رفع الإعلام الصهيوني في الأشهر الأولى من انتفاضة الأقصى الصاعدة شعارا يقول ( دعوا الجيش ينتصر !) بمعنى تأويلي مفاده ( فليخرس الجميع من دعاة سلام وتعايش وحقوق إنسان وحيوان و لتهدر المدرعات على عظام الفلسطينيين حتى إطفاء الانتفاضة وتحقيق النصر ..) و قد رددت وسائل الإعلام ورموز وشخصيات الكيان الصهيوني هذا الشعار طويلا ولكنه تلاشى بمرور الوقت ولم يعد أحد يتذكره الآن فقد ابتلعت الانتفاضة بأمواجها المتوالية أية إمكانية لانتصار الجيش الصهيوني المدجج بترسانة أسلحة أمريكية لا مثيل لها .
واليوم ،وإذ يستعير كاتب هذه السطور بنية هذا الشعار إنما لصالح انتصار الشعب الفلسطيني وانتفاضته ، ولكي لا يبدو متناقضا مع نفسه ومع ما كتبه قبل فترة قصيرة والذي فحواه : إن الانتفاضة الفلسطينية انتصرت فعلا وما يؤخر اعتراف العدو بهذا الانتصار وبالتالي البدء بتثميره في إنجازات سياسية مادية ملموسة هو الذعر والخوف من انهيار كيانهم . إن هذا الذعر هو الذي يشل حركة وتفكير القيادة الصهيونية "الليكوعمالية " وليس العناد وعنصر القوة المادية والمعنوية كما كررنا في مناسبات سابقة ، كما أن من الصواب التذكير بأن ما يكرره البعض من أن الشعب الفلسطيني قد نزف الكثير من الدماء وأنه تعب من المواجهة وأن الحالة المعيشية والصحية والنفسية قد ساءت كثيرا ، بكل جرأة يجب القول أن هذا الكلام سليم ولا يمكن نفيه أو تكذيبه لسبب بسيط هو أن الفلسطينيين بشر وليسو روبوتات " مخلوقات آلية " ، ولكن المشكلة الجوهرية هي في توظيف وتوجيه هذه الوقائع باتجاه الاستنتاجات الصائبة . فالبعض يحاول استخدام هذه الوقائع بهدف الترويج لاستنتاجات تقود الى الاستسلام وإطفاء شعلة الانتفاضة والتنازل عن ثابتيْ حق العودة والسيادة على الحرم الشريف والذهاب الى شارون منبطحين ومستعدين للإملاءاته و إملاءات أسياده الأمريكان ، أما الخط المقاوم فينبغي أن يخرج بإجراءات عملية رصينة وسريعة تساعد الشعب وأغلبيته الفقيرة التي هي الينبوع الحقيقي والخزين الثوري للأبطال المقاومين ولآلاف الشهداء ، وتحسِّن من أوضاعه المعيشية بالسيطرة على عمليات البذخ البيروقراطي وسوء التصرف بالمال العام والاستمرار بالاعتماد والتعويل على الذات الشعبية وليس على بترول أبناء العم ! إن من واجب القوى والوطنية والإسلامية أن توحد نشاطها الخدماتي ،وتنأى عن التمييز بين الجمهور على أساس الانتماء الحزبي والفئوي ، و تبذل كل جهد ممكن لحل المشكلات والصعوبات الحياتية ،وتصعد من النضالات والنشطات الجماهيرية لتضامن مع ضحايا المجازر المستمرة وحملات الإبعاد والتنكيل وهدم المنازل . وبهذا الجهد الكفاحي يمكن محاصرة الحصار الصهيوني الخانق واللاإنساني ضد مدن وقرى فلسطين و فكه أو زيادة سرعة تآكله . إن هذه الحملة التي بدأت فعلا وبمستويات مختلفة الإيقاع ينبغي أن تكون محكومة بمنطق تطوير المقاومة المدنية السلمية لتكون رافدا للمقاومة المسلحة الشجاعة وليست بديلا لها كما يلح ويلحف في الطلب بعض البيروقراطيين من قادة الأجهزة القمعية الفلسطينية . هذه المقاومة المسلحة التي أعادت يومه الخميس 5/9/ 2002 ومن خلال عمليتي تفجير دبابة " المركاباه " و هجوم البطل محمود صيام على دورية صهيونية ،أقول ، إنها أعادت مجرم الحرب شارون الى خانة الصفر و حولت تصريحاته الانتصارية ضد الشعب الفلسطيني وانتفاضته في اليوم نفسه الى نوع من الهراء الممزوج بالغباء والعجرفة .
وبالعودة لقراءة أحداث الأيام القليلة المنصرمة ، نلاحظ أن القيادة "الليكوعمالية" المجرمة لم تكتف بتكتيك " طنجرة الضغط " أي محاصرة كل ما هو فلسطيني من بشر وحجر وشجر وحيوان حصارا خانقا لا يرحم بل واكب ذلك تكتيك " مجزرة كل يوم " في محاولة يائسة للي ذراع الشعب وانتفاضته .وقد اعترف إعلاميون في الصحافة الإسرائيلية بعدم جدوى هذين التكتيكين ، على أساس أن تصعيد الضغط قد يؤدي الى انفجار الطنجرة والإطاحة بالطهاة الدمويين من حولها ، وأن مجرد رفع الحصار ستتبعه فورا عمليات فدائية مدمرة داخل وخارج الخط الأخضر . أما سياسة المجازر فهي ستؤدي عاجلا أو آجلا الى تفعيل آليات انتحار ودمار الكيان .
لقد ارتكبت القوات الصهيونية العسكرية النظامية وقطعان المستوطنين لصوص الأرض سلسلة بشعة من المجازر بحق المدنيين وخصوصا الأطفال الذين تحول قنصهم بالرصاص الأمريكي الى رياضة رسمية في دولة "إسرائيل" وسط صمت عالمي شامل ومعيب ، واستخفاف يحاذي الشماتة من قبل النظام العربي الرسمي و وحيرة وذهول في ما يسمى "الشارع العربي" الذي دخل في غيبوبة عميقة إلا ما ندر ، وأيضا ، وكيما نكون "منصفين " وسط هرولة فلسطينية رسمية خلف التفاوض والتنسيق مع المحتل وبأي ثمن كان ، وحتى دون ثمن أحيانا ، وسط هذا كله تستمر الدولة الصهيونية بسفك دماء المدنيين الفلسطينيين بصفاقة وروح انتقامية ندر مثيلها في تاريخ الحروب . ولكن حركة التاريخ لها منطقها الخاص والذي يقترب من روح الحتم أحيانا ومن التطور والنمو العضوي أحيانا أخرى ، ولولا خصوصية الهيمنة اليهودية المالية والإعلامية والاستخباراتية على العالم الغربي ودوائر صنع القرار فيه لكانت الانتفاضة قد انتصرت باعتراف الصهاينة منذ زمن بعيد، و لرفع الفلسطينيون علم استقلالهم وعاد لاجئوهم الى مدنهم وقراهم .
فهل نحن حقا بحاجة الى تعداد إنجازات الانتفاضة ؟ يبدو أن ذلك الأمر صار لازبا ولازما في وقت يعدد الآخرون نقاط الضعف والتراجع والعياء .
لقد حولت الانتفاضة دولة إسرائيل الى صندوق مقفل ! صندوق حقيقي من الإسمنت المسلح والمحروس بقدرة نارية هائلة وليس صندوقا مجازيا من الكلمات والاستعارات الإنشائية . فأي إنجاز أكبر من حشر ما كان يسمى " إسرائيل الكبرى " في صندوق من الإسمنت المسلح يصل عرضه في بعض المواقع الى أربعة عشر كيلومترا فقط ؟
وماذا بخصوص النخر الداخلي العميق بفعل الأزمة الاقتصادية التي يرجح محللون صهاينة إنها هي التي ستطيح بإدارة شارون ؟ ماذا عن تكلفة قمع الانتفاضة التي بلغت قبل شهر ،وبأرقام الصهاينة أنفسهم خمسين مليار شيكل ؟ وماذا عن تناقص الهجرة اليهودية الى إسرائيل وسط أزمات عالمية كبرى كانت ستزود إسرائيل في الظروف العادية ولولا الانتفاضة بعدة ملايين ؟ لقد صدت الانتفاضة سيلا هائلا من الهجرة اليهودية خصوصا من بلدان أمريكا اللاتينية المنهارة اقتصاديا كان سيبلغ مليوني مهاجر " مستوطن " وفي هذا وحسب واحد من أعظم انتصارات الانتفاضة طُراً و ما كانت ستحققه كل جيوش العرب والمسلمين مجتمعة !
أما عن انخفاض السقف السياسي للمشروع الصهيوني فليس أدل عليه من أن الانتفاضة قد حسمت ( اقرأ : حررت ) مدينة القدس الشرقية كعاصمة للدولة الفلسطينية إذ تشير استطلاعات الرأي الإسرائيلية نفسها الى أن نسبة الموافقين على الانسحاب من القدس الشرقية أو اعتبار القدس مدينة مفتوحة وعاصمة لدولتين فاقت الستين في المائة وهو الأمر الذي كان يعتبر من يدعو إليه من الصهاينة خائنا ومعاديا لإسرائيل قبل بضعة أشهر فقط . كما حسمت الانتفاضة معركة المستوطنات فقد فاقت نسبة الصهاينة المؤيدين لإزالتها خمسة وستين في المائة أما المستعدين للدفاع عنها بشكل ملموس فلم تتجاوز نسبتهم الخمسة في المائة من السكان وقبل بضعة أسابيع دعا ضابط برتبة لواء في الجيش الصهيوني الى الانسحاب من مائة بالمائة من المستوطنات ومن القدس الشرقية ( تصريحات اللواء "إليك رون" الى جريدة معاريف في 14/8/2002 )
هذه الحقائق والوقائع وغيرها كثير، ليست غائبة أو مجهولة ولكنها مغيبة ومتجاهلة من قبل الراكضين والمتهافتين خلف التسوية السياسية بأي ثمن وإلا لماذا هذا اللهاث خلف أية إشارة من القيادة الصهيونية لعقد لقاء أو اجتماع تواكبه مجزرة جديدة أو عملية اغتيال لمناضل أو هدم بيوت لأناس عزل ؟ أليس من حق الناس التساؤل عن السر في هذا اللهاث والهرولة في صفوف البيروقراطيين ؟ هل لهذا علاقة بملايين الدولارات من أموال الضرائب التي يحتجزها العدو وبدأ يفرج عنها بالقطارة ؟
إن الانتفاضة التي عجزت الدولة الصهيونية عن لَيِّ ذراعها أو تحطيم شكيمتها تواجه في الوقت الحاضر جملة من التحديات ولكنها ستكون قادرة على مواجهة جميع تلك التحديات إذا ما حسمت موضوعين :
الأول هو شل قدرة البيروقراطية الفلسطينية على المساومة على الثوابت الوطنية وأولها ثابت حق عودة اللاجئين الفلسطينيين الى مدنهم وقراهم وتطويق كافة المشاريع التفريطية كمشروع زياد أبو زياد الذي تنازل بموجبه عن حق العودة والسيادة الفلسطينية على الحرم كما نقلت جريدة "هآرتس" في عددها ليوم 23/7/2002 ، ومشروع اتفاق سري نسيبة الذي صار المتخصص الأول في التنازل عن حق العودة مع المجرم "عامي إيلون " الرئيس السابق لجهاز الشاباك الدموي والمتخصص باغتيال المناضلين والمجاهدين الفلسطينيين وتعذيب السجناء كما نشرته جريدة "هآرتس" في عددها ليوم 3/9/2002 " أو حديث محمود عباس أبو مازن الى لاجئي مخيم اليرموك في سوريا وحديث نبيل شعث الى لاجئي مخيم الرشيدية في لبنان تلك الأحاديث التي مفادها ،كما ينقل الكاتب الصهيوني عكيفا إلدار في جريدة هآرتس عدد 5/9/2002 ، أن حق العودة الى الأرض الفلسطينية التي هُجِّرَ منها اللاجئون الفلسطينيون بات مستحيلا الآن . إن الحفاظ على ثابت حق عودة اللاجئين الفلسطينيين لا يقل أهمية ،بل ربما يربو على أهمية قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس. وعلى الانتفاضة وجماهيرها أن تحمي هذا الثابت من نهم وتهافت البيروقراطية الحاكمة على الصفقات السياسية .
الموضوع الثاني الذي على الانتفاضة وقواها الحية على الأرض أن تحسمه أيضا وبشجاعة هو ترصين الأداء المسلح للانتفاضة والتخلي نهائيا عن استهداف المدنيين "الإسرائيليين" داخل ما يسمى بالخط الأخضر مع استمرار استهداف القوات العسكرية المحتلة داخل وخارج الخط الأخضر والاستمرار باستهداف المستوطنين الصهاينة لصوص الأرض في كافة أراضي الضفة والقطاع . إن حسم هذا الموضوع لصالح خيار تصعيد العمل العسكري ضد الجيش الصهيوني والمستوطنين ،وعدم استهداف المدنيين ، يعني ضمن ما يعني التخلص من محاولات خلط الأوراق و تدفيع الانتفاضة ثمنا سياسيا وبشريا باهظا . وهو يعني أيضا تطويق العدو عالميا برأي عام شديد الحساسية إزاء المجازر واستهداف المدنيين . ومما يدعم هذا الخيار أن الانتفاضة مازالت قادرة على توجيه ضربات مركزة و مذهلة لقوات العدو برغم كل أشكال الحصار والقمع كما حدث يومه الأربعاء 5/9/2002على أيدي ثوار اللجان الشعبية " قوات الناصر صلاح الدين " و مقاتلي " كتائب شهداء الأقصى " . إن عملية واحدة كل أسبوع أو أسبوعين من هذا النوع الذي لم يجرؤ الأمريكان أو غيرهم على أن يقولوا ضده كلمة واحدة ، كافية لتقريب الانتفاضة من الانتصار الأكيد في حين أن عملية واحدة تستهدف مطعما أو مرقصا للمراهقين تؤخر الانتفاضة عن ذلك زمنا مديدا وتخلق لها المزيد من التعقيدات السياسية والأمنية .
وبكلمات قليلة يمكن القول : يجب شل قدرة البيروقراطية على العبث بحق عودة اللاجئين والكف عن استهداف المدنيين وتصعيد المقاومة المسلحة ضد الجيش الصهيوني أينما كان وضد عصابات المستوطنين في الضفة والقطاع .
خلاصة القول إن الخوف كل الخوف على شعلة الانتفاضة وانتصار شعب فلسطين لا يتأتى من تصاعد عمليات القمع الدموي والانتقام الفالت من كل شرط أخلاقي أو سياسي ولا من تشديد الحصار فليس في وسع الصهاينة بعد اليوم وبعد أن فعلوا كل ما فعلوا إلا اللجوء الى السلاح النووي وهذا يعني الانتحار، بل الخوف كل الخوف يتأتى من البيروقراطية الفلسطينية المنخورة بالفساد وآليات الهيمنة الدكتاتورية كأي نظام عربي " شقيق " و قائمة على التقسيم الأسري والفئوي والعشائري للسلطة على ما فيها من بؤس ، والخوف كل الخوف على الانتفاضة وانتصار الشعب من أن تنجر هذه القيادة الى نسخة جديدة وبائسة من اتفاقية " أوسلو " وأخواتها التي خنقت بمؤداها الانتفاضة الأولى . فهل سيسمح الشعب الفلسطيني بحدوث ذلك أم إنه سيجبر الذين يتصدرون الواجهة اليوم على الانسحاب ويواصل طريقة نحو الاستقلال وتجسيد الانتصار الناجز ؟
==========================
نص المقالة كما نشر في مجلة "الحرية " لسان حال الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين العدد909/15/9