أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - عبدالقادر المرجاني - أزمات الرأسمالية















المزيد.....



أزمات الرأسمالية


عبدالقادر المرجاني

الحوار المتمدن-العدد: 3800 - 2012 / 7 / 26 - 08:33
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


في هذا الجزء ستتم محاولة تقديم تأويلات ماركسية للأزمة، بالاستناد إلى نصوص بعض الاقتصاديين المناهضين للرأسمالية، قصد الاطلاع على تصوراتهم و سجالاتهم ، الهدف من ذلك، إلى جانب إدراك طبيعة الأزمة الرأسمالية الراهنة، تمكين المناضلين من أدوات التحليل الماركسي و فهم مجموع الإشكالات التي تخص التطور المتناقض للنظام الرأسمالي،مما يستلزم العودة إلى قانون القيمة،أساس نظام يتميز باستغلال الرأسمال للعمل.

يمكن تصنيف هذه التأويلات إلى اتجاهين، الأول يرى في الأزمة كونها كلاسيكية، أي فيض تراكم و فيض إنتاج ،أما الاتجاه الثاني فيحدد الأزمة الحالية كأزمة "رأسمالية خالصة" لا تلبي البتة الحاجات الاجتماعية وبفهم آخر،إنها أزمة منافذ ، لكن هذا التحديد ليس من موقع نظرية "نقص الاستهلاك"، فأزمة المنافذ هنا مرتبطة بأزمة حقول تراكم ذات مرد ودية عالية،يلعب فيها القطاع المالي دورا وظيفيا،وتستأثر فيها الأبناك و الربائح بالجزء المتنامي من الثروات المنتجة.فمنذ سنوات الثمانينات تقلصت بشكل مستمر نسبة الثروات المنتجة التي تعود للأجراء ليسَوى بذلك معدل الربح دون انعكاس على تطور معدل التراكم الذي يتراجع باستمرار، فالأرباح الإضافية لا تستثمر في قطاع الإنتاج بل تغذي المالية – لندرة حقول توظيف أكثر مردودية- عبر تشكيل رساميل حرة، تستفيد في تنقلها من رفع الحواجز ونزع الضبط عن الأسواق المالية و من الفقاعة المالية الضامنة لمردودية قصوى تساهم في رفع استهلاك أصحاب الدخول، تعميق التفاوتات و الالتجاء إلى الاستدانة المفرطة.

يتقاطع التحليلان عند اعتبارهما قيمة السندات المالية جزءا من فائض القيمة المنتج، كما في توصيفهما للأزمة المالية التي تفجرت شهر غشت 2007 و المسار الذي اتخذته إلى أن انتقلت "للاقتصاد الحقيقي" فأصبحت معممة، لكن يختلفان في تحديد منطلقاتها و موقع القطاع المالي في رأسمالية ما بعد "الثلاثين المجيدة" و أشكال إعادة الإنتاج التي تتخذها الرأسمالية منذ اعتماد النمط "النيوليبرالي".

تأتي أهمية هذا النقاش، لما له من دور في صياغة مشروع اقتصاديِ/ سياسي معادي للرأسمالية –الملازمة لها أزمات دورية- ينأى عن إعادة ضبطها و يعطي مخرجا للأزمة لصالح الأجراء،المستغَلين،المهمشين والمضطهدين •

أزمة فيض تراكم و فيض إنتاج:

"الأزمة الحالية تجد جذورها في النظام الرأسمالي و ليس في طوره النيوليبرالي".

يرى هذا الاتجاه أن الأزمة الحالية رغم تفجرها أولا في القطاع المالي إلا أنها أزمة فيض إنتاج احتواها لفترة معينة اللجوء إلى القروض، لكن سرعان ما انكشفت عقب الفرقعة التي أصابت الفقاعة العقارية، هذه الأخيرة كانت نتيجة مضاربات كبيرة حولت السكن من مكان للإقامة إلى أصل ماليactif financier) (يباع و يشترى، ليدر دخلا أو يقدم كضمانة لقروض أخرى، مما أدى إلى فيض استثمار في مجال العقار و من ثمة إلى فيض إنتاج لا يمكن تفسيره بأي حال بنقص في الاستهلاك نتيجة ضعف القدرة الشرائية للأجراء. لقد منحت قروض السكن لعائلات تعجز عن سدادها باعتماد خدعة التدرج في نسبة الفائدة، و مقنعة إياها بإمكانية بيع المسكن بربح ما دام سعره في ارتفاع مستمر، و من ثمة شراء آخر أفضل و منتوج إضافي و هكذا ... لكن ما إن تحقق الإشباع حتى طفا على السطح فيض الإنتاج، عكسه انهيار الأسعار و عجز كبير في تسديد القروض العقارية ذات خطورة (1).

يظهر إذن أن الدفع باقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية،منذ سنة 2001، بالاعتماد على سوق العقار أدى إلى فيض استثمار في المجال العقاري و بذلك خلق فيض إنتاج- خلقت له منافذ مصطنعة عبر منح قروض يعلم مسبقا عدم قدرة العائلات على تسديدها، لإدراك مانحيها منذ البداية، إمكانية تخلصهم منها عبر التسنيد- كان أصل تفجر الأزمة المالية. أدى فيض الإنتاج هذا إلى نقص قيمة عقار المقترض الذي كان ضمان لقرضه، فلم يتسنى له بيعه –عند عجزه عن تأدية الأقساط- بما يمكِنُه من تسديد ما تبقى له من قيمة الدين (نتيجة انهيار الأسعار)،ففقده.

تأتي قيمة هذا التحليل في نقده لتفسير الأزمة بنقص الاستهلاك نتيجة تقليص الأجور و تحويل الأرباح من قطاع الإنتاج إلى قطاع المالية التي تجعل من القروض المدرة للفائدة محفزا للطلب و تجعل من "الرساميل الحرة" منبعا لمردودية مرتفعة تحول دون تراكم فائض القيمة. فالمالية في هذا التحليل للأزمة (فيض الإنتاج و فيض التراكم) يتأتى من موقعها الذي اتخذته في النظام الرأسمالي منذ سنوات الثمانينات. يستعين فرنسوا شيسنيه françois chesnais بمفهوم "نظام التراكم ذي الهيمنة المالية" لتفسير التحولات البنيوية التي شهدها الاقتصاد الرأسمالي منذ نهاية مرحلة "العصر الذهبي".يعني هذا المفهوم عند ربطه بعولمة الرأسمال،مرحلة خاصة من الامبريالية يهيمن فيها دوليا الرأسمال المالي، فالمالية استطاعت أن تصبح قوة اقتصادية و اجتماعية "مستقلة" بوجه الطبقة العاملة و كل أجزاء الرأسمال (2). و قد سبق لماركس أن تطرق إلى ذلك في الرأسمال "تظهر سيرورة الإنتاج الرأسمالي كوسيط فقط، لا مفر منه، سوء لا بد منه للوصول إلى المال. لذلك فكل الأمم الغارقة في نمط الإنتاج الرأسمالي يأخذها دوريا دوار صنع المال دون وساطة سيرورة الإنتاج". لكن و من ناحية أخرى لا يمكن تفسير فقاعة البورصة التي دامت عدة سنوات، فقط بمكانيزمات متفق عليها و داخلية (للمالية)، فالرأسمال الوهمي لا ينتج قيمة وثروات، ولاستمرار ديمومة الفقاعة يجب أن يلاحظ توسَُع وبأشكال مختلفة، لابتزازات طفيلية للمالية على "الاقتصاد الحقيقي" (3). فدعم الفقاعة عبر مركزة و توجيه جزء كبير من القيمة و فائض القيمة –المنتجة في أنحاء شتى من العالم- نحو البورصات، مكن الاقتصاد الحقيقي من تنمية نمو مضطرد للمالية.

كانت "ديكتاتورية الدائنين" الطور الأول "لسلطة المالية"، انبثقت مع بداية سنوات الثمانينات،عن معدلات فائدة مرتفعة على سندات الخزينة الأمريكية، فقد التجأ المستثمرون الماليون، إلى تمويل عجز الميزانيات ضامنين موارد مالية كبيرة بشكل آمن، مما أدى إلى تراكم الموجودات المالية بشكل مرتفع بين أيدي المجموعات المالية الغير البنكية،وفي المقام الأول صناديق التقاعد و مؤسسات التوظيفات المالية «placement financiers » التي عملت على تشكيل أسواق مالية معولمة، تحريرها و نزع الضبط عنها، كانا ضروريان لتدعيم "سلطة المالية". تشكلت هذه الأخيرة في وجه حكومات عديدة ، لتصبح لها القدرة في تحديد وجهات اللإستثمار و توزيع الثروة داخل بلدان كانت تتمتع بقطاع عام مهم، كما تشكلت أيضا داخل المجموعات الصناعية، حيث أن مركزة امتلاك الأسهم فتحت الطريق نحو "حكامة المقاولة" (4). فإلى جانب مردودية سندات الديون العمومية، أضحت الربائح آلية أساسية لامتلاك فائض القيمة حيث أن مساهمة صناديق التقاعد والتوضيفات (الاستثمار) في رأسمال الشركات أدى إلى تحول عميق في أشكال العلاقة بين الصناعة و المالية، ليحدد ضغط هذه الأخيرة شكلا جديدا للعلاقة بين المساهمين و مسيري المقاولات ثم الأجراء. لقد أضحت الدخول المالية محددة للطلب المتعلق بدورة إنتاج البضائع. إلا أن "حكامة المقاولة" لم تهدف فقط إلى مردودية قصوى للرأسمال الموظف في قطاع الإنتاج، بل إلى خلق أرباح من تشكُل رأسمال وهمي تعبر عنه فقاعة بورصة دائمة.إن الأزمة الراهنة "أزمة نسقية" « crise systémique » و يعنى بها سيرورتان: الأولى تبتدئ مع تدمير الرأسمال الوهمي بشكل واسع و الثانية سيرورة فيض إنتاج ناتج عن فيض تراكم الرأسمال في قطاع الإنتاج . إنها أزمة تُفسر بحركة رأسمال ، انسَلخ نتيجة نقص دائم لفائض القيمة وتفاقَمَ أكثر بابتزاز يفرضه الرأسمال المهيمن أي الرأسمال المدر للفائدة ومعه الرأسمال الوهمي (5).

السيـرورة الأولى :

التمييلFinanciarisation / :

يعني سيرورة مَركَزَة و "تراكم" فئة خاصة من الرأسمال التي يسميها ماركس "الرأسمال المدر للفائدة" « capital porteur d’intérêt » . يجب أن تٌمَيَزَ هذه السيرورة عن تراكم الرأسمال بشقيه الثابت و المتغير، فهي مختلفة عنه و مرتبطة به في آن واحد. كانت الأبناك الفاعل الأول في هذه السيرورة إلا أن في سنوات السبعينات، إنضافت لها شركات التأمين و صناديق التقاعد والتوظيف المالي، و قد غذتها عدة منابع: أرباح الشركات التي لم يعاد استثمارها والتي مصدرها البلدان الأصلية لتلك الشركات أو البلدان التي تٌحَول لها استثماراتها (إ م خ)، الفوائد التي مصدرها ديون العالم الثالث، ما راكمه الأغنياء من توظيفاتهم المالية الناجحة أومن مضاربات موفقة، مداخل الثروات الطبيعية كالنفط و كذلك ما تمركزه صناديق التقاعد و صناديق التوظيف المالي (OPCVM) عمود التراكم المالي منذ بداية الثمانينات، تعَدد هذه المنابع يتعارض مع ما يطرحه husson الذي لا يشير سوى إلى الأرباح الناتجة عن الانخفاض الكبير في كتلة الأجور و الغير المستثمرة في قطاع الإنتاج كمورد لتغذية "التمييل" (6) وبذلك يمكن أن تكون إحدى نتائج تحليل هوسن كتالي: كل توزيع أفضل للقيمة المضافة و لأرباح الإنتاجية يمكن له أن يكون مخرجا للأزمة،مما يحيل إلى مكونات الإجابة الكنزية.(7) يختلف Chesnais كذلك مع bihr الذي يعتبر أن الجزء الزائد من فائض القيمة الغير مستهلك في البذخ، يبحث ليَأخذ قيمة « se valoriser » على شكل رأسمال وهمي ليجد Bihr في هذا برهانا على نظريته حول "أزمة تحقيق" « crise de réalisation » و التي يمكن إرجاعها إلى أزمة نقص استهلاك.

الرأسمال الوهمي/capital fictif:

"ثلاث أبعاد وثلاث مراحل " إن مفهوم الرأسمال الوهمي أساسي لفهم الأزمة وله ثلاث أبعاد:

منح قروض للشركات أو الاستثمار في رأسمالها و يستوجب ذلك إصدار سندات، تعهدات و أسهم.

السندات التي تعد ذكرى استثمار سابق، أصحابها يعتبرون أنفسهم يملكون "رأسمالا" يجب أن يدر عليهم مدخولا و يصدقون ذلك كلما أدت لهم الشركات الأرباح و الفوائد.

بتداول السندات في البورصة و ارتفاع قيمتها، يتشكل وهم خلقها للقيمة، سرعان ما يتبخر مع كل انهيار مالي.

و قد مر تراكم الرأسمال المدر للفائدة و معه الرأسمال الوهمي من ثلاث أطوار:

1975- 1982: مرحلة هيمنت فيها القروض لحكومات العالم الثالث

مع بدايات الثمانينات: تفاقم عجز ميزانيات البلدان المصنعة و على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، مع انفجار مديونياتها و تسنيد الدين العمومي بمعدلات فائدة مرتفعة.

سنة 1994: انخفاض معدلات الفائدة على سندات الدين العمومي أدى إلى تغير في تركيبة مخططات الصناديق و الأبناك، فقد أخذت فيها الأسهم مساحة مهمة و أصبحت الربائح أهم تدفق بالنسبة للمسيرين الماليين. وقد عرفت هذه المرحلة وضع "معايير" لإرضاء المساهمين و الحيلولة دون النزول عن عائد 15% كمعدل لمردودية رساميل المساهمين – الرساميل النظيفة /capitaux propres – • حدَدَت هذه "المعايير" إستراتيجية الشركات التي تشتغل "بحكامة المقاولة" و التي اتخذت من "القيمة السهمية" « valeur actionnariale » هدفها الأساسي ومن "حق امتلاك الأسهم" (الخيار الأسهم/stocks options) أداة لتحفيز المسيريين(managers)، لكن نظرا للصعوبات التي وجدتها الشركات لاستخلاص الأرباح التي توافق نسب المردودية المحددة (8)ــ رغم الرفع من معدلات الاستغلال و ما تتيحه العولمة من إمكانية نقل المنشآت في اتجاه الدول ذات الأجور المنخفضة « délocalisation »ــ اتجه المسيرون الماليون إلى عدم الاكتفاء بالربائح المنخفضة بل تضمين معدل(ROE)« retourn on equity » المحدد في 15%،"فوائض القيم البرصوية" (plus values boursieres) و تقديرا "لقيمة" الأسهم ، و هذا ما أدى إلى ارتفاع "الأرباح الوهمية" الناتجة عن عمليات المضاربة والتي تضيفها الشركات المسجلة بالبورصة لأرباحها الإجرائية ولأرباحها التي تظهر في المحاسبة الوطنية (9). يحيل chesnais إلى دراسة لاقتصاديين برازيليين من الجامعة الفدرالية و التي تعطي الأولوية "للأرباح الوهمية" في تعديل منحنيات الربح خلال سنوات 1990، لكن يسجل اختلافه حول كون هذه الأرباح أصبحت عاملا قويا يأتي ليحد من ميل معدلات الربح نحو الانحدار، فالعوامل الوحيدة التي تأثر في هذا الاتجاه هي معدل الاستغلال بحديه فائض القيمة و الرأسمال المتغير ثم قيمة الرأسمال الثابت.
إن المساهم المؤسساتي لم تعد تكفيه الربائح، بل يبحث خصوصا على سيولة كاملة لتوظيفاته (تحقيق "فيض قيمة بورصوي") و بالتالي مراجعة اختيراته و إعادة تركيب محفظاته و التخلص من سندات و امتلاك أخرى... لكن مثل هذه الأسواق تحيى حياة "مستقلة" أساسها خلق أسعار الأسهم ، لذلك تُعد مكانا لتشكُل رأسمال وهمي كبير، حيث تتجاوز بكثير قيمة الرأسمال الذي يظن مسير الصندوق أنه يدَبِرُه أو يظن الفرد أنه يملكه صحة السوق المالية التي ترتبط بالحالة الاقتصادية .لكن هناك عوامل خارجية أيضا غذت تشكيل هذا الرأسمال الوهمي، إنه تدخل السلطات المالية، كسياسات الخزينة الأمريكية ( FED) و التي تتجلى في خلق القروض و خفض معدلات الفائدة لإنقاذ الشركات من الإفلاس و الحفاظ على قدرتها في تأدية الربائح بالمبالغ التي أعلنتها و التزمت بها.

سنة 2001-2002: بعد انهيار أوهام "الاقتصاد الجديد": عرفت هذه المرحلة نمو متزايد لقروض الاستهلاك و بالأخص قروض العقار (السكن) و الهدف من ذلك كان أولا الرفع بشكل مصطنع من القدرة الشرائية و من الطلب عن طريق منح العائلات قروض و منحهم آفاق مليئة بالأوهام، و ثانيا جعل الفوائد إحدى الآليات الهامة لإعطاء قيمة للرأسمال « valorisation du capitale » فرغم أن القروض أساسها ضعيف و ذات خطورة لكن تقنية "تسنيدها" « titratisation » و التي كان يعول عليها لاقتسام المخاطر أو تعميم تحويلها إلى من يستطيعون تحملها، شجعت على خلقها بوفرة. لقد أصبح معلوما ما أفضت إليه سيرورة تراكم الرأسمال المدر للفائدة و معه الرأسمال الوهمي، لقد اندلعت شهر غشت سنة 2007 أزمة "الرهون العقارية" معلنة عن أزمة عميقة للنظام الرأسمالي لازالت متفاقمة إلى اليوم. في هذه المسألة يظهر أيضا تعارض بين شيسنه و هوسن حول ما يحددانه للقروض من دور . ففي حين يرى الأخير أن التحولات في توزيع القيمة المضافة (لصالح الرأسمال) هي التي أدت إلى الالتجاء للقروض بشكل كبير يعتقد شيسنيه أن هذا التفسير لا يأخذ بعين الاعتبار أنَ تطور القروض وأيضا التغيير في توزيع القيمة المضافة كانا نتيجة الفترة الطويلة من تراكم الرأسمال الذي يبحث عن أخذ قيمة « se valoriser » في الأسواق المالية و المؤدي إلى تضخم الرأسمال الوهمي (10).

السيـرورة الثانية:

عرفت الرأسمالية طور طويل من "تراكم دون انقطاع" ابتدأ منذ إعادة بناء ما دمرته الحرب العالمية الثانية و الذي يمكن إرجاعه إلى منتصف سنوات الخمسينات من القرن السابق. إنها أطول فترة من هذا النوع تعرفها الرأسمالية على طول تاريخها. عرفت مرحلة التراكم هذه فترات تختلف وتيرتها، لكن دون تصدع، على شاكلة أزمة اقتصادية كبيرة و عامة أو حرب عالمية كإحدى السابقتين أو تصدع يأتي من صراع الطبقات، فقد أعلنت أزمة منتصف السبعينات انتهاء دورة طويلة المدى (الثلاثين المجيدة)، لكن بعد طور انتقالي، استمر التراكم بالارتكاز على انتقال متنامي لمركز ثقله الجغرافي (11)، فالرأسمالية في طورها النيوليبرالي، و مع "إصلاحات" مارغريت تاتشر، ريغين و دينغ بالصين، تجاوزت حدود هيمنتها الإمبريالية السابقة، لتسهل عمل الرأسمال و تخلق تغيرات داخل الشكل الجيواقتصادي لهيمنته. في ظل مثل هذه الشروط، كان ممكنا أن تنفجر أزمة فيض إنتاج.

نقص فائض القيمة، انحدار معدل الربح و أزمة فيض الإنتاج:

تعد الأزمة الراهنة، أزمة فيض إنتاج ناتجة عن فيض تراكم الرأسمال على شكل وسائل الإنتاج، إلا أن هذا لا يتوافق مع التمثيلات المبيانية التي يوظفها هسون husson لإظهار انحدار معدل التراكم منذ الثمانينات كبرهان على إعادة استثمار الأرباح في القطاع المالي. في دراسة ل chesnais (12) يشير إلى أن قليل من المعاديين للرأسمالية انتبهوا إلى أن هذه المبيانات تخص فقط الولايات المتحدة ، أوروبا و اليابان. في حين ضمأ شركات هذه البلدان لفائض القيمة، جعلها تستثمر أرباحها بشكل منتج في الصين و البرازيل. هذه البلدان إلى جانب المكسيك ،الهند و بلدان الخليج النفطية،لا تعد فقط أسواقا لهذه الشركات كما يشير bihr بل منبعا مباشرا لفائض القيمة. لكن كلما ازداد التراكم ، كلما واجه الرأسمال نقصا في فائض القيمة بخلاف ما يطرحه bihr عندما يقدم تحليلا للأزمة يرتكز على "زيادة في فائض القيمة" " excès de plus-value " ناتجة عن ارتفاع فائض القيمة المطلق و النسبي بكمية تفوق إمكانية التراكم لتكون النتيجة تحويل جزء من فائض القيمة هذا إلى قطاع المالية (13). يشير chesnais إلى أن هذا التحليل يذهب عكس ما وضحه ماركس في كتابه "الرأسمال"، فالنظام الرأسمالي، ينحوا فيه الرأسمال في حركة دائمة لأخذ قيمة(mouvement de valorisation sans fin) ، ليصطدم أثناءها بنقص مزمن في فائض القيمة، و جذور ذلك تكمن في علاقات الإنتاج الرأسمالي نفسها و تنعكس في ميل معدل الربح نحو الانحدار.

Gill أيضا يذهب في تحليله في نفس اتجاه chesnais، باستناده على نصوص ماركس يُذَكِر في نصه المعنون "أصل الأزمات: فيض إنتاج أو نقص استهلاك؟" (14) بالتأثير المتناقض لارتفاع الإنتاجية على إنتاج القيم الاستعمالية و على إنتاج القيم. فالتقدم التقني الذي يعوض قوة العمل بوسائل الإنتاج،يرفع من إنتاجية العمل الحي و قدرته المادية لإنتاج قيم الاستعمال، لكنه يحد في الوقت نفسه من قدرته الاجتماعية على خلق قيمة جديدة و ذلك بتخفيض الوزن النسبي للعمل الحي في إنتاج القيمة و التي يصبح جزء متنامي منها قيمة "محولة" جوهرها عمل سابق مُتَضَمَن في وسائل الإنتاج. هذا النقص في الوزن النسبي لمنبع فائض القيمة أي العمل الحي، يترجم عند الرأسمال كصعوبة متنامية في أخذه قيمة. إنها ظاهرة خاصة بالإنتاج الرأسمالي، حيث أن ارتفاع الإنتاجية المادية، المُنتِجة بشكل كبير لقيم استعمالية ، يأخذ شكل قصور في إنتاج فائض القيمة و هذا رغم ارتفاع معدل فائض القيمة أو ما يسميه bihr تقلص حصة الأجور في "القيمة المضافة"(ارتفاع فيض العمل بالنسبة للعمل الضروري). إن ارتفاع فائض القيمة الذي تتضمنه القيمة الجديدة لا يعني أنها خُلقت بكميات زائدة و إنما ارتفاعها يتم بوتيرة تناقصية كلما ارتفعت الإنتاجية،أي أن الرأسمال يجد صعوبة في أخذه قيمة se valoriser . إن هذا يؤكد نقص فائض القيمة (نقص فائض القيمة = ارتفاعها بوتيرة تناقصية). و لتوضيح هذه الفكرة يمكن الاستعانة بخطاطة قدمها jacques valier في مؤلفه "نقد الاقتصاد السياسي"، الجزء الثاني، التي تُظهر أن هناك نهاية لارتفاع فائض القيمة النسبي الناتج عن تنامي إنتاجية العمل – الحدود أمام ارتفاع فائض القيمة المطلق بديهية- المؤدية إلى إنقاص قيمة » dévalorisation « الرأسمال المتغير (إنقاص قيمة قوة العمل):

=========================================================

لنفترض أن: v+pl=4h+4h (8 سعات عمل) مع v تمثل الرأسمال المتغير و pl تمثل فائض القيمة و h تمثل الساعة.

pl/v:معدل فائض القيمة.

و لنفترض أن إنتاجية العمل تتضاعف من مرحلة إلى أخرى.

(لن تتم الإشارة في هذا المثال إلى تأثير الإنتاجية في قيمة الرأسمال الثابت ما يهم هو تخفيضها لكمية العمل المجرد لصيانة قوة العمل.)

مرحلة 1: v+pl=2h+6h نحصل على:

ارتفاع الإنتاجية بنسبة 100% (انخفاض v من h4 إلى h2).

ارتفاع فائض القيمة بنسبة 50% ( من 4h إلى 6h )

ارتفاع معدل فائض القيمة بنسبة 300%

مرحلة 2: v+pl=1h+7h نحصل على:

ارتفاع الإنتاجية بنسبة 100%

ارتفاع فائض القيمة بنسبة 16%

ارتفاع معدل فائض القيمة بنسبة 700%

مرحلة 3: pl+v=0.5h+7.5h نحصل على:

ارتفاع الإنتاجية بنسبة 100%

ارتفاع فائض القيمة بنسبة 7%

ارتفاع معدل فائض القيمة بنسبة 1500%

=========================================================

يتضح إذن أن ارتفاع الإنتاجية يصل إلى مستوى يتضاءل فيه مفعوله على فائض القيمة رغم ارتفاع معدل الاستغلال.

إن هذا التحليل يقود إلى استنتاج محدودية تأثير العوامل الداخلية التي تعمل ضد قانون ميل معدل الربح نحو الانحدار و التي من أهمها ميكانيزم فائض القيمة النسبي (الرفع من الإنتاجية المخفضة لقيمة قوة العمل).

إن ميل معدل الربح نحو الانخفاض كما يقول ماركس في الرأسمال "هو ببساطة طريقة خاصة بنمط الإنتاج الرأسمالي للتعبير عن تقدم الإنتاجية الاجتماعية للعمل". يستنتج مما سبق أن انحسار السوق و النقص في المنافذ (نقص الاستهلاك) سببه يكمن في دائرة الإنتاج، في ميل الرأسمال إلى التخفيض من العمل الحي و من ثمة ميله إلى تضييق دائرة التبادل. فالرأسمال لا يحتاج إلى العمل إلا إذا أتاح له أن يأخذ قيمة se valoriser أي أن ينتج فائض القيمة، العمل المؤدى عنه أجرا لا يمكن أن يوجد إلا بدلالة فائض القيمة الذي يأتي به (شرط العمل الضروري هو فيض العمل) إن نقص فائض القيمة ، السبب الأخير للأزمة المتوقعة في الإنتاج، تتضح في السوق بشكل معكوس، على شكل فيض من البضائع (الغير مباعة) (15) و بذلك فالإنتاج المرتكز على الرأسمال لا بد له أن يفضي إلى أزمة فيض إنتاج "غاية الرأسمال هي إنتاج الربح و ليس تلبية الحاجات [...]، فمن الضروري أن يتواجد باستمرار عدم توافق بين الأبعاد الضيقة للاستهلاك على قاعدة رأسمالية و إنتاج يميل دون توقف إلى تخطي هذا الحاجز الذي يلازمه" (16) إذن أزمات فيض الإنتاج و إن تمظهرت خارج دائرة الإنتاج، كظواهر مرتبطة بالسوق، فلا يمكنها أن تفسَر إلا انطلاقا من شروط تثمير الرأسمال أي إنتاج فائض القيمة، محرك الإنتاج الرأسمالي، و بالتالي فتجاوزها لا يمكن أن يستند فقط إلى إعادة التوازن بين العرض و الطلب بل بتعديل المردودية و ذلك بإنتاج كمية كافية من فائض القيمة. فنقص الاستهلاك ليس سببا في الأزمة، بل تمَظهُر لنقص فائض القيمة. إن التقدم التقني يخفض من عملية العمل الحي و يرفع من الإنتاجية التي ترفع بدورها من كمية البضائع المنتجة في حين و بموازاة ذلك، يَضعُف تأثيرها في عملية استخلاص فائض القيمة الذي تنخفض كميته، فينحدر معدل الربح و ينحو الرأسمال إلى التقليص أكثر من العمل المأجور ما إن أصبحت الشروط غير مواتية كي يخلق فائض قيمة بكميات مناسبة، لتتعثر سيرورة تراكم الرأسمال بشقيه الثابت و المتغير مع تفجر أزمة فيض إنتاج عامة، تَظهَرُ في السوق كنتيجة نقص في الطلب العام على المنتجات الصناعية (وسائل الإنتاج) و الاستهلاكية.

التغير في الشكل الجيواقتصادي لهيمنة الرأسمال: الصين

"فيض التراكم و ميل معدل الربح نحو الانحدار و فيض إنتاج"

شهدت سنوات 1990 تغير مكان ثقل التراكم نحو آسيا، و بالخصوص نحو كوريا و التيوان، بعدها الصين و الهند. فالصين الراهنة هي سيرورة طويلة لتشييد الرأسمالية، ابتدأت سنة 1978 و مهدت لها إصلاحات "دينغ"، لتتسارع بداية سنوات التسعينات التي عرفت خوصصة و تحرير الخدمات العمومية و لتصل ذروتها منذ دخول الصين منظمة التجارة العالمية سنة 2001. فإلى جانب كونها سوق ضخمة، كانت الصين تعد بلدا ذو تركيب عضوي للرأسمال ضعيف و حقل يمَكِن من الجزء المهم من فائض القيمة الذي يتيح إعادة إنتاج الرأسمال. لقد مكنت الصين عدة شركات متعددة الجنسيات من تحقيق فيض أرباح بعد تمكنها من استغلال يد عاملة معظمها من القرويين الذين هاجروا إلى المدينة. فالشركات الأمريكية مثلا التي لها مشروعات أو أعمال مشتركة في الصين حققت ما مجموعه 3 بلايين دولار سنة2004 و 3.3 بليون دولار سنة 2005 وفق مكتب التحليل الاقتصادي لشعبة التجارة في الولايات المتحدة (17). لكن الشركات الأجنبية – و إن جنت بعضها أرباحا جيدة كنوكيا وكنتاكي وفيلبس .........- سرعان ما اكتشفت انحسار السوق الصينية و عدم قدرتها على استيعاب نسبة كبيرة من منتجاتها، فالرأسمالية لم تستطع أن تتجاوز حدا معينا لمستوى الأجور لما لذلك من انعكاس سلبي على معدلات الربح، فحتى نسبة الدخل إلى كل فرد بقيت ضعيفة- تساوي نفس النسبة في المغرب- رغم أن الدخل المتوسط تضاعف عدة مرات (18). هذا الوضع جعل جل الشركات المستثمرة في الصين تحول استراتجياتها نحو التصدير. الاستغلال المكثف لليد العاملة الصينية و تحويل القيمة الناتج عن "التبادل اللامتساوي" (19) كانا مصدرا لجني الشركات فيض أرباح، جزء يعاد توظيفه في الصين و جزء آخر يغذي المالية، فالولايات المتحدة الأمريكية مهد العولمة و الصين سلاحها كما يقال. إن البروليتاريا الصينية هي من أتت لوول ستريت و سيتي بتدفقات لفائض القيمة من خلال إجراءات دولية (20).

احتوت الصين لفترة قصيرة نقص فائض القيمة، فقد أضحت "ورشة العالم" نظرا للدور الهام الذي لعبته استثمارات المجموعات الصناعية الأمريكية و اليابانية ثم شركات التوزيع الشبه صناعية كوول مارت (Wall-Mart)، لكن لا يمكن أن نعزو المكانة التي أخذتها الصين في الاقتصاد العالمي إلى مجرد "تصدير لعلاقات الإنتاج الرأسمالية انطلاقا من بلدان الثالوث"، بل ترتكز هذه المكانة على سيرورة أصيلة للتراكم حملتها قوى إنتاج داخلية (21). تمثلت القاعدة الاجتماعية لهذا التراكم في البورجوازية الجديدة الصاعدة المرتبطة بجهاز الدولة و بالحزب و بالطبقة المتوسطة الحضرية و الكثير من الموظفين و أعضاء جهاز الدولة (22).

كانت الصين، بأجورها المنخفضة و قدرتها على تعويض نقص فائض القيمة الذي واجهته البلدان المتقدمة، الوجهة المفضلة للرساميل الأجنبية التي استثمرت بكثافة في قطاع الإنتاج، مضخمة كتلة وسائل الإنتاج و مضاعِفة الناتج الداخلي الخام عشر مرات في مدة 30 سنة، لتتواجد الصين بعد ذلك في قلب الأزمة العالمية لفيض إنتاج البضائع و فيض تراكم الرأسمال، أزمة ناتجة عن نقص فائض القيمة –إنتاجها بوتيرة تناقصية- بالنظر إلى الرأسمال الموظف، مما يعني انحدار متوسط معدل الربح (23).

"يجعل انحدار معدل الربح المنافسة تحتد بين الرأسماليين، ومن داخل هذه المنافسة، تمتلك الشركات القوية تكنولوجيا و القوية من زاوية نظر رؤوس الأموال الموظفة الغلبة على حساب الشركات المتخلفة و الأكثر ضعفا، بما أنها تهيمن على السوق- و هذا بديهي بالنسبة للاحتكارات الرأسمالية- فإنها تبحث عن تأخير "ساعة الحقيقة"، أي أن تحافظ أطول وقت ممكن على الربح المتوسط السابق و أيضا على فيض الأرباح التي كانت تستأثر بها.

انحدار معدل الربح يعني ببساطة : بالنسبة لمجمل الرأسمال الاجتماعي، لا يكفي فائض القيمة الإجمالي المنتَج للحفاظ على معدل الربح السابق" كما يوضح ماندل(24).

الأزمة الحالية، أي رهان؟

لن يكون هناك رهان آخر، في ظل هذه الأزمة الاقتصادية و البيئية، سوى التحكم في الوسائل التي تنتج الثروات و بالتالي التحكم في مراكز القرار التي تقرر ماذا سينتج و كيف. و في علاقة بهذا الهدف يجب التوصل إلى صياغة مطالب و أشكال تنظيمية تمَكِن من فتح الطريق نحو مخرج إيجابي، و تكون جسرا نحو الاشتراكية (25).توجد قرارات الاستثمار اليوم بين أيدي الرأسمال، و لا يمكن تفادي وضع عمال العالم في منافسة دائمة لبيع قوة العمل إلا بالقضاء على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج و توحيد صفوف أجراء مختلف البلدان على أسس قوية. إن إتباع سياسات حمائية اتجاه المنتجات الصينية، لا يعني في نهاية المطاف سوى الوقوف ضد تشغيل العمال الصينيين، دعم هؤلاء من أجل تنظيمهم ضد الشركات المتعددة الجنسيات و ضد الاضطهاد السياسي للحزب الوحيد البيروقراطي الرأسمالي (pcc) هو إحدى الوسائل الأساسية لتفادي فخ المنافسة مع عمال الصين و الهند (26). يرى chesnais أن أحد الممرات لهكذا وسيلة هو تأسيس "أوروبا للعمال"،أوروبا الولايات المتحدة الاشتراكية و الديمقراطية للقارة (27). تؤدي كل أزمة فيض إنتاج إلى هجوم عنيف للرأسمال على العمل المأجور،و يؤدي ارتفاع نسبة البطالة و الخوف من شبحها إلى قبول إلى قبول العمال بالأجور المنخفضة و الزيادة في كثافة العمل و وتيرته و القبول أيضا بالتخلي عن شروط الحماية الاجتماعية. أما نتائج هذا الهجوم فتبقى رهينة بميزان القوى بين الطبقات و درجة تنظيم الطبقة العاملة و وعيها الطبقي.لا يمكن تفادي الوضع المأساوي الذي تنتجه الرأسمالية إلا بتشييد نظام اقتصادي مختلف نوعيا. و في ظل ضعف الحركة العمالية نتيجة هزائم عديدة سابقة، لا يمكن الاقتصار على مجرد المطالبة بكفاح معادي للرأسمالية بصيغة عامة، فالأزمة تجعل العمال يواجهون التسريح وغلق المصانع، انخفاض الأجور و فرط الاستغلال و تجريم النضال النقابي... من هنا تأتي ضرورة النضال الدفاعي من أجل مطالب آنية و اقتراح أشكال نضالية و تنظيمية فعالة و عدم الاكتفاء بمجرد ترديد استحالة وجود مخرج في ظل النظام الرأسمالي.

يجب مواجهة كل من يرى أن من شأن هذه المطالب، في ظل الأزمة، الإضرار بمصلحة المقاولة و مردوديتها، بطرح مطلب التسيير الذاتي للمنشأة من طرف العمال و المطالبة بتأميم كل المنشآت التي تغلق أبوابها و جعلها تحت الرقابة العمالية، بالإضافة إلى تأميم المؤسسات المالية دون شراء أو تقديم تعويضات و توقيف الدعم المالي للمقاولات الخاصة مع تطوير المقاولات العمومية و تطوير الاقتصاد بالارتكاز على الحاجات الاجتماعية.

أزمة منــــــــــــــــــــــــــــــــــافــــــــذ:

سيتم التطرق هنا إلى أطروحتين، تفضي كل واحدة منها إلى اعتبار الأزمة الحالية "أزمة منافذ" الأولى ل Alain bihr و الثانية ل Michel Husson.

بيهر و ازدواجية ميل معدل الربح إلى الانحدار و ارتفاع معدل فائض القيمة:

الازدواجية و "الزيادة في فائض القيمة":

عصب هذا الطرح يكمن في الموضوعة التالية:

يؤدي بالضرورة تقدم إنتاجية العمل في النظام الرأسمالي، و بشكل دوري، إلى تفاوت بين العمل الميت و العمل الحي و كذلك إلى تفاوت بين العمل الضروري و فيض العمل. إن هذين التفاوتيين يُعَبران عن نفس التناقض الأساسي، بين تطور قوى الإنتاج و علاقات الإنتاج. بصيغة أخرى، فالتفاوت الأول يكافئ نقص قي فائض القيمة بالنسبة لمجموع الرأسمال الثابت و المتغير أما التفاوت الثاني فيعني زيادة في فائض القيمة بالنسبة للرأسمال المتغير. إنها ازدواجية ميل معدل الربح إلى الانخفاض و ارتفاع معدل فائض القيمة. هذا التحليل للأزمة يعتبره Bihr متعدد الأبعاد، بخلاف الرؤية الأحادية التي ينسبها للذين يركزون على التفاوت الأول (نقص فائض القيمة) أي ربط الأزمة فقط بانحدار معدل الربح. تؤدي ظاهرتي زيادة و نقص فائض القيمة إلى نفس النتيجة أي أزمة الإنتاج الرأسمالي و التي طبيعتها أزمة فيض الإنتاج. ففيض تراكم الرأسمال دون استخلاص فائض القيمة بشكل كافي لإعطائه قيمة (sa valorisation) ، يؤدي إلى انخفاض معدل الربح و يظهر ذلك في فيض إنتاج الرأسمال المنتج. إنها أزمة تقييم (crise de valorisation). و من جهة أخرى، زيادة فائض القيمة في "القيمة المضافة" يؤدي إلى تقلص المنافذ نتيجة انخفاض الطلب الناتج عن النقص في الأجور، مما يعني فيض إنتاج البضائع. إنها أزمة تحقيق (crise de réalisation) (28).

في كل أزمة رأسمالية يهيمن أحد هذين المنظورين دون غياب المنظور الآخر لكونهما يعبران عن نفس التناقض الأساسي. بالنسبة ل bihr، فالأزمة المالية و البنكية التي فجرت الأزمة الحالية ، هي أزمة رأسمالية تهيمن فيها صعوبات تحقيق فائض القيمة(29).

يوظف هذا الاقتصادي عدة نسب رياضية لتفسير ازدواجية الأزمة:

قيمة كل بضاعة كما هو معلوم V هي: V=v+c+pl مع:

v: الرأسمال المتغير

c: الرأسمال الثابت

pl : فائض القيمة

pl’ : معدل فائض القيمة و هو: pl’=pl/v

v+pl : القيمة المضافة


يستعين بيهر بمتغيرين:

e= pl/(v+pl)=pl’/(1+pl’) : كمؤشر على درجة استغلال قوة العمل باتخاذ نسبة فائض القيمة إلى القيمة المضافة عوض نسبة فائض القيمة إلى الرأسمال المتغير فقط.

K=c/(v+pl) : كتركيب عضوي للرأسمال يساوي نسبة الرأسمال الثابت إلى القيمة المضافة.

وبهذا فمعدل الربح+ v) pl/(c يساوي: p’=e/(K+1-e) .

تحليل هذه النسب يفضي إلى النتائج التالية:

1) إذ لم يُأخذ بعين الاعتبار العوامل التي تعمل عكس ميل معدل الربح نحو الانخفاض و ميل معدل الاستغلال إلى الارتفاع (الإنتاجية و ميزان القوى بين الرأسمال و العمل)ــ ففي آخر المطاف عملها العكسي لا يوقف الميلين و لا يعكسهما ــ فإن:

أ‌) pl’ ترتفع نتيجة انخفاض v و ارتفاع pl في القيمة المضافة و بذلك تؤول إلى 1.

ب‌) K ترتفع نتيجة ارتفاع c، نصل إذن إلى انحدار p’ وكل انخفاض متواصل و ممتد لمعدل الربح يؤدي إلى تباطؤ ثم الحد من تراكم الرأسمال.

2) لكن من جهرة أخرى، فالكمية الكبيرة من القيمة V للناتج الاجتماعي يتم تحقيقها عبر تبادلها مقابل الرأسمال الثابت و فائض القيمة المستهلك أو المحول إلى رأسمال إضافي، في حين أن الكمية الأقل من V يتم تبادلها مقابل الأجور v التي تقل حصتها في القيمة المضافة v+pl و التي تعد المصدر الأساسي للطلب النهائي. في هذا الوضع، لا يمكن تفادي الاختلالات بين القطاعين II (قطاع المنتجات الاستهلاكية) و I ( قطاع إنتاج وسائل الإنتاج). فالتراكم في القطاع II لم يعد بمقدوره متابعة الوتيرة المفروضة من طرف القطاع I، ليجد نفسه مكبوحا نتيجة التقلص النسبي للمنافذ لينعكس ذلك على التراكم في القطاع I. فاستمرار دينامكية التراكم هنا، تجد أمامها حاجزا يتمثل في تقلص الطلب النهائي بشكل لا يتناسب مع الرأسمال-بضاعة الذي يُبحث عن تحقيقه. الحديث عن نقص v في v+pl يعني التأكيد ضمنيا على "زيادة فائض القيمة". لقد تم التطرق سابقا إلى انتقاد gill و chesnais لهذا المفهوم، حيث يركزان على "نقص فائض القيمة" و انحدار معدل الربح و يشيران إلى كون تحليل bihr و من يدور في فلكه يؤدي ضمنيا إلى القول أن مجرد الرفع من الأجور و إعادة توزيع جيدة للعمل و الرأسمال بين القطاعات يحميان النظام من الأزمات. في حين أن اللاتوازن بين القطاعات و اللاتوازن بين الإنتاج و الاستهلاك لا يعدا حدثين مميزين في اقتصاد السوق، و ليس سببين في تسريع وتيرة دفع الاقتصاد إلى الأزمات، بل بالعكس، هما القاعدة الملازمة للإنتاج الرأسمالي. و التوازن لا يمكن له إلا أن يكون عرضيا(30) يقول ماركس في الرأسمال: "تظهر تناسبية القطاعات الإنتاجية الخاصة كأنها مولودة،عبر سيرورة ثابتة،عن لا تناسبيتها " .أما عن الأجور، فالرأسماليون لا يهتمون فقط ببيع كيفما كان للبضائع، بل يولون اهتمامهم إلى البيع بربح كاف في حين أن أي رفع من الأجور،يتجاوز عتبة معينة، يؤدي بالضرورة إلى خفض معدل الربح و بذلك خفض كتلة الأرباح و بالتالي إعاقة تراكم الرأسمال و الاستثمارات الجديدة (31). 3) يقدم بيهر أربعة مؤشرات أو حجج للبرهان على أن الأزمة، أزمة تحقيق (32).

أولا؛ أدى تعريض العمال إلى منافسة حادة نتيجة تحرير حركة رؤوس الأموال و تسهيل استغلال اليد العاملة ذات الأجور المنخفضة مع تعميم المرونة و الهشاشة إلى تعديل معدل الربح، لكن في المقابل أدى هذا الوضع إلى مراكمة كل الشروط البنيوية المعيقة لتحقيق القيمة. فالتراكم لم يعد يعيقه منذ بداية الثمانينات نقص في فائض القيمة بل زيادة فائض القيمة في القيمة المضافة المؤدي إلى تقلص المنافذ نتيجة نقص استهلاك الأجراء.

ثانيا، تنامي قطاعات إنتاج المنتجات الفخمة (de luxe) الذي يعكس اغتناء فئات الطبقة التي تحيى من فائض القيمة (مدراء الشركات و الصناديق، ذوي الأجور "الخيالية"، المساهمين المستفيدين من الربائح، المقرِضين الذين يغتنون من الفوائد، مداخيل مُلاك العقارات، stocks-options... ). إن انفجار استهلاك المنتجات الفخمة هو أحد أوجه "أزمة التحقيق" (crise de réalisation)، فهذا الاستهلاك أُريدَ له أن يكون قاطرة الطلب الذي تقلص نتيجة التفقير النسبي للأجراء و هو مؤشر على فائض قيمة لا يتم توظيفه في تراكم الرأسمال –نتيجة تقلص المنافذ- بل يتم تبذيره على شكل نفقات البورجوازية على البذخ.

ثالثا، دليل آخر عن "زيادة فائض القيمة" يتجلى في التراكم المذهل للرأسمال الوهمي، فالجزء من فائض القيمة غير المستهلك في المنتجات الفخمة و الغير مقدور استثماره في قطاع الإنتاج و التجارة،تم توظيفه في قطاع المالية،الكازينو الكبير، بحثا عن أخذه قيمة على شكل رأسمال وهمي و ساعد على ذلك تحرير الأسواق المالية و تسنيد القروض و الملكيات و كل المشتقات و المنتجات المالية المعقدة بحثا عن مردودية مالية عالية، تنقلب في كل مرة إلى خسائر فادحة عند انفجار الفقاعة، إن فائض القيمة الزائد هو المغذي الأساسي لتراكم الرأسمال الوهمي أما "ادخار الأجراء" و خصوصا في شكل صناديق التقاعد مثلا، فلا يعد سوى مساعد (adjuvant) (بخلاف ما يطرحه chesnais الذي يعتبره رئيسي). كل هذا يدل على المرض الحقيقي الذي يعاني منه "الاقتصاد الحقيقي" و الذي يتجلى في خنق القدرة الشرائية للأجراء، أي هيمنة "أزمة التحقيق".

رابعا، تطور قروض الاستهلاك، التي تغطي النقص في الطلب النهائي الناتج عن تقلص حصة الأجور في القيمة المضافة. هذه القروض تعمل على تمكين الأجراء من استهلاك منتجات دائمة (durables) (التجهيزات الالكترونية، السيارات، السكن...) رغم تفقيرهم النسبي و تؤدي في نفس الوقت إلى إعطاء قيمة للرأسمال المالي بشكليه، رأسمال السلف و الرأسمال الوهمي.في نصه من "أجل مقاربة متعددة الأبعاد لأزمات الإنتاج الرأسمالي" يستدل بيهر بعدة نصوص لماركس لدعم تفسيره لأزمة فيض الإنتاج بنقص الاستهلاك:"فيض الإنتاج له كشرط أساسي القانون العام للإنتاج الرأسمالي:الإنتاج بمقياس قوى الإنتاج (أي حسب الإمكانية المتوفرة لاستغلال أكبر كتلة ممكنة من العمل مع كتلة معينة من الرأسمال) دون مراعاة الحدود الموجودة للسوق أو للحاجات الممكن دفع قيمتها (solvables) وينبثق عن توسيع ثابت لإعادة الإنتاج و التراكم ،و إعادة تحويل ثابت للدخل إلى رأسمال في حين أن قاعدة المنتجين تبقى و يجب أن تظل محدودة" (33).

ماذا بعد؟

الإصلاحات من داخل النيوليبرالية:

بعد التخبط الذي تلى الأزمة – الفترة التي ترك فيها بنك ليمان برادرز (lehman brothers) يلقى حتفه،مسرعا من وتيرة الأزمة المالية في الولايات المتحدة و بعد ذلك أوروبا- و بموازاة مع ضخ مبالغ خيالية لإنقاذ البنوك، بدأت بعض الحكومات بالبلدان الرأسمالية، تحت ضغط الأحداث، تلوح ب "إعادة تأسيس الرأسمالية" تحت سقف النيوليبرالية (إصلاح "الإصلاحات النيوليبرالية"): إعادة الريادة للأبناك المركزية في مراقبة أنشطة القروض، الحد من العمليات المضارباتية في أسواق الصرف و أسواق البورصة، فرض ضرائب على "فائض القيمة البورصوي " ،محاربة صناديق التحوط (المضاربة (hedge funds/ و الجنات الضريبية،الحد من محفزات مسيري الرساميل المالية و القائمين على الأسواق المالية (traders) بإلغاء الأسهم الخيار (stocks options) و المظلات المذهبة (parachutes dorés) و تغريمهم الخسائر، تغيير المعايير المحاسباتية المعتمدة في تقويم الشركات ... باختصار وهم ضبط النيوليبرالية التي جوهرها اللاضبط ! و بافتراض أن هذه الإجراءات طبقت بالكامل- مجموعة من البلدان ليس في مصلحتها ذلك كسويسرا و لكسمبورغ و المملكة المتحدة التي ستعرقل كل مس بالجنات الضريبية- كمحاولة لضبط جزئي لحركة الرأسمال في بعده المالي، فلا جدوى من ذلك –ليس بسبب عدم مرافقتها بإصلاحات تخص ضبط منافسة رؤوس الأموال الصناعية-، لأن الأزمة الرأسمالية لا تفسر بغياب ضبط تداول و تراكم الرأسمال، بل لكونها تجد أساسها في حقيقة هدف السياسات النيوليبرالية و الذي يتجلى في اللاتوازن المحدث في "توزيع القيمة المضافة" لصالح الرأسمال و على حساب العمل المأجور (34). "انكماش يجد جذوره في أزمة فيض الإنتاج التي سببها التوزيع الراهن للقيمة المضافة [.....] ليس هناك من مخرج رأسمالي للأزمة دون العودة إلى حدي هذا التوزيع" (35). و بذلك فإصلاحات النيوليبرالية أفقها مأزوم و عاجزة عن إخراج الرأسمالية من أزمتها بل عاجزة حتى عن إيقاف مدها التراجعي.

النيوكينزية:

في مقابل هذه الإصلاحات للسياسات النيوليبرالية تظهر اقتراحات أخرى كبدائل من منظور نيوكينزي: ضمان نمو للأجور الحقيقية المباشرة و الغير المباشرة بتناسب مع نمو الأرباح (كلاهما تغذيهما الإنتاجية)، ضرورة التدخل الضبطي للدولة لتحقيق التوازن بين نمو الأجور و نمو الأرباح عبر ثلاث أدوات: سياسة الموازنة (politique budgétaire)، السياسة النقدية و سياسة الأجور إضافة إلى وضع مخطط آني لإيقاف تفاقم الأزمة الاقتصادية يُمَول من رفع ضريبي على الرأسمال و المداخيل العالية و الثروات الكبيرة مما سيمكن من خلق مناصب شغل و الرفع من الأجور و توسيع الخدمات العمومية ثم تلبية الحاجات الاجتماعية. يؤكد أيضا هذا المنظور النيوكينزي أن هذا النموذج من توزيع الثروة يجب البحث عن تطبيقه على المستوى العالمي بحيث يمر عبر إلغاء ديون دول الأطراف و فتح الطريق أمام إمكانية تراكم رأسمال محلي بها. بيهر من جهته يرى أن هذا التصور النيوكينزي يملك امتيازا عن منافسه النيوليبرالي لأنه يمس أساس الأزمة و يفتح طريق أكثر واقعية للخروج منها، لكن ليس مضمونا نجاحه (36)وعدة عقبات تحول أمام ذلك:

أولا، صعوبة تشييد إطار ضابط لإعادة إنتاج الرأسمال على المستوى العالمي، ففي ضل الشروط الراهنة لتدويل الرأسمال، الإطار المؤسساتي الذي من المفروض أن يكون الهيئة الضابطة، لا يمكن أن يُختزل إلى تأليف لمختلف الدول القومية و إلى مسلسل من المؤسسات الدولية كصندوق النقد الدولي و البنك العالمي و المنظمة العالمية للتجارة و منظمة الأمم المتحدة ... بل يجب تحقيق تمفصل هيئات تشتغل بالأقل على أربع مستويات:

المستوى العالمي، عبر تقوية دور بعض المؤسسات كصندوق النقد الدولي،

على المستوى القاري عبر تشكيل تكتلات، على شكل فدراليات مثلا

المستوى الجهوي عبر تشكيل إطارات و هيئات جهوية

المستوى المحلي تقوية دور الدولة في إعادة إنتاج شروط الهيمنة الطبقية.

لكن هناك ما يحول دون ذلك، إذ أن الصراعات و النزاعات بين الدول تحول دون إمكانيات تشكل هكذا هيئات.

ثانيا،تعد أيضا أزمة الهيمنة الأمريكية عائقا أمام المشروع النيوكينزي، سيزيد من تفاقم هذه الأزمة تحَوُل موازين القوة بين قوى المركز وهذه الأخيرة وبين القوى الصاعدة الممثلة في البرازيل و روسيا و الهند والصين (BRIC)، مما يزيد أيضا من احتداد تضارب المصالح و الصراع لاحتلال المراكز المتقدمة على الصعيد العالمي. كل واحد يبحث عن تحميل الآخر ثقل تبعات الأزمة و هنا نجد أيضا أحد المعيقات أمام النيوكينزية.

ثالثا، غياب حركة اجتماعية للدفاع عن مصالح الأجراء و خصوصا البروليتاريا، بالقوة اللازمة لفرض تنازلات على الرأسمال في عملية اقتسام القيمة المضافة . فالمشروع الكينزي لما بعد الحرب العالمية الثانية، لم يكن له ليتحقق لولا الحركة العمالية و الكفاح المسلح السائدين في ذلك الوقت، و الضغط الذي كان يمارسه المد الثوري (37).

رابعا، و إذا ما افترض تحقق كل هذه الشروط السابقة الذكر، يصطدم هذا المشروع النيوكينزي بثقل الأزمة البيئية، فتراكم الرأسمال و إعادة إنتاجه على مستوى أكثر شساعة و حسب منطق إنتاجوي يشبه شكلا و مضمونا ذاك الذي ساد في الفترة الكنزية لما بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح مستحيلا نظرا لغياب البعد البيئي فيه (38).

ستستمر البورجوازية و حكوماتها في الدفاع عن مصالحها مُحَمِلة الأجراء نتائج تفاقم الأزمة (مزيدا من البطالة ،مزيدا من الاستغلال، تخفيض الأجور و تفكيك أنظمة الحماية الاجتماعية....)، هذا الوضع له نتيجتان كما يحدد بيهر، إما استمرار تفاقم الأزمة لاستمرار تواجد عِلتها (اللاتوازن في تقاسم القيمة المضافة) و بذلك ستتضرر قطاعات رأسمالية، لتظهر أقسام من البورجوازية تنادي بإعادة توجيه التدبير الحكومي للرأسمالية في اتجاه النيوكينزية و بهذا سيُزال أحد العوائق أمام المشروع النيوكينزي، وإما سيثير استمرار الأزمة الرأسمالية ردود فعل من جانب العمال لا يمكن توقع شكلها حاليا أو درجتها أو حدودها، تساؤلات عديدة تطرح في هذا الصدد: فهل ستنحصر هذه الكفاحات في المستوى المحلي أم ستولد أشكال تنسيق على المستوى الدولي؟ هل ستقتصر على الأشكال الكلاسيكية للتنظيم و الصراع؟ هل هي كفاحات دفاعية أم ستستهدف إعادة تنظيم للإنتاج و الحياة الاجتماعية؟ فإذا كان لهذه الكفاحات دور في تخلي البورجوازية عن النهج النيوليبرالي، ألن تجد فيها النيوكينزية أحد العوامل لإزالة عائق آخر أمام مشروعها؟ لا يمكن تغييب إمكانية توافقات جديدة بين الرأسمال و العمل للخروج من الأزمة، ومن مهام الثوريين الدفع بكفاحات العمال كي تصبح أكثر جذرية في اتجاه الحسم مع الرأسمالية و تشييد مجتمع خالي من الاستغلال، يتعلق الأمر بالاستفادة من زوال نفوذ التدبير النيوايبرالي للرأسمالية المأزوم. تخفيض ساعات العمل و الرفع من الأجور و إلغاء امتيازات المسيرين (stocks options, parachutes dorés) ، تأميم الصناعات الإستراتيجية، تأميم الأبناك و تشريك و تطوير الخدمات العمومية و إلغاء ديون العالم الثالث، التسيير الذاتي و الرقابة العمالية للمنشئات ... كلها عناصر برنامج –و إلى جانبها مطالب يصيغها العمال في مسار كفاحهم- يفتح الصراع من أجل تحقيق دينامية ثورية (39).

هوسون و بؤس الـــــــــــــــرأسمــــــــــــــــال

ينطلق هوسون من دراسة إحصائية و مبيانية وردت في عدة مقالاته (الرأسمالية السامة و الموجات الطويلة...) يتضح منها أن سنوات الثمانينات عرفت بداية ارتفاع معدل الربح في بلدان "الثالوث" – الولايات المتحدة الأمريكية و الاتحاد الأوروبي و اليابان- و الذي استمر في ارتفاعه إلى حدود منتصف سنة 2006 دون أن يعرف معدل التراكم نفس منحى التطور، حيث شهدت نفس السنوات انخفاض معدل التراكم، باستثناء مرحلة "الاقتصاد الجديد" (مرحلة النصف الثاني من التسعينات من القرن 20) التي عاد فيها معدل التراكم إلى مستوياته القصوى لسنوات 1960، ليتراجع بعد ذلك نتيجة انحدار معدل الربح (ارتفاع التركيب العضوي للرأسمال النابع عن فيض التراكم والذي بدد وهم الاعتماد على التكنولوجيا الجديدة للرفع من إنتاجية العمل أو إنتاجية العوامل الشاملة). لقد انتهت مرحلة "الاقتصاد الجديد" بأزمة0200/2001 التي عكسها انفجار فقاعة التكنولوجيا الحديثة، ليتابع معدل التراكم انخفاضه و يعود معدل الربح للارتفاع.

نتائج الدراسة البيانية تطرح إشكاليتين:

أولا، لم يعد القانون "ارتفاع معدل الربح يستلزم ارتفاع معدل التراكم" ساريَ المفعول منذ الثمانينات.

ثانيا،هل يعني ارتفاع معدل الربح دخول الرأسمالية طور توسع (40) (phase expansive) جديد بعد أزمات سنوات 1970؟

فإذا ما تم الارتكاز عل نظرية الموجات الطويلة لارنست ماندل يظهر وضع ذو حدين. فمن جهة يمكن اعتبار الرأسمالية قد دخلت طور جديد من التوسع نتيجة ارتفاع معدل الربح، و من جهة أخرى، إذا ما أخذ كمعيار معدل التراكم يستنتج أنها في مرحلة انغماس من داخل طور التراجع (41). يقدم هوسون في مؤلفيه "بؤس الرأسمال، نقد للنيوليبرالية" و "رأسمالية خالصة" أطروحته التفسيرية و تأويله الماركسي لأزمة الرأسمالية منذ سنوات الثمانينات و التي تبتعد عن تفسير الأزمة بصعوبة الحفاظ على معدلات ربح مرتفعة نتيجة فيض التراكم، وتتيح فهم الأزمة الأخيرة على ضوء فهم شامل للرأسمالية الراهنة المنبثقة عن انتهاء طور التوسع لما بعد الحرب العالمية الثانية.ستركز هذه الأطروحة على تحليل لمعدل الربح من زاوية الإنتاجية ومن زاوية التركيب العضوي للرأسمال و معدل فائض القيمة ثم على تفسير لإعادة الإنتاج و مدى تلبيته للحاجات الاجتماعية مع تحديد وظيفة المالية في الرأسمالية الراهنة.

تحليل معدل الربح:

تحليل معدل الربح من زاوية الإنتاجية:

كبديل عن اعتماد النسبة ( pl/v )÷(1+c/v) لتحديد تطور معدل الربح مع اعتبار النسبتين pl/v و c/v مستقلتين، و هذا غير صحيح كما سيتبين لاحقا. يستعمل هوسون تعبيرا آخر لتحليل معدل الربح يُظهر ثلاث محددات لتطوره و هي الأجر الحقيقي ،إنتاجية العمل و فعالية الرأسمال.

فمعدل الربح = (القيمة المضافة – الأجر)/( الرأسمال) و يكتب: R=(PQ-WN)/PK (42) بحيث:

R: معدل الربح

P: مستوى الأسعار

Q: حجم المنتوج

K: حجم الرأسمال

PQ: القيمة المضافة (بالسعر)

PK: الرأسمال المستثمر (بالسعر)

W: متوسط الأجر

N: عدد العمال

إذا ما وضعنا e=WN/PQ أي نسبة حصة الأجور في القيمة المضافة نحصل على: R= (1-e)/k بحيث k يعني معامل الرأسمال و يساويk=K/Q= 1/ŋk فبارتفاع k تنخفض فعالية الرأسمال ŋk و بانخفاضه ترتفع فعالية الرأسمال kŋ (ŋk=Q/K نسميها أيضا إنتاجية الرأسمال). و بهذا فلدراسة تطور معدل الربح و تحليله وجب دراسة المتغيرين e و k.

* دراسة المتغير e:

e=WN/PQ= (W/P)÷(Q/N)=(W/P)÷ŋl

W/P تعني الأجر الحقيقي أي ارتباط معدل الأجور بالأسعار

Q/N تعني حجم المنتج بالنسبة لعدد العمال أي إنتاجية العمل lŋ .

يتضح إذا أن حصة الأجور ترتفع إذا ما ارتفع الأجر الحقيقي بنفس وتيرة ارتفاع الإنتاجية، و بهذا يصغر بسط معدل الربح، و تنخفض الأجور إذا لم تنعكس أرباح الإنتاجية على مستوى الأجر الحقيقي و هذا ما يعني ارتفاع معدل فائض القيمة (ارتفاع فائض القيمة النسبي). و بالتالي للحفاظ على مستوى معين من معدل فائض القيمة يجب أن يُعوض كل ارتفاع في الأجر الحقيقي بارتفاع في إنتاجية العمل.

* دراسة معامل الرأسمال k:

k=K/Q=(K/N)÷(Q/N) بحيث:

K/N: الرأسمال لكل منصب شغل و تحيل إلى المفهوم الماركسي، التركيب التقني للرأسمال

Q/N=ŋl: إنتاجية العمل

تظهر أيضا الإنتاجية كمحدد لمعامل الرأسمال و بالتالي لمعدل الربح، إن ارتفاع التركيب التقني للرأسمال، لا يعني بالضرورة ارتفاع معامل الرأسمال k (أي انخفاض فعالية الرأسمال – إنتاجية الرأسمال- kŋ)، و بالتالي انحدار معدل الربح R نتيجة كبر المقام، بل كل ذلك تحدده إنتاجية العمل إن كانت سَتعوض بارتفاعها ارتفاع الرأسمال لكل منصب شغل أو هذا الأخير سيرتفع بوتيرة أكبر من ارتفاع الإنتاجية. لكن في كلتا الحالتين، تجدر الإشارة إلى أن الرأسمال لكل منصب شغل والإنتاجية ليسا مستقلين عن بعضهما البعض، فالإنتاجية أحدد محَدِدات ارتفاعها هو كتلة وسائل الإنتاج. يقول ماركس في الرأسمال: "ينحو نمط الإنتاج الرأسمالي، ويصل إلى نتيجة تتجلى في رفعه الغير المتوقف لإنتاجية العمل أي يَرفع بشكل مستمر من كتلة وسائل الإنتاج المُحَولة إلى منتوج بواسطة نفس العمل".

كخلاصة:

من كل ما سبق يتضح الدور المركزي لإنتاجية العمل في الحفاظ على مستوى معدل الربح، بتعويضها أولا لارتفاع الأجر الحقيقي و ثانيا، بتعويضها لارتفاع الرأسمال لكل منصب شغل مما يعني بقاء حصة الأجور منخفضة و إنتاجية الرأسمال مرتفعة بشكل يناسب الحفاظ على متوسط معدل الربح (هذه حالة الاقتصاد الرأسمالي لفترة "العصر الذهبي"). يمكن أن تُوضح هذه الفكرة بشكل أفضل إذا ما وظف مفهوم آخر و هو "إنتاجية العوامل الشاملة" gŋ و التي مكوناتها kŋ و lŋ (gŋ مرجح النقط المتزنة (lŋ (e ; و ((1-e),ŋk) يعني أن: e(ŋl-ŋg)+(1-e)(ŋk-ŋg)=0

أي: ŋg= eŋl+(1-e)ŋk

ليُستنتج إذن أن ارتفاع الأجر الحقيقي يمكن أن يرتفع دون أن ينخفض معدل الربح إن كان هذا الارتفاع يعوض بارتفاع في أحد مكونات "إنتاجية العوامل" أو بارتفاعهما معا. ما يميز الرأسمالية بعد ولوجها موجة التراجع لما بعد السبعينات هو انخفاض gŋ نتيجة انخفاض مكوناتها.

تحليل معدل الربح من زاوية التركيب العضوي للرأسمال ومعدل فائض القيمة:

* التركيب العضوي للرأسمال: c/v

حسب المتغيرات السابقة: c=(K/N)÷(W/P)

لا يؤدي بالضرورة تراكم الرأسمال إلى ارتفاع للتركيب العضوي للرأسمال، فالمجتمعات الرأسمالية عرفت ارتفاعا مهولا في المُعِدات و الآلات و يمكن أن يؤدي هذا إلى استنتاج مُتسرع مفاده ارتفاع هذا التركيب العضوي، لكن هذا صحيح فقط بالنسبة للتركيب التقني (الرأسمال لكل منصب شغل) أي ارتفاع الرأسمال بشكله الفيزيائي (حجمه الفيزيائي). أما التركيب العضوي للرأسمال فيجب قياسه بالقيمة (en valeur). ثلاث عوامل تعمل على تصحيحه: أولا إطفاؤه، فكل سنة تكبر القيمة العامة للرأسمال الثابت لكن في المقابل تنخفض بتناسب مع جزء القيمة الذي يتم إطفاؤه أي الجزء المحوَل إلى البضائع المنتَجة. ثانيا، تأثير الإنتاجية، في الرأسمال يشير ماركس إلى ما يلي: "نفس التطور الذي يزيد من كتلة الرأسمال الثابت بالنسبة للرأسمال المتغير يخفض من قيمة عناصره نتيجة ارتفاع إنتاجية العمل و يمنع قيمة الرأسمال الثابت،التي ترتفع دون توقف، من أن تَكبُر بنفس نسبة كِبر حجمه المادي. في هذه الحالة يمكن لكتلة عناصر الرأسمال الثابت أن تكبر في حين أن قيمته لا تتغير أو حتى تنقص [...] نفس الأسباب التي تؤدي إلى ميل معدل الربح إلى الانحدار تلطِف أيضا من تحقيق هذا الميل" (43). وثالثا، تأثير الرأسمال المتغير، فيمكن لكتلة الأجور أن ترتفع نظرا لارتفاع الأجر الحقيقي. وبهذا، يمكن أن يُستنتج من التصحيحات الثلاثة أن استقرار التركيب العضوي للرأسمال مُبَررا و أن ارتفاعه لا يتحقق إلا إذا ارتفع الأجر الحقيقي و الإنتاجية بشكل ضعيف.

* معدل فائض القيمة: Pl/v

يمكن الانطلاق من التساؤل التالي: هل يمكن القول أن لارتفاع معدل فائض القيمة حدا معينا أم يبقى سقفُ ارتفاعه أقل من سقف ارتفاع التركيب العضوي لرأسمال؟ لا يمكن الجزم باختيار الشطر الثاني من التساؤل كجواب على هذا الأخير، فحتى إن تجمد أو ارتفع الأجر الحقيقي فإن ارتفاع معدل فائض القيمة يمكن أن يصل إلى مستويات كبيرة نتيجة أرباح الإنتاجية و هذا بالضبط الميكانيزم المتحكم في فائض القيمة النسبي بخلاف فائض القيمة المطلق، الذي له حدود نتيجة محدودية يوم العمل.

========================================================= لنفترض أن لصيانة قوة العمل يلزم للعامل وَحدتان من المنتوج A. الأجر الحقيقي هو الذي يُمَكن العامل من شراء الوحدتان. لنفترض أيضا أن المنتوج A قيمته ساعتان من العمل من العمل المجرد، إذن قيمة قوة العمل تساوي2h *2h=4h. إذا كان يوم العمل من 8 ساعات فإن pl=8-4=4h. و معدل فائض القيمة pl/v=100%

الآن نفترض أن إنتاجية العمل تضاعفت يعني أن قيمة المنتوج A ساعة واحدة، إذن قيمة قوة العمل تصبح ساعتان و من ثمة pl=6h و pl/v=300% في هذه الحالة تم افتراض أن الأجر الحقيقي لم يتغير.

أما إذا افتُرض أن الأجر الحقيقي ارتفع،يعني أن قيمة قوة العمل أصبحت ثلاث وحدات فإن: pl/v=5/3=116%. ارتفاع الأجر الحقيقي عمل عكس الإنتاجية في تأثيرها على معدل الاستغلال لكن لم يمنعه من الارتفاع.

Jacques valier : une critique de l’économie politique =========================================================

لا يمكن إذن الإيمان سلفا بانخفاض معدل الربح نتيجة ارتفاع التركيب العضوي للرأسمال و وصول معدل فائض القيمة لحدوده القصوى، فعدة مؤثرات تعمل عكس هذا الاتجاه. حسب هوسون، يجب الابتعاد عن ماركسية ارتوذكسية لتحليل قانون ميل معدل الربح و التي تؤدي بأصحابها إلى تصنيف كل من يرى الاتجاهات العكسية لميل معدل الربح إلى الانخفاض ضمن "منظري نقص الاستهلاك" ،مُهملين النتائج المبيانية و الإحصائية و محاولين قلب نتائجها (44). (يقر بعضهم ككريس هارمنchris harman بتحسن معدل الربح انطلاقا من سنة 1982، أي صعوده، لكن فقط إلى منتصف مسار انحداره السابق، الذي ابتدأ عند أواخر السبعينات). الأرتدكسيون يقفون في تحليلهم عند مستوى الأزمات الدورية كأزمة الاقتصاد الجديد-فيض التراكم- ،محاولين تعميمها لتفسير الأزمة الرأسمالية الراهنة، في حين يجب تحليلها وفق نظرية الموجات الطويلة أي تطور الرأسمالية و التغيرات التي شهدتها ميكانزماتها منذ دخولها طور التراجع الذي لم تعرف مخرجا له نحو طور آخر من التوسع (45).

في تحليله الماركسي لأزمة 1972-1978، يعتبر ماندل أن تفسير هذه الأخيرة يجب أن ينبُع من تقارب خمس أزمات من أنماط مختلفة ويُحدد إحداها في "تأليف الأزمة الكلاسيكية لفيض الإنتاج مع استدارة "الموجة الطويلة" التي توقفت منذ أواخر سنوات 1960 عن العمل في منحى التوسع" (46).

في الوقت الذي يؤكد فيه هوسون على أن تحليل الرأسمالية الراهنة يجب أن يدمج انقطاعان:الإنتاجية تباطأت منذ سنوات الثمانينات و معدل الاستغلال بدأ في الارتفاع،مما يحدِد ازدواجية تُوافِق الانتقال من رأسمالية "فوردية" إلى رأسمالية "نيوليبرالية" أي انتهاء موجة التوسع لما بعد الحرب، يرى chesnais أن أزمة 1974-1975 لم تأتي بأي انقطاع في تطور الإنتاجية و معدل فائض القيمة،ويُدعم ذلك باستناده إلى ماركس: "يُعد رفع المعدل العام لفائض القيمة إحدى الخاصيات العامة للنظام الرأسمالي ككل" (47).

إعادة الإنتاج و الحاجات الإنسانية :

يُدخل هوسون بعدا آخر في تحليل إعادة الإنتاج الاجتماعية و هو، ضرورة تلاؤم بنية الإنتاج مع بنية الاستهلاك من زاوية نظرالقيم الإستعمالية،ويعتبره لازما لفهم أزمة تضبيط الرأسمالية الراهنة، حيث لا تكفي القيمة وحدها لتحليل إعادة الإنتاج ، فهذه الأخيرة لا تقتصر فقط على تحقيق القيمة، أي أن كتلة الأجور إذا ما أضيفت لها حصة الأرباح المستهلكة يجب أن تكون مساوية للقيمة الإجمالية لمنتجات الاستهلاك بل يتوجب أيضا أن تتوافق بنية الاستهلاك مع الحاجات الاجتماعية (ما تريده الرأسمالية أن يُستهلك يتوافق مع ما يَرغب المجتمع في استهلاكه). فلا يمكن أن تعمل الرأسمالية على الرفع المنتظم لإنتاجية العمل و لا تجعل في نفس الوقت من تلاؤم دينامكية، بنية الإنتاج والطلب مفتاح إعادة الإنتاج، و هذا لا يُطرَح من زاوية القيمة فقط بل أيضا من زاوية القيم الإستعمالية و بالتالي فمنطق خطاطات إعادة الإنتاج يجب أن يرتبط، ليس فقط بتحليل تشكل الربح، بل أيضا بتحليل شكل الاعتراف بالحاجات الاجتماعية و تلبيتها (48).

إن شروط الحفاظ على مردودية الرأسمال جد معقدة و تتوجب ثلاث تسويات: أولا، تسوية إيقاع إحراز أرباح الإنتاجية بإيقاع تكثيف الرأسمال و ثانيا، تسوية ارتفاع الأجر الحقيقي بأرباح الإنتاجية وثالثا ضمان منافذ بشكلٍ يساير إيقاع الإنتاجية وضمان استهلاك يتجه نحو الطلب على المنتجات المنتَجة في قطاعات ذات إنتاجية مرتفعة. تحقيق هذه التسويات التي تحمل في طياتها عدة تناقضات ليس بالمستحيل و ليس بالمضمون سلفا. فالرأسمالية ليس محكوم عليها سلفا بالانهيار الحتمي و لا بالتناسق الأبدي، لهذا يجب أن ينأى التحليل عن ماركسية كارثية وعن تناسق ضبطي (harmonisme régulationiste et catastrophisme marxiste) . وإلا لن يفهم لماذا الرأسمالية لم تنهار بعد كل دورة للرأسمال و كيف في المقابل لم تجد نفس ازدهار العصر الذهبي.

الثلاثين المجيدة، نظام التراكم لما بعد الحرب :

عرفت الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية، نظامين كبيرين للتراكم كما يحدد هوسون، العصر الذهبي و التراكم اللامتساوي، ففي الأول عصر ’الفوردية’، حافظت حصة الأجور في القيمة المضافة، في المدى المتوسط، على مستوى ثابت. فالتراكم كان متوازنا نتيجة ارتفاع الأجر الحقيقي بتواز مع ارتفاع إنتاجية العمل، مما يضمن تحقيق القيمة، و للحفاظ على مستوى معدل الربح، يكفي أن لا يؤدي ارتفاع أرباح الإنتاجية إلى ارتفاع مبالغ فيه لتركيب الرأسمال. أما في "التراكم اللامتساوي"، العكس هو الصحيح، فحصة الأجور تنخفض لصالح فائض القيمة، مما يجعل هذا النموذج يتميز بلا توازن دائم من زاوية المنافذ، حيث أن الأجراء ينتجون أكثر في الوقت الذي تتجمد فيه قدرتهم الشرائية. تفضي هذه الوضعية إلى مخرجين: إما استمرار نمو التراكم بوتيرة أسرع من الناتج الاجتماعي،مما يفضي إلى تطور متنامي لقطاع وسائل الإنتاج و يؤدي إلى ارتفاع سريع للتركيب العضوي للرأسمال و بالتالي انخفاض معدل الربح.أو فتح منافذ جديدة للإنتاج الرأسمالي مختلفة عن عنصري الطلب الأول- استهلاك الأجراء و تراكم الرأسمال- أي خلق "طلب ثالث" يمكن أن يأخذ شكل منافذ يتم إحداثها بتقليص القطاعات القبل رأسمالية عبر إدخال المنتجات الصناعية للبادية أو توسيع المنافذ باحتلال أسواق جديدة (الكولينيالية) أو تنامي المداخيل الموزعة خارج منظومة الأجور، مثلا على شكل مداخيل مالية. تبقى ضرورة التمييز بين تراكم لا متساوي "موسع" و تراكم متساوي "مكثف" حسب نمط تسيير المنافذ إن كان يتم خارج العالم الرأسمالي أو داخله، ففي الحالة الأخيرة، يجب أن يرتفع الجزء من فائض القيمة الخاص بالاستهلاك لتعويض النقص في حصة الأجور.

لكن إذا كانت إعادة الإنتاج تستوجب إنتاج فائض القيمة بمعدل ربح مناسب لإعطاء قيمة للرأسمال و توزيع المداخيل بشكل يُمَكِن من تحقيق فائض القيمة، فيبقى شرط أساسي يتجلى في إحداث توافق بين ما يُستهلك مع ما يُنتج بمردودية.

بنية الاستهلاك و الإنتاجية و معدل النمو :

لا تتعلق سرعة التراكم الرأسمالي فقط ببيع ما يُنتج، إن دينامكية التراكم مرتبطة أيضا و خاصة بتوجيهه نحو قطاعات إنتاجية حاملة لأرباح إنتاجية. فأكيد أن أحد العوامل المفسرة لمرحلة "العصر الذهبي" هو ارتفاع استهلاك الجماهير، لكن ليس ارتفاع كمية البضائع الرأسمالية في استهلاك العمال هو الجديد (ما يعكسه مصطلح ’الفوردية’)، بل كذلك لكون هذه البضائع منتجة بأرباح إنتاجية قوية. لم يَنتج النجاح الكبير للفردية عن إدخال السيارة في معيار استهلاك الأجراء فقط، بل أيضا كانت السيارات بضائع يمكن إنتاجها بأرباح إنتاجية جد مرتفعة، وبذلك يُسَوي مستوى معين من الأجور إشكالية المنافذ، كما يضمن التوافق بين معدل النمو و ضرورة المردودية. فإذا كانت بنية الاستهلاك تتجه نحو إدماج المنتجات المنتَجة بإنتاجية عالية في معايير الاستهلاك، فإن الإنتاجية المتوسطة تكون مرتفعة و الاقتصاد ينمو بمعدل مرتفع: فمعدل النمو يحدد بالحاجات الاجتماعية. أما إذا كانت البنية الاجتماعية للاستهلاك متجهة نحو المنتجات المرتبطة بأرباح إنتاجية أقل، فإن الأرباح الإنتاجية المتوسطة ضعيفة و بذلك معدل النمو ينخفض مع الحفاظ على معدل الربح (و هذه حالة الاقتصاد منذ الثمانينات). أي أن التراكم ينحو نحو إنتاج البضائع المرتبطة بإنتاجية مرتفعة لأنها الضامنة لمعدل ربح مرتفع، دون مراعاة الحاجات الاجتماعية المرتبطة بأرباح إنتاجية منخفضة. يُنتج ما لا يرغب في استهلاكه-ندعم الطلب بالقروض و المحفزات- و إن كان بنمو ضعيف، للحفاظ على مستوى معدل الربح.

إنه التناقض بين الفعالية الرأسمالية و تلبية الحاجات الاجتماعية. لفهم هذا الطرح نعتبر منتوجين A و B الأول مرتبط بأرباح إنتاجية نسبتها 12% و الثاني مرتبط بأرباح إنتاجية نسبتها 3% . إذا كانت البنية الاجتماعية للاستهلاك تساوي 2/3 (ثلثين)من A و 1/3 (ثلث) من B فإن أرباح الإنتاجية المتوسطة نسبتها 9%. أما إذا كانت البنية الاجتماعية للاستهلاك تساوي 1/3(ثلث) من A و 2/3 (ثلثين) من B فإن أرباح الإنتاجية المتوسطة نسبتها 6%. في الحالة الأولى سينحو الاقتصاد إلى النمو بمعدل عال، و خيارات الرأسمالية ستتجه تلقائيا إلى تحقيق معدل النمو هذا ، و بذلك يحصل توافق بين ضرورة المردودية و بنية الحاجات الاجتماعية. أما في الحالة الثانية، التراكم سيتجه بعيدا عن إنتاج B و الميل إلى الحفاظ على نمو A مع محاولة إيجاد مخارج لهذا التناقض الناتج عن تخفيض تباطؤ الإنتاجية المتوسطة بتخفيض حصة الأجور ليس فقط لأن تخفيضها يدعم مستوى معدل الربح بل لأن الأجر توقف أن يكون منفذا يوافق بنية العرض نتيجة تحول في بنية الاستهلاك، و هذا سبب إضافي لتجميد الأجور و تقلص حصتها في القيمة المضافة. تجدر الإشارة في هذه الحالة إلى ارتفاع استهلاك الأغنياء للمنتجات المرتبطة بأرباح إنتاجية عالية –بذخ و ترف جد عاليين- و الذي يُعَول عليه ليكون قاطرة للطلب.

تتميز الرأسمالية الراهنة بنظام التراكم اللامتساوي و بنية استهلاك مرتبطة بإنتاجية متوسطة منخفضة (الحالة الثانية)، فالرأسمالية بعد انتهاء موجة التوسع لما بعد الحرب العالمية الثانية، أي انتهاء مرحلة "الفوردية" و بداية "النيوليبرالية"، أصبحت عاجزة في الواقع، و على مستوى كاف، عن فتح منافذ مرتكزة على بضائع منتجة بإنتاجية قوية.فالتي كانت تعد الدعامة للفوردية كالسيارات و التجهيزات المنزلية و صلت إلى نقطة الإشباع النسبي-ففي سنوات الستينات مثلا كان معدل نمو سوق السيارات جد مرتفع لأن كل سنة كانت فئات اجتماعية جديدة تلج منظومة استهلاك السيارة- فما يميز بنية الاستهلاك لسنوات ما بعد السبعينات هو تراجع حصة المنتجات "النصف الدائمة" (كالنسيج و الألعاب..) و المنتجات "الغير الدائمة" (كالتزود بالماء و الدواء...)، استقرار حصة المنتجات "الدائمة" أي الفوردية، مقابل ارتفاع حصة الخدمات (التعليم، و الصحة..) (49)، و بهذا أضحت الإنتاجية المتوسطة منخفضة –نتيجة كذلك تباطؤ الإنتاجية في القطاعات الصناعية ككل مع تفاوتات قطاعية في داخلها ، رغم التحولات التكنولوجية و تكثيف العمل- و من ثمة تراجع معدل النمو، إن التحول العميق في بنية الاستهلاك (ارتفاع الطلب على الخدمات كالصحة و التعليم المرتبطة بإنتاجية منخفضة) هو أحد الأسباب الرئيسية لانخفاض الإنتاجية المتوسطة العامة و التي أدت إلى قلة فرص الاستثمار ذي المردودية.

فليس تراجع التراكم هو الذي أدى إلى تراجع الإنتاجية، لكن على العكس،لم يشجع تراجع الإنتاجية – كمؤشر للأرباح المتوقعة- على التراكم و بهذا أحجم معدل النمو عن الارتفاع . فرغم تعدد الابتكارات التكنولوجية الحاملة لطرق إنتاج جديدة و لمنتجات جديدة، إلا أنها لا تضمن بشكل آلي إعادة ولادة تأليف دينامكي مشابه للذي شهده التوسع لما بعد الحرب العالمية الثانية. فهذه الابتكارات لم تخلق منتجات "فوردية".

كخلاصة:

الرأسمالية الراهنة لها ثلاث توجهات أساسية، إنهاك الطلب على المنتجات "الفوردية" ، عدم القدرة على انبثاق حجم كاف من منتجات "فوردية جديدة" و عدم القدرة على التصنيع الكامل للطلب على الخدمات ،المتنامي بشكل قوي. فالرأسمالية لم تعد تستجيب للفرضية الفوردية: التوافق بين طلب الاستهلاك و العرض ذو المردودية. هذا ما يفسر الانتقال من اقتصاد الطلب إلى اقتصاد العرض والاتجاه إلى تقليص حصة الأجور و رفض إنتاج ما لا يدر معدل ربح مرتفع و إن تنامى الطلب عليه.كما يفسر ارتفاع معدل البطالة الذي تصاعد بعد السبعينات ،ولهذا يمكن القول إن البطالة رأسمالية. لقد أضحت الرأسمالية عاجزة عن إيجاد نمط من المشروعية الاجتماعية .

استمرار موجة التراجع و العجز عن تأسيس نظام إنتاجي جديد:

رغم هذا الهجوم الرأسمالي و رغم التحولات التكنولوجية و انهيار جدار برلين (التوسع الجغرافي) إلا أن الرأسمالية لم تجد "المفجر الخارجي" (50) لانبثاق موجة توسع جديدة و تأسيس نظام إنتاجي جديد (51) يحقق بنية اقتصادية مستقرة مصحوبة بتوافق اجتماعي، لذلك استمرت موجة التراجع لما بعد السبعينات بأزمات متعددة، أكبرها الأزمة الحالية(2008).

في كتابه "رأسمالية خالصة" ييبن هوسون مدى قصور عدة مقاربات في إدراك عمق الرأسمالية الراهنة عند محاولتها تحديد النظام الاقتصادي باعتباره معرفي أو مالي...... و مبرهنا أن المعرفة أو المالية لم تساعد الرأسمالية عن إيجاد نظام إنتاجي جديد أو النجاح في تجاوز قانون القيمة. فمن الضروري اعتماد تحليل دياليكتيكي يُقيِم بشكل جيد التحولات لتي تأتي بالجديد مع فحص إن كان هذا الأخير لم يُعِد إنتاج القديم جدا. فالتحولات في اتجاه المعرفي المدعوم بالتكنولوجيا الحديثة أوالمالي (الأسهم، المحفظات...) جعلت من الرأسمالية شبه-صناعية حيث الطبقة العاملة لم تتشكل كليا.لكن التحديث الرأسمالي يعيد إنتاج الأشكال القديمة لاستغلال الأجراء، فحتى إن ارتفع عدد "العمال الذهنيين" فلا يعني ذلك "انتهاء الشغل"، فالكتلة الكبيرة من الأجراء التي خلقتها الرأسمالية الراهنة توجد في مناصب الشغل الأقل تأهيلا من تجارة و خدمات... كما أن الانهيارات المتعددة للبورصات ضرب مقاربة "رأسمالية الأسهم". إن الجهد الذي بذله منضرو "اقتصاد المعرفة" و الذي مفاده أن القيمة منبعها الابتكارات و المعرفة، ذهب سدا مع الأزمة الكبيرة التي تعرفها الرأسمالية الراهنة.

إن التطور التكنولوجي لا يلغي العمل المجرد كجوهر للقيمة، لم تساعد تكنولوجيا الإعلاميات و أشكال تنظيم العمل الجديدة المنبثقة عنها على الرفع من إنتاجية العمل و تعميم ارتفاعها من بعض القطاعات إلى مجملها – هذا ما عكسته أزمة 2001 التي فجرت أوهام "الاقتصاد الجديد"- فمصدر أرباح إنتاجية العمل يتجلى في أساليب جد كلاسيكية لتكثيف العمل في حين يبقى دور التحولات الناتجة عن الشبكة العنكبوتية ثانويا، مثلا التوصية عبر "الإنترنيت" يمكن لها أن توفر يوم عمل مقابل إتمامها بواسطة ملأ طلب ورقي أو عن طريق تفقد قائمة المبيعات أو إذا ما تم الأداء نقدا في عين المكان، لكن ما يتم لاحقا يكون مرتبطا بسلسلة التركيب و شبكة الإمدادات الفيزيقية (السائقين، التعبئة الشحن، الطرق...) و كل هذا لا يتم تداوله عبر "الانترنيت". لذلك فأرباح الإنتاجية تأتي من القدرة على تشغيل الأجراء ساعات عمل جد-مرنة و تكثيف شبكات النقل البضاعي (52) (وما لذلك من نتائج كاريثية على البيئة). في الكرندريسا (grandrisse)، الرأسمال،كما يقول ماركس، "يعطي الحياة لكل قوى العلم و الطبيعة كما لقوى التأليف و الاتصال الاجتماعيين لجعل خلق الثروات مستقل (نسبيا) عن وقت العمل المخصص لها". بحديثه عن ’رأسمالية خالصة’ يريد هوسون أن يميز معارضته لرأسمالية قابلة للضبط. فالرأسمالية نالت ما تريده بالتخلص من كل العوائق: قوة العمل عومِلت إلى أقصى حد كبضاعة، رؤوس الأموال تتنقل بحرية، تضريب الرأسمال تراجع لمستوياته الدنيا. يمكن القول أن الرأسمالية تمكنت مما تسميه ’المنافسة الحرة’، لكن يتضح أيضا أن الرأسمالية اليوم جوهرها يؤسس نجاحاته على حساب التراجعات الاجتماعية. و بهذا ليست الأزمة الحالية للرأسمالية، اقتصادية قطعا، بل تأخذ شكل غياب كلي للمشروعية (53).

موقع المالية في الرأسمالية الراهنة:

عند تحديد التمفصل بين المالية والاقتصاد الحقيقي تتعارض أطروحتان، إحداهما تعتبر المالية طفيلية والأخرى تعتبر أن دورها وظيفي.هوسن من المدافعين عن الأطروحة الثانية ،منذ الانعطافة النيوليبرالية لبدايات سنوات الثمانينات، ينخفض معدل التراكم و ينحو معدل الربح نحو الارتفاع ــ طبعا انقلب هذا الارتفاع إلى انحدار قبيل اندلاع الأزمة الحالية، تحاول الرأسمالية اليوم تعديل مستوياته بتوسيع دائرة البطالة و تخفيض الأجور و الرفع من وتيرة الاستغلال ــ مما يعني أن الأرباح الإضافية استعملت في شيء آخر غير الاستثمار. إن هذه الفكرة مفتاح فهم الرأسمالية التمييلية (capitalisme financiarisé). يتبين إذن عدم صحة"مبرهنة schmidt" نسبة إلى المستشار الألماني helmut schmidt و التي تنص على أن أرباح اليوم ستصبح استثمارات الغد و مناصب شغل بعد الغد.إن الجزء الكبير من الثروات المنتَجة استحوذت عليه الأرباح البنكية و الربائح،لذلك يميل الطرح الأول إلى اعتبار المالية طفيلية، انتهازية ،لأنها تتغذى من الأرباح المستخلصة من القطاع المنتج أي على ظهر "الاقتصاد الحقيقي" و بذلك تظل تمارس ضغوطا على تسيير المقاولات و خصوصا على نسبة التشغيل للحفاظ على مردوديتها العالية.

يكمن في هذا التفسير، حسب هوسون، شيء من الصحة لكنه يكون على وشك تهميش الاقتصاد المنتج، مما يؤدي إلى اعتبار إمكانية وجود رأسمالية "جيدة" إذا ما تخلصت من تأثير المالية عليها.والنتيجة:أفق المشروع البديل هو ضبط الرأسمالية بتخفيض ثقل المالية، مصدر كل الأمراض. هذه المقارنة غير مقنعة لأنها لا تدرك تحولات الرأسمالية الراهنة منذ دخولها طور النيوليبرالية. إن المالية ليست عامل مستقل و تظهر كالوجه الآخر الأساسي و المنطقي لتخفيض حصة الأجور و قلة فرص الاستثمار المناسبة من حيث المردودية، و لهذا تعد التفاوتات الاجتماعية شرط أساسي لاشتغال الرأسمالية الراهنة. أضف إلى ذلك دور المالية في تأسيس متنامي للسوق العالمية، حيث تلغي بقوتها كل الحدود الجغرافية و القطاعية من أمام حركة رؤوس الأموال لتكون وظيفتها إذن، تقوية قوانين المنافسة و تصبح قناة لرؤوس الأموال الباحثة عن مردودية عالية. إن المالية حجر الزاوية في رأسمالية النيوليبرالية (54).

ما العمل؟

وجهت الأزمة الحالية ضربة قوية لخاصيتين أساسيتين يتميز بهما نموذج النمو في الرأسمالية الراهنة و هما ، تراجع كوني لحصة الثروات العائدة للعمال و تشكل لا توازنات عميقة بين أول قوة عالمية، الولايات المتحدة، و باقي بلدان العالم. على إثر هاتين الخاصيتين ، أتيح تطور المالية التي أصبحت لها وظيفة إعادة إنتاج الكل عبر تدويل الأرباح المالية و تغذية فرط استدانة الأجراء و تمويل العجزين (عجز الميزانية و عجز الميزان التجاري) (55). لن يكفي ضبط المالية لتتفادى الرأسمالية أزمتها - و إن ذلك كان تضميدا ضروريا- لأنه لا يستهدف جذور الداء. فالمالية تقتات من تخفيض حصة الأجور ومن اختلال الاقتصاد العالمي. فلتقليص حجم المالية، يجب غلق الصنبورين اللذين يغذيانها و هذا يستلزم من ناحية إعادة تقسيم القيمة المضافة عبر الرفع من الأجور و تخفيض ساعات العمل دون تقليص حجم التصنيع و من ناحية أخرى إعادة تنظيم الاقتصاد العالمي، فالراهن يُمَكن رؤوس الأموال، في إطار منافسة عالمية، من أن تغادر إلى القطاعات الأكثر إنتاجية للحفاظ على معدل الربح و إن كانت لا تلبي الحاجات الاجتماعية. و هذا لا يعني إعادة إحياء المشروع "الكينزي" أو النموذج "الفوردي" و الذي يستحيل العودة إليه نتيجة مضمون الطلب الاجتماعي ، بل إدانة لمنطق الربح انطلاقا من الاعتراف بهذه الحاجات. "إن حياتنا أفضل من أرباحهم" شعار يدعو إلى تنظيم الاقتصاد و المجتمع بشكل آخر، بإعطاء الأولوية للحاجات الاجتماعية و إن لم يكن الاستثمار فيها ذي مردودية مما يعني تلبية الخدمات العمومية،وتحقيق الأمن الاجتماعي الذي يضمن الحق في السكن،الصحة،التعليم .... و تخفيض ساعات العمل بشكل يوفر التشغيل الكامل. طبعا لن يتأتى ذلك إلا بالنضالات الاجتماعية و دمج المطالب السابقة الذكر بمطلب الرقابة و النشاط الذاتي للعمال (56)، و لتكن التعبئة إلى أقصى الحدود و سيتضح إن كانت الرأسمالية قادرة على تلبية المطالب أم لا. إن صياغة هذه المطالب لا يعني الرفع من النمو، بل مساءلة طبيعة هذا النمو نفسه، و لا يكفي بأي حال من الأحوال الاكتفاء بالمناداة "إن الرأسمالية ليس لها ما تقدم فلنناضل من أجل إطاحتها"، فلا يمكن التوجه للعمال المُستغَلين و المسَرحين بالقول إن سبب طردهم هو فيض التراكم و انخفاض معدل الربح في حين أنهم يلمسون بوضوح اغتناء الباطرونا في مقابل تقليص أجورهم و تعريضهم للمرونة (57).

العودة إلى ’الكينزية’ مستحيلة، و إجابة الرأسمال على الأزمة تتجلى في مزيد من تعميق النموذج النيوليبرالي، لكن هذا الأخير تعطل عن الاشتغال، و الرأسمالية في ورطة.

إن البحث عن مخرج اجتماعي و بيئي للأزمة يمر عبر تطوير البرنامج المعادي للرأسمالية.

ع.القادر مرجاني

فبراير 2010




هوامش: (1)LOUIS GILL/ a l’origine des crises : surproduction ou sous-consomation ?

(2) François chesnais/ « la nouvelle économie » :une conjoncture propre à la puissance hégémonique dans le cadre de la mondialisation du capital

(3) انظر نفس المرجع السابق.

(4) أضحت للقائمين على تسيير صناديق التوظيف – الذين يعملون على تقوية التحالف بين المسيرين الصناعيين و المسيرين الماليين- مراقبة مستمرة على إستراتيجية الشركات. تجعل "حكامة المقاولة" من "قيم الأسهم" الهدف الأول للشركة ومن stocks options أداة لتحفيز المسيرين. لقد أتاحت خلال سنوات التسعينات الوصول لمستويات جد عالية من المردودية و التي أصبحت معايير مقدسة، يُضغط بها على المقاولة للرفع من أشكال استغلال العمل و استخلاص ما يكفي من فائض القيمة للحفاظ على نفس مستويات المردودية. وقد كانت عولمة المنافسة نتيجة تحرير المبادلات ورفع الحواجز من أمام الاستثمارات المباشرة بالخارج –لضمان مرونة عالية في سوق الشغل و أجور منخفضة- إحدى العوامل الحاسمة التي جعلت الشركات المسجلة بالبورصة تنضبط لمعايير المسيرين الماليين.

(5) chesnais/ pas de limites pour le sauvetage des banques

(6) chesnais/ la récession mondial : moment, interprétations et enjeux de la crise

(7) انظر نفس المرجع السابق

(8) لم يعد هناك ما يكفي من فائض القيمة لإرضاء تطلعات الرأسمال المالي فحتى بعد انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية اتسع الفارق بين الكمية الفعلية لفائض القيمة الممركز و حجم حاجيات النظام. انظر: chesnais/ la crise financière où en est –on et qu’annonce –t-elle ?

(9) انظر نفس المرجع السابق.

(10) انظر نفس المرجع السابق.

(11) chesnais/ notes sur la portée et le cheminement de la crise financière.

(12) la récession mondiale : moment , interprétations et enjeux de la crise

(13) يقصد هنا جزء فائض القيمة الغير مستهلك في البذخ. bihr يعتبر أن الأسواق الجديدة كانت و بشكل جزئي إحدى المنافذ التي عوضت تقلص هذه الأخيرة نتيجة التخفيض من حصة الأجور، كما يعتبر أن استهلاك الأغنياء (الفئات التي تعيش من فائض القيمة) أحد منافذ لتبذير فائض القيمة الغير المحول لرأسمال إضافي. انظر le triomphe catastrophique du néolibéralisme.

(14) gill / a l’origines des crises : surproduction ou sous-consommation ?

(15) gill/ نفس المرجع السابق

(16) ماركس في "الرأسمال"

(17) عالم المعرفة العدد 359، الفيل و التنين ... ص 94

(18) إنبروكور العدد 543/544: مقال "هل يمكن للصين أن تنقد الرأسمالية الراهنة" Jean sanuk.

(19) لتوضيح هذا المفهوم أكثر أنظر "Mandel 3e age du capitalisme tome 2 chp 11"

(20) chesnais / la crise financière où en est on et qu’annonce –t-elle ?.

(21) chesnais/ notes sur la portée et le cheminement de la crise financière.

(22)inprecor n°543/544 nouveau capitalisme chinois par josep maria antentas et esther vivas

(23) نفترض أن كتلة من الرأسمالC ازدادت ب dC لتنتقل كمية فائض القيمة من Pl/1 إلى Pl/2 إذن كتلة الرأسمال C+dC تنتج معدل عام للربح Pl2/(C+dc) أصغر من Pl1/C رغم أن Pl2 أكبر Pl1.

Mandel / la crise 1974-1978 les faits ; leur interprétation marxiste page 188 (24)

(25) chesnais/ la récession mondial : moment, interprétations et enjeux de la crise

(26) chesnais/la mondialisation de l’armée industrielle de réserve

(27) نفس المرجع السابق

(28) pour une approche multidimensionnelles des crises de la production capitaliste (يضيف بيهر شكل ثاني من فيض الإنتاج:يأتي فيض إنتاج الرأسمال النقدي والذي وجد صعوبة في التحول إلى رأسمال منتج نظرا لصعوبة تقييم (valorisation) و تحقيق الرأسمال الموظف في قطاع الإنتاج لتغذية تراكم الرأسمال المالي.

(29) bihr :à propos d’un « excès de plus-value »

(30) gill / a l’origines des crises : surproduction ou sous-consommation ?

(31) Mandel / la crise 1974-1978 les faits ; leur interprétation marxiste, 1978 paris.

(32) bihr :à propos d’un « excès de plus-valus »

(33) marx/ théories sur la plus-value, tome 2 ; page 587-637 trad . éditions sociales

(34) alain bihr : à la croisée des chemins

(35) نفس المرجع السابق

(36) نفس المرجع السابق

(37) يربط بيهر نجاح "النمط الفوردي" في ضبط عملية اقتسام القيمة المضافة بهذه العوامل. لكنه يغيب عاملي الحرب العالمية الثانية و إنزال قيمة (dévalorisation) الرأسمال بشكل واسع بعد سنوات الثلاثينات و اللذان أتاحا نموا قويا سنوات ما بعد الحرب. انظر: chesnais/ pas de limites pour le sauvetage des banques

(38) إنه نقاش حول إمكانية تحقق رأسمالية خضراء

(39) للمزيد انظر: bihr : à la croisée des chemins

(40) في كتابه "بؤس الرأسمال" يسمي هوسون ما اعتيد تسميته بموجة التوسع 1973-1949 بالطور "أ" و الذي يعد بدوره الطور الأول ضمن موجة طويلة II. أما الموجة الطويلة I فتبدأ سنة 1895 مع انتهاء التراجع الكبير الذي ابتدأ سنة 1873، و تنتهي في سنة 1939، تتألف بدورها من طورين "أ" 1896-1924 و طور "ب" يمتد 1925-1939. المهم أن المقصود هنا فترات طويلة للرأسمالية لا يمكن أن نسقط على تحليلها نفس تفسير الدورات القصيرة بل يجب مفصلة الدورات الكلاسيكية بالحركة الطويلة. فالدخول في موجة التوسع لا يعني البتة غياب الموجات القصيرة بل تستمر بتغير في عددها و الفترات التي تمتد عليها.

(41) Husson, worker’s liberty ;version française ;14/05/2008

(42) husson : « la misère du capital une critique du neo-liberalisme »

(43) نعتبر المثال التالي: في زمن t/1، و من أجل حالة تقنية معينة لإنتاجية العمل، تشغل 1000 آلة تختزن كل واحدة 1000 ساعة عمل، إذا ما تم تبسيط المثال و تم افتراض أن الرأسمال الثابت يتكون فقط من الآلات فإن:h c=1000*1000=1000000 و نفترض أن لدينا 500 عامل، كل واحد منهم يختزن 500 ساعة عمل فإن:h v=500*500=250000 إذن c/v=4 و في زمن t/2 يكون عدد الآلات قد أصبح 2000 إذن: c=2.000000 ومنه c/v=8، إذن التركيب التقني ارتفع. نفترض أن بين t/1 و t/2 ارتفعت إنتاجية العمل، بحيث كل آلة أصبحت تخزن 500 ساعة عمل إذن: c=2000*500=1000000h و منه c/v=4 و بالتالي بين اللحظتين t/1 و t/2 رغم ازدياد التركيب التقني (حجم الآلات) إلا أن التركيب العضوي يبقى ثابتا (لقد تم حسابه بالقيمة).

(44) Michel husson : le dogmatisme n’est pas un marxisme

(45) نفس المرجع السابق

(46) Mandel / la crise 1974-1978 ; les faits leur interprétation marxiste page 196

(47) Michel husson : le dogmatisme n’est pas un marxisme

(48) husson : « la misère du capital…. »

(49) اعتمد هوسون في استنتاجاته هذه على جداول أعدتها insee سنة 1994 (فرنسا) و أوردها في كتابه: « la misère du capital… »

(50)استخدام مفهوم "خارجي المنشأ" لتحليل الانتقال من موجة التراجع إلى موجة التوسع يعود إلى إرنست ماندل، كما يعود له مقابله "داخلي المنشأ" (exogène, endogène) لتحديد المرور من موجة التوسع إلى موجة التراجع. يقول ماندل " لا يمكن اعتبار انبثاق موجة توسع جديدة عن موجة تراجع تسبقها، مهما كانت مدتها و حِدَتها، كنتيجة "داخلية " التكون (أو بتعبير آخر تلقائية، ميكانيكية، مستقلة): فليست قوانين حركة الرأسمالية التي تقرر في نقطة الانبثاق، بل تأثيرات صراع الطبقات لمرحلة تاريخية بأكملها. ما نفترضه هنا هو تواجد دياليكتيك بين العوامل الموضوعية و الذاتية للتطور التاريخي، حيث العوامل الذاتية تتميز باستقلال نسبي، يعني ليست محددة سلفا،مباشرة وبطريقة أحادية،بما جرى من ناحية الميول الداخلية لتراكم الرأسمال و التحولات التكنولوجية أو عبر وقع هذه التحولات على تنظيم العمل نفسه " .فالانتقال لموجة التوسع لما بعد الحرب كان نتيجة تدمير واسع للرأسمال (الحرب) و نتيجة الفاشية، فلا توجد مدة زمنية محددة لوفاة موجة و ولادة أخرى (ربع قرن مثلا عند kondratieff /كوندرايتف) و لا تكفي الابتكارات التكنولوجية أيضا لتفسير توالي الموجات (أعمال shumpeter ).

(51) نظام إنتاجي (ordre productif) : تتميز كل موجة طويلة بنموذج معين لاشتغال الرأسمالية، بنظام إنتاجي يُعد مضمونه تأليفا لأربعة حلقات: نمط لتراكم الرأسمال يضمن إعادة إنتاج موسعة للرأسمال، نوع من قوى إنتاج مادية، نمط للتضبيط الاجتماعي، نوع من تقسيم دولي للعمل ( انظر: les rouages du capitalisme /christian barsoc) )

(52) husson : capitalisme cognitif

(53) مقابلة أجراها هوسون مع jean-daniel boyer لجريدة: » la marseillaise « ليوم 29/07/2008

(54) husson : finance et économie réel

(55) husson : vers une régulation chaotique

(56) Michel husson : le dogmatisme n’est pas un marxisme

(57) نفس المرجع السابق



#عبدالقادر_المرجاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- صحيفة تركية: أنقرة ستسمح لحزب مؤيد للأكراد بزيارة أوجلان في ...
- صحيفة: تركيا ستسمح لحزب مؤيد للأكراد بزيارة أوجلان في سجنه
- ترامب يخاطب -اليساريين المجانين- ويريد ضم كندا وغرينلاند وقن ...
- من الحوز إلى تازة: دخان مدونة الأسرة وانعكاسات تمرير قانون ا ...
- الجبهة الديمقراطية تندد باعتقال السلطة أحد قادتها خلال مسيرة ...
- الجبهة الديمقراطية تندد باعتقال السلطة أحد قادتها خلال مسيرة ...
- الحزب الشيوعي ودكتاتورية الأسد
- النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 584
-   الحلم الجورجي يستيقظ على العنف
- جيش الاحتلال يقر بإطلاقه النار على عدد من المتظاهرين السوريي ...


المزيد.....

- نهاية الهيمنة الغربية؟ في الطريق نحو نظام عالمي جديد / حامد فضل الله
- الاقتصاد السوفياتي: كيف عمل، ولماذا فشل / آدم بوث
- الإسهام الرئيسي للمادية التاريخية في علم الاجتماع باعتبارها ... / غازي الصوراني
- الرؤية الشيوعية الثورية لحل القضية الفلسطينية: أي طريق للحل؟ / محمد حسام
- طرد المرتدّ غوباد غاندي من الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) و ... / شادي الشماوي
- النمو الاقتصادي السوفيتي التاريخي وكيف استفاد الشعب من ذلك ا ... / حسام عامر
- الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا ... / أزيكي عمر
- الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) / شادي الشماوي
- هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي ... / ثاناسيس سبانيديس
- حركة المثليين: التحرر والثورة / أليسيو ماركوني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - عبدالقادر المرجاني - أزمات الرأسمالية