جهاد علاونه
الحوار المتمدن-العدد: 3799 - 2012 / 7 / 25 - 15:04
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
وفي نهاية الأمر أصبحتُ جزء من الماضي بعد أن كنتُ جزءً من الحاضر وأنتم جزء من المستقبل وكل ما كتبته أصبح من الماضي وكل ما فعلته أصبح في خبر كان, وكل يوم أنظرُ ورائي لأكتشف نفسي بأنني أصبحتُ من الماضي وكل يوم أزداد فيه قِدماً بدل أن أزداد تقدُماً, وأكون جزء من الماضي الذي عفا عليه الزمن وسأكون عبارة عن طاولة أكل الدهرُ عليها وشرب, ماذا سيبقى مني غير المعجزات التي خُلقت من أجلي !!وهكذا سينتهي كل شيء ليعود كل إنسانٍ إلى موقعه الذي انطلق منه,ستعود الطيور إلى أعشاشها والأفاعي إلى جحورها وأنا وأنتم إلى أمنا الأرض, وستعود الملائكة إلى السماء وستروي قصتنا على الأرض وسأكون بمعية أبي قصة ترويها الملائكة ولحنا جميلا ولوحة فنية لم ترسمها بعد ريشة فنان ولن تنزل من بعدي الملائكة على الأرض ولن يتغير شيء على وجه هذا الزمان وسيدور الزمان دورته وستكمل الأرض قصة دورانها حول الشمس وحول نفسها ولن تتوقف الأرض لتأخذ راحتها بل ستتوقف لتكف عن كثرة اللف والدوران نهائيا حين ينتهي كل شيء من حيث بدأ فهذا الزمان ما زال وجهه كما هو وما زالت عيونه كما هي ,ولستُ أدري من الذي سيجعلُ مني في المستقبل قديسا ومن الذي سيجعلُ مني سفيها أو عربيدا؟ ومن الذي سيقول عني ما لا ترضاه نفسي ومن الذي سيرضينني بشربة ماء باردٍ في ظل شجرة خضراء حين تضربني الشمس بأشعتها البيضاء ومن الذي سيهتم كثيرا إن رضيتُ وإن غضبت وزعلت ومن سيملئ لي بطني من أعشاب الأرض ليسد لي لهيب الجوع ويروي لي لهيب العطش؟ومن الذي سيقلب تاريخ حياتي!ومن سيكون القاضي ومن سيكون الجلاد وإلى أين نحن نسير إلى الأمام أم إلى الوراء؟ ومن الذي سيصعد بي إلى قمة الجبل وكيف ستنبتُ حشائش الأرض من بعدي وكيف سيتحول لون القمر! ومن الذي سيأخذني من يدي حين تشتدُ عليّ الظلمة بسوادها القاتم اللون, فأنا الآن عبارة عن ماضي رجلٍ محطمٍ مثل سفينة على شواطئ دجلة أو الفرات أو خليج العقبة وقد كثُرت السكاكين التي تقطع أخشابي, وسأذهبُ أنا وستعيش كتاباتي أكثر مني وستعيش حروفي أكثر من سوط الجلاد الذي يضربُ جسدي وستنتقل كل آلامي وأحزاني إلى إنسان آخر,وآلامي وأحزاني هي روحي التي في جسدي, وهكذا ستتكرر الحياة والمأساة مرة أخرى فهذا الكون بحاجة إلى روح تكرر نفسها وإلى ظالم وإلى مظلوم وإلى قاتل وإلى مقتول وإلى حارق وإلى محروق وأشكر الرب بأنني عشتُ حياتي مظلوما ومقتولا وحروقاً وهذا أفضل من أن أُلاقي ربي ظالما وقاتلا وحارقا,ولن يتبقى مني أي أثر رغم أن الجميع سيبحث عن آثار أقدامي وخطواتي التي خطوتها هنا في آخر الكلمات التي كتبتها, وماذا سيبقى بعد رحيلي من كلمات لم أقلها ومن عبارات ومن عناوين لم أنشرها؟ ماذا سيبقى من رائحة العطر بعد أن نشرتُ عطري في كل مكان؟ فهل ستذهب تلك الرائحة ولن يبقى منها سوى الذِكرُ؟ ماذا سيبقى مني من نمنمات ومن همسات ومن صرخات في وجه الظالم؟ كيف سأروي قصة رحيلي عن هذا العالم وكيف سيقرؤها المؤرخون وكيف سيقرؤها الأطفال في المدارس!هل كنتُ عصيا على الفهم وهل أنني عشتُ رجلا لم يفهم الحياة وهل عشت رجلا لم يفهم الناس أم أن الحياة لم تستطع فهمي والناس لم تستطع استيعاب ما عندي من أفكار؟ وهل أنا فعلا مولود في زمانٍ غير زمانه وفي مكانٍ غير مكانه؟ ستكون الأسئلة في المستقبل كثيرة.. كيف سيكشف التاريخ عن سرٍ كبير من أسراره وعن أحجية من أحاجي الزمن؟ وكيف سينتشر عطري بعد رحيلي وكيف ستنتهي هذه الحياة وبأي طريقةٍ وبأي وسيلة!!!وكيف ستحكي الناسُ عن قصة جنوني وتهوري وقصة حياتي؟وهل قصة واحدة ستكفني أم أنني بحاجة إلى مئات القصص لتكشف عن طبيعتي وفطرتي؟ كيف ستتحول قصة عشقي إلى قصة كلها كراهية وهل ستعرف الناس بعد رحيل العمر عن هذا الرجل شيئا حقيقيا أم سأبقى لغزا محيرا للعالم وللناس؟ رغم أنني أعتبر نفسي إنسانا عاديا ولكن غيري من الناس هم من يريد تكبير الموضوع أكثر من اللازم وتشويه صورتي وإدعاء كل كتاباتي إلى غيري فكيف سيأخذون مني روحي وهي أحزاني التي وضعتها في كل كلمة قلتها وفي كل عبارة كتبتها!!.. كيف سأعبر بوابة الفرح إلى أناس يعيشون كل يوم الفرح بكل تجلياته,كيف سأعبرُ عالم الموتى دون أن تكون خلفي جوقة موسيقية تعزف لحن الرجوع الأخير وكيف سأعبرُ بوابة الزمن إلى زمن آخر قد يكون أفضل من هذا الزمن!! كيف سأدسُ نفسي في حقيبة السفر وكيف سأخرج منها وكيف سأعبر إلى الزمن الآخر بدون تذكرة سفر وبدون أي نقود في جيبي ومن سيدفع عني فاتورة تكلفة الرحيل حتى الذي يرحل بحاجة إلى نقود وأنا دائما خالي اليدين أو صُفر اليدين,وهل أنا من سيحمل حقيبة السفر أم أن حقيبة السفر هي التي ستحملني!, كيف سأعلن نفسي مناضلا وكيف ستروي وكيف ستغني الأصوات الجميلة قصتي؟ وبأي ثوبٍ سألقى أحبابي وبأي ثوب هم سيلاقونني وكيف سأمسح دمعتي في آخر ورقة أو في آخر منديلٍ وضعته أمي في جيبي!! بأي كلمة سأودعكم وبأي عبارة ستردون عليّ, أنا ما زلتُ هنا معلق بين المطرقة وبين السنديان بين الأرض وبين السماء وبين البحر وفم الحوت,وكل الأرصفة التي نمت عليها في الشوارع تشهد على قصتي وكل نقطة عرق سالت من جبيني ستغفرُ لي زلاتي وكل نقطة دم سالت من أصابع يدي ستشهد بأنني عشتُ مظلوما ولم أكن في يومٍ من الأيام ظالما أو قاهرا بل عشتُ طوال حياتي مقهورا ولم أكن في الأرض جبارا أو عصيا, وكل حبة تراب أمسكتها بيدي وهضمتها بفمي ومعدتي ستشهد بأنني من هذه الأرض وبأن هذه الأرض مني وكل حفنة من طين الأرض والرمل قد علّمت في باطن يدي تشهدُ لي على مروءتي الكثيرة وكل حكاية روتها الناس عني كانت كلها حقيقة دامغة فأنا ذلك الإنسان الذي غرته أفكاره وجعلت منه رجلا غير مناسبٍ للقميص الذي على جسده وغير ملائم للبنطال الذي يلبسه حتى رئتي غير مناسبة للهواء والأكسجين الذي أستنشقه بأنفي وبفمي,أنا أخذت من هذه الحياة نصيبي أنا ليس لي نصيبٌ في هذه الأرض بعد الذي أخذته وليس لي شربة ماء وليس لي وطن وليس لي أرض وكل ما أريده من هذه الدنيا أن أعيش مستور الحال والأحوال, فهذه الأرض شققت رحمها بيدي وكم نزفتْ الدماء من عيوني وكم نزلت قطرات العرق من جبيني وكم هلوستُ كثيرا وكم صرخت كثيرا وكم رحلت وابتعدت وفي النهاية كنت أعود مكسور الجناح لا أقوى على الطيران ولا على التحليق إلا في خيالي الجامح الذي كان وما زال ينقلني من عالم إلى عالم ومن أرضٍ إلى أرض.
كم تأملت في هذا الكون وبحثت عن سر وجودي أو معنى وجودي فهل كان وجودي لازما وهل انتهى دوري الذي لعبته بكل دقة وإتقان؟ وكم شطحتُ بأفكاري بعيدا عن أرض الواقع وعشتُ طوال حياتي ولم ألبس ثوبا غير ثوبي ولم أتوشح بأي نوع من أنواع الأسلحة السوداء أو البيضاء,وكم نثرت كلماتي في وجه الزمن فبانت كأنها مجموعة من النجوم منثورة في صدر السماء.
ماذا يعني لكم أن يعيش الإنسان وحيدا بين أفكاره أو بين جدرانه وما معنى مصيري حين يتحول بيتي إلى سجن أقيم به إقامة جبرية وإلى الأبد,ماذا سيبقى مني غير تلك الصرخات وتلك النظرات الخجولة؟.
#جهاد_علاونه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟