|
الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المنظور الثقافي الاسلامي- عند الدكتور محمود الذوادي (5)
بيرم ناجي
الحوار المتمدن-العدد: 3801 - 2012 / 7 / 27 - 23:58
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الفصل الخامس
" الرؤية الإسلامية " للثقافة واغترابها عن منظور العلوم الاجتماعية.
نتعرض في هذا الجزء الأخير، باختصار، إلى كتاب الدكتور محمود الذوادي " الثقافة بين تأصيل الرؤية الإسلامية واغتراب منظور العلوم الاجتماعية"( م58 ) وقد جمع الدكتور فيه أهم الدراسات التي كان قد نشرها سابقا ، والتي استعرضنا أهمها في الفصول الأولى من عملنا ، وأضاف عليها بعض المقدمات والتحويرات البسيطة غالبا.
كما احتوى الكتاب على فصلين جديدين سنركز البحث النقدي حولهما و نربطهما ببعض الإضافات الجزئية الأخرى باختصار. إن كتاب الدكتور الجديد يحتوي على تكرار شديد أحيانا لبعض الموضوعات، لذلك سوف يضطرنا إلى العودة معه إلى بعض النقاط التي سبق أن رأيناها، وسنحاول من جانبنا تجنب تكرار الملاحظات إلا عند الضرورة القصوى. لكن الكتاب... يحتوي على تعديل لبعض الجوانب التي سبق أن نقدناها في الفصول السابقة، فهو مثلا يقوم بعروض مختصرة لبعض تعريفات علماء الاجتماع و الانثروبولوجيا ا لثقافية، وهو ما كان أهمله نسبيا في الدراسات السابقة، كما أنه عدّل من تعريبه لعبارة Sociologie Réflexive عند بورديو والتي كان عربها بعلم الاجتماع النقدي وصحح الأمر فأصبح " علم الاجتماع المتأمل في ذاته" (ص99) الخ. لكن جوهر الأمور بقي ثا بتا إن لم يكن قد ازداد انحدارا مع الأسف. سنقوم إذن، باختصار، بتقديم ملاحظات مركزة حول النقاط الجديدة المعروضة في الكتاب وكذلك بعض التفاصيل الجديدة في المواضيع السابقة وسنركز خاصة على فصلين متبعين نفس التوجه القائم على خطين تحليليين؛ ـ الأول : توضيح اختلاف " المنظور الثقافي الإسلامي" عند الدكتور مع العلوم الاجتماعية وحتى بعض العلوم الطبيعية، اختلافا جذريا. ـ الثاني : رفض فكرة " المنظور الثقافي الإسلامي" من خلال مقارنتها بتصورات دينية أخرى إسلامية أيضا. إن هدفنا من هذا العمل هو الدفاع عن تنوع العقل السوسيولوجي ( والعلمي عموما) والفكر الديني ضدّ فكرة " التطابق" بين ا لعلم والدين التي يزعم الدكتور أن منظوره يحققها، مما يهدد البحث العلمي والاجتهاد الديني في نفس الوقت.
يعتبر الفصلان الأول والخامس من كتاب الدكتور محمود الذوادي من الفصول الجديدة ويتمحور هذان الفصلان حول الإجابة عن سؤال طرحه وهو: " لماذا للبشر أمد حياة أطول؟ ". في هذين الفصلين يبين الدكتور مرة أخرى، حسب اعتقادنا، أن لا علاقة لما يكتبه بالدين الإسلامي، كما يفهمه أغلب المفسرين والمسلمين على الأقل، ولا بالعلم الحديث على السواء وذلك بسبب تصوره الخاص جدا عن مفهوم الروح من ناحية وبسبب مغالطاته العلمية وتبنيه تصورا أرواحيا – غائيا في البيولوجيا لا علاقة له بالدراسات البيولوجية الحديثة. أما في السوسيولوجيا فإن الأمر بنفس درجة الخطورة كما رأينا، وكما سنرى في هذا الجزء الجديد من عملنا.
* 1: اعتراف.
في البداية، يعترف الدكتور في توطئة كتابه قائلا " نطرح في الفصل الخامس من الكتاب سؤالا لا تكاد تثيره لا التخصصات المعرفية الحديثة ولا عامة الناس. السؤال هو: لماذا يتمتع أفراد الجنس البشري عموما بأمد حياة أطول من غيرهم من أفراد كائنات الأجناس الحية الأخرى؟ إذا كان السؤال يتصف بالندرة، فإن الإجابة عنه في هذا الفصل هي إجابة جديدة وربما غير مسبوقة، حسب علمنا " (ص 20).
أما نحن فنعتبر أن السؤال الذي طرحه الدكتور عادي تماما ـ وهو نفسه سيعترف بذلك لاحقا كما سنرى ـ لكن مع الأسف الشديد فإن الإجابة التي قدّمها الدكتور هي " النادرة" ولكن بمعنى الطرفة. المهم الآن أن نسجل ما يلي: " لقد اتصل الدكتور الذوادي بمجلة " Scientific American" ليبحث عن جواب لسؤاله فلم يجيبوه، ( ص31) كما أنه اتصل " بالجمعية الجغرافية الوطنية " و كذلك مجلة " Discover " بالولايات المتحدة " (ص 142) فخيبوا أمله أيضا. ولكن رغم أن الدكتور وجد نفسه " في موقف حرج إن لم يكن متناقضا " (ص142) بين ترك الفكرة وقبولها، أصرّ على الاعتقاد " أن فكرة الترابط ( بين الرموز الثقافية وطول أمد حياة الجنس البشري) هذه هي فعلا فكرة جديدة، فتحتاج إلى البحث الواسع والمتعمق حتى يمكن تعزيز صدقيتها، فاخترنا البديل الثاني رغم ما فيه من تحديات علمية وأخطار كبيرة للباحث الذي لا يكاد يجد له من رفيق على هذا الدرب" (ص 142). اختار الدكتور، إذن ، التصدي للسؤال " النادر" هذا و حاول الإجابة عليه وقد أوصلته الإجابة إلى الاعتراف التالي: " ليست مقولة هذا الفصل مستوحاة من مطالعاتنا باللغات العربية والإنجليزية و الفرنسية في العلوم الاجتماعية والتخصصات الأخرى المرتبطة بها، ولا من اتصالاتنا الأكاديمية والعلمية مع الأصدقاء الزملاء في الجامعات ومراكز البحوث والمؤتمرات والندوات الفكرية في العديد من بقاع العالم. قد صدمنا أول الأمر عندما بدأت فكرة الترابط (corrélation) بين الرموز الثقافية وطول أمد حياة الإنسان تأخذ طريقها تدريجيا في تفكيرنا" (ص141) كما صدم معه عالم الاجتماع الأمريكي سملسر، عندما طرح عليه السؤال (ص266)، ولكن الصدمة زالت عندما حدّث الدكتور " الزملاء والأصدقاء والطلبة" (ص141) وعرف أنهم لم يفكروا في الأمر أيضا. إن كل هذه المقدمات الدرامية " للاكتشاف العلمي" الذي سيعرضه الدكتور تحاول إضفاء هالة المعاناة والمكابدة على العالم الجليل الذي ألهمه الله طرح سؤال نادر مرة ثم ألهمه إجابة نادرة أيضا عن السؤال في المرة الثانية وهو وحيد " لا يكاد يجد له من رفيق على هذا الدرب".
إن كل هذه المقدمات لا قيمة لها تماما لسبب بسيط، هو أن الجميع يعلم أنه توجد علاقة بين " الثقافة وطول أمد حياة الإنسان"، فكل إنسان يعرف أن تطور الطب مثلا يساعد على إطالة أمد الحياة ولكن الدكتور وحده يقول إن مدى الحياة عند الإنسان هو الأطول مقارنة بكل "الكائنات الحية" الأخرى و يفسره تفسيرا غريبا. أما العلماء فلا يقولون أن الإنسان هو أطول الكائنات عمرا و يعتبرون أن مدى حياة الكائنات الحية محدد بيولوجيا بسبب التكوين الجيني الخاص ولكن في علاقة بالمحيط. وبما أن الإنسان لا يعيش فقط في محيط طبيعي بل كذلك في محيط اجتماعي فإنه حتما يتأثر بالثقافة بمعناها الانتروبولوجي العام، أي ليس فقط " بالعقل" بل بالعمل والطب وممارسة الجنس والغذاء وممارسة الرياضة...الخ.
2 : اعتراف ثان و مغالطتان علميتان.
في الواقع يعترف الدكتور بهذا الأمر لكنه لا يقبل به بسبب تعريفه للإنسان. يقول: " تميل رؤية علمي البيولوجيا والمورثات إلى تفسير تمتع أفراد الجنس البشري بأعمار أطول من أعمار أفراد أجناس الكائنات الأخرى بسبب التركيبة البيولوجية ونوعية المورثات التي يختص بها الجنس البشري" (ص143). ولكن لا يقبل الدكتور بهذا التفسير العلمي ويتساءل: ولماذا يتمتع الإنسان دون سواه بهذه التركيبة البيولوجية وهذه النوعية الخاصة من المورثات؟ (ص 144). وهو لا ينته أنه بإمكانه طرح نفس السؤال على كل كائن حي يمثل نوعا منفصلا، سواء كان " متميزا" أم لا. طبعا السؤال مشروع، ولكن الإجابة عنه، بالنسبة لعلماء البيولوجيا والجينات ستكون "بيولوجية جينية" إذ سيقولون إن ذلك يعود إلى تطور نوع خاص من القردة إلى الكائنات الشبيهة بالإنسان ثم إلى الإنسان الحديث بفضل تفاعل العوامل الجينية والانتخاب الطبيعي في علاقة بالمحيط الطبيعي والاجتماعي. وقد يلتجئون إلى الصدفة أو إلى حجة أخرى حسب الاختلاف بين مدارس البيولوجيا و الانثروبولوجيا وغيرها، أما الدكتور فجوابه سيكون " سوسيولوجيا إسلاميا " كما سنرى لاحقا. هذا كان بالنسبة إلى الاعتراف. فماذا عن المغالطتين العلميتين؟
ـ المغالطة الأولى: الإنسان أطول عمرا من كل الكائنات الحية الأخرى، ( والدكتور يعطي عيّنة من الحيوانات)، بينما مفهوم الكائنات الحية ينطبق علميا ودينيا حتى على النباتات أيضا.
إن العلم يعتبر النباتات كائنات حية مثلها مثل الحيوان والإنسان، وفي هذه الحالة، على الدكتور أن يثبت أن الإنسان يتمتع بمدى حياة أطول من النباتات، وهذا أمر خاطىء يعرفه أي إنسان عادي بمجرد السؤال عن أعمار بعض الأشجار المحيطة به. كما أن الدين الإسلامي يعتبر النباتات كائنات حية، فالقرآن عندما يقول إن الله خلق من الماء كل شيء حيّ لا يقصد به الحيوان والإنسان فقط بل والنبات أيضا.
لكن عند الوصول إلى هذه النقطة تبدأ مشكلة حقيقية بين العلم والدين، يبدو أن الدكتور يريد التهرب منها، هذه المشكلة هي التالية: يعتبر القرآن النباتات كائنات حية، ولكن لا يقول إن لها أرواحا، فهي عبارة عن " شيء حي" دون روح. والنص القرآني عندما يذكر النباتات يحيل إلى كونها أزواجا هي الأخرى (ذكر وأنثى حسب المفسرين في إشارة إلى عملية التلقيح النباتي)، مثل الحيوانات والبشر. أما العلم، فعندما يدرس الكائنات الحية عموما، لا يعترف لأي منها، بما في ذلك الحيوان والإنسان، بوجود روح، بل يكتفي بتحليل مادي صرف لها. إن تعريف الحياة في العلم واحد ويرتبط بتفاعلات فيزيائية – كيميائية تنتج ما يسمى البيولوجيا، سواء النباتية أو الحيوانية أو البشرية التي تختلف عن بعضها بالتأكيد، وتختلف حتى داخل كل صنف من هذه الأصناف أحيانا، ولكنها تتقاطع مع بعضها أيضا إلى درجة صعوبة تحديد نوع بعض الكائنات هل هي نباتية أم حيوانية، إلا بواسطة دراسة مجهرية دقيقة للخلايا الحية عندها. إذ أن الفاصل بين النباتي والحيواني هو وجود أو عدم وجود الخضاب في الخلية الحية. فالفارق بين الحيوان وحيد الخلية عن نبات وحيد الخلية هو أن النبات عنده (pigment) خضاب (صبغة) عكس الحيوان... ولا مكان للروح تماما في المقارنة العلمية بين الاثنين.ويقول ماكس دو سيكاتي في هذا الصدد ما يلي ؛ " في الوقت الذي تمتلك فيه الخلية النباتية أخضبة ـ مثل الكلوروفيل ـ تفتقدها الخلية الحيوانية . هذه الأخضبة تمثل الحد الفعلي بين عالمين، عالم النباتات و عالم الحيوانات" (م 59 ، ص10)
كما أن الاختلاف بين العلم و الدين حول تعريف الحياة يتعلق أيضا بظاهرة التكاثر في عالمي النبات و الحيوان على السواء في علاقة بضرورة وجود ازدواج جنسي لحصول التكاثر. فإذا كان القرآن يؤكد على ضرورة وجود زوجين للإنجاب عند البشر أو الحيوان أو النبات ( و خاصة النبات المثمر ) يقول العلم إن ذلك الأمر لا يعمّم على كل الكائنات الحية. فالتناسل النباتي والحيواني أحيانا، لا يتم بالضرورة نتيجة الزواج ( بمعنى ازدواج جنسين عموما) فهنالك أشكال أخرى للتناسل عند النبات والحيوان عبر ما يسمى التكاثر اللا جنسي. كما أن بعض الثمار النباتية لا تحتاج تماما إلى تلقيح بين عنصر ذكري وآخر أنثوي مثل الموز وبعض أصناف (وليس كلها) الأناناس و التين و البرتقال و العنب... ( انظر موريس بوكاي ، مرجع سابق ،.ص236) والحال إن الثمار، هي التي تحتوي على نواة ( أو بذور) النبتة الجديدة التي ستنمو من جديد، أي هي بداية التكاثر اللاحق حسب التصور الديني. فالتكاثر النباتي و الحيواني، إذن، قـد يتم دون تناسل بن عنصر ذكري وآخر أنثوي إنما عبر الانقسام فقط أو عبر التفريع، كأن ينتج عن جذر ( أو حتى عن غصن أو ما شابه) نشوء الجيل الجديد من النبتة ذاتها وهذا يخلق مشاكل مع عدد كبير مع الآيات القرآنية ـ إذا فسرت حرفيا ـ التي تقول مثل ما أتى في الآية الثالثة من سورة الرعد. " وهو الذي مد الأرض ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين " على سبيل المثال. الاختلاف واضح بين الدين ـ إذا أصرينا أنه يحتوي على معارف و علوم ـ والعلم حول تعريف الحياة و يوجد أيضا في مسائل تجدد الحياة عبر ما يسمى " التكاثر".
ـ المغالطة الثانية: تتمثل في تقديم الدكتور الذوادي لعينة من معدلات أعمار بعض الحيوانات كما يلي: " الأسود 15 سنة و النمور 16 والنعاج 12 سنة و البقر 15 سنة و الخنازير 10 سنوات و الأرانب 5 سنوات وقردة الغوريلا 20 سنة و الخيول 20 سنة والفيلة 40 سنة" (ص 143) انظر أيضا (ص 27).
وتكمن المغالطة في أنه (داخل العالم الحيواني نفسه) لم يواصل ذكر أمثلة تفوق معدل أعمار البشر، فالمعروف أن البرمائيات، ومنها بعض السلاحف خاصة، يصل معدل أعمارها أحيانا إلى 200 سنة وسمك القرش قد يعيش أكثر من ذلك بكثير..الخ.. فلماذا طرح سؤالا حول " انفراد" أو "تميز" الإنسان بمدى حياة طويل في حين أنه توجد حيوانات تعيش ضعف مدة حياة الإنسان تقريا؟ وهل سيغير الدكتور بحثه مستقبلا ليسأل: " لماذا مدى حياة السلاحف هو الأطول ?. هل يجهل الدكتور هذه المعلومة أم يتجاهلها عمدا لأنها تقوض سؤاله وكل ما سيبنيه عليه من إجابات واستنتاجات ؟ إذا كان يجهل، وهو ما نشك فيه، فعليه أن يسأل أكثر ويتثبت وهو يقوم " ببحث علمي أساسي" ويقدم " باراديغما جديدا" في كل العلوم على ما يبدو. أما إذا كان يتجاهل ذلك، فنعتقد أن " أخلاقيات العلم الإسلامي" التي يدعونا لإتباعها يفترض أن تدعوه لغير ذلك. في الواقع، نحن نعتقد أن المشكلة الحقيقية هي في أن الدكتور سجن نفسه داخل تصور معين عن الإنسان وسبّب ذلك تحاشيه لمثل هذه الأمور المشوشة على النسق الذي يتبناه والتي قد تذهب زهوه بفتوحاته العلمية.
3: الدكتور يقدّم فرضيته:
يقول الدكتور أنه من أجل تفسير ظاهرتي النمو الجسمي البطيء عند الإنسان وطول عمره لا بد من طرح الفرضية التالية: " تمثل فرضيتنا الرئيسية هنا في اعتقادنا أن منظومة الرموز الثقافية التي يتميز بها الكائن البشري عن بقية الكائنات الأخرى هي التي ينبغي أن تكون العامل القوي المرشح لمدنا بالفهم والتفسير المناسبين للظاهرتين المذكورتين" (ص32). إن صياغة الدكتور لما يسميه " فرضيتنا الرئيسية" هي في الواقع صياغة غير علمية لأنها مرتبطة " باعتقاد" مسبق، على ما يبدو، بما يريد الوصول إليه. إن فرضيته تبدو أقرب إلى الفكرة المسبقة التي " ينبغي أن تكون العامل القوي المرشح لمدنا بالفهم والتفسير". إذن، يبدو أن الدكتور ليس مستعدا مثلا أن يستنتج بطلان فرضيته، فهو يقدم فرضية " يجب أن تكون صحيحة" بسبب "اعتقاده" الشخصي. إن هذه الطريقة في تقديم الفرضيات لا علاقة لها بالعلم الذي يطرح الفرضية ويتحقق من مدى صحتها أو خطئها في نفس الوقت. أما إذا كانت "الفرضية" منطلقة من "اعتقادنا" ولا بدّ أن " تكون العامل القوي المرشح لمدّنا بالفهم والتفسير" فهذا يجعلها ليست فرضية مطروحة للإثبات أو النفي، بل يجعلها مسلّمة مطروحة للإثبات الدوغمائي لا غير.
إن ما يعزز استنتاجنا هذا هو التالي: يقول الدكتور: إن المعطيات العلمية في " ميادين العلوم الطبيعية والاجتماعية" التي تسمح بالإجابة المعززة للفرضية غائبة الآن. " وبسبب غياب هذه المعطيات في الوقت الراهن أو استحالة توفرها لأسباب مختلفة في المستقبل القريب أو البعيد، فإنه يجوز علميا طرح مناهج أخرى لسبر الظاهرة قيد الدرس للتعرف على أسباب وجودها وحيثياته" (ص33). إذن، العلوم الطبيعية والاجتماعية لا تعطي الدكتور إجابة والمعطيات غائبة الآن وستكون غائبة في " المستقبل القريب أو البعيد" والحل هو " طرح مناهج أخرى". فهل ستكون " المناهج الأخرى" علمية في هذه الحالة ؟ هذا ما سنراه لاحقا، أما الآن فلنعد إلى الفرضية نفسها ولنفحص كيف قدّمها الدكتور من حيث المحتوى. قال: "...طبيعة منظومة الرموز الثقافية وكيفية ومدى تأثيرها على هندسة بيولوجيا الإنسان وعلى سلوكاته الفردية والجماعية" (ص33). إذا كان الدكتور يقدم فرضية للبحث حول العلاقة بين "منظومة الرموز الثقافية" و"هندسة بيولوجيا الإنسان" فهذا مفهوم، ولكن هل مازال يبحث أيضا في كيفية ومدى تأثير "الرموز" على سلوكيات الإنسان الفردية و الجماعية"؟ وهل يعتبر البحث في هذا الأمر أيضا من اكتشافاته العلمية ومن " الأسئلة النادرة"؟ هل مازالت علوم الإنسان و الاجتماع تطرح هذه العلاقة بين متغيري الثقافة والسلوك ضمن فرضيات؟؟
4: " القدرة التفسيرية للفرضية"
يطرح الدكتور التفسير التالي للارتباط بين " الرموز الثقافية" وطول حياة الإنسان ونموه.
يقول: " يمكن افتراض أن متطلبات النمو على جبهتين هو الذي يقف وراء ظاهرة البطء الشديد ليس على مستوى النمو البيولوجي الفزيولوجي فقط وإنما أيضا على المستوى ا لرموزي الثقافي عند الإنسان" (ص34). إذن، الحيوان لا ثقافة له وبالتالي نموّه سريع لأنه يقع على جبهة واحدة بيو- فزيولوجية. أما الإنسان، فبسبب كونه جسدا و روحا، فزيولوجيا و " رموز ثقافية"، فنموه " يتصف بالتعقيد" و بطيء. إن ما يحاول الدكتور فعله هنا هو القطع مع التصور العلمي الذي يقول إن الجينات البشرية ذات خصوصية تجعل أمد الحياة طويلا وتجعل طفولة البشر طويلة، داخل، وفي تفاعل مع المحيطين الطبيعي والاجتماعي. إذ لو اقتصر الأمر على هذا لما اعتبرنا سؤال الدكتور " نادرا". إنه يحاول إقحام تصوره عن "الإنسان الرموزي" في البيولوجيا والاجتماع في نفس الوقت ليصل إلى ما يلي: " يمكن اعتبار ازدواجية الإنسان (الجانب الرموزي الثقافي والجانب الجسدي) هي العامل الحاسم في بطء عمليات النمو على المستويين عند أفراد الجنس البشري..." (ص34). إذن، نحن بصدد العودة مع الدكتور إلى " العامل الحاسم" الشهير. إن الغريب في الأمر أنه عندما طرح المسألة عبّر عنها بـ" فكرة علاقة الترابط Corrélation بين الرموز الثقافية وطول أمد حياة الإنسان" (ص 141)، كما رأينا و لكن الدكتور ينسى ان فكرة الترابط (la corrélation) الشهيرة عند فيبر هدفها بالتحديد رفض فكرة "العامل الحاسم". والأغرب من ذلك، أنه في معرض تناوله للموضوع ذكر إدغار موران مرة أخرى، وادعى أن تصوّره يتناغم مع نظريات التعقيد الحديثة قائلا: "إن مثل هذا الطرح هو طرح متناغم مع الرؤى العلمية الجديدة التي تنادي بتجاوز الرؤى الأحادية الضيقة الأفق إلى رؤى متعددة الأبعاد و تقبل مبدأ دراسة الأشياء على أنها ظواهر معقدة تؤثر فيها عوامل مختلفة، من جهة، وتتبادل هذه العوامل المؤثرة عمليات التأثير فيما بينها، من جهة ثانية" (ص150).
هكذا، وكالعادة، يقول الدكتور الشيء ونقيضه في كل الأمور، من ناحية يذكر مصطلح الترابط (corrélation) الفيبري ونظرية التعقيد عند إدغار موران، ولكن من ناحية أخرى يتحدث عن " العامل الحاسم" الذي يرفضه فيبر و موران في تصوريهما السوسيولوجيين إطلاقا.
إن تخبط الدكتور النظري- في " باراديغمه الجديد- هو سبب كل هذا. انه يعتقد أن مجرد ذكر " الازدواجية " يقربه من فكرتي الترابط و التعقيد لكنه يقول مرة إن " ازدواجية الإنسان" هي العامل الحاسم ولكن بعد ذلك بقليل يقول: " إن الطرف الأول الفاعل في تلك الازدواجية في مسألة بطء عمليات النمو العام عند الإنسان يتمثل في الرموز الثقافية" (ص34). ثم يقول لاحقا: " وهكذا يتجلى بأن منظومة الرموز الثقافية هي العمود الفقري في هوية الإنسان وهي المفتاح ليس لفهم وتفسير اجتماعية الإنسان فقط، بل لفهم وتفسير حتى بعض جوانب بيولوجيا وفزيولوجيا الجسم البشري، كما رأينا"(ص35). من نصدق، الدكتور الداعي إلى "الترابط" و"التعقيد" أم الداعي إلى " العامل الحاسم" و" العمود الفقري" و"المفتاح"؟ لكن التخبط النظري الذي ذكرناه يرتبط بآخر له علاقة بالتصورات التي يحملها الدكتور عن " طبيعة الإنسان" وعن " الروح" وعن " الرموز الثقافية" والمزج الغريب الذي يقوم به بين " الفلسفة والدين وعلم الاجتماع.."
5: حول ازدواجية الإنسان و المجتمع :
يقول الدكتور: "الإنسان هو الكائن الوحيد الذي تتصف كينونته بالازدواجية، الجانب البيولوجي الفزيولوجي، من جهة، والجانب الرموزي الثقافي، من جهة ثانية، فهو إذن مخلوق مزدوج الهوية ( جسم وروح) ليس كغيره من الكائنات الأخرى" (ص29).
قلنا سابقا أن مسألة وجود "ثقافات حيوانية" عند الشامبانزي مثلا، بدأت تأخذ مكانها داخل العلوم الانثروبولوجية و الايطولوجية الحيوانية، رغم محدودية "الثقافة الحيوانية" واختلافها الكبير عن الثقافة البشرية. إن ما يهمنا الآن ليس هذا الأمر، إنما المعادلة التي يقيمها الدكتور بين مصطلحي " الرموز الثقافية" و " الروح" في مقابل "الجانب البيو- فيزيولوجي" و" الجسم".
إن المساواة التي يقوم بها الدكتور بين" الرموز الثقافية" كمصطلح سوسيو-أنثروبولوجي و"الروح" كمصطلح ديني هي سبب المصائب كلها، خاصة إذا عرفنا تفسيره لمعنى "الروح" دينيا والذي سنراه لاحقا. إن تعريف الإنسان بازدواجية/ ثنائية " المادة/ الروح" أو " الجسم/ الثقافة"، هو تعريف ما قبل علمي لأنه ليس تعريفا علائقيا و ممارساتيا. إن تعريف الإنسان بكونه كائنا اجتماعيا، كما تقول ذلك النظريات الاجتماعية كلها، من الخلدونية حتى زمننا هذا، يعطي مجالا أكثر لتحليل علائقي للإنسان، تحليل يأخذ بعين الاعتبار بالتأكيد كلا من الجوانب البيوفزيولوجية والثقافية في دراسة الحياة والممارسة الإنسانيتين. إن الثنائية التي يقدمها الدكتور (جسم/روح) أو (بيوفزيولوجيا/ رموز) سجنت الدكتور الذوادي في اعتبار "الرموز الثقافية" مجرد "رموز عقلية-روحية" خالية من الوزن /الحجم، وحولت الجسد الإنساني إلى مجرد معطى مادي ذي وزن وحجم. إن هذه الثنائية سوف تؤدي إلى سوء فهم وتفسير الظواهر الثقافية مثلا، وذلك باعتبارها "روحا" ميتافيزيقية ومتعالية لا يمثل الجسم، ولا حتى الدماغ، سواء " وعاء" لها. كما إن هذه الثنائية سوف تعتبر الاقتصاد نشاطا ماديا مبتذلا، بما أنه ليس من "الرموز الثقافية"، وبالتالي سوف تقدم خدمة جليلة لمدارس ادعى الدكتور أنه يناضل ضدها علميا وهذه الفكرة تشبه كثيرا أفكارا وجهّت لنقد الماركسية فسخر منها ماركس سخرية لاذعة وقال إن الذي يفهم الاقتصاد ميكانيكيا (مثل الدكتور) سوف يعتبر المادية مجرّد مذهب جشع وسوف يربطه على الأرجح باليهود! ويبدو أن الدكتور الذوادي يقترب من هذا الأمر مع إضافة المسيحيين والوضعيين وغيرهم... ان هذه الفكرة لن تساعد على اعتبار كل الظواهر الاجتماعية " ظواهر اجتماعية كلية " لأنه سوف يتم تصنيفها وفق ثنائية؛ مادية أو روحية، بيوـ فيزيولوجية أو رموزية ...الخ ، و عندها سوف يتراجع علم الاجتماع عن قبول أعظم ما قدمه له مارسيل موس من أفكار، ألا وهي فكرة اعتبار كل ظاهرة اجتماعية " ظاهرة اجتماعية كلية " تتحايث فيها كل عناصر الوجود الاجتماعي. إن الدكتور يقول مثلا إن الرموز الثقافية "لا تتعرض للنقصان" عند تبادلها على عكس المال (الاقتصاد)، وهي لا وزن ولا حجم لها، على عكس الحضارة التي يعتبرها "الأدوات والمنتجات المادية" (ص47)... إن الاقتصاد مادي والثقافة غير مادية، الاقتصاد يقابل الجسد، البيو- فزيولوجيا، والثقافة تقابل الروح. إذن مقابل الإنسان الثنائي التكوين ( جسد وروح) يصبح المجتمع نفسه ثنائيا (حضارة (اقتصاد...)وثقافة) فتغيب المادة من " الرموز الثقافية" وتغيب الروح عن الاقتصاد.
هكذا نصل إلى ثنائية قاتلة لعلوم الإنسان والاجتماع لا ترى الإنسان والمجتمع إلا خانات/ أدراج منغلقة على بعضها البعض مختلفة جوهريا في الطبائع، العلاقة الوحيدة بينها هي أن الروح أفضل من المادة! والروح أزلية والمادة زائلة ! والروح من الله (النفخة) والمادة من تراب....إلخ.
6: حول ازدواجية الجسم والروح:
نترك الآن مسألة الازدواجية بين الجسم والرموز الثقافية لنهتم تحديدا بعلاقة الجسم والروح عموما حتى نعود لاحقا للإنسان. هل الإنسان هو، دينيا، الكائن الوحيد المزدوج الهوية حيث له ثنائية الجسم/ الروح؟ يبدو أن الدكتور الذوادي ورّط نفسه في أمر علمي وديني سوف يصعب عليه الخروج منه إلا بمراجعة نظريته بكاملها. إذا اعترف بأن للحيوانات أرواحا، فسوف يعترف بأن لها رموزا ثقافية، طالما هو يساوي تقريبا بين الإثنين و يربطهما بالنفخة الإلهية الأولى أو عليه أن يبحث عن مصدر آخر للروح عند الحيوان أو ان يقسم النفخة الإلهية إلى نوعين، واحدة مشحونة برموز ثقافية وأخرى غير ذلك.
هذا مع العلم إن الدكتور، اعترف بوجود "معرفة غريزية" عند الحيوان، وقد يقول لنا لاحقا بوجود "روح رموزية غريزية" عنده مقارنة "بالروح الرموزية الثقافية" عند الإنسان (انظر الفصل السابق: حول ابن خلدون) إذا رفض الاعتراف للحيوانات بوجود الروح، فعليه أن يعيد تقييم النزعة الإسلامية في علمه لأن الإسلام يعتبر الحيوانات كائنات ذات روح، وما عليه إلا أن يراجع الأحاديث النبوية حول منع تعذيب الحيوان وحول رسم الحيوانات في أي كتاب للحديث ليكتشف أن الإسلام منع تعذيب الحيوان ورسمه ( مع أشياء أخرى)، بسبب كونه كائنا حيا له روح. إن الحل الوحيد الذي يبقى له هو إعادة النظر الجذرية في المساواة التي يقيمها بين مصطلحي " الروح" في الدين " والرموز الثقافية" في علوم الإنسان والاجتماع. هذا دينيا، أما علميا، على الدكتور الذوادي العودة إلى التعريف العلمي للحياة، وللكائنات الحية. يقول الدكتور إن واحدا من معاني الروح هو " ما به تقام حياة الأنفس" والثاني هو " المقدرة الرموزية الثقافية للإنسان" (ص191) فإذا كانت الروح هي " ما به تقام حياة الأنفس"، ونحن نعرف أن العلم يعتبر النباتات كائنات حية، فكيف سيخرج الدكتور من المأزق. هل سيقول إن لها أرواحا، أم إنه سيقول إن هنالك نوعان من الحياة، واحدة دون روح عند النبات والأخرى بروح عند الحيوان والإنسان.
وبما أننا نتصور أنه سوف يختار الحل الثاني نسأله أن يثبت ذلك من داخل الحقل العلمي نفسه، هذا الحقل الذي يعرّف الحياة تعريفا ماديا صرفا، عبر وجود تفاعلات فيزيائية – كيميائية معقدة تنتج ما يسمى البيولوجيا. فالحياة، بالمعنى العلمي ترتبط بظهور الخلية، وهذه الأخيرة هي علميا ناتجة عن تفاعلات كيميائية معقدة أدّت إلى ظهور الجزيئات العضوية التي لعب فيها جزيء الكربون دورا هاما ثم ظهرت الخلية الحية التي لا مكان فيها للروح تماما في المنظور العلمي . إن دراسة الحياة علميا- مخبريا، هي دراسة كيميائية- بيولوجية لا مكان فيها للروح تماما، بل إن التجارب العلمية، ومنذ 1953، وصلت إلى درجة صنع الأشكال الأولى من الحياة عندما قام العالم الأمريكي S.I.Miller بإجراء تجربة أدت إلى ظهور الأحماض الأمينية وغيرها من المكونات الأولى الضرورية لنشأة الحياة... من تفاعل بين جملة من الغازات والمعادن مع الاشعاع الكهربائي، كما يفترض أن يكون قد حصل في الطبيعة عند ظهور الحياة على الأرض للمرة الأولى ضمن ما يسميه بعض العلماء " الشوربة السخنة الأولى " ( .م60 ) وبما أن الدكتور دعانا إلى إتباع التصور التعقيدي عند إدغار موران فلنقدم له تعريف هذا الأخير للكائنات الحية وللإنسان. يقول موران: " يمكن تعريف الكائنات الحية ككائنات فيزيائية تنتج ذاتها متمتعة بخصائص فريدة تسمى بيولوجية" (...) الحياة، المولودة في اللا حياة، لا تحتاج إلا إلى الحياة حتى تولد من جديد. وبالمثل، الإنسان، المولود من اللا إنسانية، دون فاطر خالق، هو بهذا المعنى أقرب إلى الفيزياء...". (م 21، ص281/280 )
طبيعي جدا أن ردّ الفعل الذي سيقوم به الدكتور هو رفض التصور العلمي الحديث عن الحياة والتمسّك بما يعتبره هو " التصور الإسلامي" عنها، فلنراجع معه هذا التصور وسوف نرى أنه لا يفلح لا في تبني العلم الحديث ولا التفسير الديني المتعارف عليه عند أغلب المسلمين !
7: حول معنى الروح
رأينا فيما سبق أن الدكتور الذوادي يقرأ الآيات القرآنية حول خلق الإنسان بطريقة فريدة من نوعها بحيث، حتى من داخل النسق الديني، يمكن رفضها. إن الدكتور يواصل الإصرار على أن " الرموز الثقافية" عند الإنسان مصدرها " الروح الإلهية" حسب تأويله الخاص لـ " ونفخت فيه من روحي"، وكان بإمكانه طبعا أن يتجنب ذلك ويقتصر فهمه للروح على " ما يحقق حياة الأنفس" بينما بإمكانه الربط بين " وعلم آدم الأسماء كلها" و "الرموز الثقافية" دون أن تفقد سوسيولوجياه صفتها " الإسلامية". لكن مع الأسف، يصرّ الدكتور على موقفه ويصل إلى بعض النتائج الغريبة فعلا.
بداية، من المهم أن الدكتور اعترف بمصدر تأويلا ته الخاصة لمفهوم " الروح الرموزية الثقافية" ألا وهو المفسّر علي يوسف (ص159) وهو يعترف أيضا أنه يختلف مع بقية المفسرين القدامى والمحدثين حول معنى الروح. فإذا كان المفسرون الدينيون في معظمهم يعتبرون الروح ما يعطي الحياة للحيوان والإنسان، ويرفضون الخوض في خصائص الروح بناء على الآية القرآنية " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي" و في أقصى الحالات يحاولون الربط اللغوي بين الروح و الريح باعتبار أن تكون الروح يرتبط في النص الديني بالنفخ ، يغامر الدكتور لمعرفة "أمر الله" الذي يعتبره المسلمون من علم الغيب. إنه يغامر دينيا إلى درجة اقتراح رسوم توضيحية للنفخة الإلهية وعلاقتها بالروح الرموزية الثقافية (انظر خاصة: مقال: من أجل تأصيل علم الاجتماع...م1/-ص44).
كما يرى الدكتور الذوادي إن للروح معنيان، واحد متفق عليه عند المفسرين، وهو اعتبارها ما يعطي الحياة للأنفس، والثاني خاص به هو: وهو الروح الرموزية الثقافية، أو الثقافة (ص:191). وما يستنتجه من هذا كله هو أن الإنسان هو الكائن الوحيد المزدوج التكوين من مادة وروح! فلو فصل الدكتور بين مفهوم الروح بالمعنى الديني ومفهوم الثقافة في العلوم الإنسانية والاجتماعية لكانت المعضلة قد حلّت. وكما قلنا بإمكانه ربط الرموز الثقافية " بتعليم الله لآدم الأسماء كلها" كما يفعل المفسرون عندما يربطون العقل البشري بميزة تعليم الأسماء كلها. وطبعا نحن نذكر هذا من باب مخالف للعلم ومن خارجه فقط لدفع الدكتور إلى توخي الحذر في دخول تجربة التفسير الديني. أما الموقف العلمي المعاصر فلا علاقة له بالروح وبالله تماما على عكس ما يحاول الدكتور إيهامنا به أحيانا. فلو عدنا مثلا إلى جورج كانغيلام في تعريفه للحياة لقرأنا له حول " المطابقة الميتافيزيقية بين الحياة و الروح و بين الروح و النفخ (anima anemos)) " ما يدل على أن الكائن البشري الذي هو الكائن الوحيد القادر على الكلام حول الحياة تصور انه طالما هو عاجز عن الحياة و الكلام دون تنفس فان سر الحياة عموما يكمن في النفس / الريح / الروح ". ( م61 (
إذن ، حتى من داخل الفكر الديني نفسه، أو على الأقل من داخل بعضه حتى لا نعمّم، من الخطأ التغافل عن بعض الأفعال الإلهية عند تعريف الإنسان مثل " التسوية بالأيادي" الإلهية و" تعليم الأسماء كلها". لكن الدكتور الذوادي يدوّخ القارئ بملاحظات واستنتاجات غريبة مثل أن يذكر الآية القرآنية فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" ويستنتج منها ما يلي: " الله طلب من الملائكة السجود لآدم بعد وليس قبل حدوث وقوع نفخة روح الإله في صلب الذات الآدمية"(161) ويعيد هذه الملاحظة عدة مرات في كتابه. لكن، ما يفوت الدكتور هو أن طلب السجود لآدم جاء بعد العمليتين: عملية التسوية من الطين وعملية نفخ الروح في نفس الوقت! إن الدكتور يتحايل حتى على علم الحساب البسيط ولا يريد أن يرى إلا عملية واحدة قام بها الله أ ذّت إلى تفضيل آدم. إنه يفعل ذلك حتى يقول إن "الرموز الثقافية" هي الأساس في كل شيء وأن مكانة الجسد (الطين) لا قيمة لها، في الوقت الذي لا يدور الأمر فيه حول مفاضلة بين " مادتي" الطين والروح بل بين عملتي التسوية الإلهية- من طين- وبين نفخ الروح. إن الدكتور يدعونا إلى التفكير بالترابط والتفاعل ولكنه حتى بين أفعال الله يفضّل فعلا إلا هيا على آخر ويعتبره العامل الحاسم. من ناحية أخرى لا ينتبه الدكتور أنه عندما يحاول تفسير معنى الروح، خلافا لما نادى به القرآن و أغلب المفسرين القدامى، يورط نفسه في أمور خطيرة دينيا، فإذا كانت الروح هي في نفس الوقت ما يعطي الحياة للأنفس و " الرموز الثقافية" ، و إذا قال الله " إذا نفخت فيه من روحي ..." فهل معنى هذا أن الله " حي قيوم " لأن له روحا و أنه صل حب " رموز ثقافية " أيضا ؟ إن الدكتور يورط نفسه إلى درجة قد تقترب من تحويل صورة الله إلى " اثنيني " قريبة من " الثالوث المسيحي " و لا ينتبه أن الآية القرآنية التي تقول إن " الروح من أمر ربي " و تدعو إلى لا أدرية تامة حول موضوع الروح مهمة جدا في السجال اللاهوتي الإسلامي المسيحي حول صفات الله .
ما هي النتيجة من كل هذا؟
النتيجة هي، من ناحية أولى، أن الدكتور الذوا دي بعيد كل البعد عن العلم الحديث الذي لا يربط الحياة بالروح تماما و يعتقد أنها ظاهرة مادية في الأساس ولا يدرج الله في تصوراته التفسيرية للحياة وللكائن البشري. من ناحية ثانية، يختلف الدكتور أيضا مع" كل" التفسيرات الإسلامية لآيات الخلق ويقترح تصورا خاصا جدا يدخله في متاهات عديدة مع العلم والدين في نفس الوقت . و من بين هذه المتاهات أيضا تصوره على الدماغ والعقل مثلا.
8: المخ والعقل والروح:
رأينا سابقا كيف اعتبر الدكتور الذوادي الدماغ (والدكتور يستعمل عبارة المخ) "حاضنة" للرموز لا غير، وفي كتابه الجديد يعيد نفس الفكرة ويكررها مقترحا مصطلحا جديدا هذه المرة. يقول مثلا: " أما العقـل الذي هو تلك الطاقة الرموزية الثقافية التي يتميز بها الإنسان والتي تتخذ من المخ وعاء فيزيولوجيا و كيميائيا و بيولوجيا وعصبيا لها فلا بدّ أن يكون له دور حساس في إضفاء صفة القدسية على المخ/ العقل البشري..." (ص188). كما يقول إن " العقل البشري هو مربض الرموز الثقافية ومكانها المفضل" (ص11). ويقول كذلك: " فالرموز الثقافية هي روح الإنسان وهي خالية بالكامل من أبرز مواصفات الموجودات المادية المحسوسة والمتمثلة في الوزن والحجم" (ص11). ماذا نجد في هذه الفقرات؟ المخ هو وعاء العقل وهو وعاء فيزيولوجي وكيميائي وعصبي. العقل طاقة رموزية وهو مربض الرموز الثقافية. والرموز هي روح الإنسان الخالية من الوزن والحجم... والروح آتية من نفخة الله في الإنسان طبعا. إذن، مرة أخرى يخالف الدكتور العلم والدين في نفس الوقت. علميا، "المخ" ليس وعاء، أو حاضنة لعقل (أو روح) مبثوث فيه من الخارج، إنه عضو التفكير وهو الذي يمارس وظيفة التفكير بسبب تكوينه " الفيزيولوجي والكيميائي والبيولوجي والعصبي" الخاص من حيث التعقيد والتطور. والعقل ليس طاقة مودعة من الخارج بل هو "الطاقة" المتولدة عن المخ بوصفه عضوا ماديا في تفاعله مع الطبيعة والمجتمع في نفس الوقت. هذا من ناحية أولى.
من ناحية ثانية، عند معالجة هذه المسائل يتحدث العلماء عادة عن الدماغ (وليس المخ)، ويربطون الدماغ بالحواس والجهاز العصبي. فالعلم لا يعتبر أن " المخ" يعمل بطاقة مبثوثة فيه من الخارج الميتافيزيقي. إنه يحللّ عمل الدماغ في علاقة بالحواس ضمن تفاعل الإنسان مع المحيطين الطبيعي والاجتماعي، أما الدكتور فيحدثنا عن "المخ"/العقل" ولا يقول كلمة واحدة عن الحواس تماما.
إن الدماغ ليس معزولا عن الحواس ، في العمليات الذهنية العليا التي تميز الانسان ، فبهما معا تتم عملية المعرفة والتنشئة الاجتماعية التي يقول عنها الدكتور إنها " عملية تعلم الفرد لرموز ثقافة بيئته ومجتمعه من لغة وعقائد دينية وتقاليد وأعراف ثقافية وتراث معرفي/ علمي" (ص148) و هذه العملية تبطل منظوره الميتافيزيقي لأن التعلم يحتاج إلى الحواس ولا يتم عبر "التخاطر" télépathie و لا عبر " علم النفس الغيبي" الذي يقول عنه الدكتور أنه يدرس تأثير الأرواح في المادة (ص: 170). إن "المخ/ العقل" يفقد صفته " المقدسة" بالمعنى الديني رغم أنه علميا يعتبر أكثر أشكال المادة تعقيدا ضمن الجسد البشري ، ولكن الفارق بين مصطلحات التعقيد والتطور العلمية ومصطلح التقديس الديني كبير جدا. أما دينيا، فيبدو أن الدكتور، بمساواته بين العقل والروح ضمن مصطلحه " الروح الرموزية الثقافية" ، قد حقق اكتشافا في "علم التشريح الديني الإسلامي" بأن عثر لنا عن موقع الروح في الجسد، في الدماغ.
إذن، المفسرون الدينيون الذين يتهربون من تعيين مكان الروح في الجسد البشري، متسلحين بالآية القرآنية القائلة إن الروح من أمر الله، سوف يعثرون عند الدكتور الذوادي على فتح علمي جديد يتمثل في اكتشاف مكان الروح في الدماغ. والدكتور "يؤيد" اكتشافه هذا بالعلوم الحديثة قائلا: " إن الاعتقاد بأن المخ هو مصدر الحياة والموت لم يفنده الطب الحديث. فآخر تعريف كلينيكن لظاهرة الموت من طرف أطباء اليوم جاء يؤكد بأن الكائن الإنساني يفقد نبض الحياة لا بسبب توقف نبضات قلبه- كما كان يعتقد – بل بسبب موت مخه" (ص ص 187-188). إن الدكتور الذوادي يذكر واقعة علمية صحيحة لكنه يتحاشى أمرا مهما جدا في علاقة بالدين الذي يعتبر مفارقة الروح للجسد هي التي تؤدي إلى الموت. إن المسألة ليست نقاشا فزيولوجيا حول أي الأعضاء هو مصدر الحياة والموت، إنها حول تصور ديني يعتبر الحياة هبة إلهية للجسد عبر الروح وتصور علمي حول دور " المخ" في إحداث الموت. لكن، بما أن الدكتور يريد التوفيق بين العلم والدين فهو يصل إلى اكتشاف عظيم مفاده إن الروح تسكن المخّ.
9: لماذا يعيش الإنسان طويلا ؟
نرجع الآن إلى السؤال الذي طرحه الدكتور ونرى إجابته قبل أن ننتقل إلى بقية النقاط الأخرى. يجيب الدكتور عن سؤاله كما يلي: " أما نحن فترى فرضيتنا أن بيولوجيا الإنسان ومورثاته قد صمّمت بنظام مناعتها المشار إليه لكي تسمح لأفراد الجنس البشري بالتمتع بأمد حياة أطول من أمد حياة أجناس الكائنات الحية الأخرى، وذلك لتلبية حاجة لا توجد إلا عند الجنس البشري. وبعبارة أخرى، فبيولوجيا الإنسان ومورثاته كانت تهدف إلى القيام بوظيفة هامة عند الإنسان (...) تمكين الرموز الثقافية عند الإنسان من النموّ والتطور وبلوغ أوج نضجها " (ص ص: 145-146).
إذن، خلافا للعلوم الحديثة كالبيولوجيا وعلوم الوراثة التي تقول إن طول عمر الإنسان راجع لخصائص الجينات وتفاعلها مع المحيطين الطبيعي والاجتماعي من خلال عملية التغذية وغيرها... يقترح الدكتور إجابة " جديدة تماما" تتمثل في أن البيولوجيا والمورثات لها "هدف القيام بوظيفة تمكين الرموز الثقافية من النمو والتطور".
إن هذه الإجابة ليست جديدة يا دكتور لأن تاريخ العلم والفلسفة حافل بما يسمى التفسير الغائي للظواهر الطبيعية منذ أرسطو وأفلاطون.
وإن التفسير الغائي هذا، طالما ارتبط بتصور أرواحي في الدين، وإن العلوم البيولوجية والمورثاتية قد تجاوزت التفسير الغائي الأرواحي باعتباره من مخلّفات المرحلة ما قبل العلمية. لقد عوّض العلم، منذ داروين خاصة فيما يخص البيولوجيا، التفسير الغائي الأرواحي بالتفسير العلمي، عند دراسة تطور الكائنات تشريحيا و فيزيولوجيا وذلك بالربط بين الكائن الحي و محيطه من ناحية و عمل الوراثة لنقل وتثبيت الخصائص الجديدة عند الكائنات.
إن التفسير الغائي الأرواحي لا تقبله العلوم الحديثة لأنها كفّت عن النظر إلى الظواهر الطبيعية كظواهر تحمل أرواحا أو موجهة من قبل أرواح أو كائنات ما فوق طبيعية تحدد لها أهدافا وغايات مسبّقة من خارجها. أما الدكتور الذوادي فلا يزال على ما يبدو، عبر ما سمّاه " البيولوجيا المتثاقفة" يقبع في مرحلة ما قبل التفسير العلمي الحديث بحجة " تجاوز الوضعية" ( وهو تراجع وليس تجاوزا ) والانفتاح على تيارات " ما بعد الحداثة" و " التعقيد" التي نعتقد أنه لا يقبل بها فعليا ويشوهها سواء داخل علم الاجتماع أم في علوم أخرى عديدة تعرضنا لها.
إن " البيولوجيا المتثاقفة" التي يتبناها الدكتور تذيب البيولوجيا في الثقافة، بتعلة تجاوز " السوسيو بيولوجيا"، وبما أن الثقافة عند الدكتور هي " روح ثقافية" ميتافيزيقية مصدرها الله وتتحقق عبر الروح فإن " بيولوجياه" تصبح تفسيرا أرواحيا وغائيا لا علاقة له بمنطق العلم الحديث الذي يدعونا الدكتور للأخذ به. أما علاقته بالدين الإسلامي، وإن كانت موجودة، فهي مرتابة لأن تفسيراته الدينية فريدة من نوعها فعلا! ومن يدري، لعله يقترح علينا لاحقا تفسيرا " بيولوجيا متثاقفا " حتى لأعمار الحيوانات المختلفة، كأن يقول لنا، تعيش النعاج مدة معينة حتى نأكلها، لأنها عندما تتجاوز تلك المدة يصبح لحمها عصيا على الهضم، وتعيش الأحصنة عمرا معينا حتى نركبها لأنه بعد ذلك العمر لا تقدر على حملنا، وهكذا دواليك، طالما أن كل الكون مسخّر لنا نحن البشر. وعندها سوف يقبر الدكتور ليس فقط " البيولوجيا الاجتماعية" بل " البيولوجيا الحيوانية " أيضا! ولكن دعنا من الحيوانات الآن ولنعد إلى الإنسان ونكتشف مع الدكتور كيف وصل إلى استنتاجه " البيولوجي " التثاقفي".
في كل مرة عرّف الدكتور الثقافة، أو ما يسميه " الرموز الثقافية"، كان يكتفي بالقول إنها: " اللغة والفكر والمعرفة/ العلم والدين والقوانين والقيم والأعراف الثقافية والأساطير" (ص7) ولكن عندما بدأ بالتساؤل حول علاقة الثقافة بطول مدى الحياة عند الإنسان قدّم لنا التعريف التالي:
" إن الحديث عن الرموز الثقافية كأهمّ عنصر يتميز به الجنس البشري يقودنا إلى التأكيد على وجود مستويين لها. فهنالك من جهة، ما يمكن تسميتها بالاستعدادات الخلقية الفطرية لصالح استعمال الرموز الثقافية وإنتاجها. وهنالك، من جهة أخرى، المعالم الظاهرية للاستعمال والإنتاج الفعلي للرموز الثقافية وهو حصيلة مباشرة للمستوى الأول والمتمثل في الاستعدادات الخلقية الفطرية في المخ البشري التي تؤهل الإنسان وحده لمشروعية التمتع باستعمال وإنتاج منظومة الرموز الثقافية" (ص28).
هنا يبدو الدكتور أقرب إلى العلم البيولوجي، فهو يكتب أن " المعالم الظاهرية للاستعمال والإنتاج الفعلي للرموز" هي " حصيلة مباشرة " للمخ" البشري. لكن، كما رأينا، ليس للدكتور تصوّر علمي واضح عن " المخ/العقل"، كما يسميه، ولذلك علينا ألا نطمئن كثيرا له. ورغم ذلك، في هذه الفقرة تبدو الصياغة واضحة، البيولوجيا ( الاستعدادات الخلقية الفطرية في المخ البشري) هي الأولى، وإنتاج واستعمال الرموز هو الثاني، وهو " حصيلة مباشرة للمستوى الأول"، والدكتور لا ينتبه أن " الحصيلة" هي نتيجة ولا تكون " عاملا حاسما".
لكن، بعد ذلك يدور الدكتور دورة كاملة عبر حجج غريبة يقول فيها مثلا إن "الأدلة العلمية الحديثة تفيد بأن تركيبة مورثات الجنس البشري هي العامل الحاسم وراء تمتع أفراده بعمر أطو ل من أعمار أفراد أجناس الكائنات الحية الأخرى" (ص144). أما بالنسبة إليه فالأمر مختلف، أما حججه فـيـوردها كما يلي: طالما أن الإنسان هو وحده المتميز بازدواجية التكوين (جسم وروح) وطالما أنه هو الوحيد صاحب " الرموز الثقافية" فلا بدّ أن الرموز نفسها هي بسبب طول العمر ! إنه يقلب التصورات العلمية رأسا على عقب، ولكنه يحاول تبرير ذلك بالمعطيات العلمية أيضا. يقول مثلا: " وكمثال على ذلك، فبينما يبلغ جسم الإنسان نضجه العضلي حوالي سن الخامس والعشرين، فإن بداية مسيرة نمو التفكير الناضج للإنسان لا تكاد تظهر قبل بلوغه العشرين عاما. أما صلابة نضج مداركه الفكرية فلا تبدو بشائرها إلا قبل سن الأربعين بقليل ولا يتم في الغالب نضجه الفكري الكامل إلا بعد تجاوزه الستين. كل هذا يشير إلى أن عالم الرموز الثقافية يحتاج إلى أمد حياة أطول بكثير من أعمار الحيوانات حتى ينمو ويتطور ويبلغ مداه من النضج..." ( ص 146). إذن، حسب الدكتور، بما أن النضج الرموزي الثقافي يتطلب مدة طويلة قد تفوق الستين سنة، على البيولوجيا أن تستجيب وتسمح بطول العمر. لكن، ينسى الدكتور أن عليه، في هذه الحالة، أن يجيبنا عن أسئلة بسيطة جدا ! لماذا يموت البعض وهم أطفال؟ لماذا يموت بعض العظماء دون الأربعين وهم أغنى الناس من حيث " رصيد الرموز الثقافية" ؟ ولماذا يولد أناس دون " استعدادات فطرية" للرمز، بسبب أمراض جينية؟ هل السبب في " الطين" الذي صنعوا منه أم هو " تشوّه خلقي" في " النفخة الروحية" التي تلقوها؟ ولماذا لا يعيش البشر نفس الأعمار، طالما أنهم جميعا وبالتساوي تلقوا نفس النفخة الإلهية الروحية" ؟ لعله من الضروري الاكتفاء بطرح الأسئلة هنا ! لكن الدكتور لا يكتفي بهذا، إنه يبرّر نظرته أيضا " بالفرق الزمني بين النمو العضلي واللغوي عند الطفل" ( ص146). وضمن هذه الفقرة، يقول إن الطفل يتمكن من الوقوف و المشي في فترة قصيرة جدا، مقارنة بالفترة التي يتطلبها لإتقان اللغة " أهم الرموز" ويستنتج ما يلي: " فواضح من هذين المثالين أن نموّ ونضج اللغة- وهي أهم الرموز الثقافية- يحتاجان عند الطفل إلى زمن أطول مما يحتاجه نموه الجسدي والعضلي الذي يسمح له بالمقدرة على الوقوف و المشي " (ص147). ونحن نسأل الدكتور، بما أنك تعتبر أن الطفل يحتاج إلى حوالي أثني عشرة سنة لحذق اللغة (ص147) وهي " أهم الرموز"، فلماذا يحتاج الإنسان إلى ستين سنة حتى ينضج فكره؟ ولماذا تربط بين نضج اللغة (12سنة) و القدرة فقط على الوقوف و المشي ؟ لماذا لا ترجع إلى " النضج العضلي الكامل" الذي تقول إنه يتطلب خمسة وعشرين سنة ؟ فتنقلب معادلتك تماما؟ إن طرح العلاقة بين الرموز الثقافية وطول أمد حياة الإنسان بهذه الطريقة " فريد من نوعه" حقا. بهذه الطريقة سوف نفسر الموت كالتالي. كل إنسان يموت عندما يبلغ عمره البيو ـ فزيولوجي اللحظة التي تنطفئ فيها " روحه الرموزرية" ويكون عندها غير قادر على " إنتاج واستعمال الرموز" إذن، عند الموت، بسبب حادث مروري أو بسبب قصف مدفعي في الحرب أو بسبب آخر، مهما كان، ننتظر من الدكتور أن يقول لنا، كان ذلك الشخص مرشحا للموت لحظتها لأن رصيده الرموزي انتهى وعقله فقد " طاقته" ! وبالتالي دفع له القدر بسيارة تدهسه أو قنبلة تسحقه لأنه قد مات رموزريا، ولا مجال لمواصلة حياته البيو ـ فزيولوجية ! مع الأسف، إلى هكذا استنتاجات يمكن أن يوصلنا " علم البيولوجيا المتثاقفة" الإسلامي عند الدكتور محمود الذوادي. ولكن، نسأل الدكتور مرة أخيرة قبل المرور إلى نقطة أخرى، ألا يمكن للإنسان أن يتعلم وينمّي رصيده " الرموزي الثقافي" باستمرار غير قابل للانقطاع تقريبا؟ في هذه الحالة، لماذا نموت أصلا ؟ لماذا لم تستجب بيولوجياك المتثاقفة لقدرة البشر" اللامتناهية" على تعلم اللغة واكتساب المعرفة ...ولم تجعلنا خالدين لا نموت؟ لماذا تموت خلايا الدماغ عند عمر محدد رغم أننا مستعدون لمواصلة استعمال اللغة واكتساب أفكار/ علوم جديدة ومواصلة التديّن..؟ يجيبنا الدكتور عن سؤالنا كما يلي: " الرموز الثقافية تمثل عوامل حاسمة في إطالة أمد حياة أفراد الجنس البشري في هذه الدنيا، كما أنه بسبب الرموز الثقافية يحاسب الناس على أعمالهم فيخلدون في الجنة أو في النار جزاءا أو عقابا. وبعبارة أخرى، يمكن النظر إلى الرموز الثقافية على أنها، أولا، عامل رئيسي في إطالة أمد حياة أفراد الجنس البشري، وأنها، ثانيا، عامل أساسي في تأهيل الإنسان إلى الخلود بعد البعث. وهكذا يبدو وبقوة أن علاقة الترابط بين الرموز الثقافية وطول عمر الإنسان هي علاقة قوية بالمعنى النسبي ( المحدود في هذه الدنيا) والمعنى المطلق ( الخلود) لطول أمد الحياة بعد يوم البعث" (ص173).
هكذا، " الرموز الثقافية" ستكون ذات علاقة " بالمعنى المطلق" أيضا في خلودنا ولكن في الجنة أو النار، بعد هذه الدنيا ؟ لكن الدكتور ينسى تماما، أن الطفل الذي يموت قبل تعلم أية رموز ثقافية يدخل الجنة حسب المنظور الإسلامي. فلماذا يدخلها إذا لم تتكوّن عنده أيّة علاقة بين " الرموز" و "طول أمد الحياة" ؟ كما يتناسى الدكتور أن المسلمين يعتقدون في دخول الجنة عبر الجهاد العسكري الذي يعتبره الدكتور خارجا عن مجال " الرمز الثقافية " والدكتور ينسى أن الذي يموت غريقا أو محروقا، حسب التصورات الإسلامية يعتبر شهيدا ويدخل الجنة " بقطع النظر" عن " رموزه الثقافية" بمعناها ألحصري عند الدكتور ! وما عليه إلا العودة إلى "موطّأ مالك " حتى يكتشف الأمر، فقد جاء فيه نقل لحديث نبوي ورد فيه: " الشهادة سبع، سوى القتل في سبيل الله، المطعون شهيد والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، وصاحب الحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيد". (م62 ، ص127)
والدكتور ينسى أن الحيوانات أيضا تحشر إلى ربها يوم الحشر حسب الآية الثامنة والثلاثين من سورة الأنعام، وهي التي جاء فيها: " وما من دابة في الأرض و لا طير يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرّطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون" مثلا ، فهل ستدخل الحيوانات الجنة أم النار ؟ وأية علاقة لذلك مع " الرموز الثقافية" ؟ والدكتور لم يسأل نفسه على ما يبدو، إذا كانت اللغة هي أهم الرموز الثقافية، فلماذا لا ندخل الجنة أو النار بسبب اللغة، " كعامل حاسم" ؟ مع الأسف، مرة أخرى، يدخلنا الدكتور في " علم الاجتماع الغيبي" الذي يبدو أنه شغله الشاغل، لكن وبما أننا وصلنا إلى " أي العناصر أهم في الرموز الثقافية " نترك الجنة والنار ونمرّ إلى نقطة أخرى.
10: أي الرموز الثقافية أهمّ عند الإنسان؟
يفترض في دكتور يدعو الناس إلى البحث عن الترابط واعتماد منهج التعقيد ألا يبحث عن عنصر من الثقافة أهم من الآخر وأن يكتفي يذكر مكونات هذا " الكل المركب" الذي هو الثقافة ويدرس تفاعلها... لكن، مع الأسف، يقول الدكتور، كما رأينا، الشيء ونقيضه دائما. وفي هذه النقطة بالذات، أي عناصر الثقافة أهم عند الإنسان؟ سبق أن وضحنا إنه مرة يقول إن " اللغة هي أهم الرموز على الإطلاق" ومرة أخرى، في خصوص العرب المسلمين، يقول إن الدين هو أهم تلك الرموز. في كتابه " الثقافة.." يعيد نفس الشيء بل ويضيف نقطة جديدة. يقول: " فاللغة هي أمّ الرموز الثقافية جميعا" وهي " أهم الرموز الثقافية جميعا " (ص84). بعد ذلك يقول في مكان آخر حول الوطن العربي: " نفضل استعمال عبارة " الثقافة الإسلامية العربية" بدل الثقافة العربية الإسلامية لأهمية ثقل دور الإسلام في التأثير على جوهر ومعالم ظهور الثقافة في الوطن العربي" ( الهامش الأول ،ص 269). ولكن في مكان آخر يقول: " فإذا كانت اللغة والصوت والفكر لها دلالات ميتافيزيقية كما بيّنا ذلك في الأقسام الأولى لهذا الفصل وبقية فصول هذا الكتاب، فمن باب أولى وأحرى أن يكون للعلم – كأهم تلك الرموز الثقافية جميعا- ظلاله الميتافيزيقية..." ( ص 209) فما الذي يجري مع الدكتور تحديدا في مسألة تعريف " الرموز الثقافية"؟ هل يعقل أن يحتوي " باراديغم" على مثل هذا الخلط والتناقض؟ وهل هذا هو " المنظور الإسلامي" للثقافة ؟
11: حول تعريف الثقافة:
يحتج الدكتور الذوادي على إدوارد تايلور، في تعريفه للثقافة تحديدا، حول مسألة ذكر اللغة واعتبارها " أهم الرموز" وحول مسألة " اللمسات الميتافيزيقية". يقول إن: " هناك مأخذا رئيسيا على هذا التعريف... هناك صمت كامل حول ما نريد أن نسمّيه هنا العنصر المؤسس لمنظومة الثقافة بأكملها اللغة البشرية ومن ثم تتحتم، في نظرنا مشروعية وجوب أولوية وضع اللغة في طليعة قائمة العناصر المكونة لمفهوم الثقافة البشرية الواردة في تعريف تايلور " (صص: 44-45). إن هذا " المأخذ الرئيسي" الذي يقدمه الدكتور ضد تعريف تايلور للثقافة- الذي يمكن تفضيل تعريفات أخرى عليه كما فعل غي روشيه بتفضيل تعريف دوركهايم لها: " هي طرق الإحساس والتفكير والفعل" – لا يجد عند الدكتور سندا لسببين: - الأول: الدكتور كما رأينا، مرة يعتبر اللغة أهم الرموز ومرة أخرى يعتبر الدين هو الأهم- عند العرب المسلمين- ومرة ثالثة يعتبر العلم هو الأهم، فلماذا يحتج على تايلور ؟ - الثاني : يغلب على احتجاج الدكتور طابع شكلي غير مهمّ في التعريف العلمي فيقول إنه لا بد من " وضع اللغة في طليعة قائمة العناصر المكونة لمفهوم الثقافة..." وهذا المأخذ شكلي جدا، لأن ما يهمّ في التعريف ليس الجانب ألجردي لمكونات الثقافة وترتيبها في التعريف، بل الجانب المفهومي العلمي نفسه. ومن هذه الناحية يمكن أن نحتج ضد الدكتور أكثر من الاحتجاج ضدّ تايلور. فتايلور يقول – كما ذكرنا سابقا- إن الثقافة كل مركّب، وهي إضافة إلى العناصر التي ذكرها، العلم، الأسطورة... كل ما يكتسبه الفرد من " قدرات و عادات أخرى يتعلّمها الإنسان بوصفه عضوا في المجتمع" وهذا جيد لأنه يفتح الباب على ذكر عناصر أخرى- مثل اللغة- ويؤكد على اجتماعية الثقافة وعلى كونها مكتسبة. أما الدكتور، فهو مثلا لا يذكر الفنّ تماما في كل تعريفاته التي احتوتها مقالاته وكتبه التي عرضناها. و من ناحية أخرى، إذا أصرّ الدكتور على مسألة ترتيب عناصر الثقافة حسب الأولوية في الأهمية، فهذا يعني أنه في تعريفه هو، يعتبر العنصر الثاني أقل أهمية من العنصر الأول و الثالث أقل أهمية من الثاني وهكذا، وهذا طبعا هراء علمي! من ناحية أخرى، يحتج الدكتور على عدم وجود إشارة إلى " اللمسات الميتافيزيقية" في الثقافة، لأن تايلور أكد على كون الثقافة تكتسب داخل المجتمع، كما يفعل كل العلماء الذين لا يورّطون أنفسهم في تعريفات غيبية للظواهر الاجتماعية. لكن الدكتور بتوريط نفسه حول تلك اللمسات سوف يعجز مثلا عن التوفيق بين إدراجه عنصر الأسطورة في تعريفه للرموز الثقافية، وبين تصوره " الابستمولوجي" الإسلامي المزعوم.
إن المعروف أن مصطلح " أساطير الأولين" في القرآن ورد ضمن موقف قيمي رافض للأسطورة تماما باعتبارها مخالفة " للعلم الإلهي المنزل" فكيف سيبرز لنا الدكتور الذوادي اللمسات الميتافيزيقية و "الأصل السماوي" للأسطورة؟ فحسب التصور الإسلامي الأساطير هي أكاذيب سطرها الأولون، وهي، إلى جانب السّحر، مرفوضة تماما ضمن التصور الإسلامي. فكيف سيحلل الدكتور " اللمسات الميتافيزيقية" المرتبطة " بالنفخة الإلهية الأولى" للأسطورة والسحر ؟ على الأرجح، على الدكتور في هذه الحالة أن يستنجد بالشيطان، لإتمام عمارة باراديغمه الجديد حتى تكتمل الصورة تماما بشيطنة كل ماهر غير إسلامي وغير شرقي في علم الاجتماع والعلوم الإنسانية والطبيعية.
12: حول الثقافة والحضارة ذكرنا سابقا أن الدكتور الذوادي يحذف من تعريف إدوارد تايلور جملته الأولى التي يقول فيها " إن الثقافة أو الحضارة، بمعناها إلا ثنوغرافي العام هي ذلك الكل المعقد…" حتى يبرّر لنفسه تعريفا ثقافويا للثقافة يحصرها في "العقل" أو "الروح". إن تايلور لا يفرّق بين الثقافة والحضارة، أما الدكتور فيفرّق بينهما ويقول إن " الثقافات هي المؤسسة للحضارات" وبالتالي " فالحضارة هي متغير تابع للثقافة فاعتبار هذه الأخيرة هي المتغير ذو التأثير الحاسم والمحدّد لميلاد الحضارة ونهضتها وسقوطها" (ص47). وهكذا، عدنا إلى الاعتداء على مفهوم " الترابط Corrélation ومفهوم "التعقيد" الذي دعانا الدكتور إلى تبنيه. عدنا إلى اعتبار الدين (أو العناصر الأخرى) أهم من العمل/ الاقتصاد أو السياسة أو غيرهما. عدنا إلى " العامل الحاسم والمحدد" في نفس الوقت الذي يدعونا الدكتور إلى تجنب " الحتمية الخشنة". إن السبب الذي يعود إليه هذا الخلط والتناقض في فكر الدكتور يعود إلى اعتباره الثقافة ما ورائية، ميتافيزيقية أما الحضارة فعلى ما يبدو هي مادية لا روح ولا رموز فيها ! وبما أنه صاحب نظرة " ابستمولوجية" – هي في الواقع أنطولوجية دينية لا غير- إسلامية فهو يعتبر الثقافة عنصرا " محدّدا وحاسما" للحضارة التي هي حسب قراءته السوسيولوجية " تشتمل أساسا الأدوات والمنتجات المادية" (ص 47). إن تصور الدكتور الضيق لمفهوم الحضارة واختلافه الجذري عن مفهوم تايلور لها، على سبيل المثال، جعله يقول إنه يرفض اعتبار الثقافة والحضارة " وكأنهما متساويتان في الأهمية بالنسبة إلى دورهما في حركة العمران البشري من ناحية، وكأنهما منفصلتان عن بعضهما البعض، من ناحية أخرى " (ص47).
وبالطبع عندما يقسم الدكتور المجتمع إلى جانب " رموزي ثقافي" يحوي اللغة والعلم/ الفكر والدين...وآخر حضاري يقتصر على " الأدوات والمنتجات المادية" فمن الطبيعي أن ينظر إلى علاقتهما بالطريقة التي رآها. لكن عندما تقدّم الثقافة بنفس معنى الحضارة، كما يوجد عند العديد من علماء الاجتماع والانثروبولوجيا فيختلف الأمر، وكذلك الأمر عندما تقدم الثقافة على أنها "الممارسات الفكرية" و الحضارة على أنها "الممارسات المادية" عند البعض الآخر. أما عند الدكتور فالرموز الثقافية " تشكل في نهاية المطاف ظاهرة ما نسميّه بالعقل" (ص 205) و هذا تحديدا ما يقربه من التعريف الثقافوي للثقافة ولكن في صيغة خاصة " عقلانوية " إسلامية، بما أن العقل الذي يتحدث عنه ليس معطى اجتماعيا بل ميتافيزيقيا هو الآخر!
13: الإنسان لا يبدع الثقافة:
هل يبدع الإنسان الثقافة عند الدكتور ؟ لا ، إنه مجرّد واسطة لا غير، بما أن دماغه ليس سوى " وعاء" وعقله ليس سوى " حاضنة" للرموز المبثوثة فيه من الخارج. يقول الدكتور في معرض حديثه عن العلم ما يلي: " فأصل المواهب الرموزية الثقافية التي تسمح له بالقيام بالنشاطات العلمية ذات مصدر ميتافيزيقي بالأساس كما رأينا : " ونفخت فيه من روحي" ، فاستعمال العلم - كأهم رمز ثقافي كرّم به الإنسان من الروح الإلهية- لاكتشاف الظواهر الكونية يحتم الاعتراف بفضل المصدر الأول الذي هيأ الأمر للإنسان وحده لكسب أسباب العلم والتعلم. فأصل العلم والمعرفة في الإسلام هو الله وما الإنسان إلا واسطة (كالسحاب) لتجسيم البعض من ملامح العلم والمعرفة السماوية" (ص ص 207-208). هكذا وبعد المعجم الأشعري المستعمل: الخلق/ الكسب يصل الدكتور إلى القول إن الإنسان ليس سوى واسطة لتجسيم البعض من ملامح العلم والمعرفة السماوية. يستعمل الدكتورهنا لغة رسولية مستقاة من أحد أحاديث الرسول التي قال فيها عن نبوته أن " مثل ما بعثني الله به من الهدى و العلم كمثل غيث أصاب أرضا..." ( انظر الحديث رقم 1375 في " رياض الصالحين " م 62 ) وينسى أنه يقارن " انطولوجيا " علمه السوسيولوجي بمعتقده الديني في الوحي و القرآن .
هذا دينيا ، أما علميا فيبدو أن الإنسان عند الدكتور لا يبدع الثقافة أو ينتجها، بل هو مجرّد واسطة لا غير. والدكتور الذوادي مثلا، هو واسطة بين السماء والبشر" لتجسيم البعض من ملامح العلم والمعرفة" ! انه مثل السحاب تماما فهنيئا " لعلم الاجتماع العربي الإسلامي" بهذا "السحاب السوسيولوجي" الذي سينتج خيرا معرفيا عظيما و نرجو ألا يكون مثل سحابة الصيف في تاريخ علم الاجتماع العربي إذ سيضطرنا وقتها إلى التضرع إلى الله عبر " صلاة استسقاء سوسيولوجية " لطلب سحاب / عالم آخر.
و لكن ماذا عن تصور العلم الحديث للمسألة ؟ يقول الدكتور: " وهكذا يتضح من المنظور القرآني مدى التشويه الذي تنطوي عليه ابستمولوجيا ومنهجية العلوم الوضعية التي تدرس الإنسان كحيوان: أي كائن بلا عقل" (ص 205).
هل يعقل أن عالم اجتماع، في بداية القرن الواحد والعشرين يريد تأسيس " باراديغم" جديد بعد " بحث علمي أساسي"، يقول إنه " واسطة بين السماء والبشر" وإن العلم الوضعي" يدرس الإنسان" كحيوان: أي كائن بلا عقل" ؟ إن الدكتور هو الذي يشوّه العلوم الوضعية لأن هذه الأخيرة، عندما تدرس الإنسان، تبالغ ، على العكس تماما ،في إعطاء مكانة للعقل، وما تصنيفها لمراحل التاريخ على أساس فكري إلا دليل على ذلك. فكيف يعقل أن عالم اجتماع يجهل بالتحديد كون " ابستمولوجيا ومنهجية العلوم الوضعية" تجعل من العقل " العامل" الحاسم" في الانتقال بين " المراحل الثلاث" الشهيرة عند أوغست كونت وتجعل من " العقل الوضعي" المميز الحاسم للمرحلة الوضعية؟ إن التشويهات البدائية التي يصف بها الدكتور " العلوم الوضعية" لا تليق بعالم يريد تأسيس " باراديغم جديد". لكن، مع الأسف، لا يمكن استغراب هذا من " المنظور الثقافي الإسلامي" الذي لا يجعل من العقل عقلا إلا إذا كان ميتافيزيقيا ! من المنظور الذي يتخبط في تناقضات داخلية ويلوم الوضعية مرة لأنها تدرس الإنسان كحيوان " دون عقل"! ثم يلومها، مرة أخرى، لأنها ترفض المراوحة بين النقل والعقل و تكتفي بالعقل البشري إماما، حسب تعبر أبي العلاء المعرّي المشهور. إن " نظرية العلم بحق إلهي" – كما نظرية الحكم بحق إلهي – هدفها إضفاء شرعية دينية على أساسها اللاعلمي لا غير. وإن "عالما" لا يعترف على الأقل بأن العلم الوضعي يعتبر الإنسان "حيوانا عاقلا" و يتهم العلم بأنه يدرس الإنسان " كحيوان: أي كائن بلا عقل" إن عالما كهذا لا يمكن الوثوق به من ناحية لأنه يقدم " بحثه العلمي الأساسي" وكأنه إلهام ربّاني يمثل جزءا من "المعرفة السماوية" ومن ناحية أخرى يشوّه أبسط المعارف العلمية إلى درجة قد توصله إلى اعتبار " العلوم الوضعية" علوما شيطانية. إن هذا التصور مخالف للعلم تماما، لأن العلوم الحديثة لا تعتبر الدماغ وعاء بل أداة للتفكير، ولا تعتبر الثقافة معطى ميتافيزيقي المصدر بل تعتبرها من إنتاج البشر، الذين هم كائنات عاقلة بالتأكيد. إن التصور العلمي الحديث حول المسألة يدرس الثقافة البشرية بوصفها إنتاج الإنسان المتفاعل مع الطبيعة والمجتمع البشري عبر دماغه وحواسه.
أما دينيا، فهنالك في المنظور الإسلامي تيارات مختلفة منها النزعات العقلانية، كالاعتزال والرشدية مثلا، التي تقول بالمواضعة اللسانية وبالمسؤولية البشرية عن كل الأعمال، بما فيها الفكرية، وهي بالتالي تقترب من التصور العلمي الحديث نسبيا. أما الدكتور، فهو على ما يبدو لا يرتقي في تفكيره حتى إلى الأشعرية التي حاولت التوفيق بين النقل والعقل وهو يسقط في تصوّر سلفي محافظ يقترب من السلفية المتشددة سيرا وراء ابن تيمية (العالم الفقيه) الذي حاول الإجهاز حتى على الأشعرية والعودة إلى التيار الكلامي السلفي المتشدّد.
إن الدكتور ينقد العلمانية كنظام ويصفها بأنها " فساد للدين"، كما رأينا في مكان سابق، وهو بالتالي من أنصار الدولة الدينية على ما يبدو، وهو ينقد الوضعية، وقد يصفها بإفساد العلم ويكفرها، وهو من أنصار العلم الإلهي. إننا إذن، مع مشروع كامل، علميا واجتماعيا لأسلمة العلم والسياسية والمجتمع، وإذا كان هذا من حقه الفكري والسياسي، فمن حقنا أن نخالفه الرأي في العلم وفي السياسية معا. ولكن من المفارقات العجيبة أن الدكتور، في نفس الوقت الذي يعتبر فيه الإنسان " واسطة" بين السماء والأرض، يقول بأنه كائن حرّ، وكالعادة، يقول الدكتور مرة أخرى بالشيء ونقيضه في نفس الوقت.
• 14: الإنسان والحرية:
يقول الدكتور: " وبعبارة أخرى ، فالكائن الإنساني يستمد من عالم الرموز الثقافية حرية العمل وحرية الاختيار وحرية الاختلاف عن الآخر. ومن ثم، فالسلوك البشري يتمتع بقدر ضخم من المرونة، أي أنه تحكمه حتمية مرنة لا حتمية متصلبة مثل هو الشأن في عالم سلوك الحيوانات والدواب " (ص210). عجيب أمر الدكتور، مرة يقول لنا إن الرموز الثقافية مصدرها سماوي وإن دماغنا ليس سوى حاضنة لها وإن عقلنا ليس سوى وعاء وإننا لسنا سوى واسطة لما تقرره السماء، ومرة أخرى يقول لنا إننا نتمتع بحرية العمل والاختيار والاختلاف !
فهل هذا هو " المنظور الإسلامي" للحرية الذي يقدّمه. إن غرضنا من هذا العمل سوسيولوجي علمي تحديدا، لذلك لن نرجع إلى النقاش الإسلامي القديم بين الجبرية والقدرية حيث كان الجميع يجد له سندا في القرآن والحديث دون أن يحسم الأمر إلى يومنا هذا. إن هدفنا هو نقاش مسألة الحرية سوسيولوجيا، لكن هذا النقاش يفترض أن يتم داخل إطار تحليلي اجتماعي وليس بين الكائن البشري والله ، فعندها يدخل النقاش ضمن الأبحاث الدينية وليس العلمية. وحتى نرجع إلى علم الاجتماع ، نورد هامشا ذكره الدكتور في آخر الفقرة المذكورة أعلاه قال فيه: " علماء النفس السلوكيين وعلماء الاجتماع المتبنّون لمنظور ما يسمى بالحتمية الاجتماعية المتشددة، أميل دوركهايم أب هذا الاتجاه في العصر الحديث" (ص 242- هامش 56). إذن، يبدو أن الدكتور ضد " الحتمية الاجتماعية المتشددة" أو " المتصلبة" وهو حسب الفقرة الأولى من أنصار " الحتمية المرنة". إنه يعتقد أن " الحتمية الخشنة المتصلبة" تنطبق على الحيوان فقط، وبما أنه يعتبر إن " العلوم الوضعية تعتبر الإنسان حيوانا أي كائنا دون عقل" كما ذكرنا سابقا، فهو يستنتج أن دوركهايم والوضعيين يؤمنون بالحتمية المتصلبة. إن هذا التوصيف خاطئ ومبالغ فيه لأن دوركهايم أيضا يعتبر الإنسان كائنا عاقلا و يعالج مسألة الحرية معالجة حتمية اجتماعية ولكنها ليست متصلبة مثل " الحتمية الحيوانية" على أية حال.
من ناحية أخرى، يتبنى الدكتور الذوادي ما يسميه " الحتمية الثقافية" فما هو مدى خشونتها أو مرونتها ؟ يقول في علاقة البيولوجيا ( طول أمد الحياة) والثقافة ما يلي: " نحن هنا أمام ما يمكن أن نطلق عليه بالحتمية الثقافية في قضية إطالة أو تقصير حياة أفراد أجناس الكائنات الحية" (ص 148).
ومن المشروع أن نتساءل في هذه الحالة السؤال التالي: إذا كان الدكتور يؤمن " بالحتمية الثقافية" في العلاقة بين الثقافة والبيولوجيا، (وهذه الأخيرة تعرف أنها أكثر استقلالا عن الثقافة من السلوك البشري) فكيف ستكون هذه الحتمية الثقافية إذا ربطنا بين " الرموز الثقافية" و"العمل" و "الاختيار" الاختلاف" ؟ هل فعلا ستكون هذه " الحتمية الثقافية" مرنة ؟ من ناحية أخرى، إذا كانت حتمية دوركهايم " خشنة ومتصلبة"، وهي تتعلق بعلاقة السلوك بالمجتمع، أو بالظاهرة الاجتماعية القاهرة، فكيف ستكون " الحتمية الثقافية" عند الدكتور بين السلوك البشري والله " القهّار" ؟ في اعتقادنا، إن الدكتور يتلاعب فقط بعقول قراّئه، وعلى الأرجح إنه، كالعادة، يقول الشيء ونقيضه في نفس الوقت. ولعله لو علم أنه في التاريخ الإسلامي اشتهر المعتزلة والشيعة بميلهم إلى مبدأ الحرية الإنسانية والقدرية بينما مال الغزالي وابن تيمية وابن خلدون، الذين يقول الدكتور بتبنيهم، إلى الموقف الجبري ولو بصور متفاوتة، لعله لو علم بذلك لغيّر رأيه تماما فيما كتبه. لكن الدكتور لا ينتبه إلى أمور عديدة يكتبها أو يقتبسها. ولقد ذكرنا سابقا، كيف أن الدكتور يعتبر الفتنة الكبرى بين علي ومعاوية، مجرد صراع سياسي لا علاقة له بوحدة الرموز الثقافية الإسلامية. وبمناسبة مسألة الحرية الإنسانية نذكر الدكتور إن بعض أقوال علي بن أبي طالب أثناء نزاعه مع معاوية كانت مقدمة إيمان الشيعة بحرية الاختيار. إن " الأمثلة على قول الشيعة بحرية الاختيار ونفي القضاء والقدر كثيرة وهي ترجع إلى الإمام الأول علي بن أبي طالب. فقد جاء في "نهج البلاغة" أن أحدهم سأل عليا على إثر اشتداد الأمر بينه وبين معاوية: " أكان مسيرنا إلى الشام بقضاء من الله وقدر ؟ " فأجاب " لعلك ظننت قضاء لازما و قدرا حاتما، ولو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد" (انظر نهج البلاغة، شرح الشيخ محمد عبده، الجزء الثاني، ص158-159" ( م63 ، ص172)
في الواقع، إن الدكتور يحاول على طريقته القريبة من التصوف، التوفيق بين القدرية والجبرية، أما حلّه فهو، و يا لغرابة " المنظور الإسلامي"، تشبيه الإنسان بالله.
15: الحرية والتشابه مع الله
ماهو الحل الذي وجده الدكتور للتأكيد على مسألة الحرية إذن؟ إنه القول بالتشابه النسبي مع الله. يقول: " ومن ثم فهو (الإنسان) أكثر المخلوقات ترشحا لأخذ المسؤولية الكبرى في هذا الكون "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما وجهولا " (الأحزاب، آية 72) لأنه بسبب تلك النفخة الروحية السماوية اكتسب صفة التشابه النسبي مع الإله الأمر الذي يفسّر شرعيه تولّي الإنسان وحده للخلافة من بين كل الكائنات الأخرى" (ص191).
هكذا إذن، هنالك تشابه بين الإنسان الذي كان حسب القرآن " ظلوما وجهولا " مع الإله الذي يصفه القرآن " بالعليم والعدل والرحمان والرؤوف". إن الدكتور الذوادي يورط نفسه في أمور غريبة مع الدين ومع العلم في نفس الوقت، ولا نعتقد أن عبارة " التشابه النسبي" سوف تحل المشكل، لأن الإنسان أثبت حسب الآية المذكورة "حريته " في أن يكون ظلوما وجهولا فقط ! ولكن، بما أن عملنا علمي سوسيولوجي سوف نهتم أساسا بعلاقته بالعلم.
في نفس الفقرة التي تحدّث فيها عن " التشابه النسبي" مع الإله، " أطلق الدكتور النار" على داروين طبعا فقال: " وتبوأ الإنسان لمكانة الخلافة لم يأت من عملية التطور التي نادى بها داروين وأتباعه. وإنما هي في نظر القرآن حصيلة لقرار إلا هي مقصود يتمثل في تفضيل الإنسان" (ص 190). إن الدكتور يخلق لنفسه مشاكل مع العلم والدين في نفس الوقت، فلا هو مصيب هنا ولا هناك. دينيا، يصرّ على تفسير ترشح الإنسان للخلافة على الأرض " بالنفخة الإلهية" فقط. و لا يهمه لا " التسوية الإلهية" لآدم ولا " تعليم آدم الأسماء كلها" ولا أي أمر آخر.
وعلميا، يصرّ الدكتور على رفض داروين، وهو الأب الحقيقي لكل الدراسات العلمية الحديثة عن نشأة وتطور الإنسان. إن محاولته التوفيق بين الدين والعلم أوقعته على ما يبدو في ما يشبه " المنزلة بين المنزلتين" انه كمرتكب الكبيرة بين العلم والدين إذا استعملنا معجم التسامح المعتزلي في القضية. لكن، نرجو ألا يطالب الدكتور مستقبلا بمنع تدريس داروين وغيره من العلماء في مدارسنا، لأنه لو فعل ذلك سوف يظلم داروين الذي لم يقم إلا بواجبه العلمي واعترف إن البحث عن " الأصل الأول للكون" ليست مهمة العلم الذي عليه أن يدرس الظواهر ضمن سلسلة تطور وتنوّع أشكال الوجود المادي دون إدخال الله في الفرضيات العلمية. إن الدكتور يرفض العلوم الحديثة بدعوى مناصرة الدين، ولكن لماذا يختلف المنظوران حسب رأيه؟
16: لماذا يخالف العلم الحديث الدين؟
يقول الدكتور للإجابة عن السؤال ما يلي: " ويمكن تفسير هذه الرؤية المعرفية الجديدة التي تلغي العناصر غير الحسية والمادية من اهتمام الباحثين والعلماء بسببين رئيسيين (1) تصادم العلماء والفلاسفة مع السلطة الكنيسة (2) تقدم الاكتشافات العلمية على الخصوص في علوم الفيزياء والكيمياء و الطبيعة. فصراع واختلاف مفاهيم الكنيسة حول موقع الأرض وموقع الشمس في النظام الكوني كان على طرفي نقيض مما توصل إليه العلماء يومئذ... (ص198). وبعد ذلك يقول الدكتور إن هذا المنظور العلمي أثر في علماء الإنسان والاجتماع ورفضوا هم أيضا " التفكير الغيبي الخيالي" (ص198) الذي كان عند الكنيسة. إن الأسباب التي فسّر بها الدكتور المسألة ضعيفة نسبيا وفيها " مركزية إسلامية" مبطنة. فالسبب الأول: تصادم العلماء والفلاسفة مع سلطة الكنيسة، و من حق عالم الاجتماع العربي أن يسأل الدكتور: ألم يتصادم الفلاسفة والعلماء العرب (مسلمون وغير مسلمين) مع رجال الدين أيضا ؟ السبب الثاني: اختلاف التصور العلمي عن الكون مع التصور الكنسي الغيبي، ولكن، ألا يختلف نفس ذلك التصور العلمي مع التصور الإسلامي عن الكون ؟ طبعا سيجيب الدكتور بالنفي، لكن نعتقد أن بعض الفصول السابقة تساهم، ولو جزئيا، في توضيح المسألة. إن الدكتور الذوادي يعترف بصورة غير مباشرة بهذا الأمر عندما يكتب ما يلي: " قد حان الوقت لتغيير نظرتنا إلى العلم" ثم يواصل " ويذهب البعض إلى القول بأن المخ البشري ينبغي أن يصبح نموذج المعرفة الإنسانية الحقيقية: معرفة الجانب المادي منه و المتمثل في تشريحه العضوي ، ومعرفة الجانب الرموزي ( العقلي) المميز للتجارب الإنسانية ذات الطبيعة غير المادية" ( ص199). إذن، حسب الدكتور وقراءاته في فلسفة العلوم وغيرها، لا بدّ أن ندرس العالم وكأنه مخ، فيه جانب مادي وآخر غير مادي ( روحي: فالروح تسكن الدماغ !). طيب، هل يعني هذا أن ندرس الذرة وكأنها مخ، فيها جانب مادي وآخر غير مادي ؟ هل يعني هذا أن ندرس الجاذبية مثلما ندرس المخ، فيها جانب مادي وآخر غير مادي ؟ طبعا الدكتور لن يقول إن للذرة روحها الميتافيزيقية ولكنه سيقول إن الله هو الذي خلق الذرة و هو الذي برمج كيفية اشتغالها، هذا ما قد يقصده. ولكن في هذه الحالة، ألا يصبح من حق عالم الذرة أن يكتفي بمكونات الذرة المادية وعلاقاتها المادية ويترك للمسلم والمسيحي واليهودي والملحد والبوذي أن يستنتج ما يريد؟ أليس من الأسلم للعالم أن يكون علمانيا يدرس الظواهر في استقلاليتها عن أي تصور للإله، حتى يعطي نتائج معرفية كونية، بقطع النظر حتى عن تصوره هو الخاص للدين؟ أم إننا سنعود الآن، في القرن الواحد والعشرين، إلى موقف الغزالي الرافض لتفسير احتراق القطن بالنار بخصائص المادتين ، بحجة إن الله يستطيع لو شاء أن يجعل النار بردا و سلاما حتى على القطن ، ونعمّمه على العلوم الصحيحة كلها فتفقد كل قدرتها التفسيرية وكل حججها المخبرية التجريبية؟ مع الأسف، يبدو أن الدكتور يدعونا لهذا الأمر تحديدا، خاصة في علوم الاجتماع. من ناحية ثانية، هل يعتبر المخ بالضرورة نموذجا للعلوم الحديثة؟ ألا نقوم بقلب العملية لا غير عندما تعوّض دراستنا للكون كما لو أنه " ساعة" فنقدم " رؤى ميكانيكية" (ص199) عن العالم، برؤية ترى العالم و "كأنه مخ" فتقدم رؤى عضوية للكون؟ هل نعود إلى التصور العضوي عن العالم، ولكن نعدّ له فقط بتغيير الجسد ( سابقا) بالمخ ؟ أليس هنالك خطر على العلم أن يعتمد " نموذج المخ" في دراسة أية ظاهرة فيزيائية أو اجتماعية مثلا؟ ألا يعيدنا " نموذج المخ "- المادي – الروحي " تحديدا إلى التفسير ألأرواحي – الغائي حتى للظواهر الفيزيائية مثلا؟ أية معرفة سيقدمها العلم في هذه الحالة؟
يعترف الدكتور أن علمه الجديد يمثل " في هذا الكتاب خروجا عن سنن الطرح التقليدي الضيق الذي تتبناه العلوم الاجتماعية الغربية الوضعية في دراستها للثقافة/ الرموز الثقافية" (صص 12-13) بل وفيه " تجاسر غير معهود على النيل من هيبة العلوم الحديثة" (ص203) فنعم الاعتراف .
وحتى تكتمل الصورة، نختم بخواتم الدكتور العظيمة للأشياء " المعرفة التي ما بعدها من معرفة".
• 17: المعرفة التي ما بعدها معرفة:
يعتقد الدكتور أن " البحث العلمي الأساسي" الذي يقدّمه والذي يرجع إلى " أساسيات الأشياء" (ص 177) كما يقول يفضي إلى تقديم " باراديغم جديد " أو ما يسميه " الرؤية المعرفية الإسلامية" ليس فقط في علم اجتماع الثقافة، بل في كل العلوم تقريبا ! إن هذا " المنظور الإسلامي" يقدّم لنا حسب الدكتور أحسن طريقة في " علمنة العديد من الظواهر ذات الوشائج القوية بالرموز الثقافية" (ص11) ( أي علمنة " النفخة الإلهية الأولى" بداية) إلى درجة يمكنها أن " تحسم الأمر بهذا الشأن وتنهي الجدال الفلسفي والديني حول هذا الموضوع" (ص 10). كما إن المعرفة التي يقدمها لنا الدكتور الذوادي هي ما " يمكن أن نطلق عليه بالمعرفة التي ليس بعدها من معرفة بخصوص التعمّق في أعماق الإنسان" (ص212) وهي " فتوحات علمية" وتمثل " قمّة ترسانة المعارف جميعا" (ص178)
إننا على ما يبدو أمام فتوحات علمية عظيمة تتوازى مع الفتوحات الإسلامية التي يعدّ آخرون لتحقيقها سياسيا وعسكريا هذه الأيام. إننا عثرنا أخيرا على " المعرفة التي ما بعدها من معرفة" لأن الدكتور، كشيخ الطريقة الصوفية، توحّد على ما يبدو مع الله عبر " المنظور الإسلامي" الذي يقدّمه. ويعترف الدكتور لنا أنه " وبطريقة مفاجئة وجدنا أن المنظور القرآني حول طبيعة الرموز الثقافية ينسجم تمام الانسجام مع الرؤية التي توصلنا إليها كنتيجة لجهودنا البحثية المستقلة عن الرؤية القرآنية حول الرموز الثقافية منذ أكثر من عقد من الزمن" (ص17).
وبذلك أوصلته "جهوده العلمية المستقلة" إلى " المعرفة اليقينية" الإلهية على ما يبدو وهو بنشره لأعماله إنما يقوم من ناحية أولى، بواجبه كعالم مسلم عظيم من " ورثة الأنبياء" (ص:206).
ومن ناحية ثانية لأنه يعتقد أنه يقوم بـ" فرض علمي عيني على كل منتسب وعلى كل من يطمح إلى الدخول بجدارة إلى دنيا العلوم الاجتماعية من بابها العريض" (ص 8).
وثالثا لأن نشر هذه الأعمال العظيمة يدخل ضمن مسؤوليته كعالم، هذه المسؤولية التي هي ليست " مربوطة بزمن معيّن وإنما هي مسؤولية أزلية لا تعترف بعوامل الزمن والمكان والعرق والدين... إنها مسؤولية مطلقة بالنسبة إلى هذا الكائن العاقل" (ص207). وبذلك سيحقق الخلود والأزلية باعتباره كائنا يربطه بالله " شبه نسبي". ماذا يبقى للباحثين والعلماء المهتمين بالثقافة وبالعلوم الإنسانية والاجتماعية أن يفعلوه ؟ على ما يبدو، لا بديل عن إتباع العالم الذي قدّم لهم " المعرفة التي ليس بعدها من معرفة" لذلك، نقرأ في آخر الكتاب (ص: 263-268)، ليس " دعوة علمية للحوار"، بل دعوة للتحدي. لقد عنون الدكتور آخر فقرة من كتابه كما يلي: "علماء الاجتماع العرب أمام التحدي" (ص263) وداخل الفقرة، قدّم " تحديين اثنين: أحدهما يشتركون فيه مع عدد متزايد من علماء الاجتماع في القارات الخمس، والآخر ذو جذور عربية ربما لا يعرفه معظم الزملاء العرب" (ص 263).
- التحدي الأول: هو حسب رأيه " إبستمولوجي" يدعو فيه علماء الاجتماع في العالم بأكمله بتبني تصوره حول "ابستمولوجيا" تقول إن "الله هو خالق كل شيء" ـ وهي ليست ابستمولوجيا بل اونطولوجيا كما وضحنا سابقا- ويدعو فيه علماء الاجتماع المسلمين والعرب لاقتناص "هذه الفرصة الثمينة فيكونوا فعلا من روّاد حركة الإصلاح الايستمولوجي في دنيا العلوم الاجتماعية بصفة عامة" (ص 265) ( لو قال الإصلاح الديني لصدقنا ).
- التحدي الثاني: هو: " ما تطرحه من رؤية جديدة في هذا الكتاب بالنسبة إلى دراسة الرموز الثقافية (الثقافة)" (ص265). إن الدكتور يدعو الناس إلى الالتحاق به في تبني "الابستمولوجيا التوحيدية" و " ميتافيزيقا الثقافة" لأنه يعترف بأنه وجد نفسه فردا على درب الدراسة والبحث (ص267) ، هذا البحث الذي " يتجاوز الجهود المتواضعة لشخص واحد مهما حرص على الإقلاع والتقدم بمثل هذا المشروع الطموح" (ص 268).
وفي الأخير يتساءل الدكتور قائلا: " فهل يهبّ بعض علماء الاجتماع العرب وغيرهم لنجدتنا للتقدم بمسيرة البحث السوسيولوجي في الرموز الثقافية بالرؤية المرجعية والتأصيلية للثقافة الإسلامية العربية ؟ " (ص 268).
لبيك يا دكتور، ولكن نقديا !
إن علماء الاجتماع العرب لن يسقطوا معك في وهم " المعرفة التي ليس بعدها من معرفة" مهما حاولت إخراج ذلك في قالب فلسفي- ديني- علمي. إننا نبحث دائما عن المعرفة الاستئنافية التي تأتي بعدها معرفة أخرى لأن وهم امتلاك " المعرفة النهائية" هو إعلان موت معرفي. إننا لسنا في حاجة إلى " علم رسولي" جديد " لفرقة ناجية" جديدة يقول إنه اكتشف لنا أخيرا خواتم المعرفة بواسطة فلسفة اجتماع دينية تدّعي الوصول إلى اليقين العلمي والديني في نفس الوقت. إننا، كما قلنا سابقا، لسنا في حاجة إلى العودة باتجاه " فلسفة اجتماع دينية" جديدة، تنهي التاريخ والمعرفة. إن البحث العلمي والفلسفي معا، لن يقطعا حبل السرة مع فكرة " نهاية التاريخ" و "نهاية المعرفة" إلا إذا تحوّلا إلى بحثين مفتوحين ضد كل الأنساق الاجتماعية والمعرفية المغلقة سواء تقدّمت باسم الفلسفة أو العلم أو الدين أو باسم الديمقراطية أو الاشتراكية أي شيء آخر.
ـ قبل الخاتمة : مقدمة قراءة انعكاسية لسوسيولوجيا الدكتور الذوادي
عندما تعرضنا إلى ا دعاء الدكتور محمود الذوادي توافق ما يدعو إليه في " تأصيل علم الاجتماع العربي" مع علم اجتماع بيار بورديو، اكتفينا ببعض الملاحظات حول عبارة " علم الاجتماع النقدي" وعرضنا بصورة مختصرة موقفنا من الادعاء. و نودّ الآن أن نرجع إلى بيار بورديو و " علم الاجتماع الانعكاسي" عنده في محاولة لدعوة الدكتور الذوادي أن يمارس الانعكاسية على ما كتبه إن كان فعلا يؤمن بما يقوله.
استشهد الدكتور، من بورديو، بكتاب " أسئلة علم الاجتماع: في علم الاجتماع الانعكاسي" وهو حوار مطول مع ج ـ د فاكونت و ا لترجمة ا لعربية المذكورة للكتاب هي التي سنستعملها في هذا العنصر و منها كل الاقتباسات.
عنوان القسم الثاني من هذا الكتاب هو: " ممارسة علم الاجتماع الانعكاسي" ويحتوي على خمسة أجزاء هي على التوالي:
1- نقل حرفة. 2- التفكير على نحو علاقي. 3- شكّ جذري. 4- انشداد مزدوج وتبدل. 5- الموضعة المشاركة.
سنكتفي بعرض أهم الأفكار الواردة في هذه الأجزاء الخمسة ولنر مدى توافق الدكتور مع علم الاجتماع الانعكاسي عند بورديو..
أولا: نقل حرفة: عالم الاجتماع عند بيار بورديو هو صاحب " حرفة" مثلما عبّر عن ذلك في كتابه " حرفة عالم الاجتماع". ( م43) وكل حرفة لا تعلّم للغير إلا بطريقة فيها درجة من الحرفية، وهي بالتأكيد لا تعلّم إلا من خلال الممارسة الفعلية التدريجية ولا يمكن في تعليمها الاكتفاء بالدروس النظرية بل أيضا بالممارسة العمليّة وتكون الاستفادة من الأخطاء العملية أثناء تعلمها ذات فائدة كبيرة.
من ناحية أخرى، الحِرفة ليست لا نظرية خالصة ولا تجربة خالصة، إنها عجيبة من العنصرين، عجينة تكاد تختلط فيها النظرية بالمنهج وبالأدوات وبالمادة المشتغل عليها.
يقول بيار بورديو: " إن عالم الاجتماع، الذي يبحث عن نقل سمت (Habitus) علمي، يمت بصلة إلى مدرب رياضي ذي مستوى عال، أكثر مما يمت بصلة إلى أستاذ في الصوربون. إنه يتكلم قليلا بواسطة المبادئ والتعاليم العامة- لا يستطيع طبعا إلا أن يتلفظ بعضا منها، كما فعلت في حرفة عالم الاجتماع، لكنه يعرف أنه لا يجب الوقوف هناك ( فلا شيء أضرّ، بمعنى ما، من الابستمولوجيا، عندما تصير مبحثا إنشائيا وبديلا من البحث) (ص170).
وقبل هذا المقطع، توجه بيار بورديو إلى طلبته ( القسم الثاني من الكتاب هو درس ألقي في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية، باريس أكتوبر 1987) قائلا: " إنني أريد أن أقول بغير إلحاح أن من بين كل الاستعدادات التي أتمنى أن أكون قادرا على ترسيخها في الأذهان، هنالك القدرة على إدراك البحث من حيث هو مشروع عقلي. وليس باعتباره طلبا صوفيا، يتحدث عنه بتشدق من أجل الاطمئنان" (ص166).
أين الدكتور الذوادي من الوعي بضرر المباحث الانشائية في الابستمولوجيا بديلا عن البحث الميداني؟ وأين هو من " إدراك البحث من حيث هو مشروع عقلي، وليس باعتباره طلبا صوفيا"؟ هل علمنا الدكتور الذوادي حرفة؟ وكيف بإمكانه أن يعلمنا حرفة تتعامل مع " النفخة الإلهية الأولى" ومع كائنات " ما ورائية" و" لا محسوسة" و" ميتافيزيقية"؟
إننا نعتقد بصراحة أنه عرض علينا " إنشاء" حول " تصوف" ميتاـ ـسوسيولوجي، بعيدا كل البعد عن " المشروع العقلي" و " الحرفي" في نفس الوقت. وإن هذا راجع إلى مسلمته الانطولوجية وتصوره الميتافيزيقي عن الثقافة الذي أثر على مشروعه الذي هو أقرب إلى " الطلب الصوفي" منه إلى البحث العلمي. إن عمل الدكتور مليء بالتأمل والتأويل والتجريد و لكن " الحرفة" فيه غائبة تقريبا.
ثانيا: التفكير على نحو علاقي ( علائقي):
يقول بيار بورديو: " و من خلال ذلك المفهوم ( مفهوم الحقل)، يتذكر المبدأ الأول في المنهج، الذي يفرض أن يقاوم، بكل الوسائط، الميل الأول إلى التفكير في العالم الاجتماعي بكيفية واقعانية أو جوهرانية حسب قول كاسيرير ( قارن: الجوهر والوظيفة)، أي أنه يجب أن يفكر على نحو علاقي. وبالفعل، قد يمكن القول، بتشويه كلمة هيغل، إن الواقعي علاقي " (ص174).
إن مفهوم الحقل بالنسبة لبيار بورديو، والمجتمع هو مجموعة حقول عنده، قد يوحى بإمكان فصل الظاهرة كجوهر إذا افترضنا انفصال الحقول نفسها، لكن التحليل السوسيولوجي "الانعكاسي" عند بيار بورديو يقول: الواقعي علائقي.
والعلائقية حسب بيار بورديو ضد الواقعانية التجريبية المحضة من ناحية أولى وضد الجوهرانية التأملية الصوفية من ناحية ثانية. وهي علائقية اجتماعية بالدرجة الأولى. ما هو موقف الدكتور الذوادي؟
الجوهري اللا واقعي، الجوهري عنده لا هو علائقي ( أو هو ميتا علائقي بالتحديد) ولا هو حتى واقعي. الجوهر عنده هو " نفخة الروح الأولى"، وهو لا واقعي، لا محسوس، لا مادي، يشبه " الكائنات الماورائية " و " خالد في الزمان"...
كان هيغل يقول: " كل ما هو واقعي عقلاني وكل ما هو عقلاني واقعي" كان بورديو يقول: " كل ما هو واقعي علائقي".
أما الدكتور فيقول: " كل ما هو جوهري لا واقعي" إنه يشبه " العجائب والغرائب" وهو " مثل عصا سحرية"....
ثالثا: شك جذري:
يعرف عن بيار بورديو شكه الديكارتي الجذري في كل ما يفعله، وفي كل ما يفعله غيره بما في ذلك في ديكارت نفسه، في موقفه من السياسة مثلا، وهو يدعو ضمن " علم الاجتماع الانعكاسي" أن يكون هذا الشك الجذري ميزة عالم الاجتماع. فالإيمانية عنده، بمعانيها السوسيولوجية المختلفة، هي أكبر عدوّ للعقل السوسيولوجي، أي للممارسة السوسيولوجية بوصفها " مشروعا عقليا".
إن الشك الجذري عند بيار بورديو، كمكون من مكونات " علم الاجتماع الانعكاسي" لا يكتفي بنقد " الحس العام المشترك Le sens commun بل " الحس العالم المشترك" « le sens savant commun»." أي أنه يشك في " المعرفة الحسية العامة" وفي " معرفة العلماء العامة". ويؤدي ذلك إلى طرح ضرورة مساءلة عالم الاجتماع لنفسه دائما، حتى يتخلص، ليس فقط من " الحس العام" نتيجة كونه فردا من مجتمع، بل وكذلك من " الحس العالم العام" نتيجة كونه عضوا في حقل أكاديمي رسمي له " سمته" الخاص الذي يسعى إلى " إعادة إنتاجه" وبالتالي تخليده حفاظا على الهيمنة الاجتماعية من ناحية أولى والعلمية من ناحية ثانية. وأول الشروط المطلوبة للقيام بهذا " الشك الجذري" هو موضعة الموضوع المدروس. وثاني هذه الشروط مساء لة النفس باستمرار حول مدى ذوبان الباحث السوسيولوجي إما في موضوعه، أو في " الحس العالم المشترك" الذي سبق أن تكوّن ضمن " الحقل العلمي".
يقول يورديو: " إن علم الاجتماع العادي- الذي يقتصد في المساءلة الجذرية لعملياته الخاصة وأدواته الفكرية الخاصة، والذي سوف يعتبر بلا شك قصدا انعكاسيا مثل ذاك على أنه بقية من عقلية فلسفية، وبالتالي إحدى المخلفات ما قبل العلمية- يعد مخترقا كليا بواسطة الموضوع الذي يدّعي معرفته، وإنه لا يستطيع أن يعرفه واقعيا، بما أنه لا يعرف نفسه" (ص180).
ثم يضيف: " وفي العلوم الاجتماعية، كما هو معروف، تكون القطائع المعرفية في الغالب قطائع اجتماعية، إطراحات للاعتقادات الأساسية لزمرة ما، وأحيانا، للاعتقادات الأساسية لهيئة المهنيين، أي لمجموع الاعتقادات المتقاسمة الذي يؤسس الرأي المتعالم المشترك.وأن يمارس الشك الجذري في علم الاجتماع، فهو إلى حد ما أن يتم الخروج على القانون. و بلا شك فإن هذا هو ما كان ديكارت قد أحس به" (ص183).
هل يدعونا الدكتور الذوادي إلى هذا الشك الجذري؟ نعم و لا. نعم عندما يدعونا إلى الشك في كل ما قاله المفسرون للدين وما قاله علماء الاجتماع حول المجتمع والثقافة.
ولا لأن الشك الذي يدعونا إليه ليس شكا علميا ، بل هو يقين صوفي إسلامي جديد. إنه لا " يقتصد في المساءلة الجذرية" لأي شيء ولكن من " بقية عقلية فلسفية" وبالتالي من إحدى "المخلفات ما قبل العلمية". إن الدكتور الذوادي يقدم لنا "علما ميتافيزيقيا" أو " علما كيفيا " و " مخترقا كليا بواسطة الموضوع الذي يدّعي معرفته" لأنه قائم على مبدأ غير علمي، على يقين إيماني بدل شك علمي. إن الدكتور يذوب في موضوعه إيمانا، وبالتالي لا يمكنه موضعته. إن سوسيولوجيا الدكتور الإسلامية مخترقة تماما بموضوعها إلى درجة رفض التفاسير الإسلامية، والسوسيولوجيات الغربية. إنها دعوة إلى التوحيد الانطولوجي والتوحّد مع النفخة الإلهية الأولى. إنه يشك ليس في " الرأي المتعالم العام" بل في أبجديات علم الاجتماع. إنه جذري في " الخروج على القانون" ولكن، ليس في الخروج على " التعالم" بل على العلم.
إنه يعوض " الرأي المتعالم العام" بالرأي "المتصوف المتعالم" تقريبا.
رابعا: انشداد مزدوج وتبدّل:
ما يعتبره بيار بورديو انشدادا مزدوجا هو التالي:
- من ناحية أولى، على عالم الاجتماع أن يشك في " التقليد العالم في علم الاجتماع". - من ناحية ثانية: على عالم الاجتماع أن يستفيد من "وسائل التفكير" التي قدّمها ذلك العلم لينطلق منها ويبدل " فمن دون وسائل التفكير التي يأخذها عن تقليده العالم، لا يكون شيئا"(ص188).
" ومن ثم الطابع التناقضي في فن تعليم البحث: فعليه أن ينقل في آن واحد وسائل لبناء الواقع، إشكاليات ومفاهيم، تقنيات ومناهج، و أن ينقل كذلك استعدادا نقديا رائعا، أي نزوعا نحو مساءلة تلك الوسائل(...) التي ليست ساقطة من السماء ولا هي خارجة مسلحة من الواقع "( ص189). ما رأي الدكتور في هذا؟
يشكّ الدكتور في التقليد العلمي ( وليس العالم أو المتعالم) في علم الاجتماع، ويشك حتى في " وسائل التفكير" لأنه يدعي أنه يقوم بــ" بحث علمي أساسي" و أنه يقدم لنا " باراديغما جديدا". لذلك لا يستطيع أن ينقل لنا " وسائل بناء الواقع" الموروثة في علم الاجتماع. إنه يعوضها كلها بأخرى هي تأويل لأشياء " ساقطة من السماء" بفضل " نفخة الروح الأولى".
كيف سيقدم لنا إشكاليات بحث علمي وهو ينطلق من " ابستمولوجيا " إيمانية؟ كيف سيقدم لنا مفاهيم علمية وهو يعتقد أن " ما ورد" في القرآن عن مكونات " الروح الرموزية الثقافية" هو جهازه المفاهيمي؟
كيف سيقدم لنا تقنيات بحث ميداني وهو يعتقد أن "موضوع دراسته" " لا محسوس" " ما ورائي" يشبه " الروح" في معناها الديني!
أي منهج علمي سيقدمه لنا لمعرفة الواقع وهو لا يؤمن بواقعية ذلك الواقع و بعلائقيته بل بجوهريته المفارقة للمحسوس والملموس؟
ماذا يبقى لنا إذن؟ يبقى لنا أن نصدق " شيخ الطريقة" فيما يقوله فهو وحده صاحب العلم بالميتافيزيقا، في انتظار أن يصلنا الإلهام والحدس.
يقول بيار بورديو في معرض حديثة عن الشك الجذري في " التعالم"؛ " إن الأساتذة يديمون ويخلدون تعارضات أشد أو أقل خيالية بين مؤلفين ( فيبر/ماركس، بنية/تاريخ، الخ) وبين مفاهيم إلخ. وإذا كانت هذه التعارضات مفيدة جدا لتأكيد وجود الأستاذ الذي يتموقع هكذا فوق التقسيمات التي يصفها، فإن عمليات التبويب تلك، مثل كل التركيبات الزائفة لنظرية بغير تجربة وكل التحذيرات المعمقة وغير المفيدة لـ"علم منهج" بغير مفاهيم، تستغل قبل كل شيء بصفتها أنظمة دفاع ضد تقدمات العلم الحقيقية، التي تهدّد معرفة الأساتذة الزائفة" (ص189-190).
المشكلة عندنا، نحن العرب، بهذا " ا لتأصيل لعلم الاجتماع العربي" أن الدكتور لا يهدف إلى إبراز تلك التعارضات " لتأكيد وجود الأستاذ الذي يتموقع هكذا فوق التقسيمات التي يصفها" بل من أجل رفض الجميع واستئصالهم تماما بدعوى " التأصيل و " التوطين". المشكل أن الأستاذ يقدم أفكارا لا تشكل " أنظمة دفاع ضد تقدمات العلم الحقيقية، التي تهدد معرفة الأساتذة الزائفة" بل أفكارا "هجومية" ضد وجود ( وليس تقدم) العلم الذي يهدد أفكارنا الزائفة، ما قبل العلمية.
5- الموضعة المشاركة:
يعرّف بيار بورديو " الموضعة المشاركة" كما يلي:
" إن ما سميته الموضعة المشاركة ( التي يجب ألا تخلط بـ" الملاحظة المشاركة"، التي هي تحليل لمشاركة زائفة في زمرة أجنبية) هو بلا شك التمرين الأصعب، لأنها تتطلب إطراح أعمق التشبثات والارتباطات وأشدها لا وعيا، تلك التي تمثل، في أغلب الأحيان، " أهمية" الموضوع المدروس ذاتها بالنسبة إلى من يدرسه، أي كل ما يريد أن يعرف قليلا عن علاقته بالموضوع الذي يبحث عن معرفته"(ص194).
عندما يختار باحث سوسيولوجي ما موضوعا، يقدم ، بحثه من بين ما يقدمه به، بذكر " أهمية" الموضوع قيد الدراسة.
هذه " الأهمية"، هي عادة، تدل بطريقة ما عن " أعمق التشبثات والارتباطات وأشدها لا وعيا" بين الباحث وموضوع دراسته سواء بالإيجاب أو بالسلب. والموضعة المشاركة حسب بيار بورديو هي " إطراح" كل تلك " التشبثات والارتباطات" جانبا حتى يقوم الباحث فعليا بدراسة علمية موضوعية لموضوعه وهذا " هو بلا شك التمرين الأصعب" فعلا.
هل موضع الدكتور الذوادي موضوعه؟
لا ، إننا نعتقد بالعكس تماما ، فهو ذائب فيه كذوبان المتصوف في حب الله ، وهذا من حقه الديني طبعا ، لكن ليس من حقه السوسيولوجي.
إن لغة الدكتور في ندائه "العربي «أصيل علم الاجتماع العربي"، و غيرها من الدراسات التي تعرضنا إليها، هي لغة مدافع غيور عن الله وعن الإسلام وعن المسلمين و لكن هذا الدفاع غير علمي. إن دفاعه عن علم الاجتماع العربي " المنيع" و " الأمة الموحدة ذات الرموز الثقافية الخالدة" حق من حقوقه الدينية وكذلك السياسية. لكن إدراجه ذلك في " بحث علمي أساسي" في علم الاجتماع عموما وعلم الاجتماع الثقافي تحديدا، يعتبر إساءة " للموضعة المشاركة".
يقول بيار بورديو أنه كي ينجح الباحث في تطبيق " الموضعة المشاركة" " على نحو ما، " يجب أن يكون قد تمّ الإقلاع عن الرغبة في استخدام العلم من أجل التدخل في الموضوع لكي يكون المرء في مستوى أن يقوم بموضعة ليست هي مجرد النظرة المختزلة والجزئية التي يمكن اتخاذها، من داخل اللعب عن لاعب آخر، وإنما هي النظرة الشاملة التي تؤخذ عن لعب يمكن أن يدرك بما هو كذلك، لأنه قد تمّ الخروج منه"(ص199).
إن الموضعة المشاركة التي يدعو إليها بيار بورديو، إضافة إلى أنها صعبة التحقيق منهجيا، قد تفهم على أنها دعوة للاستقالة الاجتماعية و السياسية. لكن، لا حياة بيار بورديو تدل على ذلك ولا فكرته.
إن المهم، كما يقول الشعراء هو أن تضع نصب عينيك هدف بلوغ " الشعر الكامل" حتى تعمل في كل قصيدة جديدة على الارتقاء بفنك.
أما في علم الاجتماع فالمهم أن يوضع نصب الأعين " العلمية الكاملة" حتى يقوم عالم الاجتماع دائما بمساءلة عمله الأكاديمي ومساءلة " الحس المتعالم المشترك" المهيمن في الحقل العلمي.
المهم أيضا هو أن ننقد من نحب وما نحب أكثر من أي شخص أو مجتمع أو شيء آخر.
إن النقد العلمي الذي هو بعد مهم في البحث العلمي، داخل تيار "علم الاجتماع النقدي" ، لا يجب أن يتحول إلى نقد نبوي- ديني للمجتمع الذي ننقده ولا للعلم الذي نمارسه. وهذا يتطلب أولا وقبل كل شيء سلوك " الأخلاقية العلمية" وليس " الأخلاقية السياسية" أو "الأخلاقية الدينية". هل يقوم الدكتور الذوادي بهذا؟
لا ، إنه يقوم بهدم صوفي ميتافيزيقي للعلم الغربي ويدعو " لتوطين" علم الاجتماع ولتأصيله " في صلب ثقافته الإسلامية العربية" وكأن " تأصيل العلوم" ممكن في النص الديني، أو في ثقافة قومية أو دينية ما.
إن الدعوة إلى تأصيل علم الاجتماع، قد تشبه دعوة إلى تأصيل " علم المناخ" في ثقافته "الإسلامية العربية" بحيث عوض التوجه للاستفادة من أحدث العلوم والتكنولوجيات في التوقع الجوي مثلا ندعى للاكتفاء بإقامة صلوات الاستسقاء والاعتقاد بأن الجفاف عقاب إلا هي لنا لأننا ابتعدنا عن الصراط المستقيم.. . يجب على عالم الاجتماع العربي، "مثل" عالم الطبيعة العربي، أن يفصل أكثر ما يستطيع قناعاته الدينية عن أبحاثه العلمية لأنه إذا لم يفعل قد يسيء إلى أديانه ( الإسلام ، المسيحية...) وإلى العلم في نفس الوقت، وبالتالي إلى أمته وإلى الإنسانية جمعاء. إننا نعتقد أن، العلم لا يكون إلا علمانيا بالمعنى العام لهذه الكلمة، أي مستقلا بذاته عن الدين والسياسة والفلسفة، بوصفه علما، ومستفيدا منها ودارسا لها بأقصى درجات الموضوعية الممكنة.
إن هذه العلمانية أساسها الثقة بقدرة البحث العلمي و منهجه على الوصول إلى نتائج علمية موضوعية حول موضوعه، وبذلك فقط تخدم الأبحاث العلمية البشر بوصفهم أعضاء في أمة أو طبقة... أو مؤمنين بدين أو فلسفة ...الخ. أما إذا تحوّل عالم الاجتماع إلى مفسّر ديني جديد للنص الديني من " داخل" البحث العلمي السوسيولوجي فعلى الدين والعلم السلام.
لعل هذه الفكرة التي نقدمها هي نفسها من " الحس المشترك المتعالم" الوضعي . ولعل " علم الاجتماع الانعكاسي" نفسه هو" تعالم" بنيوي على العلم، الشك الجذري مطلوب، المهم أن لا يدعي أحد ممن يدعون العلم أنه يقدم الفكر " الشرعي الوحيد" المعبر عن الرؤية الدينية أو العلمية الوحيدة الصحيحة على السواء ولنا في مساعدي بيار بورديو (لعل أشهرهم برنار لاهير ( م64 ) و كتابه " الانسان الجمع " l’homme pluriel)) و زملائه ( ادغار موران... ) الأسوة الحسنة.
إنهم بدأوا، قبل موته، يمارسون شكهم الجذري في سوسيولوجياه الانعكاسية و إنهم يشكون في أهم تصوراته العلمية حول الحقل والبنية والسّمت ( الهابيتونس) والممارسة وكل شيء ، و لكن دون عدمية علمية ودون رجوع إلى الوراء نحو " تأصيل لعلم الاجتماع الغربي في صلب رؤية ثقافته المسيحية" مثلا.
المهم في كل هذا أن لا أحد منهم يدعي أنه يملك الحقيقة الإلهية أو العلمية المطلقة، إنهم يدافعون عن أفكارهم وقد يدافعون عن مصالحهم أو مصالح بلدانهم ولكنهم، رغم كل شيء، كأنما يرددون معنا، نحن العرب، بيتنا الشعري العظيم الذي قاله أبو نواس:
قل لمن يدعي في العلم فلسفة حفظت شيئا وغابت عنك أشياء. إننا ندعو الدكتور إلى ممارسة علم الاجتماع الانعكاسي على دراساته الشخصية إذا كان يوافق فعلا أفكار بيار بورديو بل وأن يقوم بنفس الشيء بصدد بورديو نفسه، ولكن بروح نقدية علمية، وليس بنقدية شبه كانطية و/ أو صوفية قد تحاكم العقل السوسيولوجي أكثر مما تدافع عنه.
إن التصورات الصوفية لعبت و تلعب أدوارا مهمة على المستويين الفلسفي و الديني، فقد شكلت إسهاما فلسفيا كبيرا في عصرها و هي ساهمت و لا تزال في إضعاف العقليات و الأجهزة الدينية الرسمية، و الفقهية أساسا. و لكن إذا سلك علم الاجتماع المسلك الصوفي فان الإيمان سيعوض الشك و الحدس سيعوض البحث و عندها سوف نحول البحث العلمي إلى "تجربة صوفية"، و قد نسيء إلى العلم و إلى التصوف في نفس الوقت على ما يبدو. إننا لسنا في حاجة إلى إدراج ثنائية " الشيخ و المريد"، التي تحدث عنها البا حث المغربي عبدا لله حمودي ، داخل علم الاجتماع العربي .
إننا بحاجة إلى" تعلم حرفة علمية" كما يقول بورديو، لكنها حرفة تجمع بين" الثقافتين العلمية و الإنسية "، بين "علم الاجتماع التجريبي" و" المحاولة" " التخييلية " كما قد يقول كل من ش ، ر، ميلز و ادغار موران.
المصادر والمراجع و الملاحظات
-58الذوادي، محمود؛ الثقافة بين تأصيل الرؤية الإسلامية و اغتراب منظور العلوم الاجتماعية، دار
الكتاب الجديد المتحدة، بنغازي ـ بيروت، 2006.
59- - DE CECCATY, Max, la vie de la cellule a l’homme, seuil , points –sciences , Paris, 1962.
60-TETRY, André, biologie, encyclopédie universalis, version huit , six CDS.
– CANGHILEM, Georges, Vie, Universalis .61
62- مالك (الإمام)، الموطأ، دار البحار، بيروت، الطبعة الأولى، 1986، (فقرة: ما يكون من الموت شهادة)، تحقيق وتقديم سعيد اللحام.
ويمكن العودة في هذا الصدد إلى كتب الحديث للتأكد من ذلك ؛ انظر على سبيل الذكر ؛ رياض الصالحين ، لللامام النووي ، كتاب الجهاد ، الباب الرابع و الثلاثون، مكتبة المنار ، تونس، د ت ، ص ص؛ 439-455.
63- كوربان، هنري، تاريخ الفلسفة الإسلامية، راجعه و قدم له الإمام موسى الصدر، تعريب نصير مروة و حسن قبيسي، عويدات للنشر و الطباعة، بيروت، ط2، 1998 ، ( الهامش من وضع المترجمين).
64 - Lahire bernard ,l’homme pluriel ,A colin / Nathan,Paris ,2001.
#بيرم_ناجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المن
...
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|