيّة. وفي هذا الطّور يتجلّى التّناقض ، داخل النّظام الرأسمالي ، بين نموّ الإمكانيّات الإنتاجيّة والإنخفاض في الطّلب حيث يصطدم المستوى العالي الذي بلغه تطوّر القوى المنتجة بالإطار الضيّق لعلاقات الإنتاج. إلاّ أنّ رأس المال ، وتفاديا للسقوط الحتمي ، يتدخّل للتقليص من حدّة الأزمة ولو بالعنف لتقليص كمّيات الإنتاج حتّى مستوى الطّلب. وهكذا يتحقّق الإنتقال من طور الأزمة إلى طور الرّكود. الرّكود : هو الحالة التي تكفّ فيها الأزمة عن التعمّق عبر قيام رأس المال بتدمير جزئي للبضائع من ناحية وبيع ما تبقّى بأسعار منخفضة وهو ما يعرف بالتّدخّل العنيف لرأس المال (يقع إتلاف البضائع في الوقت الذي يموت فيه الملايين جوعا). وهكذا يظلّ الإنتاج الرأسمالي في حالة ركود حتّى تدفع المزاحمة في سبيل مصادر الموارد الأوليّة الرأسماليين إلى إعادة تجديد الرأسمال الثّابت عبر التحسينات التقنية لخفض كلفة الإنتاج وجعلها مربحّة حتّى مع الأسعار المنخفضة التي تسبّبت بها الأزمة في بدايتها. وهذا هو ما يشجّع نموّ الإنتاج وبالتّالي يخلق المقدّمات الضّروريّة للإنتقال إلى الطور التّالي من الحلقة أي الإنتعاش. الإنتعاش : تواصل المؤسّسات التي صمدت خلال الأزمة تجديد الرأسمال الثّابت وتحسين الإنتاج وتوزيعه ليقترب حجمه من مستواه الذي بلغه قبل بداية الأزمة. وهكذا تنتعش التّجارة من جديد وترتفع أسعار البضائع وتزداد الأرباح. وحين يتجاوز الإنتاج الرأسمالي حدّه الإقصى الذي بلغه قبل الأزمة ينتقل إلى الطور الأخير من الحلقة وهو طور النّهوض. النّهوض : يتجلّى خلال هذا الطّور ميل رأس المال إلى إنماء الإنتاج إلى حدّه الأقصى. فمن جديد يعمل الرأسماليّون على توسيع مؤسّساتهم حرصا على تجاوز بعضهم البعض وسعي بعضهم إلى إحتكار بضاعة ما أو نشاط ما. فيقع فتح ورشات جديدة وتوسيع النّشاط وتسريع وتيرة الإنتاج والرّفع من الإنتاجيّة وهو ما يؤدّي إلى إرتفاع الإنتاج مقابل الطّلب. وهكذا يعود الإنتاج إلى تسجيل فيض جديد ولو بصورة غير مرئيّة ثمّ تتكدّس الفوائض من البضائع وتتراكم بمرور الوقت. وخلال هذه المرحلة العليا من النّهوض تصبح السّوق زاخرة ببضائع لا تجد لها طلبا فتنخفض الأسعار وتنفجر الأزمة من جديد. وهكذا تتجدّد الحلقة كلّها. علما وأنّ هذا الشكل الحلقي من تطوّر الإنتاج الرأسمالي هو نتيجة التناقض المتفاقم بإستمرار بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج وهو يبيّن أنّ الرأسماليّة تضع بنفسها الحواجز في وجه تطوّرها وهي بالتّالي تحمل بذرة فنائها من الدّاخل. وإذا عدنا إلى أزمة اليورو فإننا نقول بأنها من مخلفات الازمة الإقتصادية التي اندلعت في سنة 2007 في الولايات المتحدة الأمريكية لكنها سرعان ما طالت كل البلدان. فقامت البلدان الأوروبية بما فيها اليونان واسبانيا والبرتغال التي تعيش أزمة حادة الآن بإتخاذ إجراءات لحماية اقتصادياتها وخاصة في قطاع البنوك الذي يعتبر القلب النابض للاقتصاد. فعملت هذه الدول على ضخ أموال واعتمادات وقروض لسد العجز المالي في ميزانياتها عبر التداين المفرط. وهكذا أصبحت أزمة منطقة اليورو هي أزمة ديون سيادية (لاحظوا إلى أين يمكن أن تؤدّي المديونية). هذه الأزمة وكثرة المخاوف من حدوث ركود عالمي جديد أدّت إلى القضاء على شهية المستثمرين للدخول في مخاطر جديدة. وعلاوة على ذلك أدى القلق من ارتفاع مستويات الديون الحكومية في جميع أنحاء العالم جنبا إلى جنب مع موجة من تخفيضات مستوى الديون السيادية لبلدان الإتحادالأوروبي إلى انتشار الذعر والقلق في الأسواق المالية العالمية. ولم تفلح المعالجات التي قام بها الإتحاد الأوروبي بدعم من صندوق النقد الدولي في الحدّ من قوة الانفجار الناجم عن أزمة الديون السيادية. ويمكن القول بأن سوق السندات في إيطاليا (وبعد حصول الأزمة في اليونان بإعلان الدولة إفلاسها) قد زادت من إمكانية حدوث تفكك في منطقة اليورو. وإذا لم تتمكن إيطاليا من إيجاد تمويلات بمعدلات فائدة معقولة وإذا لم تتوسع أيضا موارد بقية دول منطقة اليورو لإنقاذها من هذا المأزق المالي الزائد في المتفاقم ، فسوف تندثر أهم ميزة إنبنت عليها منطقة اليورو وهي "معدلات الفائدة المنخفضة" وهو ما سيدفع بعض الدول من الإنسحاب منها وبالتالي تلاشي هذه التجربة. وحتى وإن إستقرّت أوروبا وتجاوزت هذه الأزمة فإنّ معدلات النمو في مختلف بلدان الإتحاد ستتضرر كثيرا نتيجة لحجم الأزمة حتى الآن. ونظرا لذلك فإنّ أزمة الديون في منطقة اليورو سوف تلقي بظلالها على كل الأقطار العربية ومنها تونس. فما هي تداعيات ذلك على الإقتصاد التونسي ؟ التداعيات المباشرة في علاقة بالبلدان الأوروبية الكل يعرف الإرتباط القوي بين الاقتصاد التونسي والاقتصاد الأوروبي خاصة في مجالي التجارة والسياحة (حوالي 80 % من المعاملات التجارية الخارجية تقع مع الإتحاد الأوروبي وحوالي 75 % من السياح الذين يزورون تونس سنويا مصدرهم الإتحاد الأوروبي) فإنّ التأثير السلبي على اقتصادها سيكون كبيرا جدا نتيجة إنخفاض الطلب الأوروبي على الواردات من ناحية وتراجع الإنفاق من ناحية أخرى حيث ستعرف السياحة ركودا كبيرا بسبب انخفاض سعر اليورو وتدني القدرة الشرائية لدى الأوروبيين. كما سيقل نصيب تونس أيضا من الاستثمار الأجنبي المباشر من أوروبا. التداعيات المباشرة في علاقة بالبلدان الخليجية من التداعيات المباشرة المتوقعة لأزمة اليورو على الإقتصاد العالمي الإنخفاض الكبير في الطلب العالمي على الطاقة وخاصة منها النفط حيث إن استمرار انخفاض معدلات أسعار الطاقة لفترة طويلة نتيجة للانكماش الاقتصادي العالمي سوف يؤدي إلى تراجع في كبير في صادرات بلدان الخليج الممول الأول للإتحاد الأوروبي بالطاقة. لكنّ استمرار انخفاض أسعار النفط سوف يجعل تونس عرضة لانخفاض التحويلات المالية والاستثمار الأجنبي المباشر من دول مجلس التعاون الخليجي وخاصة منها قطر والسعودية والكويت والإمارات التي تعتبر البلدان الخليجية الأكثر إستثمارا في تونس. هذا طبعا سؤدي إلى تعطيل بعض المشاريع الضخمة أو إلغائها كما حصل سنة 2010 بعد الأزمة الإقتصادية العالمية والتي ضربت في مرحلة أولى الولايات المتحدة الأمريكية ثمّ مسّت بصفة مباشرة بلدان الخليج حيث وقع إلغاء المشاريع العقّاريّة والمالية الكبرى المتمثّلة في : E "بوّابة المتوسّط" لشركة سما دبي E ”المدينة الرّياضيّة" لمؤسّسة بوخاطر E ”مرفأ تونس المالي" لبيت التمويل الخليجي والتي كان نظام بن علي يعلّق عليها آمالا كبيرة حيث قدّر حجم تلك الإستثمارات بنحو 50 مليار دولار كان من المتوقّع أن توفّر حوالي 350 ألف موطن شغل. وهكذا نلاحظ بأنّ تونس لن تكون في مأمن من هذه الأزمة التي ضربت بلدان الإتحاد الأوروبي والتي لن تزيد إلاّ في تأزيم الوضع الإقتصادي السائر بطبعه نحو وضع صعب جدّا إن لم نقل بأنّه سائر نحو الإنهيار لغياب برنامج إقتصادي يأخذ بعين الإعتبار المشاكل التي إستعرضناها. 3.6. التخفيض في التصنيف السيادي لتونس يجعلها رهينة لدى بعض الدول كثيرون لا يعلمون بأنّ عمليّة التصنيف الإئتماني السيادي للدول تقوم به وكالات التصنيف المختصّة بطلب من الحكومات بهدف التمكّن من الإقتراض من الأسواق المالية العالمية وهو ما حصل بالنسبة لتونس حيث قامت مؤسسة "ستاندارد آند بورز" بإرسال فريق للمعاينة على عين المكان إتصل بمختلف المسؤولين في الوزارات وجمع المعطيات ثمّ قام بتحرير تقرير أعتمد لإصدار قرار الترقيم الذي مرّ من "ب ب ب" سلبي مع آفاق مستقرة في شهر مارس 2011 إلى "ب ب ب" سلبي مع آفاق سلبية في شهر جوان 2012 وهذا التصنيف يضع تونس في صنف المضاربة وهذا يعني إقراضها بنسب فائدة عالية جدّا. علما وأنّ هذا الترقيم هو الأخير قبل إعلان الإفلاس مثلما حصل لليونان. وقد عزت الوكالة تخفيض تصنيف تونس إلى "ضعف مؤشرات الإقتصاد والمالية العامة والدين الخارجي وغياب رؤية إقتصادية عامة للدولة". وتتمثّل خطورة هذا التصنيف في أنّ الوكالة المذكورة قد وضعت تونس في منطقة البلدان ذات النسبة العالية من المخاطر وتنصح بعدم إقراضها أي أنّ تونس تصبح تبعا لذلك منبوذة داخل السوق المالية العالمية. وبالتالي يصبح الملاذ الوحيد لتونس هو الإقتراض من الدول بضمان أمريكي. لكن هذا الضمان محدود في القيمة أي "مليار دولار" فقط. وقد تحصلت تونس على نصف هذا المبلغ تقريبا بينما الحكومة الرجعية المؤقتة في حاجة ، حسب ما ورد في قانون المالية التكميلي إلى أكثر من 000 4 مليار دينار. وفعلا فقد إتجهت تونس إلى الإقتراض من 3 دول هي الأقرب لهذه الحكومة الرجعية وهي أمريكا وقطر وتركيا لكن بشروط مجحفة تمسّ من "السيادة الوطنية" (هذا إن كانت هناك سيادة وطنية). فقطر ومقابل القروض بدأت في إبتزاز الحكومة الرجعية المؤقتة بالمطالبة بالحصول على عديد المشاريع الإقتصادية الضخمة مثل مصفاة الصخيرة ومنجم سراورتان دون منافسة مع أي دول أخرى وهو ما يعني فرض شروطها من حيث مبلغ الإستثمار. تركيا فعلت نفس الشيء حيث تحصّلت هي أيضا على عديد المشاريع الضخمة وخاصة وضع يدها على إحدى أكبر المؤسسات الإقتصادية العريقة في القطر ألا وهي معمل الفولاذ بمنزل بورقيبة حيث أكّدت الحكومة الرجعية المؤقتة على تمكين الأتراك من الإستحواذ على نسبة كبيرة من رأس المال المؤسسة التي تعمل على خوصصتها إنسجاما مع منوال التنمية الذي تطبّقه والذي وضع أسسه نظام بن علي العميل. أمّا أمريكا فقد وجدت الفرصة سانحة لتحقيق حلم لطالما راودها وهو المتعلّق بتركيز قواعد عسكرية تمكّنها من مراقبة بلدان شمال إفريقيا وكذلك بلدان الساحل الإفريقي بحكم الموقع الإستراتيجي لتونس فقامت بإبتزاز الحكومة الرجعية من أجل تحقيق هذا الهدف. 4.6. تهاوي الدينار التونسي يزيد في تفاقم الوضع الإقتصادي في حادثة نادرة تهاوى الدينار التونسي وإنزلق سعره بنسبة 18.5 % مقابل الدولار الأميركي على امتداد سنة (يعادل حاليا سعر الدينار التونسي مقابل الدولار 1.614) وهو ما يؤشر على صعوبات اقتصادية كبيرة تشهدها تونس منذ إنتفاضة 14 جانفي وزادت إحتدادا بسبب عجز الحكومة الرجعية المؤقتة على وضع برنامج متكامل لإنعاش الإقتصاد ومن الآثار السلبية لتهاوي الدينار هو تهديد قدرة تونس على استيراد السلع بالعملة الأجنبية. لكن إذا أردنا التفصيل أكثر نقول بأنّ هذا الهبوط يعود بالدرجة الأولى إلى تراجع احتياطي تونس من العملة الأجنبية حيث أنّ قيمة احتياطي تونس من هذه العملة يعادل حاليا حوالي 10 مليار دينار وهو ما يغطي 100 يوم فقط لتوريد سلع من الخارج ويعتبر ذلك مؤشرا خطيرا حيث أنّ القيمة الدنيا للإحتياطي من العملة الأجنبية المقبولة اقتصاديا والتي تجنب الدولة صعوبات لدى تمويلها السلع الموردة هي توفر ثلاثة أشهر توريد على الأقل بالعملة الأجنبية. هذا الاستمرار في هبوط سعر الدينار ربما يؤدي إلى إلغاء إجراء قابلية التحويل الجاري أو المحدود للدينار التونسي مقابل شراء سلع من الخارج والتي يسمح بها لشركات التصدير والتوريد وهو ما سيعرقل نشاط هذه الشركات بشكل كبير ويؤثّر على الميزان التجاري التونسي. لكنّ الأخطر من ذلك هو أنّ تراجع سعر الدينار التونسي سيؤدّي بالضرورة إلى إرتفاع تكلفة تسديد الديون الخارجية لتونس بالعملة الأجنبية وما يعنيه من عبء إضافي على كاهل الخزينة العمومية للدولة المطالبة بتسديد قروض خارجية بعشرات المليارات من الدنانير وهو ما سيزيد في الضغط على ميزانية الدولة لسنة 2012 التي حدّدت عجزا بحوالي 6.6 % وهو ما يعني بأنّه سيقع تجاوز هذه التقديرات بشكل يزيد في خطورة الوضع الإقتصادي والإجتماعي للأشهر والسنوات القادمة. لكن إضافة إلى هذه المخاطر التي تهمّ الإقتصاد الكلّي فإنّ الخطورة الثالثة المتوقّعة والتي ستنعكس مباشرة على وضع الاستهلاك في تونس وبالتالي ستنعكس مباشرة على المقدرة الشرائية للكادحين هي ارتفاع مؤشر أسعار المواد الاستهلاكية المقدر حاليا بأكثر من 5.5 % علما وأنّ تونس تعاني أصلا منذ أشهر عديدة من ارتفاع في أسعار المواد الاستهلاكية وتضخمها لم يسبق له مثيل حتى في أحلك الفترات الإقتصادية السابقة لـ 14 جانفي وهو ما ينذر بردّات فعل غير منتظرة. لكنّ الخطير في هذه الوضعية هو أنّ جماهير شعبنا المفقّرة (عمال وفلاحين وبورجوازية صغيرة) وفي ظل الإرتفاع الكبير للأسعار حوّلت وجهتها نحو الإستهلاك وبالتالي التخلّى تماما عن الإدّخار في ظل ضعف فائدة الادخار التي لا تتجاوز 2 % (مقابل تضخم فاق 6 %). والمعروف من الناحية الإقتصادية أنّ نتيجة مثل هكذا ممارسة تؤدي بالضرورة إلى صعوبات في الإقراض البنكي في ظل انكماش الادخار وهو ما يدفع ضرورة بالبنوك التجارية إلى الإلتجاء إلى البنك المركزي لضخ سيولة لا تقابلها في حقيقة الأمر ثروة اقتصادية حقيقية. وفعلا فإنّ حجم إعادة التمويل الذي يوفره حاليا البنك المركزي لفائدة البنوك وصل إلى حوالي 4 مليار دينار مقابل 2 مليار دينار في نفس الفترة من العام الماضي (أي الضعف) وهو ما يمثّل خطورة كبيرة على التوازنات المالية في القطر ويزيد في إرتهانها إلى الخارج عبر التعويل على المديونية التي رأينا إلى أين أوصلت بلدانا مثل اليونان وأسبانيا والبرتغال وغيرها من بلدان الإتحاد الأوروبي. أمّا الحل الوحيد الذي أراه للحدّ من هذه الأزمة النقدية فهو يتمثّل في التعجيل بالترفيع من الأجور حتى نشجّع على مزيد من الإستهلاك وبالتالي نساهم في دوران عجلة الإقتصاد بمأمن عن المخاطر الخارجية التي لا نتحكّم فيها إضافة إلى الترفيع في نسبة فائدة الإدخار الضعيفة جدّا والتي لا تشجّع حاليا المواطنين على الإدخار. ما العمل ؟ في ظل هذه الصفحة القاتمة لما عليه الوضع الإقتصادي والإجتماعي وكذلك الوضع السياسي الذي زادته قتامة الحملة الممنهجة التي تقف وراءها حركة النهضة الحالمة بنموذج حكم على الشاكلة السعودية أو السودانية والتي تمسّ من الحريات العامة والفردية للمواطن التونسي (غلق المقاهي والمطاعم خلال أيام رمضان بالقوة ، الإعتداء المتكرّر على النسوة والفتيات من طرف بوليس أصبح يمارس دور "شرطة الأخلاق" ، الإعتداء المتكرّر على الصحافيين ومحاولة تدجين الإعلام ، توضيف الجهاز القضائي لخدمة مشاريع الحكومة الرجعية المؤقتة ، التغاضي المقصود عن فتح الملفات الحارقة التي طالب بها الشعب المنتفض ومنها خاصة ملفات القناصة والبوليس السياسي وشهداء وجرحى الإنتفاضة ، الإستهداف المتكرّر للإتحاد العام التونسي للشغل والمسؤولين النقابيين وآخرها حادثة النقابة الأساسية للصحة بمستشفى الهادي شاكر بصفاقس ...) فإنني شخصيا لا أرى غير الدفع في إتجاه المسار الثوري من أجل تحويل الإنتفاضة إلى ثورة. وعلى القوى الثورية أن تتّحد في جبهة وطنية ديمقراطية تجعل على رأس جدول أعمالها إسقاط النظام ولا شيء غير ذلك والإبتعاد عن أوهام المشاركة البرلمانية التي لم تكن في يوم من الأيام إلاّ تكريسا حقوقيا لبرامج ورؤى ومصالح الطبقات المستغلّة (بكسر العين) ومن ورائها الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية. د. عبدالله بنسعد صفاقس في 27 جويلية 2012
#عبدالله_بنسعد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
على هامش الإنتخابات الرئاسية الفرنسية : لا علاقة لفرنسوا هول
...
-
المشروع الفلاحي السويسري بالصحراء التونسية : هل هو حقا لإنتا
...
-
المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد. ا
...
-
المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد. ا
...
-
المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد. ا
...
-
المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد. ا
...
-
المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد. ا
...
-
غرّة ماي مابين سنتي 1886 و1889 من إنتفاضة العمّال بشيكاغو إل
...
-
الأهداف الإستراتيجية للحرب على الإرهاب
-
الأهداف الإستراتيجية للحرب الإمبرياليّة على العراق (الجزء ال
...
المزيد.....
-
وقف إطلاق النار في لبنان.. اتهامات متبادلة بخرق الاتفاق وقلق
...
-
جملة -نور من نور- في تأبين نصرالله تثير جدلا في لبنان
-
فرقاطة روسية تطلق صواريخ -تسيركون- فرط الصوتية في الأبيض الم
...
-
رئيسة جورجيا تدعو إلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة
-
وزير خارجية مصر يزور السودان لأول مرة منذ بدء الأزمة.. ماذا
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير بنى تحتية لحزب الله في منطقة جبل
...
-
برلماني سوري: لا يوجد مسلحون من العراق دخلوا الأراضي السورية
...
-
الكرملين: بوتين يؤكد لأردوغان ضرورة وقف عدوان الإرهابيين في
...
-
الجيش السوري يعلن تدمير مقر عمليات لـ-هيئة تحرير الشام- وعشر
...
-
سيناتور روسي : العقوبات الأمريكية الجديدة على بلادنا -فقاعة
...
المزيد.....
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
المزيد.....
|