أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - شريف يونس - نحو إعادة بناء لليسار















المزيد.....



نحو إعادة بناء لليسار


شريف يونس

الحوار المتمدن-العدد: 259 - 2002 / 9 / 27 - 02:11
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


 

نحو إعادة بناء لليسار: نقد ثقافةالهوية: من أجل ثقافة مقاومة ديمقراطية

 

 حين كتب طه حسين "مستقبل الثقافة فى مصر" وتوالت عليه الردود كانت قضية هذا المستقبل مطروحة من زاوية تشخيص الماضى .. وبمعنى آخر كان تحديد هذا المستقبل يرتكز على تشخيص ما يسمى بـ"طبيعة مصر" التى تتحدد بمعرفة "طبيعة ثقافتها" ، عن طريق تقرير معلومات عن تاريخها ، تفضى مثلا إلى استنتاج أن المؤثر الرئيسى على شخصيتها هو المؤثر العربى أو الفرعونى أو الإسلامى أو البحر متوسطى ، وبالتالى تحديد ما يسمى "طبيعة العقلية المصرية" . والهدف من هذا التحديد المطالبة بتنمية هذه الثقافة أو الطبيعة أو العقلية والحفاظ عليها ودفعها لتتجاوز مشكلاتها وأزمتها ، فى ظل القول بأن المستقبل رهن بتحقيق ذلك ، الذى يستند بدوره إلى القول بأن حفاظ أى أمة على "شخصيتها" هو مصدر تطورها وحيويتها . ومن الواضح أن هذه الاتجاهات فى مجموعها ترى أن صياغة مشاريع للمستقبل ، وبالتالى الصراع على تحديد المشروع المستقبلى الذى يجب الدفاع عنه فى الحاضر ، ينطلق من تشخيص الماضى ، أى من القول بأن الثقافة المصرية إسلامية أو فرعونية أو عربية أو غير ذلك .
 وإذا كانت هذه الطريقة فى النظر للأمور ثورية وجديدة فى عصرها حين طُرحت فى عشرينات وثلاثينات هذا القرن ، فإن تقدم الدراسات التاريخية والفلسفية والاجتماعية المعاصرة جعل مثل هذه النظرة بائدة إلى حد كبير ، برغم أنها ما زالت الأوسع انتشارا . وفوق ذلك تتعرض هذه النظرة منذ فترة لتحد سياسى أيديولوجى من جانب الأصولية الإسلامية ، المتشددة بالذات ، لأن الأصولية لا تطرح قضية الهوية من زاوية التاريخ أصلا ، ولكن من زاوية العقيدة ، من تفسير معين للكتب المقدسة ينتهى إلى القول بوجود مشروع سياسى/ دينى محدد يجب على كل مؤمن صادق الإيمان أن يسهم فى إنجازه ، لأن هذا المشروع السياسى هو جوهر الدين وأساسه ، أو بصريح عبارة سيد قطب (نقلا عن المودودى): أن كلمة "دين" فى القرآن تعنى على وجه الدقة والتحديد نظام الحكم .
 غير أن النظرة التاريخية لقضية مستقبل الثقافة أعيد لها الاعتبار جزئيا على يد التنويريين أو السلفيين الجدد .. ومنهم عادل حسين وطارق البشرى ومحمد عمارة وآخرون كثيرون ، حيث تكلموا عن طبيعة إسلامية لمصر (يقال أحيانا أنها تشمل المسيحيين أيضا : مسيحيون دينا ومسلمون حضارة) بُنيت تاريخيا ، والأهم أنها فيما يقولون تشكل أساس مقاومة الحضارة الأوربية المتسلطة وكذلك نظم الحكم المعاصرة التى تعتبر امتدادا لروح هذه الحضارة الأوربية الوافدة ، وأنها أيضا المرتكز الذى تستطيع الجماهير أن تستند إليه فى مواجهة النخبة  المالكة والحاكمة المتغربة بالضرورة. كذلك اتجه اليسار بشكل متزايد (منذ السبعينات وربما قبل ذلك) إلى رفع شعار الخصوصية المصرية ذات الصبغة الفرعونية أو العربية (حسب الاتجاهات) فى مواجهة ما اصطُلح على تسميته غزوا ثقافيا غربيا أو صهيونيا أو أمريكيا ، أو كل ذلك معا ، فضلا عن مواجهة التيار الإسلامى . وتجسدت هذه الرؤية فى تشكيلات مثل "لجنة الدفاع عن الثقافة القومية" ، وشعارات مثل مقاومة التطبيع مع إسرائيل عموما والتصدى للتطبيع الثقافى على وجه الخصوص ، فضلا عن مقاومة ما يسمى الغزو الثقافى والـ"أمركة" التى هى نوع من التغريب . وبلغت هذه الحركة ذروتها فى الثمانينات لتنحسر تدريجيا مع انحسار نفوذ اليسار عموما .
 غير أن الطريقة التى تقوم على طرح الصراعات المعاصرة بلغة الهوية التى تستند إلى الماضى ليست مجرد أداة محايدة ، ولا هى خطوة فى مسار محايد للعلم ، بل هى طريقة تقوم أساسا على اختيارات ضمنية مهمة للغاية . لأن إدارة الصراع بلغة تحقيق مشروع الثقافة المتجسدة فى الماضى يعنى الانطلاق كما هو واضح من فكرة وجود "طبيعة ثقافية" أو حضارية ثابتة لشعب أو أمة ، وهى فكرة تنطوى بدورها على التأكيد على وجود كيان مجرد ، هو الأمة أو الشعب ، وأن هذا الكيان يتمتع بحياة طبيعية ، ويمثل فوق ذلك حقيقة الأفراد (أعضاء الأمة) الجوهرية على نحو ما يمثل المثال الأفلاطونى التجسدات الدنيوية الناقصة فى اكتمالها أو "حقيقتها" ونقائها . وبالتالى تميل هذه الفكرة إلى إهمال الاختلافات الداخلية ، سواء الإقليمية أو العقائدية والاجتماعية ، لصالح التأكيد على وجود ثقافة موحدة أصلية تشمل الشعب أو الأمة ككل ، واختزال مختلف الأفراد والتجمعات إلى مجرد تمثيلات أو نماذج لهذه الثقافة الموحدة المفترضة . غير أن واقعية هذه الاختلافات فضلا عن تعدد وتضارب النظريات المتعارضة حول الهوية ذاتها ، يمكن أن تجر إلى التساؤل ، لا عمَّن من هذه الفرق على "صواب" ، ولكن عن منبع اشتراكها جميعا فى التأكيد الجازم - من منطلقات مختلفة - على واحدية الهوية ، وتطرح ، ولو على سبيل الفرض ، أن هذه التأكيدات المتباينة إنما تنبع من رؤية أقسام أو فئات اجتماعية ، أو حتى اتجاهات فكرية ، تحاول أن تفرض رؤاها هذه على مجموعة أوسع منها ، ليس باسم وحى إلهى ، ولكن باسم هذه الجماعة الأوسع ذاتها .. باسم مصلحتها وطبيعتها ومستقبلها وازدهارها .
 أما من الناحية المنطقية فتستند هذه الطريقة التى تطرح المستقبل انطلاقا من الماضى إلى فكرة "الحقيقة" .. فيقال أن الإسلام ، مثلا ، هو التراث "الحقيقى" للشعب وأن الفرعونية قد ماتت عمليا، أو العكس ، أن الفرعونية هى أساس الثقافة الشعبية وأن ما طرأ عليها بعد ذلك لم يزد عن أن طمس هذا الجوهر ، الذى ما زال مع ذلك كامنا وحيا بدرجة أو بأخرى ، وأن النهضة منوطة فى كل الأحوال بالتمسك بهذا التراث الأصيل الكامن وإظهاره حتى يتعرف الشعب على "حقيقته" فيتقدم ويزدهر .. وقس على ذلك . فالمثال الأفلاطونى أو الجوهر الكامن أو الحقيقة هى مسميات مختلفة لهذه الرافعة المنهجية التى تشترك فيها هذه الاتجاهات المتصارعة . وبمعنى آخر تتفق هذه الأطراف جميعا على أن هناك تشخيص حاسم ونهائى وصحيح للماضى يمكن التوصل له ، وأن هذا التشخيص هو أساس نهضة المستقبل التى ستقوم بالضبط على مد الماضى على استقامته نحو التحقق . أما كيف يمكن أن تتعايش لفترة طويلة من الزمن كل هذه الاتجاهات المتصارعة المتناقضة حول ما يصر كل منها على تسميته الحقيقة (بألف لام التعريف) ، فلم أجد فى إيضاحه أفضل من قصيدة شهيرة للعقاد يقول فيها أن الشيطان لم يتعب نفسه كثيرا فى غواية البشر ، حيث اكتفى بأن ألقى إليهم فكرة "الحقيقة" وتركهم يتصارعون حولها ، ويرتكبون كل الشرور من أجلها وباسمها !
 ومن الناحية "الـسيكولوجية الثقافية" ، إن جاز التعبير ، سنجد أننا ، سواء كنا أمام تصور الأمة المصرية ذات التراث الفرعونى أو العربى أو الإسلامى أو مزيج منها ، أو كنا أمام تصور الأمة العربية أو الأمة الإسلامية .. سنكون دائما أمام شعب مختار .. مختار إلهيا أو "حضاريا" .. فنحن فى نظر أنفسنا ، وفقا لأفكار الهوية الشائعة بيننا ، نبع الحضارة العالمية ، أو حملة الرسالة الإلهية ، أو قلب الحضارة العربية النابض التى هى أفضل ما خرج للبشرية من حضارات .. أو كل ذلك معا . ونحن فى كل هذه الحالات حملة رسالة مقدسة ، تمنحنا حقوقا خاصة واستعلاء فريدا ممزوجا بالأسى وعدم الرضا الدائمين لأننا لسنا واقعيا فى هذا الوضع "السيادى" الذى نعتبره حقا أصيلا لنا ، فضلا عن الإحساس بأن العالم يحسدنا ويضطهدنا ويخافنا ، حتى فى أضعف لحظاتنا ، بسبب هذا التميز . ولعل أقوى وأدق تعبير ورصد لتمكُّن هذه السيكولوجية فى ثقافتنا الشائعة هو رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ .. التى أُسىء فهمها كثيرا . فحارتنا عند محفوظ ترى أنها محسودة من الآخرين برغم الظلم الذى يصبغ حياتها ، وأن فتواتها أعظم الفتوات ، والأهم من ذلك أنها وحدها دونا عن العالمين من أبناء الجبلاوى الجبار المرهوب ، إليه وإلى بيته تنتمى ، ذلك البيت الذى هو منبع فخرها وشقائها معا .. فمنه تنبع رسالاتها المقدسة أيا كانت ، ومنه تستمد حقا روحيا ، كما يجدر بكل شعب مختار ، فى أن ترث الأرض ، أو الوقف ، ومن الوقف ينبع تطاحن أفرادها وأحيائها المختلفة وشقاؤهم وتعرضهم للظلم .
 وأخلص من ذلك إلى أن فكرة الحقيقة المفترضة المدعمة عاطفيا بـ"فكرة" الشعب المختار وكبريائه ، تشكل بؤرة مشتركة تجمع الفرقاء المتطاحنين وتفرقهم فى ذات الوقت ، فهى الغنيمة التى يتفق الجميع على قيمتها ، فالكل يمجدونها ويضعونها فى أسمى مرتبة ، والكل يريد أن يستأثر بها لنفس هذا السبب .. والكل يعتقد أن إزاحة الآخرين وسيطرة تصوره هو على الساحة الثقافية/ السياسية هو مفتاح النهضة والتقدم والسؤدد وما إلى ذلك .
 وبالطبع لا يمكن أن نغفل ذلك المصدر المهم لأفكار الهوية هذه ، وهو مبدأ القومية الذى أنتجته الحضارة الأوربية (وهو أمر يُنسى عادة فى غمار الكلام الكثير عن الخصوصية ومحاربة الثقافة الغربية !) . ومع ذلك فإن لها مصدر آخر مهم ، هو التجسيد العينى لفكرة الأمة ، وهو الدولة الحديثة ، سواء الدولة القومية القائمة أو أى بديل آخر متصور لها ومستوحى منها بالضرورة ، مثل تصور الدولة الإسلامية . فيمكن أن نلاحظ أن هذه الفكرة تفيد وأفادت تاريخيا فى مد سلطة جهاز الدولة الحديث ونشرها إلى أعماق المجتمع ، وأن الدولة تولت بدورها بث ثقافة موحدة من خلال التعليم الذى تسيطر عليه والإعلام والجيش وغير ذلك من أجهزتها النوعية ، الأمر الذى من شأنه ، بنوع من التغذية المرتجعة ، تأكيد فكرة الهوية الواحدية مرة أخرى .
 أيا كان الأمر فمن الواضح من هذا التحليل أن هذا المقال لا يشاطر هذه الاتجاهات الكبرى على اختلافها تصورها الأساسى ، وهو طرح قضية مستقبل الثقافة من زاوية الهوية عموما وتشخيص الماضى خصوصا . غير أنه ينبغى أن نوضح هنا أن هذا الاختلاف لا يؤدى إلى رفض هذه الاتجاهات بالضرورة ، ولكنه بالتأكيد يعرضها لتساؤلات أساسية من منظور يرى أن أى طرح وتشخيص لقضايا الماضى طرح انتقائى بالضرورة ، بالإضافة إلى أنه ينطلق فى هذا الانتقاء ، بل فى بنائه ذاته ، من صراعات الحاضر فى حقيقة الأمر ، وليس من أى تقمص (مستحيل فى كل الأحوال) لما يسمى روح الماضى ، بحيث يمكن القول أن الرؤى المطروحة عن الماضى ليست أكثر من دعامات أيديولوجية لإدارة صراعات فى الحاضر حول قضايا المستقبل ، صراعات بين قوى حية، أى معاصرة ، وبصدد رهانات ملموسة وليست تاريخية غابرة .
 وبعبارة أخرى ، فإن الحاضر يحتل فى هذا المقال البؤرة التى يحتلها الماضى فى رؤى هذه الاتجاهات على اختلافها .. ومن هنا لا يطرح هذا المقال ، بدءا من عنوانه ، أية رؤية موافقة أو مخالفة عما يسمى طبيعة الثقافة المصرية وإنما يشير إلى رهانات المستقبل : إلى الرهانات ذاتها التى تجرى فى الحاضر وليس إلى المستقبل ذاته . ويُقصد بتعبير الرهان الإشارة إلى جهد يبذل واختيارات تتحدد فى بؤرة صراعية ، وليس مناقشة "علمية" عن ما يقتضيه العقل أو الصالح العام أو تؤكده "الحقيقة الموضوعية" لتشخيص الماضى أو غير ذلك من التعبيرات التى تسعى لإخفاء الطابع الصراعى للنشاط الثقافى ، أو بالأحرى تغيير معالم الصراع بوضعه فى صورة المواجهة بين الصح والخطأ ، والحق والباطل ... الخ .
 وإذا كان طرح المسألة بهذا الشكل يعنى أننى أقف مقدما خارج هذه الاتجاهات التى أسميها أيديولوجيات أو ثقافة الهوية بشكل أو بآخر .. أى أن المقال لا ينطلق من الانتصار لأى من القومية المصرية أو العربية أو أيديولوجية الإسلام السياسى أو ما يستجد من هويات ، ولا يفكر فى تناول قضية الثقافة انطلاقا من أيها ، فإن من الواجب التنويه هنا إلى أن هذا الموقف لا بد وأن يبدو للوهلة الأولى مستحيلا تقريبا .. ففى ظل سيادة الاتفاق على بؤرة النزاع ، على نوع الحقيقة التى نتصارع حول تحديدها ، وفى ظل الاتفاق العام على القيمة العليا للصراع حول ماهية حقيقة الشعب المختار ، سوف يبدو أى موقف آخر لا يشارك فى هذا الصراع بالأساليب والمفاهيم المعترف بها مجردا من المعنى .. بل وليس موقفا على الإطلاق . وسوف أُرجئ طرح رؤية بديلة مؤقتا .. ولكن يجب أن أذكر هنا أن الوقوف خارج هذا الصراع لا ينطلق من تخطئته باسم "حقيقة" أخرى ستذكر لاحقا ، بل ولا يعنى تخطئته أصلا .. لأن الظواهر الفكرية الكبرى ليست خطأ ولا صوابا أصلا .. بل هى مبررة فى إطارها وزمنها .. ووجودها العريض المشهود ذاته هو مصدر مشروعيتها .. فكاتب هذا المقال لا يزعم إذن أنه فى وضع من يمنح المشروعية وينزعها عن الاتجاهات الأيديولوجية المختلفة ، وإن كان يزعم أنه يفسرها .

1ـ ثقافة الهوية
 نبدأ الآن بفحص مفاهيم وآليات ثقافة الهوية التى تقوم كما ذكرنا على طرح المستقبل من خلال مشروعية الماضى أو تصور معين عن "حقيقته" . ويمكن القول أن الخريطة الاستراتيجية المشتركة لكل أيديولوجيات الهوية تستند إلى المجموعة الآتية من المفاهيم والآليات :
- الهوية : تضع هذه الأيديولوجيات المختلفة مفهوم الهوية فى مركز أفكارها ، ليس فقط لأنها مركز الصراع المشترك على نحو ما قلنا ، أو لأن هذه الهوية قيمة فى ذاتها .. ولكن بالأدق لأنها القيمة العليا التى تعتبر مصدر مشروعية الفعل السياسى/ الثقافى العام . والمقصود بالهوية هنا هوية الجماعة البشرية التى يتوجه لها المثقف .. الذى يزعم أن جوهر وثقافة هذا الشعب أو تلك الأمة هو كذا أو كذا ، وأن اتساق وعى الأمة وسلوكها مع جوهرها هو مفتاح تقدمها . وتكمن المشكلة فى أنه إذا كانت الهوية بحكم تعريفها معطاة ، لأنها ليست أكثر من تعريف الشىء ، فإن الوضع المعقول ألا تثار مشكلة الهوية أصلا ، اكتفاء بما لها من أصالة ، بتركها لتتفاعل بحرية . وبعبارة أخرى : لماذا كل هذه المشروعات لحماية شىء ، هو الهوية ، يُفترض أنه عبارة عن الوجدان الأصيل الصامد على مدى القرون للشعب أو الأمة ذاتها ، أى كيانها الواقعى المختبر تاريخيا وليس المفترض أو المستقبلى ؟ أو : لماذا القلق بشأن فكرة مصاغة على غرار المثال الأفلاطونى ، أى يُفترض فيها أنها لا تمحى لأنها الحقيقة الأبدية ، حقيقة الشعب أو الأمة ؟ وعلى سبيل التوضيح : إذا كانت هويتنا عربية مثلا فمن المنطقى أن نفترض أنها ، لا نقول ستنتصر ، بل أنها قائمة ومنتصرة بالفعل، ولا يكاد يكون ثمة مبرر للكلام عن عظمتها ، ولا للقلق من تهديد النزعة الفرعونية أو القُطرية أو الإسلام السياسى أو الحضارة الغربية أو الصهيونية ... الخ ، لها ، وقس على ذلك كل أيديولوجيات الهوية .
- الضعيف : فى هذا المفهوم يكمن الرد على المشكلة المذكورة توا . فالمسلم أو العربى أو سليل الفراعنة - العظيم بحكم تأكيدات أيديولوجيات الهوية ، كل من وجهة نظرها - ضعيف ، قابل للانخداع والانحراف عن مساره وهويته ، ويستطيع الأعداء أن يخترقوه ويشوهوا هذه الهوية داخل نفسه .. فالأمريكان والصهاينة وغيرهم - الاتحاد السوفيتى قديما مثلا ، فضلا عمن يُسمون "عملائهم المحليين" فى مجال الثقافة ، يغررون به ، فيجد نفسه مفصولا عن هويته دون أن يدرى . وإذا كان هذا القول من شأنه أن يُضعف مفهوم الهوية بمجمله ، حيث اتضح أنها ليست راسخة ولا ثابتة ولا جوهرية ، فإنه يخدم قضية الهوية من ناحية أخرى ، بجعلها قضية نشطة ، تقوم على الدعوة إلى حماية هذا الضعيف بتقرير نوع من الوصاية الفكرية عليه . فكما يحدث دائما يستمد القوى قوته ومشروعيته بالضبط من الضعيف ، وبالدقة من فكرة حماية الضعيف .. لأنها تفتح أوسع الأبواب أمام مشروعية الوصاية عليه ، لصالحه ، لحمايته . فإذا كانت هوية هذا الشعب أو الأمة ليست أصيلة ولا ثابتة - على عكس ما افترضناه فى البداية - بل هشة ، ومعرضة لمختلف الأضرار ، فسوف ننجيه نحن المدافعون عن هويته الخالصة منها . بل سوف يصل بنا الأمر إلى القول بأن هذا الضعيف يريد منا - بل ويلح على - أن ننقذه ، وأن ما يحول بيننا وبين تحقيق رغبته الأصيلة هم هؤلاء الآخرين ، مروجى المذاهب الأخرى الذين يتمتعون بنفوذ وسلطة تحول بيننا وبين إنقاذه .. وبالتالى فإننا نؤمن إيمانا جازما بأننا نحن حملة الهوية الـ"حقيقية" قادة الأمة الطبيعيون وأن الشعب سوف يختارنا حالما تتاح له الفرصة ، أو على الأقل سيستفيد ويتقدم إذا سادت أفكارنا ، ولو بالقوة .
- المثقف القائد : وهو مفهوم جوهرى من مفاهيم أيديولوجيات الهوية . فلأن هذا الضعيف ضعيف بالفعل ، بل هو ضعيف العقل بالذات ، يسهل إغواؤه ، يكون المثقف مسئولا ، لا عن حمايته من هؤلاء الآخرين فحسب ، بل من نفسه الضعيفة أيضا .. بعزله عن التأثير الضار لأفكار الآخرين، بحثُّه على ألا يقرأ أو يستمع إلا لنا ولأصدقائنا وزعمائنا من رجال الهوية التى ندافع عنها ، حتى لا تختلط الأفكار فى رأسه ويضيع .. بل وقد ينضم إذا تركناه لنفسه للأعداء ، ويعمل بالتالى ضد مصلحته . فالفكر مهنة خطيرة يجب ألا تُترك لكل شخص .
  وليس فى هذا التصوير أدنى مبالغة .. فبالإضافة إلى المكائد الثقافية المعروفة ودس بعض المثقفين لبعضهم البعض عند السلطات ، خوفا من نفوذهم الفكرى الذى يعتبر فى نظرهم مدمرا، وبالإضافة إلى الاتهامات الكثيرة ، التى تتخذ أحيانا طابع التحليل "العلمى" ، بالعمالة ، شاع جو عام من التحيز المسبق الذى يصل إلى رفض الفهم صراحة .. ويكفى فى هذا الصدد أن نتذكر كم مرة صادفنا شخصا يقول : "لا يا عم .. مش عايز أقرأ الكتب دى لحسن تبوظ دماغى" ، أو بالمقابل : "الكتب دى هى اللى بوظت دماغك" . والحارس من هذا "البوظان" المحتمل هو المثقف القائد بالطبع: المثقف القومى المصرى "يحرس" الأمة من "تبويظ" الإسلاميين والعروبيين .. والإسلامى "يحرس" الأمة من "تبويظ" الفكر اليسارى مثلا .. وهكذا بالنسبة لكل مبدأ من مبادئ الهوية .. فالهوية كما اتضح حتى الآن ليست هوية الأمة ، بل هوية ، أو بالأدق مشاريع هوية ، مثقفيها .. القادة .
- المؤامرة : وتعتبر المؤامرة مفهوما وآلية فى ذات الوقت . فإذا كانت الهوية ضعيفة ومهددة وإذا كان المثقف يجد صعوبة بالغة فى تحقيق سيادة فكرته الخاصة عن الهوية فإن الأمر يتطلب تفسيرا لهذا الفشل ، وتبريرا أيضا لاستمرار الكفاح . وبالطبع فإن التفسير الأساسى هو المؤامرة ، من جانب قوى كبرى وصغرى ، عالمية ومحلية ، تسعى إلى الشر (والشر هو تدمير الهوية أو تشويهها أو ليّها) . وكلما كانت قناعة المثقف بالهوية أكثر رسوخا وكلما كانت نظرته للهوية أكثر أحادية ونقاء وتشددا ، اشتد احتياجه إلى نظرية المؤامرة إلحاحا وزادت المؤامرة فى نظرة هولا وشمولا. غير أن مفهوم المؤامرة له فوائد أخرى فى هذا النسق .. فهو كآلية يبرر وصاية المثقف على "الضعيف" بنفس الطريقة التى تبرر بها الكوارث الكبرى إعلان حالة الطوارئ ، فهو يرفع قيمة وأهمية الوصى (المثقف) ، لأن من يحمى الضعيف من الأسد أهم ممن يحميه من فأر آكل للمحاصيل مثلا . ولذلك تأخذ نظرية المؤامرة فى كثير من الأحيان صفة "العالمية" ، فنسمع مثلا أن مصر "بطبيعتها" "مستهدفة" ، أو أن ثمة مؤامرة عالمية مستمرة منذ قرون ضد الإسلام أو العروبة ... الخ . وكلما كان الخطر أكبر حاز الوصى على مشروعية أعلى ، وأتيحت له الفرصة ليدعو لتكتل قوى أوسع .. هذا بالإضافة إلى علاقة هذه الفكرة بذهنية "شعب الله المختار .
- وحدة الحقيقة : وليس المقصود بها هنا ما ذكرناه عن المثال الأفلاطونى فقط .. ولكن القول بأن هذا المثال وحيد لا ثانى له . فالهوية وحيدة لا ثانى لها ، والآخرون بالتالى ليسوا أكثر من ناكرين للهوية وأنشطتهم للدفاع عن أفكارهم تسمى بالضرورة : المؤامرة . ووفقا لمبدأ وحدة الحقيقة لا يحيك الآخرون المؤامرات لأنهم مختلفون فى الرؤية ، بل لأنهم مضلِّلون ، يعرفون فى خاصة أنفسهم أن مبدأ الهوية الذى نحمله هو الحقيقة بعينها (لأن الحقيقة واحدة لا ثانى لها) ، ولكنهم يرفضون الإقرار بذلك بسبب أطماعهم أو مصالحهم أو عمالتهم للأعداء أو انحلالهم خلقيا أو حتى لمجرد العند أو الرغبة فى التميز . وهم مثلنا تماما يعرفون أن الشعب أو الأمة إذا اهتدت إلى هويتها (التى نقول نحن بها) سوف تحقق ما يعجز عنه الأوائل والأواخر ، ولذا نستطيع أن نقول أن معارضتهم لا بد أنها تنبع بالتحديد من أن لهم مصلحة قوية فى تضليل الشعب عن هويته لمنعه من التقدم والانتصار على الأعداء. وبالطبع فإن هذه الرؤية ترتكز أيضا على سيكولوجية الشعب المختار .. فالقول الضمنى هنا هو أننا ، كأمة ، سنسود بمجرد أن نسترد طبيعتنا وهويتنا. غير أن ما يعنينا هنا هو أن هذه الفكرة تؤكد بالضرورة أنه لا توجد سوى حقيقة واحدة هى الحقيقة التى نقول نحن بها، ويُجمع على ذلك الإسلاميون و الوطنيون و أنصار القومية العربية ... الخ ، كلُّ بالطبع من وجهة نظره.
- التكفير : إذا كان مفهوم المؤامرة يفيد كآلية فى تبرير الكفاح من أجل الهوية وتجريح المخالفين باتهامهم بأنهم موالون لأعداء الوطن أو الدين أو العروبة ، فإن التكفير هو الآلية الرئيسية فى عمل مثقف الهوية . فالتكفير أعمق فى ثقافتنا السائدة من أن يُنسب إلى تيار واحد ، أو يتعلق بالتكفير الدينى فقط . بل يمكن القول بأن مجموع المفاهيم التى ذكرناها بشأن أيديولوجيات الهوية يفضى إلى التكفير . لأن كل من هو ليس معنا يكون بالضرورة خارج "الحقيقة" ، مقيما فى الباطل بإرادته ، لأنه كما ذكرنا متآمر يعرف أننا على حق . وليس التكفير مجرد اعتقاد كل طرف بـ"كفر" الآخر ، ولكنه الآلية الرئيسية لما يمكن أن يُسمى تجاوزا الصراع الفكرى عندنا . ولا أريد أن أفيض فى ذلك كثيرا ، فقد تناولته تفصيلا فى مقالين سابقين فى "الكتابة الأخرى".
- تقديس "النص" والسلفية : وهى آلية فى غاية الأهمية ، لأنها بالتحديد الآلية الواقعية لمنح المشروعية لمثقف الهوية فى نشاطاته . فإذا كان المثقف يقول أنه يعبر عن هوية المجتمع ، ويتجه فى ذات الوقت إلى اتهام هذا المجتمع بالانحراف عن هويته ، وينادى بالتالى بقدسية واجبه فى حماية هذه الهوية المهدرة ، يكون معنى كلامه أن هذه الهوية غير قائمة بالفعل ، أو غير فعالة على الأقل . فإذا كان الأمر كذلك يمكن القول بأن المثقف لا يستمد فعليا مشروعية الكفاح من أجل الهوية من الوجود المتحقق للهوية . فمن أين يستمدها إذن ؟ من السلف ، من ذاكرة التاريخ ، من محاولة البرهنة على أن الماضى هو كما يقول المثقف القومى أو الناصرى أو الإسلامى أو الفرعونى ، ومن الإشارة التى لا تكل إلى عظمة هذا الماضى لدغدغة أحاسيس الشعب المختار . إلا أن الأهم من ذلك هو السلف المباشر ، لأنه هو ذاته مصدر مشروعية هذه التأكيدات القديمة وضمانة صحتها .. فمثقف الهوية نادرا ما يعرف التاريخ بذاته ، بل هو يلجأ إلى ما قاله الموثوق بهم من أمثال حسن البنا أو ساطع الحصرى أو جمال عبد الناصر أو كبار المثقفين من حملة أيديولوجيته الهوياتية المختارة ، ويثق بما يقولون به ثقة عمياء (*) . ولذلك يحرص مثقف الهوية على الحفاظ على قدسية أسلافه المباشرين هؤلاء ، ويحمى نفسه من الضلال بالانكباب على أصول هؤلاء الأسلاف ، لا يتخطاهم إلى مصادرهم التى استقوا منها ما قالوه ، ولا بالطبع إلى ما يقوله أسلاف "الأعداء" ، أنصار الهويات الأخرى ، وبالتالى يُبقى على المعسكرات مغلقة بإحكام ، باسم المبدأ المقدس وحوارييه الذين لا يقلون قداسة .
  
 وتتجسد هذه المعالم العامة لثقافة الهوية ، وخصوصا تقديس النص والسلف ، فى ظاهرة موت اللغة أو السعى إلى إماتتها بالأدق . فالسلفية تقدس النص الأصلى للسلف ، حتى بغير أن تكون وثيقة العلم به ، وتصل السلفية العربية والإسلامية بالذات إلى تقديس أقدم الكتب والمعاجم ، بل تعتبرها وحدها "الـ"صحيحة (بألف لام التعريف) وتقيس الفصاحة بالتالى بالقدرة على الالتزام بلغة الماضى ، بل واستخدام غرائبها ، وتتوخى أبلغ الحرص فى النحت والاشتقاق . أما إدخال الجديد على غير مثال سابق فمكروه كراهية التحريم ، ويسفر هذا كله عن بكاء لا ينقطع على "لغتنا" : أى لغة السلف التى تتصف وحدها بأنها : "الجميلة" . أما اللغات الحية فتجدد معاجمها كل عام ، ولا يتصور أحد أن يفضل مواطن إنجليزى مثلا العودة إلى أول طبعة لمعجم أكسفورد فى القرون الخالية ، بدلا من طبعة عام 1998 .. وتفترض اللغات الحية أن المعجم يضم مفردات اللغة ومعانيها كما ينحتها الناس فى حياتهم اليومية .. والمبدأ السائد هناك أن ناطق اللغة الأصلى Native Speaker لا يخطئ .. أى أن كل تغيير يُدخله الناطق الأصلى ، سواء باشتقاق كلمة أو تغيير استخدام كلمة قائمة ، يُعد صوابا لغويا . أما عندنا فإن المعجم القديم هو الذى لا يخطئ ، وبالتالى يكون المطلوب هو العكس : أى تدريب الناطق الأصلى على مهمة مستحيلة ، وهى أن يتكلم ويكتب فى حدود المعجم ، ولذا يُقال له "قل ولا تقل" : قل كما قال الأسلاف ولا تخترع من عندياتك ، بل ولا تتكلم كما جرت الأعراف الحديثة . ولذلك كله كانت العامية مكروهة عندنا من حيث المبدأ .. فيكثر عندنا استنكار "تسلل" مفردات العامية إلى الكتابة ، ويؤاخذ الأساتذة على استخدامهم للعامية فى الشرح للأطفال والطلبة ، وليس على ما إذا كانوا ينجحون فى إفهامهم أم لا .. بينما العامية هى اللغة الأم ، لأنها اللغة التى تتكلم بها أمهاتنا . أما الجهود المشكورة لمجامع اللغة عندنا فتُفهم على أنها تقنين وإصدار الكلمات الجديدة ، ليس من واقع مراقبة تطور استعمال الناطق الأصلى ، ولكن من "واقع" نحتها على أيدى خبراء لغة متخصصين فى غرفهم المغلقة ، ومن "واقع" كفاءتهم المتميزة فى الإبحار فى المعاجم القديمة . وإذا كانت هذه الثقافة الميتة قد أنتجت نوعا يزداد انتشارا من الخبراء هم مصححى اللغة ، فإن أثرها الأكبر ، والمطلوب واقعيا، هو فصل المثقف عن المجتمع ، ليصبح تميزه قائما من حيث المبدأ على تملك لغة تكاد من صعوبتها أن تكون "أجنبية" من الناحية الواقعية ، لغة منحوتة وفقا لقواعد لا توجد خارج أغلفة الكتب ولا يعرف عنها نصف المتعلم الكثير ، ناهيك عن الأمى .
 أما المظهر الآخر فهو شيوع الثقافة الفقهية .. فالفكر القانونى وشبه القانونى يسود أوساط المتعلمين وأنصاف المتعلمين ، فالقياس على النص هو المبدأ ، لا القياس على الواقع . وقد وصل الأمر بواحد من أهم مفكرينا ومؤرخينا ، القاضى طارق البشرى ، إلى القول بضرورة إعادة نظام العائلة الممتدة (التى تشمل الأحفاد والخدم وأقارب الأسرة الفقراء فى بيت واحد ، والتى مازالت بعض بقاياها وبقايا عاداتها قائمة فى الريف) لأنها أقرب إلى روح التشريع الإسلامى للأسرة ، وذلك بدلا من تغيير التشريع وفقا للتطورات الاجتماعية ومشكلاتها . وفى أوساط المتعلمين أتباع أيديولوجيات الهوية تنتشر ثقافة تتناول موضوعات من قبيل قواعد وآداب دخول المرحاض وطقوس تناول الطعام ... الخ ، ليس بناء على أية قواعد صحية أو عقلية ، أو حتى أخلاقية ، ولكن نقلا عن نصوص فقهية أو حملتها الموثوق بهم . وأصبح تناول هذه الأحكام التى لا تنتهى وتناقلها دليلا على علو المكانة و"الثقافة" ، والاقتراب من النخبة  المتعلمة ، ولذا أقبلت عليها "العامة" ، لنصبح عما قريب أمة من المفتين !
 أما التطور الأهم فى السنوات العشرين أو الثلاثين الماضية فهو الاتجاه المتزايد من جانب فريق التنوير إلى تبنى السلفية منهجا ، بدءا من التحسر على الماضى الذهبى : إنجازات جيل طه حسين ، ومرورا بإدانة كل جديد ووصفه بالتحلل والتفاهة ، وانتهاء بالبكاء على ما يسمى أزمة الانتماء وإعلان الغضب على الجمهور الذى لا يسمعهم ، والارتماء فى حضن أيديولوجية الهوية الوطنية فى مواجهة الهوية الإسلامية .

2 - مثقف الهوية
 لا توجد ثقافة بلا مثقف ، ولكل ثقافة نوع يلائمها من المثقفين ، يشكلها وتشكله فى تفاعل متبادل . ومثقف الهوية ، كما لعله اتضح من الجزء السابق ، مثقف سلطوى ، محمَّل بنزعة الوصاية على الناس ، باسم الشعب أو الأمة أو المقهورين أو الدين أو أى مبدأ هوية مماثل ، ويعتبر نفسه حاملا لرسالة مقدسة ترفعه فوق "العامة" وتعطيه حقا فى السلطة ، وهى سلطة لا تقل اتساعا عن سلطة ادعاء حق احتكار إرشاد الناس لما يجب أن يقولوا ويفعلوا ، وتصل إلى إجبارهم على ذلك. فالهوية مشروع يُطبق أولا وأخيرا من خلال سلطة الدولة ، لأن المطلب الأول لمثقف الهوية هو أن تكون الدولة موالية للهوية التى ينادى بها ، حتى تجبر بما لها من سلطة كل فرد على الانصياع لمتطلبات تلك الهوية ، فضلا عن التصدى للـ"مؤامرات" الثقافية المحلية والعالمية وحماية الضعيف ... إلى غير ذلك من العناصر السلطوية فى أيديولوجيات الهوية . وإذا كان مثقف الهوية يُحب الشعب فى مجموعه باسم المبدأ فإنه يكره ويحتقر "انحراف" كل فرد وجماعة فيه على حدة عن المثل الأعلى الذى ينفرد وزملائه بـ"شرف" الدفاع عنه على أنقى صورة . إلا أن تدهور وضع مثقف الهوية ، الذى سنعرض له لاحقا ، ولَّد لديه مؤخرا ميلا شديدا إلى الانكباب على تمجيد ذاته ودوره ، ولن تجد شهرا يخلو من مقال أو أكثر فى الأهرام (على سبيل المثال فقط) عن المهمة العظيمة التى تضعها الأقدار على كاهل المثقف : نبراس الأمة وقائدها ومرشدها ... الخ ، بل وصدرت عدة كتب فى العقود القليلة الماضية عن الموضوع .
 ولا يمكن أن نفهم حدوث هذا التوافق بين ثقافة الهوية ومثقفها بعيدا عن نشأة المثقف الحديث فى مصر ، وخصوصا علاقته بالدولة ، التى تمثل كما قلنا مناط أمله فى تحقيق مشروعه . فقد نشأ هذا المثقف وتربى فى أحضان الدولة ، لا المجتمع المدنى ، كما ذكرت فى مقال سابق .
 غير أنه تلزم الإشارة هنا إلى مصطفى كامل ، لأنه كان نقطة تحول حاسمة .. حيث يرجع إليه الفضل فى تأسيس "طبعة" المتعلمين من أيديولوجية الهوية ، وهى طبعة تتميز بالكلام عن وطن مجرد، لا توجد فيه فوارق ولا تمايزات ، ولكنه مُشخص فى ذات الوقت ، حيث يكلمه مصطفى كامل كما لو كان بشرا . غير أن طبعة المتعلمين من أيديولوجية الهوية لم تصل إلى ذروة نفوذها إلا عندما تفكك "النظام القديم" فى أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات ، حيث لعبت هذه الطبعة دورا مشهودا فى الإطاحة بالنظام القديم ، ثم أتيح للمتعلمين مع الناصرية أن يجنوا ثمار حركاتهم السياسية المتمردة على الطبقة الحاكمة من كبار الملاك ، فأُغدقت عليهم المناصب ووسائل التأثير فى "الرأى العام" وتخلصوا من متاعب البطالة وفُتحت لأبنائهم أبواب الجامعة ومن بعدها الوظائف المضمونة .. فكان ذلك هو العصر الذهبى لمثقف الهوية الذى توحَّد مع السلطة وشارك فى جنى ثمارها .
 ويمكن القول بقدر كبير من الاطمئنان أن أيديولوجيات الهوية المتطاحنة الآن ترجع جميعا إلى عصر الأربعينات التأسيسى ، بكل طموحاته ، وما زال مثقف الهوية يحمل ذات الشعور بالأبهة والعظمة الذى منحه له العهد الناصرى . فالمثقف ، الذى لم يعد من صفوة الملاك (على خلاف جيل طه حسين كله عدا طه حسين شخصيا) أصبح يشعر بأنه جزء من الفئة الحاكمة ، من ذوى النفوذ ، الفعلى أو المستحق ، وبالتالى بحقه فى أن يطالب به . ويعد هذا النفوذ المكتسب عرفا اجتماعيا راسخا ، إن لم يكن فى دوائر الحكم ، فسلبا عن طريق معاملة أفضل فى أقسام الشرطة والشارع والدوائر الحكومية ، بالمقارنة بالمواطن الأمى و"الصنايعى" مثلا ، وكذلك عن طريق القدرة على تحقيق قدر من المنافع باستخدام الوساطة المدعمة بكبرياء المتعلم . وعادة ما يعتبر المثقف وضعه المميز هذا حقا مكتسبا ، حتى إذا كان يرفع شعار الدفاع عن الكادحين .. فإذا أُسيئت معاملته فى قسم الشرطة مثلا .. فهو يعرف كيف يحتج وكيف يُحرج السلطة ، ولكنه قلما يتحرك إزاء معاملة مماثلة للـ"عامة" .
 لقد كانت انتفاضة الطلاب فى السبعينات هى الحركة الأخيرة لمثقف الهوية الوطنية .. وكان انفجار العنف فى السبعينات والثمانينات انتفاضة مثقف الهوية الإسلامية الأخيرة حتى الآن . وكلاهما كان يتصور أن الجماهير فرحة بسلطته الواعدة وتنتظرها . أما الآن فقد اختلف الوضع .. فالمثقف متشائم .. ليس لأن السلطة تقمعه .. بل لأنها لا تجد حاجة لقمعه .. لأنه يقول ما يقول ثم يجد الجماهير قد تركته ومضت لحال سبيلها .. بدلا من أن "تصحو من غفوتها" لتحقق معه جوهرها وهويتها وثقافتها كما يرى .. حقيقتها التى تتجسد فيه شخصيا .

3 - المثقف والجماهير
 ليس من المستغرب أن مصطفى كامل ، صائغ الشعارات الوطنية الأكثر رومانسية ، صرح فى بعض خطاباته الخاصة بأنه يلعن حظه الذى جعله يولد فى هذا البلد ! الذى لا أمل فيه ! لأن كلام مثقف الهوية باسم الشعب لا يؤدى غالبا إلى أن يتكلم الشعب مثل مثقف الهوية ويتصرف بالطريقة التى يريدها أو يتوقعها . ويرمى هذا الجزء من المقال إلى إلقاء بعض الضوء على مشكلة مقولة "الجماهير" داخل ثقافة النخبة ، الثقافة العالِمة كما تسمى ، أو الثقافة الرسمية ، بشرط أن نفهم أن "الرسمية" هنا تعنى الثقافة التى تتناول المجتمع الرسمى ، وبالتالى تشمل الاتجاهات المؤيدة والمعارضة لأى نظام ، وليس الاتجاه الأيديولوجى الحكومى وحده .
 وهنا يجب أن نلاحظ أولا أن تقسيم الثقافة إلى ثقافة نخبة وثقافة جماهير هو تقسيم من داخل ثقافة النخبة ذاتها .. أو هو تعبير عن رؤية نابعة من النخبة المثقفة أو المتعلمة ، بل أن كلمة الجماهير نفسها لا معنى لها إلا داخل ثقافة النخبة ، وتستخدم للإشارة إلى تلك الجموع غير المحددة التى لا يميزها شىء بعينه سوى أنها ليست من النخبة ، ولا تتحرك من خلال المنظمات التى بنتها النخبة . وقد رأينا أن ثقافة الجماهير عند النخبة لها طابع مزدوج .. فمن جهة تعتبر النخبة أن روح هذه الجماهير متفقة مع تصوراتها عن ثقافة الشعب أو الأمة الأصيلة .. ومن جهة أخرى ترى أن هذه الجماهير منحرفة عن جوهر ثقافتها وتحتاج لذلك إلى قيادتها . كذلك فإن المواقف الأكاديمية الأكثر حيادية لا تخرج بدورها عن كونها ثقافة نخبة .. فالمهتمون مثلا بدراسة التراث الشعبى والتنظير له وتسجيله يقع نشاطهم ، بمفاهيمه وطرق بحثه وطريقة عرضه ، داخل إطار ثقافة النخبة المكتوبة بمفاهيمها وطرق البحث والعرض المعتمدة عندها ، والتى تتغير من وقت لآخر . وتؤدى "ثقافة الجماهير" كتخصص إلى تجميد لحظة معينة وأنماط معينة من ثقافة بعض قطاعات المجتمع وعرضها كما لو كانت أزلية وسحيقة فى القدم .. هذا بفرض أن الباحث استطاع رصدها ، ولم يذهب بهدف أن يرى ما توقع رؤيته من قبل . وبالتالى تُعرض ثقافة الجماهير فى كل الأحوال كجوهر ثابت . وكثيرا ما يلاحَظ عندنا أن الباحثين يسعون - دون كبير جدوى لحسن الحظ - إلى تجميد التطور ، والبكاء على التراث الذى يوشك أن يضيع بفعل احتكاك الجماهير بالمدنية الحديثة ، والدعوة إلى وقف المؤثرات التى تُدمج البشر "الأُصلاء" فى اقتصاد السوق ومفاهيم الحداثة وتقضى على القيم التقليدية ، القروية أو البدوية مثلا . ولدينا بالمناسبة عدد كبير الآن من مسلسلات التليفزيون التى تعبر عن هذه الرؤية "المتحفية" لثقافة الجماهير وأصالتها المطلوب الحفاظ عليها ، أشهرها المسلسلات المبدعة لأسامة أنور عكاشة .
 والغرض من هذا الاستطراد هو بيان الهوة الواسعة التى تفصل ثقافة النخبة عن الجماهير ، حتى فى لحظاتها الأكثر حميمية وتعاطفا مع ثقافات هذه الجماهير . غير أن الفارق الأساسى يكمن فى أن الجماهير لا تمارس الثقافة كنشاط قائم بذاته .. فثقافتها ممتزجة بمختلف مظاهر نشاط فئاتها المختلفة .. وتجسد بشكل مباشر خبرات مختلف قطاعاتها . ولذا فهى ليست ثقافة موحدة بسبب الاختلافات الإقليمية و الطبقية و المهنية وغيرها . وتتداخل تفضيلات الناس الثقافية مع مراتبهم الاجتماعية ، وخصوصا مع رؤيتهم للسلم الاجتماعى ووضعهم فيه . وتكمن مشكلة النخبة فى أنها تريد أن تفرض على كل هؤلاء ثقافتها وقيمها وسلوكها كنماذج عليا ، ولكن حتى إذا نجحت فى ذلك لن تنجح فى أن تجعل من هذه النماذج الثقافية العليا نماذج تحتذى ، بل لعلها بالأحرى تصبح علامات اجتماعية تفصل وتميز بين الطبقات الاجتماعية المختلفة ، وتفصل النخبة عن الجماهير . وفى بلد مثل فرنسا يتمتع بمستوى من الديمقراطية (بمعناها الشامل وليس الديمقراطية السياسية فقط) أرقى كثيرا ، يتكلم بيير بورديو عن العامل النقابى الذى سيشعر بالنقص حين يدخل المجتمع الرسمى ليتفاوض أو لأى غرض آخر ، لأنه يعرف أنه لا يستطيع أن يتكلم مثل ديستان .. الذى تُعتبر طريقته النموذج الأعلى الذى فرضته الطبقة السائدة . فالعامل سيشعر أنه لا يمتلك ثقافته ، بمعنى قيمه وسلوكه وطريقته فى الجلوس والحديث والطعام والقيام والسلام ... الخ .
 وتكمن المشكلة فى أن المثقف يتقمص دور القائد الذى يجب أن يسعى أتباعه للتشبه به . فى حين أن دوره موضوعيا يجعله بالضرورة جزءا من الثقافة الرسمية العليا ، ومهمته هى صياغة أنماط التفكير فى هذا المجال الرسمى المسمى المجتمع . وإذا كان هذا الهدف يتطلب تحويل عقيدة عدد مناسب من الأفراد ، فإنه بالتأكيد لا يعنى "صياغة روح الأمة" ، كما يميل المثقف السلطوى للاعتقاد بشأن دوره ، بل يمكن القول فقط بأن هذه الأسطورة ضرورية له بمعنى ما ، لإضفاء الشرعية على ما يقوم به ، كجزء من عملية إضفاء الشرعية على قيم وشعارات الطبقة السائدة . غير أن آخر ما يمكن أن يتحمله مثقف الهوية هو فى حقيقة الأمر أن يصل نجاحه فى ترويج مفاهيمه إلى درجة تحقيق المساواة فى المكانة بينه وبين العامة ، وهو هدف مستحيل لحسن حظه . ويمكن القول بأن المثقف بالضرورة شديد الارتباط بالنخبة ، حتى وهو يقاتل ضدها ، بينما يكون دائما كما هو معروف فى وضع "البيه" بالنسبة للـ"عامة" ، وهو وضع مقبول ومطلوب بالنسبة له بصفة عامة . وهو يستطيع أن يتكلم "مثل ديستان" أو أفضل منه ، كما يملك ثقة الكلام والسلوك بطريقة مخالفة إذا أراد .. مثل الفنان الذى يطلق شعره ولحيته كما يشاء ويلبس ما يعن له من أزياء دون أن يفقد ثقته بذاته ، بل لعله يستخدم هذه الوسائل للتعبير عن شعوره بتفرده وامتيازه .
 وإذا كان ما ذكرناه فى مجموعه يشدد على الهوة الواسعة بين المثقف والجماهير ، داخل ثقافة المثقف ذاتها وداخل دوره ووضعه ومكانته ، فإن هذا الدور لا يُمكن أن يُفهم بغير الإشارة إلى حلقة الوصل بين ثقافة النخبة وثقافات الجماهير، والتى تتمثل فى الدعاية التى تبثها النخبة عبر وسيلتين جوهريتين : التعليم والإعلام .. مع تزايد وزن الأخير تدريجيا . وعند تقييم وضع الثقافة العام فى مجتمع تكون أهم نقطة تقريبا هى ما يرد فى كتب الدراسة ، فعادة ما يُنسى أن هذه الكتب تعد أكثر الكتب طبعا وتوزيعا بما لا يقاس بالمقارنة بالكتاب الذى ينتجه المثقف الفرد . غير أن هذا لا ينفى أن هذه الكتب النمطية برغم أنها تنتج ثقافة موحدة بشكل أو بآخر ، تُستقبل استقبالا مختلفا كثيرا عند فئات المتعلمين المتنوعة . فمن يدرس وفى ذهنه أنه سيعمل بعد قليل فى ورشة سيختلف فى طريقة وليس مجرد كم تلقيه عمن يعده أهله ليشغل موقعا محترما فى فئة المتعلمين ، وهذا سيختلف بدوره عمن ينتمى لعائلة من أصحاب الثروات وتتجاوز الطموحات بشأن مستقبله مسألة العلم بأكملها إلى أفق آخر ، هذا بالإضافة إلى آلاف التفسيرات والاهتمامات المختلفة بأجزاء وموضوعات المناهج الدراسية .
 ويرتبط وضع مثقف الهوية بالذات بدور الدولة ارتباطا جوهريا ، ليس فقط بسبب سلطتها فى مجال التعليم والإعلام ، ولكن بسبب مجمل وضعها الذى ينشئ هو ذاته مفاهيم الهوية المجردة ويغرسها فى أذهان وأجساد البشر ، عن طريق الحدود السياسية بمعناها الحديث الشامل (حدود عسكرية وسياسية واقتصادية وتشريعية ... الخ) وعن طريق أجهزتها التى تزداد تشعبا فى كل مجال من مجالات الحياة اليومية للمواطن ، بدءا من المرور وانتهاء بالقانون الجنائى وفروعه . ثم يأتى العَلَم والنشيد والفرق "القومية" الرياضية لتسهم جميعا فى خلق شعور بهوية عليا تتجاوز الأفراد وانتماءاتهم المباشرة المحسوسة . وعن طريق ذلك كله تصبح الثقافة العليا ملموسة فى إجراءات يذعن لها الفرد وتصبح جزءا من عالمه الخاص ، الذى كان من قبل مقتصرا على عالم الأسرة والطائفة أو القرية .
 ويمارس المثقف دوره لصالح الدولة بوصفها حامل الهوية ، وليس من حيث أنها هذا النظام من أنظمة الحكم أو ذاك ، لا لمجرد أنه نشأ فى أحضانها ، ولا فقط لأن لديه ميلا متأصلا موروثا لتقديس السلطة ، بما فى ذلك المثقف المعارض ، ولكن لأن مكانته نفسها أصبحت تعتمد بحكم التطورات التاريخية ، التى تناولنا بعض معالمها ، على الحفاظ على قداسة التصور القائل بأن الدولة تجسد أو يجب أن تجسد هوية معينة . بل يمكن أن نقول بغير أى مبالغة أن المثقف المعارض هو صاحب الإسهام الأكبر فى دعم هذه الفكرة ، لأنها تشكل بالنسبة له وسيلة الضغط على الدولة القائمة التى لا تحظى برضاه ، وبالتالى فهو وليس مثقف النظام الأكثر سلطوية والأكثر كلاما عن ثقافة السلطة وسلطة الثقافة وإشكالية المثقف والسلطة ... الخ . ومن خلال سعى جميع الأطراف ، المؤيدة والمعارضة ، لدفع الدولة ، بالتمرد عليها أو إقناعها ، إلى تبنى أيديولوجيات الهوية المختلفة التى يقولون بها ، تتأكد مكانة السلطة كحَكَم ثقافى إن جاز التعبير .
 غير أن ثمة أيضا رابطة شخصية ، لأن المثقف كما لوحظ تاريخيا لا يصل إلى التمرد إلا حين تعجز الدولة عن الوفاء بمطالب المتعلمين الذين ينتمى لهم المثقف ، وليس حين يتزايد القهر الواقع على السكان . ولذلك نجد أن المثقف كان ، منذ عهد الطهطاوى ، ومازال ، يتغنى بعهد محمد علي، بصرف النظر عما ارتُكب فيه فى الريف والحضر من أعمال عنف لا حصر لها لتسخير السكان لبناء الدولة الحديثة . فقد كانت هذه الدولة نعمة وبركة على المثقف ، وطبقة المتعلمين كلها . أما انتفاضات المتعلمين وسخط المثقفين فلا يبرز إلا حين تتراجع الدولة عن دعمه ، فيقع فى البطالة ، وتنحدر مكانته الاجتماعية ، فيتجه إلى رفع شعارات الهوية ضد الدولة بالذات ، مثلما حدث فى عهد مصطفى كامل ، وأربعينات وسبعينات وثمانينات هذا القرن .
 وفى إطار هذا الوضع المتشابك الذى حاولت أن أبين بعض ملامح تعقيده يكون دور المثقف الحامل لأيديولوجية الهوية هو الإيهام بتخطى كل هذه التعقيدات والتهوين منها للتأكيد بالمقابل على وحدة الشعب أو الأمة ، وبالذات على دوره كمعبر وفىّ يخلو من الغرض عن هذه الأمة وهذا الشعب . وفى مقابل تأكيده الدائم على "أصالة" الثقافة الشعبية من حيث المبدأ ، لا ينفك يبرهن على تميزه وتميز مشروعه الثقافى "الأصيل" عما يفهمه "العامة" ، ويدافع عن وضع المثقف الممتاز فى مواجهة "الدهماء" الجهلة ، فهو يمثل الجماهير ولكنه ليس منها ، وهذا الموقف المزدوج حصيلة طبيعية لكونه فى الواقع لا يمثل سوى نفسه ، كعضو فى فئة المتعلمين ، فى ذات الوقت الذى يتشبع فيه دوره بالضرورة بأيديولوجية التمثيل ، تمثيل الوطن أو العقيدة أو المقهورين أو الشعب .. الخ .. أى الجماهير فى نهاية المطاف ، وباسم هويتها فى كل الأحوال .

4 - أزمة ثقافة الهوية ورهانات المستقبل
 فى أعقاب ثورة 1919 انتاب الفزع الشاب حسن البنا على نحو ما جاء فى مذكراته من التحلل الأخلاقى وهجوم قيم الحداثة .. واتجه إلى كبار المشايخ ليتصدوا للـ"فتنة" ، ثم أسس جمعية الإخوان المسلمين فى أواخر العشرينات . وفى الثلاثينات استطاعت أيديولوجية الهوية الإسلامية أن تجتذب عددا متزايدا ممن نسميهم الآن رجال أو جيل التنوير إلى الكتابات الإسلامية ، كما ارتفع شأن الإخوان المسلمين ونفوذهم ، وظهرت مصر الفتاة بشعار مصر فوق الجميع ، وبعد ذلك بقليل ظهرت الحركة الشيوعية المصرية فى المجال السياسى المصرى بعد أن اتجهت تدريجيا إلى تبنى الشعارات الوطنية بدلا من شعار السلام العالمى الذى كانت قد تأسست انطلاقا منه فى ظروف اندلاع الحرب العالمية الثانية . وتتميز منظمتى الإخوان المسلمين ومصر الفتاة والمنظمات الماركسية المصرية بأنها جميعا ، بالإضافة إلى تبنيها لأيديولوجيات مختلفة للهوية ، منظمات للمتعلمين على النمط الحديث (وكان اسمهم آنذاك الأفندية) .. فهؤلاء يتولون مناصبها العليا ويشكلون أغلبية كوادرها أيضا . وفى هذا الوضع ، وفى ظروف تزايد بطالة المتعلمين تبلورت أيديولوجيات الهوية المتطرفة على يد هذه الفئة ، واتجه أغلبية مثقفى الجيل السابق من كبار الملاك إلى مسايرة هذا الوضع ، واستمر الصراع بين هذه الأجنحة المختلفة إلى 23 يوليو .
 وقد أسفرت جهود منظمات المتعلمين هذه على اختلافها عن انهيار الشرعية السياسية لدستور 1923 والنظام الملكى بمجمله ، حيث انسحب جزء مهم من المتعلمين إلى هذه المنظمات السياسية غير الممثلة فى البرلمان والرافضة للحياة البرلمانية فى كثير من الحالات ، الأمر الذى أدى إلى انهيار أحد أعمدة هذا الدستور ، وهو الوفد الذى كان يشكل الرابطة الوحيدة بين الحركة الجماهيرية التى يقودها المتعلمون ومؤسسات دستور 1923 . أما الملك فقد انهارت شعبيته ، وأصبحت مؤسسة السراى معزولة بفعل هذا المد الجماهيرى المتمرد بالذات . وأصبح موقف الإنجليز الذين يشكلون العمود الثالث والأخير للسلطة قبل 1952 مهددا ، خصوصا بعد اندلاع الحرب الباردة وظهور المنافس الأمريكى القوى على النفوذ فى المنطقة . فى ظل هذا الوضع مثلت حركة الجيش وما اتخذته من إجراءات إعادة اعتبار للسراى ، حيث حل الضباط محلها .. بوصفهم السلطة الفعلية ، ثم الشرعية بعد مدة . وفسخت "السراى الجديدة" تحالف السراى القديمة التقليدى مع كبار الملاك وقمعت باسم نجاحها فى ذلك تمرد المتعلمين وأغلقت منظماتهم السياسية وأحزاب كبار الملاك أيضا ، وبالتالى أصبحت السلطة مركزة فى هذه السراى الجديدة ، ولم يعد الاستعمار ولا الحركة الجماهيرية ومبادئها يملكان سوى ممارسة ضغوط ما على النظام ذاته .. وبأدواته ذاتها . وسارع النظام الجديد إلى تبنى تركيبة تناسبه من مختلف أيديولوجيات الهوية المتصارعة ، ومنح كل فريق منابر محكومة داخله ، مثل المجلس الأعلى للشئون الإسلامية وإذاعة القرآن الكريم للاتجاه الإسلامى ، وجريدتى المساء والجمهورية للتيار الماركسى ، وغيرهما ، فى لحظات معينة ، كما أبقى على رموز الرعيل القديم مثل طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم وكرَّمهم، بشرط ألا يتحدُّوه صراحة . وأصبح الكلام محكوما بقاعدة عدم الخروج عن الخط السياسى والأيديولوجى الرسمى للنظام . غير أن المتعلمين لم يُكمَّموا مجانا ، فقد نالوا كما سبق القول مكاسب كثيرة . والخلاصة أن نظام 23 يوليو قد بُنى على معادلة تمزج بين إعادة بناء قوة السراى وضرب الحركة الجماهيرية ، وبين تبنى أيديولوجيات الهوية المتطرفة التى رفعتها قوة المتعلمين المتمردين فى ظروف الاضطراب الواسع النطاق الذى أعقب الحرب العالمية الثانية .
 لهذا السبب بدا التحول الذى تلا الحقبة الناصرية ، خصوصا بعد عام 1974 (الانفتاح) تحولا كارثيا بالنسبة للمتعلمين ، والمثقفين طبعا . فقد تحمل المتعلمون تدريجيا جانبا متعاظما من ضريبة فشل النظام .. فالأجور الحكومية تضمحل قيمتها الحقيقية والانفتاح يُفرز طبقة جديدة عالية الدخل .. والأخطر من ذلك أن المتعلم لم يعد يمثل النموذج والمثل الأعلى فى دعاية النظام الرسمية ، فقد حل محله رجل الأعمال القادر على توفير فرص العمل لهذا المتعلم الزائد عن الحاجة والذى أصبح يسمى "محدود الدخل" بعد أن كان نبراس الأمة ومناط تقدمها . و"ثالثة الأثافى" - كما يقال - أن الطبقات الدنيا ذاتها تحررت من سحر الشعارات القديمة بعد انتفاضة 1977 وفقدت اهتمامها بالأيديولوجيات القديمة على اختلافها .. لتعود من خلال مختلف الجمعيات الإسلامية والمسيحية الخيرية وغيرها إلى التركيز على أخلاق الأسرة كمحور للتفكير والعمل ، أو تبحث عن مصدر رزقها فحسب . وزاد الانفصال بحكم تصاعد شكوى المتعلمين ، ليس فقط من صعود قيمة المال ، ولكن أيضا من صعود قيمة العمل اليدوى والحرفى فى سوق العمل . وهكذا وجد المتعلمون أنهم بدلا من أن يكونوا قادة الأمة ، كما كانت تقول الخطب الناصرية ، أصبحوا زائدين على الحاجة وعبئا على الدولة وأعداء للـ"عامة" الذى يعملون عملا يدويا بدلا من أن يكونوا قادتهم . وفى ظل هذه الظروف انفجر سخط المتعلمين ذوى الأصول الريفية والبندرية الناجم عن التحولات الخطيرة فى بنية السلطة فى الريف التى كانت تجرى طوال الفترة الناصرية ، بعد أن اتضح لهم أن طريق الترقى الاجتماعى من خلال الدولة أصبح شبه مغلق فى عهد السادات ، وبالتالى أصبح تكيفهم مع مجتمع المدينة أصعب وأصعب ، فاندلع الإرهاب .
 وبينما كانت الدولة منشغلة بجذب رؤوس الأموال والمستثمرين المحليين والأجانب وإعداد البنية الأساسية اللازمة ، وجدت النخبة المثقفة ، ومعها مجمل المتعلمين ، أنها خارج الزمن ، ولذا اعتبرت قطاعات منها أن النظام قد "ارتد" بعد وفاة عبد الناصر . وقد نشأ هذا التصور عن الخلط بين تطورين مهمين شكلا مضمون حركة 23 يوليو : تجديد مؤسسة السراى وتبنى أيديولوجيات الهوية المتطرفة . فبينما أقلعت الدولة عن مغازلة هذه الأيديولوجيات ، لم تقل القوة التى اكتسبتها هذه "السراى الجديدة" ، بل تعاظمت . وبهذا المعنى يمكن القول بأن الحكم الحالى يشكل امتدادا للسراى الجديدة ، أى لعبد الناصر ، بينما تشكل الاتجاهات الأيديولوجية الناصرية وأشباهها امتدادا لأجهزة الناصرية الأيديولوجية ، أو بشىء من التبسيط ، لأحمد سعيد ، مذيع صوت العرب الأشهر فى العهد الناصرى .
 أيا كان الأمر فقد تفاقم سخط المتعلمين بسبب كل من الإجراءات الناصرية وما حدث بعدها .. ولكن لدهشتهم الشديدة أثبت لهم الزمن أن شعارات الهوية الوطنية المتطرفة لم تعد تجتذب جمهورا .. وبالتالى لم تعد لهم مقدرة سياسية كبيرة فى الضغط على النظام . وبالعكس ، اتجه الحكم بالتدريج إلى الانسحاب من مجالات مؤثرة مثل الرقابة على النشر تاركا لتيارات شتى التعبير عن مواقفها ، بما فى ذلك القوى غير المسموح لها بالتنظيم الحزبى رسميا ، من خلال كُتاب فى الصحف القومية والحزبية . أما الحكم فقد أصبح يتبنى أيديولوجية يمكن أن نسميها "أيديولوجية رب الأسرة من الطبقة الوسطى" من باب التبسيط : فرب الأسرة هذا يتكلم دائما عن المشكلات المالية الصعبة، وكيف أنه يكدح من أجل توفير فرص العمل من خلال حفز الاستثمار الخاص ، ويُبحر بالسفينة الصغيرة وسط الأنواء العالمية الصاخبة ، متوخيا السلامة قبل كل شىء .. وبالتالى ظهرت طبعة جديدة (حكومية هذه المرة) من الأيديولوجية الوطنية لا تعنى التصدى للإمبريالية ولا مواجهة العدو الإسرائيلى بالقوة المجردة فى الحال أو الاستقبال . أما العدالة الاجتماعية فلم تعد تعنى فى المفهوم الجديد إعادة توزيع الثروة والتأميمات ... الخ . وفى ضوء هذه التحولات الأيديولوجية تخلت الدولة عن تبنى نموذج أيديولوجى وحيد لا يجوز الخروج عليه علنا (على خلاف عهد عبد الناصر)، واكتفت باستخدام أدواتها لحفظ التوازن بين أيديولوجيات الهوية المتصارعة ، لا قمعها وإسكاتها ، بل ودون أن تتورط صراحة فى تأييد واحدة ضد أخرى ، ويشكل هذا التحول فى حد ذاته أكبر ضربة لمثقف الهوية ، فلم تعد شعاراته ذات خطر من وجهة نظر الدولة ذاتها ، التى يدور مشروعه حولها وجودا وعدما . يضاف إلى ذلك أن المفهوم الجديد للوطنية ، وهو التنمية ، مفهوم يسحب البساط بطبيعته ذاتها من تحت أقدام المثقف التعبوى لصالح رجل الأعمال الكفء والبيروقراطى والتكنوقراطى المتميز والقادر على فهم "المطلوب" .
 ومن خلال ذلك كله أصبحت الدولة المنسحبة التى يتزايد انسحابها مع الخصخصة أقوى ، لأنها انتشلت نفسها من المجتمع المدنى الذى سيطر عليه متعلمون يحملون أيديولوجيات الهوية ، واستفادت فى ذلك من تراجع أهميتهم مع تفاقم الأزمة الاقتصادية فى العقدين السابقين . وسوف يلاحظ أى مراقب بسهولة أن هيبة المؤسسة الحاكمة تزداد لا تنقص ، حتى بالمقارنة مع العهد الناصرى . أما التحدى الأساسى الذى ما زال يواجه المؤسسة فهو تقليص حجم جهازها الإدارى لتستطيع أن تسيطر بشكل أفضل على الفساد غير المحكوم وتضمن نفاذ إرادة كوادرها العليا ، وأيضا حتى تستطيع أن تتقمص روح "الدولة المحايدة" بين الطبقات والأيديولوجيات أكثر فأكثر ، وهو تطور إذا تمكنت من تحقيقه سيكون بمثابة ضربة جديدة ، وقد تكون القاضية ، لمثقف الهوية .
 وفى مواجهة هذا الوضع لم يجد مثقف الهوية بدا من تركيز هجومه على فساد الدولة والطبقة الجديدة ، أو حثها على الحفاظ على الأوضاع الموروثة ، مثل القطاع العام . وفى بعض الأحيان راح يطالبها بمشروع قومى من النمط الذى اعتاد عليه منذ الأربعينات ، ويؤاخذها على غياب مثل هذا المشروع . وقد ردت الدولة من جانبها على ذلك بأن المشروع القومى الممكن فى نظرها هو التنمية المخططة ، وأنه بالتالى مشروع تضعه أجهزة الدولة المختصة بعد دراسات علمية واقتصادية، وما على المثقف التعبوى سوى أن يدعو إلى هذا المشروع إذا أراد وأن يشيد به .. وبالتالى بينت الدولة بوضوح أن المشروع القومى عندها تكنوقراطيا وليس تعبويا . والحال أن هذا النوع من "المشروع القومى" لا يترك مكانا لمثقف الهوية ، بل يستبدله برؤوس أموال وخبراء .
 ويمكن أن نسمى هذا التحول تحولا إلى ليبرالية مقيدة إلى حد بعيد ، إلا أن هذا التحول قد واكبه على المستوى الثقافى عودة الليبرالية من جديد ، فيما يسمى الليبرالية الجديدة ، التى تمتلك عددا لا بأس به من المنابر فضلا عن نفوذها العام من خلال عديد من الكُتاب والأفكار الشائعة . وهكذا تبدو رهانات مستقبل الثقافة منحصرة بين الليبرالية الجديدة وبين أيديولوجيات الهوية .
 غير أن الليبرالية الجديدة تستند إلى مؤثر عالمى آخر .. هو انتصار المعسكر الغربى وثورة المعلوماتية . فالحدود القومية أو "الهوياتية" لم تعد منيعة ثقافيا ، ليس فقط بالاستيراد والبوتيكات ونوادى الفيديو والأسماء الأجنبية التى أثارت سخط مثقف الهوية الشديد فى العقد الماضى ، ولكن أيضا إمكانيات البث المباشر والدِش ، وأخيرا ذلك الشبح المهول : شبكة الإنترنت ، وما يرافق هذا كله من عولمة اقتصادية ، تفرض تدريجيا اللغة الإنجليزية كلغة عالمية ، ليس هنا فحسب ، بل أيضا على لغات حية مثل الفرنسية . وأصبح مثقف الهوية يشعر أنه يفقد تدريجيا قدرته على التأثير إزاء فيض المعلومات والثقافات ، الذى من المتوقع أن يتاح تدريجيا لعدد أكبر من البشر ، وكذلك إزاء الواقع الذى يتطلب بشكل متزايد إجادة الإنجليزية للمشاركة فى ثمار التقدم العالمى بدلا من الاكتفاء بدفع ثمنه ، وهو شعور يدفعه فى حالته "غير الثقافية" أى كرب أسرة إلى الحرص على تعليم أبنائه هذه اللغة منذ الصغر فى المدارس التجريبية أو المسيحية أو الإسلامية -الإنجليزية !!
 إن ما يخشى منه مثقف الهوية هو بالتحديد اختراقه هو ذاته . ففيما مضى كانت مشكلته أن برنامجه لا يصل للجمهور ، سواء أرجع ذلك إلى السلطة أو فساد الجمهور ذاته وانحرافه ، أو جهود أعدائه من حملة أيديولوجيات الهوية التى تختلف عن أيديولوجيته . أما الآن فإنه يواجه مشكلة قدرة الثقافات المتعددة فى الداخل ، فى ظل اتساع التواصل مع الخارج وانتشار التعليم ، على اختراق مجاله الخاص .. مجال ثقافة النخبة ، أى الثقافة المكتوبة والمسموعة والمرئية ، وسوف ينتهى عالمه الجميل الذى توجد فيه أنساق هوية مغلقة ومتصارعة ، ولكنها متفقة على ذات الهدف .. فقد كان ذلك نسبيا عالما آمنا ، لأن الأعداء يتكلمون بنفس اللغة ، ولكن من مواقع مختلفة . أما الآن فإن هذا الهدف ذاته الذى طالما دخل فى صراعات مع آخرين من أجله لم يعد محل اهتمام الكثيرين ، ومسلمات فكرة الهوية ذاتها أصبحت قابلة للتحول بسهولة إلى تساؤلات لها إجابات مختلفة . مثل هذا العالم فى نظر مثقف الهوية عالم لا يطاق . ولذلك نجد مثقف الهوية بما فى ذلك المثقف التنويرى فى مواجهة الليبرالية الجديدة ينعى الماضى العزيز ، ويردد باستمرار نذر التحلل والدمار ، ويبكى على الانتماء المفقود . وبدلا من الأحلام المشرقة القائمة على الأمل فى سيطرة مشروع الهوية وأيديولوجياتها يراقب مثقف الهوية تحلل أسسه نفسها بكل وجل وخشية .. ويدافع عن المبدأ حتى الرمق الأخير ، ويقدم ما استطاع من تنازلات لأعداء الماضى : مثقفى الهويات الأخرى الذين عارضوه قديما . ولذلك لم يعد غريبا أن يتفق ، مثلا ، فهمى هويدى وجلال أمين حول مفاهيم عديدة ، وعلى شن حملات مشتركة من أجل دولة ملتزمة أيديولوجيا ، وفقا للحد الأدنى ، الذى يتزايد اتساعه ، للاتفاق بينهما . ولهذا كله أيضا أصبح مثقف الهوية متشائما بالضرورة .. وأصبح المعيار المعتمد لمظهر المثقف عنده هو المثقف "المهموم" ، الشاعر بالكارثة الوشيكة ، المقطب العابس، الذى يفكر فى كيفية إنقاذ الوطن أو الإسلام أو غير ذلك وفقا لهويته الأثيرة .
 وإذا كان العالم يبدو فى نظر أنصار ثقافات الهوية عرضة للانهيار الآن ، لأن هذه الثقافات نفسها وعالمها ينهاران ، فلا بد أن نلاحظ هنا أن ثقافة الهوية هى من حيث المبدأ ثقافة الكارثة والانهيار . فمبدأها كما ذكرنا هو الدفاع عن تصور معين للهوية وتجميد البشر المعنيين فى حدوده، ومعالجة "انحرافاتهم" عنه . فهى تتكلم عن المحافظة على نموذج ثقافى محدد من الانقراض ، ودفعه لمواصلة الحياة بذات خصائصه الأساسية التى تم التوصل إليها . ومن خلال ذلك تحط هذه الثقافات من قيمة الإنسان من حيث هو إنسان ، وتربط مصيره بمدى قربه أو بعده عن خياراتها الثقافية ، متجاهلة ملايين البشر الذين يعيشون فى أنحاء العالم بثقافات مختلفة ، بل وتعدد الثقافات داخل المجتمع الواحد ، بل والأكثر من ذلك ينسون أنهم يعيشون فى بلد يتميز بأنه غير ثقافته ولغته ومعتقداته أكثر من مرة دون أن يتحطم البشر وينتهوا كما يقولون . ومع التطورات المعاصرة المذكورة سابقا ، أصبح الهم الأساسى لثقافات الهوية هو نقد كل جديد ، والحيلولة دون ظهوره ، والتشبث بالمواقع المكتسبة ، والعودة إلى المعيار الأخلاقى كوسيلة للنقد .
 لهذا السبب أصبح الجديد الكثير غير مفهوم عند ثقافة النخبة الهوياتية المتسيدة . فالسينما الجديدة والشعر الجديد لا يجدان نقادا ولكن توجد وفرة فى الشتامين لأن هذا الجديد لا محل له من الإعراب فى الفقه الهوياتى القديم . ولذا فإن الشعر الجديد سوف يبدو بالضرورة تخريبا أمريكيا إسرائيليا فى أعينها .. مؤامرة كبرى وفقا لمناهجها التقليدية فى تصنيف الاتجاهات .

5 - ثقافة المقاومة
 ويرى هذا المقال أن ثمة خيار ثالث بين ثقافة الهوية والليبرالية الجديدة ، نسميه مؤقتا ثقافة المقاومة . وبداية لا يجد هذا المقال فى "التحلل" الذى يرصده مثقف الهوية أمرا مكروها بحد ذاته .. بل علامة حيوية .. فانهيار نظم الفكر القديمة من العلامات المشهودة فى تاريخ الفكر الحى .. ولم يعرف التاريخ فيما أظن انتقالا سلسا بسيطا يتم فى غمضة عين من نظام فكرى أو سياسى إلى نظام آخر . وقد استغرقت "السراى الجديدة" ما لا يقل عن خمس وثلاثين سنة حتى استقرت ، ودفعت فى أحد منعطفاتها حياة أحد رؤسائها : أنور السادات . وليس انهيار تأثير الكلمة المكتوبة شرا بالضرورة . فالكلمة المكتوبة تحجرت فى القيم التقليدية الموروثة .. بل وتتراجع نحو مزيد من الأصولية . وليست صحافة الإثارة السياسية مثل طبلة الدستور القومية (قبل إغلاقها) وطبلة الشعب الإسلامية سوى أعراض المقاومة الضعيفة الأخيرة وإن طالت لهذا التراجع .
 وفى مواجهة ما يشتكى منه مثقف الهوية من تآكل المقاومة السياسية وصعود هيبة الدولة وليس رخاوتها كما يدعى جلال أمين تطرح ثقافة المقاومة فكرة واجب المثقف فى تشجيع مختلف التكتلات التى تطرح نفسها دفاعا عن حقوق عامة أو خاصة . وبدلا من سلاح الاتهامات المشهر دائما والدعوة لفكرة الدولة العادلة الخيالية ، تفترض ثقافة المقاومة أن المقاومة المنظمة لمختلف البشر هى الوسيلة الفعالة لإيجاد ضمانات حقيقية وملموسة وفاعلة لما يمكن أن يسمى "إنصاف" الأفقر والأضعف . فـ"الرأسمالية المتوحشة" لا تحتاج لمواجهتها إلى دولة عادلة خيالية ولكن إلى منظمات مدنية ونقابات مستقلة قوية يتولى أمورها فعليا أصحاب الشأن أنفسهم .. وهذا فقط على سبيل المثال .
 فالقضية التى تطرحها ثقافة المقاومة هى قضية الحقوق السياسية والمدنية ، وليس المفاهيم الأخلاقية للعدل الذى يُفرض من أعلى بجهود الأيدى المباركة لمثقف الهوية الطهور الذى يدعى أنه بشير دولة لا تقل طهرا .. ناهيك عن أحلام العظمة والسؤدد ... الخ ، التى يلهى بها مثقف الهوية الناس عن واقعهم المباشر . وترى هذه الثقافة أن إهانة فرد فى قسم شرطة أو مصلحة حكومية ، سواء كان متعلما أم لم يكن ، إخلالا جسيما بالحد الأدنى اللازم توفره من الكرامة الشخصية لكل فرد .. وبالطبع فإنها ترفض تماما القول بأن "الطبقات المنحطة" تحتاج إلى معاملة منحطة ، على نحو ما يتم "تفهيم" خريجى كلية الشرطة وغيرهم من العاملين فى الأوساط الرسمية التى تتعامل مع هؤلاء "المنحطين" . فالفرد "المنحط" ليس مسئولا عن تسليم "قفاه" للسلطة لكى تشعر ، هى والطبقات العليا والوسطى ، بالاطمئنان ، بل إن عليها أن تحترم كيانه وتعمل على الحفاظ على ما تسميه الأمن فى حدود الإبقاء على هذا الحد الأدنى المقدس .. فإذا لم تنجح فعليها أن تتنحى ليتولى غيرها المهمة بنفس الشروط .
 وللأسف لن يكون هذا التطور إذا حدث فى صالح مثقف الهوية .. فمثقف الهوية يعبئ المهانين تحت شعارات ووعود براقة .. ولكنه سيعجز غالبا عن تعبئة الشاعرين بكرامتهم ، المدافعين عن حقوقهم ، الذين لم ييأسوا إلى الحد الذى يجعلهم يلقون بأنفسهم فى أحضان أول زعيم محتمل يعدهم بالانتقام . أما النداء من أجل الثورة فأمر مفرغ من المعنى الحقيقى إذا كان ينادى أفرادا عجزوا عن التكاتف دفاعا عن حقوقهم الأولية ، فكيف يمكن لهؤلاء أن يغيروا العالم ؟
 أما بالنسبة للثقافة العالِمة فمن البديهى أن ثقافة المقاومة تدعو ، لا إلى فتح الأبواب على مصراعيها ولكن إلى تحطيمها .. فثقافة النخبة ليس مطلوبا لها أكثر من الحرية بلا قيود أو شروط هوياتية أو احتجاج بمقدسات "شعبنا" الثقافية .. كما يقول أطراف أيديولوجيات الهوية المتصارعة .. أيا كانت ، كما يجب أن نقف بحزم أمام أى اتجاه لتحريم فكرة ، سواء بمبادرة من الدولة أو باستعداء المثقفين لها ضد بعضهم البعض ، أو على أيدى اتحاد الكتاب أو غيره من التجمعات الثقافية الرسمية وشبه الرسمية . فلا مجال هنا لوصاية بحجة "حماية الشباب" أو "حماية ضعفاء العقول". فلكل فرد أن يختار قيمه ومعارفه وعقائده وينشئ ثقافته الخاصة بقدر استطاعته وإمكانياته . وأيا كان أثر ذلك على الهوية فسوف تبقى دائما هوية تجمع البشر جميعا ، وخصائص متغيرة تاريخيا تفرقهم .. إلا أن مستقبل الصراع بين هذين الجانبين يجب أن يترك للتطور الطبيعى العام ، بدلا من المحاولة المضحكة لتجميده باسم ماض كان هو ذاته جديدا ومحطما لهويات سابقة يوما ما . وعموما نحن نعيش عصر انهيار الأنساق المغلقة .. ليس فقط على المستوى الأيديولوجى بحكم التطورات العالمية فى مجالات الاتصالات والمواصلات والإنتاج السلعى والثقافى .. ولكن أيضا على صعيد العلم ، حيث تفقد العلوم المختلفة استقلالها بمناهجها ومجالاتها وتنتشر العلوم البينية inter-disciplinary التى تجمع مناهج ومجالات علمين أو أكثر .. وأصبح الإبداع العلمى والفكرى والفنى مرهونا بالقدرة على تخطى حواجز الأنساق المغلقة .. ولم يعد التطور يأتى من داخل الفرع العلمى أو المدرسة الفنية أو الأدبية ، بل أصبح شديد الارتباط بتعدد المجالات والمعارف .
 وأخيرا فإن ثقافة المقاومة تدرك تماما أن نموها مشروط بظروف سياسية واقتصادية واجتماعية، محلية وعالمية ، متعددة . فإرهاصاتها البارزة ، برغم قلتها ، لا تكفى كضمانة .. فهى ستواجه مصادر مقاومة متعددة أهمها الاحتياج الذى يفرزه الريف أو بالأدق الانتقال من الريف والبنادر للمدن الكبرى إلى ثقافة هوية تعويضية عن الأمان المفقود ، خصوصا إذا بقى وضع المتعلمين الاجتماعى على سوئه . فحل الهوية حل سهل وبديهى ومتوفر .. وهو يعوض عن قيم المحافظة التقليدية ويخدمها .. كما يخدم فى ذات الوقت طموحات الارتقاء الاجتماعى من خلال الاحتجاج باسم الهوية ضد الدولة . وبهذا المعنى تحتاج ثقافة المقاومة إلى تغليب فكرة حق المقاومة وتنظيمها بدلا من النقد الأخلاقى الذى يدور حول فكرة فساد الدولة والتحلل الاجتماعى ، وما يسمى "أزمة الانتماء" .
 فالمسألة إذن ليست إيجاد "طريق ثالث" - إذا استخدمنا أحدث المصطلحات - بين الفساد والإرهاب كما يطرح البعض ، بل إدراك أن ما يسمى الإرهاب يعمل كحجة لدعم ما يسمى الفساد ، والعكس بالعكس ، وأن القضية الغائبة هنا ليست البحث عن "حجر الفلاسفة" الثالث أو العاشر ، ولكن تأكيد حق المقاومة المباشرة ، حق التنظيم المستقل ، حق الاحتجاج على الدولة وأجهزتها بغير أقنعة هوياتية ، أى بلا وصاية ، وبغير دق طبول الحرب على الفساد والإرهاب .. تلك الطبول التى لا تدعم المقاومة بقدر ما تسبب الصمم وتكرس أدوار نخب هامشية أصبحت دعايتها من أجل الحشد غير فاعلة .
 غير أن تأكيد حقوق المقاومة المباشرة على حساب ثقافة الهوية لا يعنى على الإطلاق المطالبة "بحظر" هذه الثقافة بأيديولوجياتها المختلفة ، ولا تجريمها واستعداء الدولة عليها بالطبع ، لأن ذلك يعنى إنهاء المقاومة قبل أن تبدأ ، بتكريس السلطوية ووحدة الحقيقة . فالمطروح هنا ليس "توجيها معنويا" بديلا ، وإنما ثقافة إبداعية متحررة من المحظورات . بل ويمكن القول بأن "ثقافة المقاومة" - اصطلاحا - تقبل التحالف مع ثقافات الهوية أو بعضها بصدد كل قضية تسلك فيها هذه الثقافات كثقافة مقاومة . فالمطروح هنا ليس "تكفير" ثقافة الهوية باسم الحرية ، وإنما تغيير المنظور العام للثقافة بمجمله .
 ومن ثم فإن ثقافة المقاومة ، بدلا من أن تنغلق على نفسها بدورها وتنحى جانبا ثقافة الهوية ، فإنها تقر بأن ثقافة الهوية هى من أحد أكثر جوانبها جوهرية ثقافة مقاومة : مقاومة الريف لاستغلال المدينة ، والأقاليم للعاصمة ، والعاصمة للنظام العالمى الجديد . إلا أننى أعتقد أن هذه المقاومة لم تحتج إلى اكتساب هذا الزى الهوياتى إلا بسبب الافتقار إلى تقاليد المقاومة المباشرة ذاتها فتنحو إلى استبدال قهر بقهر وسلطة "خيرة" بسلطة "سيئة" . ومن أحد الجوانب يمكن أن نعتبر اتجاه الحكم إلى الاهتمام بالصعيد وتنميته استجابة لاحتجاج الإرهاب الهوياتى . ومن هذه الزاوية يمكن أن نقول أن مقاومة الصعيد قد حققت بطريقة ملتفة وخطرة بعض مطالبه المهمة . أما خطورة هذه الطريقة فلها جوانب متعددة ، منها إزهاق أرواح الأبرياء وتآكل ذهنيات أعضاء هذه المنظمات أنفسهم بالدخول فى نوع بالغ الضيق من المعتقدات ، والنزعة الديكتاتورية الواضحة ، حيث لا يسعى هؤلاء الناس - مثل كل أيديولوجيات الهوية - إلا إلى استبدال قهر يعتبرونه شرا بقهر آخر يعتبرونه خيرا ورسالة إلهية . والأهم من ذلك كله أن هذه الطريقة فى المقاومة ترسخ السلبية بين أوسع القطاعات ، حيث يجد الناس أنفسهم محصورين بين نيران النخبة الحاكمة ونيران النخبة "المجاهدة" ، ليكون دورهم فى النهاية هو دور الغنيمة التى تتنازع عليها النخب التى تعتبرها ملحقا لها وتدعى الكلام باسمها وباسم خيرها الخاص سواء خيرها فى الدنيا وحدها أو فى الدنيا والآخرة معا .
 وهنا يتطلب الأمر أن أضع النقاط على الحروف بشأن العلاقة بين هذا ما طرحته هذه المقالات وأطروحات ثقافة أخرى بازغة ، لها أيضا تحفظاتها على ثقافة الهوية .. وهى تيار الليبرالية الجديدة المتمركز فى جمعية النداء الجديد ومركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام ، وبعض جمعيات حقوق الإنسان وأماكن أخرى . فإذا كانت هذه الليبرالية تواكب بنجاح عملية التحول إلى اقتصاد السوق ، فإن دعوتها الليبرالية لم تصل حتى إلى "دعه يعمل ، دعه يمر" ، فمشروعها يتلخص فى دعوة الدولة إلى إفساح مكان للنخبة المالكة والمثقفة فى إطار طبعة معتدلة من أيديولوجية الهوية الوطنية ، وهى تؤكد على أهمية الدولة فى تحقيق الانضباط الاجتماعى الذى يضمن بدوره "اعتدال" هذه الليبرالية وحماية مواقع النخبة الجديدة معا . وفى أقصى أشكال هذه الليبرالية "تطرفا" - جمعيات حقوق الإنسان - لا تعنى الليبرالية أكثر من التشهير بانتهاكات حقوق الإنسان فى إطار اللعب على حبال التوازنات الدولية والمحلية التى تحكم الدولة . غير أنها لا تفكر على الإطلاق فى تنظيم المنتهَكين أنفسهم ، أو حتى إقناعهم بحق الاحتجاج . فهى تتولى الاحتجاج بدلا عنهم ، وفقا لمفاهيم فى "النضال" قانونية و"إنسانية" - بمعنى خيرى . ولكنها من الناحية السياسية ليست سوى نوع من معارك النخب الجديدة ، تُدار فى الكواليس فى المحل الأول ، ولا تتعلق بأى شكل بحق المقاومة ذاته . فمشكلة هذه الجمعيات الأساسية ، برغم أهمية دورها فى اللحظة الحالية، ليست مشكلة التمويل - التى يكثر الحديث عنها فى إطار المناورات السياسية حول قانون الجمعيات - بل مشكلة التوجه ذاته . وليست مشكلة هذا التوجه أنه يتحالف مع جهات "غير وطنية" وينتهك "قدسية الهوية" ، على نحو ما تتوالى الكتابات الآن بهذا الشأن ، ولكن التنسيق العلوى مع جهات معينة فى إطار مشروع غير نضالى ولا حتى إنسانى (كما تُثبت الممارسات التفصيلية) ، وممارسة ذات الطريقة التى تدير بها نخبة الهوية مناوراتها مع الدولة فى إطار الحفاظ على التوازن الراهن .
 وعلى ذلك فالمطروح هنا لا هو "عقلانية" الأهرام ، ولا "كفاحية" منظمات حقوق الإنسان .. وإنما رهان على إمكانية التخلص من ثقافة الوصاية ، سواء كانت هوياتية أو "عقلانية" .. وإمكانية أن يجد بعض المثقفين جدوى فى التخلى عن هذه المواقع الحصينة المرتبة لصالح ثقافة أكثر تحررا ، تفتح آفاقا أكبر أمام المثقف من خلال حرية تنظيم الناس أنفسهم ونمو احتياجهم بالتالى إلى ثقافة غير تلقينية من النمط الهوياتى .
 وبدلا من الخيار الذى يطرحه النزاع بين أيديولوجيات الهوية والليبرالية الجديدة ، بين الثورة والإصلاح ، يطرح خيار ثقافة المقاومة سؤاله عمَّن يقوم بالثورة أو الإصلاح ، ويطرحه أيضا كبديل عن السؤال سيئ السمعة الذى لاكته الألسن بضعة عقود ، وهو السؤال عن الثورة أو الإصلاح لصالح من ، الذى يعنى كما نعلم الآن : باسم صالح من . أما السؤال عمن يقوم بالثورة أو الإصلاح فيطرح أوسع حقوق المقاومة مدى ، ويدعو لتعدد أشكال المقاومة فى كل موقع ومن منطلقات مختلفة . أما مدى قدرة المثقف على أن يدرك عدم جدوى الصراع من أجل استعادة مكانته القديمة وسط النخبة  الحاكمة من خلال شعارات الهوية ، وأن يتبنى منظور ديمقراطى مسئول عن التحرر الحقيقى للبشر بقوتهم الذاتية وبإرادتهم ، وليس باسمهم ، فهذا أمر متروك للتاريخ .
 وبالطبع فإن هذا الاقتراح ليس مقدما إلى "جنرالات" الثقافة .. فالجنرال لن يستطيع أن يفكر إلا بوصفه جنرالا ، حتى لو كان جيشه قد هُزم منذ زمن بعيد .. ولكنه مقدم إلى "البروليتاريا الثقافية" التى تتشكل الآن وتتحدد مواقع "طلائعها" فى العشرات من مراكز الأبحاث الجديدة ومنظمات العمل الأهلى والصحف الكثيرة الجديدة وقنوات التليفزيون المتكاثرة ، يعملون فى جمع وتصنيف المعلومات وتجميع الوثائق وإعداد الندوات والمؤتمرات والبرامج ونشر الأبحاث . وهى فئة يُنتظر ، فى ضوء تكنولوجيا المعلومات الجديدة والتطورات التى ترتبت عليها فى البلدان المتقدمة ، أن تتسع .
 وهم أيضا يشكلون جيلا جديدا ، اكتسب وعيه فى عهد ما بعد الحروب وما بعد الناصرية ، وفى ظل نظام مستقر أعيدت فيه صياغة الأدوار الثقافية بشكل أكثر "ليبرالية" بكثير من الوضع الناصرى وما قبله ، وفى ظل انفتاح أكبر بكثير على الثقافات "الخارجية" ووفرة فى وسائل الاتصال الفكرى بالخارج التى لا تنى النخبة القديمة عن التحذير من مخاطرها . تلك هى الأوراق الرابحة فى يد "ثقافة المقاومة" المقترحة فى مواجهة ثقافة الهوية ، التى تفقد على مدى عقود طابعها كثقافة مقاومة ، وتزداد سمتها السلطوية تجذرا .. وبالذات فى مواقع المعارضة للحكم القائم أكثر من مواقع السلطة .
 وفى نهاية هذه النقطة الأخيرة لا بد من أشير إلى أن مجمل هذا الطرح ، وإن كان يطمح فى التحليل الأخير إلى المساهمة فى إعادة صياغة المحاور الأيديولوجية للثقافة المصرية المعاصرة بتفكيك مفهوم الهوية منهجيا وسياسيا، فإنه ينطلق نحو هدفه هذا - كما لعل القارئ قد لاحظ - من موقع يقع بشكل أو بآخر على حواف معسكر اليسار (الذى لا يشمل فى عرفى الناصرية وما يشبهها ، طبعا) ، ويعنى بصفة خاصة بالإسهام فى إعادة صياغة أيديولوجيته واستعادة روحه الكفاحية التى برزت فى الأربعينات خصوصا .
 وعلى خلاف الندوات وحلقات النقاش التى اجتمعت لتناقش "أزمة اليسار" و"أزمة الماركسية" ، لتنتهى إلى توصيات عامة حول "إضفاء طابع ديمقراطى" - إن جاز التعبير - على أيديولوجية اليسار ، مع التمسك بمجمل أيديولوجية "التعبير" عن الفقراء أو الطبقة العاملة ، والتشبث إلى النَفَس الأخير بما يُسمى "مكتسبات الناصرية" .. ينطلق هذا المقال من التسليم بواقع هزيمة اليسار أيديولوجيا وسياسيا ، سواء أمام التيار الأصولى منذ عقود ، أو أمام التيار الليبرالى الجديد الآن . وبدلا من إلقاء اللوم على "البترودولار" و"الأفكار المستوردة من الخليج" ، أو "الانفتاح الاستهلاكى" ؛ وبدلا من منافسة الأصولية على شعارات الهوية على نمط "الدفاع عن الثقافة القومية" ، وألعاب ما يسمى "مقاومة التطبيع" ؛ وبدلا أيضا من دعوة التحالف مع الأصولية باعتبارها تيارا كفاحيا .. انطلق هذا الطرح من ضرورة مواجهة الأصولية ، التى كانت صاعدة ، فى تقديرى ، وتتراجع الآن ، لا أمام اليسار ، ولكن أمام الليبرالية الجديدة والأيديولوجية الحكومية التى أصبحت الآن أكثر تقدما من مجمل الأطروحات اليسارية .
 غير أن مواجهة الأصولية هنا لا تنطلق من منافستها بشأن "صحيح الدين" على نمط اتهامها من قِبَل ماركسيين بالتأسلم (!!) ، ولكن عن طريق اجتثاث الأصولية من جذورها ، بحرمانها من مناخ "بؤرة الهوية الصراعية" الصحى للغاية بالنسبة لها ، والتى ترعرعت فى ظلاله بفضل الناصرية واليسار المتشبع بها . ومن هنا فإن القضية المحورية ليست نقد الأصولية بمفاهيم التنوير الاستبدادى، بل هى توضيح دور "التنوير" و "اليسار" الهوياتى فى بناء مجمل الأسس التى قامت عليها الأصولية ذاتها كأيديولوجية حديثة . إن تحولات مفكرين كبار مثل طارق البشرى ، ويساريين مثل عادل حسين ومحمد عمارة - فى مقابل تاريخ كبار المثقفين الليبراليين مثل نجيب محفوظ - لتقف شاهدة على أن اليسار إنما يجنى على مدى العقود السابقة الحصاد المر لخياراته الأيديولوجية الهوياتية ، التى لا نقول طبعا أنه مسئول عنها ، فهى نتيجة معقدة لتفاعلات شبكة الأفعال الاجتماعية فى هذه العقود وشبكة التفاعلات الأيديولوجية خصوصا .
 وعلى ذلك فإن نقد اليسار للأصولية فى ملتى واعتقادى يتطلب أولا أن ينتقد اليسار نفسه .. أن ينتقد على وجه التحديد سقوطه التدريجى فى مستنقع الهوية ، ذلك السقوط الذى وصل ببعض فصائله الآن إلى تصور أن كفاحية اليسار لا تتأتى إلا بتجرع المزيد من سموم الهوية . أما أنا ففى تقديرى أن يسارا غير أممى لن يصلح لشىء على الإطلاق سوى كجثة فاقدة القدرة على المقاومة فى محرقة الهوية الهائلة .
 وهنا يتطلب الأمر الإشارة ولو فى عجالة إلى أن هذا البديل رهن بتطورات غير محلية أيضا .. فلا شك أن نماذج جديدة للمقاومة فى كل أنحاء العالم ، والنجاح فى الحد من "توحش" الرأسمالية العالمية ، أى منعها من حل أزمتها المشهودة على حساب الأجور ، سيكون من شأنه توفير مناخ عالمى أكثر تشجيعا على اندماج النخبة المثقفة فى عالمها بدلا من الانعزال خلف أسوار الهوية الوهمية .



#شريف_يونس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لماذا فشل مشروع التنوير ؟؟
- عن الفن والأدب فى ظل الناصرية: دراسة لدور المثقف فى ظل حكم ا ...
- مأزق التنوير مابين السلطة والأصولية الإسلامية
- مأزق القومية فى الماركسية المصرية


المزيد.....




- هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال ...
- الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف ...
- السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا ...
- بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو ...
- حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء ...
- الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا ...
- جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر ...
- بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
- «الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد ...
- الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»


المزيد.....

- الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) / شادي الشماوي
- هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي ... / ثاناسيس سبانيديس
- حركة المثليين: التحرر والثورة / أليسيو ماركوني
- إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات ... / شادي الشماوي
- المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب - ... / شادي الشماوي
- ماركس الثورة واليسار / محمد الهلالي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - شريف يونس - نحو إعادة بناء لليسار