|
مفاهيم الرق والعبيد والجواري.. كيف عرفتها الأديان.. وكيف حرفتها أتباعها..
ابراهيم المراغين
الحوار المتمدن-العدد: 3792 - 2012 / 7 / 18 - 08:44
المحور:
حقوق الانسان
مقتطف من الدراسة : "ولذلك ، فعلى أتباع الديانة اليهودية في هذا العصر ، أن يرقوا إلى نظام العدل الإلهي ، الذي انبثق منه دينهم الحق ، وجاء به أنبيائهم ، ذلك الدين ، الذي يرفض النظم والقوانين الدينية والاجتماعية ، التي وضعها ملوكهم السابقين ، والكهنة والحاخامات ، الذين زعموا أنهم يتمتعون بالقداسة ، وجعلوا التوراة تمتلئ بكثرة الشكوك والغموض ، واستغلوا سذاجة الناس ، لأنها نظم قامت على أساس الظلم ، و التعصب ، والعنصرية ، والفوضى ، والخلاف ، ليدرؤوا عن أنفسهم الصدام مع الغير، وليحققوا التسامح والإصلاح الديني والاجتماعي والأخلاقي ، مع أنفسهم ، ومع غيرهم من المسلمين و المسيحيين الفلسطينيين بصفة خاصة في أرض فلسطين، أو مع غيرهم من أتباع الأديان السماوية من مسلمين ومسيحيين وغيرهم ، والأجناس البشرية الأخرى بصفة عامة ، على كل مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، لينعموا بدنياهم كما أراد الله ".
والآن أترككم مع الدراسة
مفاهيم الرق والعبيد والجواري..كيف عرفتها الأديان..وكيف حرفتها أتباعها..
دراسة علمية من منظور إسلامي ، توضح الخلل الذي طرأ على مفهوم الرق والاستعباد في جميع الأديان السماوية (الإسلامية – المسيحية – اليهودية ) .. الرق والعبيد والجواري ، عبارات تتردد على مسامعنا كثيراً ، بين الفينة والأخرى ، ويثير حولها الجدل واللغط ، الكثير من أتباع الديانات السماوية ،من مسلمون، ومسيحيون ، ويهود ، والذين يظهر من خلال طرحهم للقضية ،وتناولهم لها، وعلى الرغم من انتمائهم الديني ، أو الثقافي ، أو الفكري ،أنهم أناس لا يفقهون ،ولا يدركون شيئاً لا عن المعنى والمفهوم الشرعي لهذه المسألة، ولا عن الحكمة الإلهيه التي قصدتها أديانهم ، من خلف قضية الرق ، ومفهوم الاستعباد ،فضلاً على استنادهم أثناء طرحهم لهذه القضية ،على نصوص دينية محرفة ، ومبررات ونظريات فكرية، هي بعيدتاً كل البعد ، عن حقيقة وصحة الأديان .
ولاستعراض بعضاً من هذه النصوص المحرفة ، خذ مثلا هذا النص الذي ورد في سفر التكوين التابع للديانة اليهودية، في صورة تقيم خصومة بين العقل والدين ،وهو السبب الرئيسي وراء تلوث وانحراف الفكر البشري على مر التاريخ ، والذي يقول نصه ،أن نوحاً لما أراد أن يلعن ابنه حام، لعن حفيده كنعان بن حام وقال: ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته (آية 25), وفي سفر التكوين 9 : 25 : جاء أن كنعان ملعون لعنة أبدية، وأنه هو ونسله عبد العبيد لإخوته (1 ) .
أي أن هناك فريقاً من الناس مخلوقين للعبودية على حد زعمهم، وهم جميع ذرية حام ابن نوح، وقد خصصوا أن يكونوا عبيداً لذرية سام ، ويافث ابني نوح . وحام وكما هو معلوم أنه أبو السمر والسود ، أما سام فهو أبو العرب والبيض ، ويافث هو أبو الصين .
وللأسف فقد تمكن رجال الدين ، وحاخامات الديانة اليهودية ، من إيجاد المبررات الفكرية ، والفلسفية لهذا التحريف، ونجحوا في تسويقها ونقلها إلى جميع الأديان الأخرى ، ثم غرسها في عقليات أتباعها، والمنتميين لها من مسيحيون ، ومسلمون ، فضلاً عن أتباع الديانة اليهودية نفسها، وهذا ما تؤكده ردود أفعال الكثير من الحاخامات ، و رجال الدين اليهود على مر التاريخ ، ولعل آخرهم هو ما قام به أخيراً الحاخام اليهودي الكبير عوفاديا يوسف ، من هجوم عنصري عنيف ، على باراك أوباما ، عندما تطرق لأصوله ، وبشرته السمراء ، وقد تجسد ذلك في عبارات عنصرية حانقة ، أطلقها من خلال منبر ديني في قوله " هل صار يحكمنا العبيد " .
فأي جهلٍ ديني وقع فيه هذا الحاخام وأمثاله من الحاخامات ، ليربطوا دينياً ، قضية الرق والعبودية بذوي البشرة السمراء أو السوداء ، وأي تعاليم دينية ربانية تملي عليهم هذا الباطل ، وتزينه لهم.
وهذا أيضاً ما يريد أن يقنعنا به الكثيرون كل يوم ، من أبناء وأتباع الديانة الإسلامية ، والمسيحية ، ممن انطلت عليهم هذه الأكذوبة الدينية اليهودية المحرفة .
ولكن هل أقر أصحاب العقول السليمة والمبادئ العليا ، والعقائد الرفيعة بهذا الفكر الضال ؟! وهل أقرت الشرائع السماوية هي الأخرى هذا التحريف ؟! .. وهل اعترفت بهذه الخرافة ؟!
العقليات التي وقر في جوفها الجهل المركب ،وانطلت عليها هذه الخرافة ، وامتازت بالسطحية تقول نعم .. ولكن شرائع الأديان السماوية الصحيحة ( الإسلامية و المسيحية و اليهودية ) : قالت وما زالت تقول : لا .. ليس هذا معنى الرق ، ولا معنى العبودية الذي قصدته الأديان .. فروح الشرائع السماوية لم تمت بعد.. ولم تتبدل شروطها ولا أحكامها ولا أطرها الشرعية.. فمكانها محفوظ ..وصدري مفتوح لها.. ).
كما أن اليهود لم يتوقفوا عن السير قدماً في مسلسل خلق وإيجاد التبريرات لاعتقاداتهم الفكرية البطالة ، التي من شئنها أن تجعل منهم شعباً مقدساً ، وجنساً بشرياً راقياً ومميزاً على سائر الشعوب ، والسعي في إيجاد النصوص الدينية التي تبرر لهم ذلك ، منها النص الذي ورد في أحد كتبهم المقدسة ،والذي يقول نصه : ( أنتم أولاد الرب إلهكم ، لأنك شعب مقدس للرب إلهك . وقد اختارك الرب لكي تكون له شعباً خاصاً فوق جميع الشعوب على وجه الأرض ) (2 ) ، معتقدين أن تميزهم هذا هو منحة ربانيه أعطاهم الرب إياها كما يزعمون .
بل وذهب بهم الأمر أيضاً ، أن جعلوا هذا النص مقياساً لتفسير، وتأويل بعض الأحداث التاريخية ، فمثلاً قصة خليل الله إبراهيم عليه السلام ، مع زوجتيه سارة ، وهاجر . فقد فسروا أحداثها بطريقة تظهر أفضليتهم على سائر العرب العدنانيون ، لأن العرب حسب زعمهم ، أبناء وأحفاد الجارية هاجر عليها السلام ، التي كانت ملكاً لأمهم سارة ، زوجة خليل الله إبراهيم عليه السلام ، قبل أن تهبها له ، وأحداث هذه القصة تعود عندما قدم الخليل إبراهيم عليه السلام ، هو وزوجته سارة ذات يوم أرض ملك جبار وقيل: إنه ملك مصر في ذلك الوقت ، فقيل له ( الملك ): إن هنا رجل ( إبراهيم عليه السلام ) ومعه امرأة، دخلوا مملكتك، المرأة جميلة جداً في غاية الجمال، لا تصلح إلا لك . وكان قد تزوجها إبراهيم لما هاجر من بلاد قومه وقيل: كما ورد في الحديث أن ذلك الملك رأى إبراهيم ورأى معه سارة ، وكانت قد أوتيت من الحسن شيئاً عظيماً، وقيل أن أحد جنود الملك رئاها وهي تطحن . فسأله ( الملك ) عنها فقال: من هذه المرأة التي معك؟ قال: أختي، ظاهر الحديث أنه أتي بإبراهيم أولاً ، ثم رجع إبراهيم إلى زوجته، قال: يا سارة ليس على وجه الأرض مسلم غيري وغيركِ، ثم طلب منها، إذا سألها الملك عن قرابتها منه من تكون بالنسبة له أن تقول له: إنها أخته ، حتى لا يتناقض كلامه مع كلامها؛ لأنه قال له أنها أخته ، وهي أخته في الإسلام . ولما أُخذت سارة من إبراهيم ، قام خليل الله يصلي، وعندما أدخلت على الملك لم يتمالك أن بسط يده إليها من شدة جمالها، لأنه لم يستطع أن يقاوم نفسه، فشلت وقبِضَت يده قبضة شديدة،. ولما شلت يد هذا الملك قال: ادعي الله لي ولا أضرك ، وفي رواية مسلم : ادعي الله أن يطلق ففعلت ، فدعت الله له فأرسلها، ثم لما تحرر الرجل ورجع إلى حاله الأول هل توقف؟ أبداً. تناولها للمرة الثانية، ثم قام إليها ، فدعت الله عز وجل ، فأخذ الله يده بقبضة ، أشد من القبضة الأولى. وكررها ثلاثاً ، وتكرر قبض الله ليده ، كل مرة أشد من الأولى، وبعد المرة الثالثة دعا الرجل الذي جاء له بـسارة وقال له: إنك لم تأتني بإنسان، إنما أتيتني بشيطان هذا من فعل الجن ، ما أرسلتم إلي إلا شيطانه أرجعوها.ثم أطلق سراح سارة وقال: أعيدوها إلى إبراهيم، وزيادة على ذلك: أعطاها خادمة وهي هاجر وهبها لها لتخدمها، لأنه سمع أنها كانت تعجن العجين أو تخدم نفسها، قال: هذه لا يليق أن تخدم نفسها، فأعطاها خادمة وهي: هاجر . فلما أطلق سراحها ومعها هاجر أتت سارة إلى إبراهيم وكان يصلي، فقال إبراهيم بعدما انصرف من صلاته: مَهْيَمْ أي: ما الخبر؟ فقالت سارة ملخصةً ما حصل: رد الله كيد الكافر وأخدم هاجر) وبعدها ساروا إلى أرض كنعان عندما اشتد أذا الكفار ومعهما هاجر فقامت سارة ووهبت إبراهيم الجارية ( الأمة ) هاجر ،فلما حملت منه غارت سارة حيث أنها لم تحمل بعد ، فخرج الخليل وإمام الحنفاء متجها إلى مكة ، وقيل أنها ولدت إسماعيل عليه السلام في أرض كنعان ، وهناك رواية أنه ولد في أرض مكة ،الشاهد بعدها جاء من نسل إسماعيل ابن الجارية ،أفضل مخلوق على وجه البرية و أفضل الأنبياء والمرسلين من هو يا ترى ؟ أنه محمد صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي ، وجميع القبائل العربية العدنانية ، يندحرون من عدنان ابن إسماعيل ابن إبراهيم الخليل . وانظر ماذا قال أبو هريرة - ماذا قال عن هاجر في آخر القصة؟ قال: تلك أمكم يا بني ماء السماء ، يخاطبنا أبو هريرة نحن العرب العدنانيون ، فيقول لنا : تلك أمكم.. هذه هاجر الجارية والأمة الـتي كانت خادمة وأعْطيت خادمةًَ وجاريةً لـسارة ، ثم وهبتها لزوجها إبراهيم، قال: فتلك أمكم يا بني ماء السماء ، ومن المعلوم أنه يطلق على العرب العدنانيون بني ماء السماء ، لكثرة ملازمتهم للفلوات والصحاري ، لأن فيها مواقع القطر وهو الماء النازل من السماء ، أو سكنهم المنطقة الخضرة وإقامتهم فيها لغرض الزراعة أو المتجولين سعياً وراء الخضرة لأجل رعي أغنامهم ، ولذلك سُمُّوا ببني ماء السماء، لأن عيشهم على ماء السماء. هذا هو حال هاجر ، فيا ترى ما هو حال سارة وأبنائها وأحفادها ؟ ، فقد بشرها الله وإبراهيم بمولد إسحاق عليه السلام في قوله الله تعالى :( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) (3 ) ، وقال تعالى ( فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ) (4 ) . ثم أن من نسلهم انحدر بني إسرائيل ، وظنوا واعتقدوا أنهم الجنس الأنقى والأفضل ،لأنهم أبناء الحرة سارة ، واحتقرونا وازدرونا نحن العرب العدنانيون ، لأننا أبناء وأحفاد الجارية والأمة هاجر كما يزعمون ، وعظم ذلك في نفوسهم ، وزين لهم الشيطان سوء أعمالهم ، ولعلنا نلتمس هذا واقعاً في هذا الزمن ، ويتبلور ذلك في تصرفاتهم وأفعالهم نحونا ، ولكن ماذا كانت النتيجة يا ترى ؟! فقد سلط الله عليهم كل فرعون زمانه، وشتتهم ،ومزقهم كل ممزق من ذلك الحين إلى يومنا هذا . . كما يتعرض لهذه القضية أيضاً ، بعضاً من أعداء الأديان السماوية ،الذين نهبوا أجمل ما فيها من تعاليم أصيلة ، وقيم رفيعة، ودسوا السم في العسل ، فغيروا وبدلوا وزوروا ، وقدموا للعالم روايات عن هذه القضية، بأسلوب فيه خبث شديد بلغ مبلغه، بهدف تشويه صورة ديانة ما، والتجريح فيها، والإساءة لها، وبث الشبهات من حولها .
ثم يأتي بعد هذه الطائفة ، فئة أخرى من المثقفين ،وأهل الأهواء ، من بعض الليبراليين والعلمانيين ، وغيرهم ممن سلكوا هذا المنهج ، الذي يتميز بفصل الدين عن الدنيا ، و تناولوا القضية وناقشوها، دون وعي ولا دراسة ، بخلفية تاريخية " مختلقة " ، مصنوعة إعلامياً عن العبيد و الجواري المملوكات .
كما أن هذه المسألة تحولت إلى " قضية مستهلكة " إعلامياً ، يتحدث عنها الناس كل يوم ، ويتعرض لها الكثير من الكتاب، في الوسائل الإعلامية ، من قنوات ومواقع إخبارية ، ومنتديات ، وصحف ، ورسائل هاتفية ، ومتحدثون إعلاميون ، لا يستندون حول ما يقدمونه ، على دراسات علمية تعتمد على أسس وقواعد دينية صحيحة.
ولذلك فقد وقع جميع أولئك، في اعتقادات دينية خطيرة ، وأخطاء فكرية جسيمه ، لا يقبلها دين ، ولا يقرها عقل ناضج ، ولا فكر صائب ، ثم أنهم أوقعوا الناس معهم ، في تلك الاعتقادات ، التي نالت من عقول الكثير، فكراً واعتقادا، ولو تحروا الدقة في دينهم ودنياهم ، لما قالوا ما قلوه ، وما كتبوا ما كتبوه.
ومما زاد الطين بله، أن الغالبية العظمى من أجهزة التثقيف والإعلام الرسمية ، الإسلامية والمسيحية واليهودية، وبعض الوسائل التابعة لها ، مازالت تروج للعديد من المغالطات والتظليل حول هذه القضية ، وبدلاً من أن تكشف للعالم عن الأسباب والملابسات التي أدت إلى تلوث الفكر البشري ، وتأثره بالتحريف الفكري الديني اليهودي الخطير، وبدلاً من أن تكون وسائل وأداة توجيه وترشيد وتحكيم بين الغث والسمين ، والحق والباطل ، والصواب والخطأ ، بدلاً من ذلك ، نراها تنشر، تلك المخالفات كل يوم ، وتقدمها للعالم بخلفية ، ترتدي زوراً رداء الشرعية ، مؤكدتاً صحتها، ومقحمتاً الصبغة الدينية عليها.
ولاستعراض بعضاً من تلك الوسائل الإعلامية والمقالات ، خذ هذا المقال الذي نشر في جريدة العرب الدولية " الشرق لأوسط " في العدد 11785 في الخامس من مارس 2011 ، للكاتب مأمون فندي ، تحت عنوان " أوباما وساركوزي من جدين مصريين "، فتراه يكتب و بالحرف الواحد في مقاله ويقول " باراك أوباما الرئيس الأسود الذي ينحدر أجداده من العبيد ، وأبوه رجل كيني مسلم ". ومن المعلوم أن والد أوباما حر ، ولم يستغل باسم العبودية ، وهذا لا جدال فيه.كذلك يعتبر الأصل الشرعي في جميع من جرى جلبهم من قارة أفريقيا إلى القارة الأوربية والأمريكية هو الحرية ، لأنه لا توجد أي ديانة سماوية صحيحة تقر بشرعية استعباد أولئك. ولا نعلم كيف انطلت هذه الأضحوكة الدينية ، على الأحرار الذين اختطفوا من القارة الأفريقية ، واقتيدوا إلى أوروبا وأمريكا على أنهم عبيد.
وكذلك الدراسة العلمية بجامعة أموري بولاية أتلانتا ،والتي جاء تفاصيلها في الخبر الذي بثته صحيفة ( اندبندنت )البريطانية ، والتي تناولت الأصول الأفريقية لعائلة الرئيس الأميركي باراك أوباما ، والتي تقول أن بعض الباحثين توصلوا إلى معلومات تشير إلى أن رجلين يحملان اسم " أوباما " ، وصلا إلى القارة الأمريكية قبل والد الرئيس بأكثر من 130 سنة ، وذلك على متن سفينة كانت تحمل «العبيد» بشكل غير شرعي ، كما يدعون ، وقالت الصحيفة أن الدراسة التي جرت في جامعة «أموري » بولاية اتلانتا ، أظهرت أن الرجلين تسجلا على قوائم ضمت 9500 شخص جرى تحريرهم بعد إرغام السفينة على التوقف في كوبا . وقالت الصحيفة أن المشرف على الدراسة قال أن عمله يتركز على محاولة تتبع مصير آلاف «العبيد» الذين جرى جلبهم من أفريقيا إلى القارة الأميركية ، وقد دعا الناس الذين يتعرفون على أسماء عائلات أخرى ، لمن كانوا على متن تلك السفن إلى الاتصال به ، للإدلاء بمعلومات حول مصير أحفادهم . ،
وهنا أبعث بنسخه من هذه الدراسة العلمية من منظورها الإسلامي ، إلى جامعة أموري بولاية اتلانتا ، متمنياً من إدارة الجامعة إيصالها إلى المشرف، الذي أثار غبار هذه المسألة، وأقام من أجلها البحوث والدراسات ، وإلى جميع الباحثين والقائمين معه ، ممن أفسدت الخرافة الدينية اليهودية عقولهم وعقائدهم، واعتقدوا جهلاً بالنظريات الخاطئة ،التي أضافها رجال الدين والقساوسة ، لأهداف خاصة إلى تعاليم الكنيسة المسيحية ، وجعلتهم ينظرون إلى ألوان الظلم ،والاستبداد ،و الشناعات ،، والمعاملات الوحشية البشعة ، التي ارتكبت في حق عالم الإنسانية ، التي سجلها التاريخ ضد مرتكبيها، على أنها لوناً من المعاملات المشروعة، التي أقرتها وأباحتها تعاليم الديانة المسيحية الحقه ، ووجهتهم إليها ، بجعلها مصدراً مشروعاً من مصادر الرق والاستعباد المباحة في المسيحية .
و أقول لهم لقد توصلنا إلى الكثير والكثير حول ما تبحثون عنه وتفتشون عليه من المعلومات ، وقد أحطنا بما لم تحيطوا به من علم تجاه قضية الرق والاستعباد ، وذلك في ديننا المثالي الرفيع ، فقد أخبرنا ديننا الإسلامي منذ الألف والأربع مائة عام ، بأن رب الديانة المسيحية ، ورب جميع الأديان السماوية الأخرى هو الله سبحانه وتعالى، وجميعها أديان نزلت من عند الله ، ولا شك في صدقها ، وأنها أديان قامت على مبدأ العدل ، و المساواة الكاملة ، التي ترد الناس جميعاً إلى أصل واحد ، وعاملتهم على أساس هذه المساواة في الأصل المشترك ، ونظرت إليهم جميعاً نظرة تكريم ، كيف لا يكون ذلك ،والله تعالى كرم جميع بني آدم جميعهم أبيضهم وأسودهم وأحمرهم ، إذ قال الله تعالى : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ) (5 ) . وكذلك أقول لهم ، لقد أخبرنا رسولنا الكريم محمد صل الله عليه وسلم ، المبعوث رحمتاً العالمين ، في نداء وخطاب عالمي حيث قال : يا أيها الناس : ألا إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ، ولا لأسود على أحمر ، إلا بالتقوى ، أبلغت ؟ قالوا : بلغ رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ثم قال : أي يوم هذا ؟ قالوا : يوم حرام ، قال : أي شهر هذا ؟ قالوا : شهر حرام ، قال : أي بلد هذا ؟ ، قالوا : بلد حرام ، قال : إن الله قد حرم بينكم دماءكم وأموالكم قال ولا أدري ، قال : أو أعراضكم أم لا كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا أبلغت ؟ قالوا : بلغ رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال : ليبلغ الشاهد الغائب ) .أنه لا فضل لعربي على عجمي ،ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود ،ولا لأسود على أبيض ، إلا بالتقوى ،الناس من آدم ،وآدم من تراب ) (6 ) . وتوصلنا أيضاً ، في ديننا الإسلامي ، إلى معلومات ، تخبر بأن تعاليم وشرائع الأديان السماوية الصحيحة ، لا تنشر الظلم والاستبداد بين أتباعها ، ولا تشجعهم عليه ، بل تحرص كل الحرص ، في القضاء على ذلك، وسد جميع مسبباته ، وسبر السبل الموصلة إليه ، وتنادي دائماً بالأخوة ، والمساواة ، وبناء العلاقة الإنسانية السليمة بين بني البشر. وإن وجد فيها ما يدعو إلى غير ذلك، فهو حتماً من صنع بعض رجال الدين ، ممن مال بهم الهوى ، بقصد أو بغير قصد ، ومن صنع الكنيسة ،التي فرضت لنفسها سلطة إلهية ، واحتضنت أفكاراً علمية فاسدة ، ونظريات ومبررات فكرية خاطئة ، لأسباب مصلحيه، واقتصادية ،وسياسية ، وقالت إنها حقائق مقدسة ، لأنها كلمة السماء ، من ضمنها استغلال رقاب الأحرار، ويعكس حقيقة هذا ، ما وقع وللأسف ، من أحداث مؤسفة ، في تاريخ المسيحية في أوروبا ، وأمريكا ، التي استغلت باسم الدين ، رقاب الأحرار من أبناء أفريقيا والهنود الحمر ، بطريقة بشعة ، لا تقرها مله ، ولا تطيقها مشاعر إنسانية .
وهنا أوجه دعوه عامة إلى عموم أرباب الفكر السليم ، ورواد الدراسات والبحوث العلمية ، في المجتمع الأمريكي والأوربي على وجه العموم ، من ضرورة إعادة اعمار فكرهم ، فضلاً عن اعمار فكر مجتمعاتهم البشرية ، تجاه قضية الرق والاستعباد ، وذلك بإعادة دراسة هذه القضية، ومناقشتها على الأسس ، والنظم الشرعية والدينية ، التي جاءت وفق منظومة وقواعد و تعاليم الديانة المسيحية الصحيحة، التي لا يقوم معها صراع ، بين العقل والدين ، و يؤمن بأحداثها الضمير الإنساني ، ليؤمنوا معنا بالحقيقة الأبدية الخالدة ،التي لا مراء فيها ولا جدال .
ولأن الحرية ، والكرامة الإنسانية ،والعقل البشري، هم المتضررين من وراء كل ذلك العبث ، لذا أحببت أن أقدم هذه الدراسة العلمية ، من منظور إسلامي ، لأبين الصورة الحقيقة لمسألة الرق والاستعباد ، موضحاً لجميع أتباع الأديان السماوية ( الإسلامية والمسيحية واليهودية ) ، الغايات الدينية السامية ، والمشرقة ، لهذه القضية ، مبيناً في الوقت ذاته ، الخلل الذي طرأ على المعنى والمفهوم الصحيح ، لقضية الرق والاستعباد ، وكيف عرفته الأديان ، وكيف حرفه أتباعها على مر العصور.
ليكف من لم يكف منهم ، عن الاستمرار في تقديم الإساءات للأديان السماوية ، سواءً بالرأي ،أو الطرح ،أو المناقشة . وليتوقف من لم يتوقف ، عن امتهان واستغلال رقاب الأحرار من بني البشر ، باسم الأديان ، التي شوهوا صورتها الجميلة المشرقة ، وأثاروا من حولها الشبهات والشكوك، وأظهروها بصورة قبيحة ، بشعة ، تجسد سوء علاقة الإنسان بأخيه الإنسان .
وللأسف فما تزال تمارس هذه الصور من العلاقات الإنسانية البشعة المرفوضة دينياً ، وإنسانياً رفضاً باتاً ، في بعض المجتمعات المتقدمة ، أو بعض المجتمعات الإسلامية والعربية ، من دول العالم الثالث ، من قبل أناس حجب الجهل ، والفكر اليهودي المنحرف ، عن عقولها نور الحقيقة الدينية ، والحكمة والغاية الإلهية ، لمفهوم الرق والاستعباد ، كاليمن و موريتانيا والمغرب والجزائر والسودان وغيرها من البلدان ، الذين يساندهم في ذلك التجاوز، رجال دين لا يدركون أن ما يدلون به من أقوال وآراء ، إنما هي من وحي الفكر اليهودي الضال ، الذي مازال قابعاً ، في عقلهم الديني الباطن .
كما آمل أن تبعث هذه الدراسة، القوة والعزيمة والمضاءة ، في نفوس أهل الهمم والفكر المستنير، من أبناء وأتباع الديانات الأخرى ، ليقدموا هم أيضاً لنا وللعالم ، دراسات علمية من منظور دياناتهم الربانية الصحيحة، يوضحوا من خلالها الصور المشرقة التي رمت إليها أديانهم ، لهذه القضية ، والآن أترككم مع هذه الدراسة .
دراسة علمية من منظور إسلامي ، توضح الخلل الذي طرأ على مفهوم الرق والاستعباد في جميع الأديان السماوية (الإسلامية – المسيحية – اليهودية ) ..
ما دفعني في الحقيقة إلى التعرض لهذه القضية الفكرية المسمومة ، بدراسة موضوعية من منظور إسلامي ، هو لشمولية هذا الدين ، على جميع الأطر الصحيحة ، التي تستقيم بها حياة البشرية ، لجميع أتباع الديانات ، فضلاً عن مقدرته على تقديم الحلول، التي تواجه بني البشر على وجه العموم ، ولكن لا يكون ذلك إلا شريطة أن يفهم جوهره الأصيل .
والشمول في اللغة : تعني الاحتواء والتضمين ، وشمله بمعنى احتواه وعمه وتضمنه .
و في الشرع : يأتي ذلك في معنى قوله الله تعالى : (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (7 ) ، وأيضاً في قوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (8 ) .
ويأتي هذا التبيان شاملاً لكل الأزمنة والأماكن على وجه الأرض ، فالقرآن الكريم فيه تبيان وتوضيح لكل شيء ، حيث يقدم القواعد الكلية والخطوط الرئيسية ، والمرجعيات والمعايير ، للعيش في الحياة الدنيا بأمان ، و حماية ، وتحسيناً وتجويداً لحياة البشر، وحمايتهم من الوقوع في الزلل والانحراف والخطأ ، كما يتدخل في بعض التفاصيل ليقررها مباشرة لسبب ما ، في علم الله . وهو رحمة للعالمين جميعاً المسلمين وغير المسلمين ، سواءً آمنوا به أو لم يؤمنوا ، فستصبيهم رحمته من تواصلهم مع المسلمين المؤمنين به . لأن رحمة الرسالة واسعة بما فيها من الحقائق الكلية للكون وللحياة ، وفلسفة الحياة ، وقواعد العيش الآمن على الأرض، وحقائق المخلوقات ، وفلسفة كيفية تسخيرها للإنسان والانتفاع بها ، وإجابات لأسئلة كثيرة تعجز الأديان الأرضية والعقول البشرية عن الوصول إليها.
ومن المعلوم أن الفكر الإسلامي يتميز - على مر العصور - بامتداده إلى عمق الحياة ، وشموله لجوانبها ، وارتباطه بمشكلاتها من جهة ، كما يتميز بربط أمور الدنيا - معيشة ودراسة - بأمور الدين عقيدتاً ومصيرا من جهة أخرى . ومن ثم فإن الباحث الديني حين يتعامل مع هذا الفكر ، فإنه يجب أن يتعامل معه بعقل مفتوح ، وقلب مؤمن ، وحين يقدمه إلى القراء والمستمعين والمشاهدين ، فإنه يجب أن لا ينسى هذا الارتباط بين الدين اعتقاداً ، وبين الحياة واقعاً ، فهو لا يقدم أفكاراً مجردة تنحصر في رياضة عقلية ومتعة فكرية ، كما أنه لا يلهب العواطف بكلمات منمقة وسبحات روحية وعند تتبع النهج القرآني في التربية أو المعاملات أو غيرها ، نجده يحرص كل الحرص على هذا الربط ، فهو يعرض المسألة مرتبطة بواقع الناس من جانب ، ثم يمزج هذا الواقع فيجعله من صميم الدين من جانب آخر ، ولعلي هنا أضرب مثلاً لتقريب المسألة أكثر : إذا قرأنا آية من القرآن عقب قراءتنا لمسألة من مسائل المعاملات ، في توزيع غنائم الحرب مثلاً ، في قول الله تعالى : (وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (9 ) ، أو في مسائل المعاملات المالية مثل قوله تعالى : ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (10 ) ، فكأنما تقوى الله والتذكير بحدوده ، هي الضوابط التي ترسم طريق هذه المعاملات وتضمن سلامتها . كما أن على متلقي الفكر الإسلامي أيضاً ، أياً كان نوع هذا التلقي ، أن يتصور هذه العلاقة ابتدءاً ، حتى لا يجهد نفسه ، بإلزام المنهج الإسلامي، ما لا يجوز التزامه به ، ولا يحمله من المعاني والاتجاهات ، ما لا يتحمله . فلقد امتزج هذا الفكر بالحياة ، وامتد إلى جوانبها المختلفة ، ولكن المفكرين فيه ، لم يكن يعنيهم تقديم الفكر إلى الناس، بقدر ما يعنيهم تقديم المنهاج ،الذي يربط الدنيا بالدين ، ويهيئ الحياة للآخرة .
الحكمة من نزع الحرية البشرية
من المعلوم أن الأصل في الإنسان الحرية ، والمقصود بالحرية هنا ، هي الحرية الدينية والشخصية والاجتماعية ، المشروطة بضوابط ، وأطر التشريع الرباني ، الذي يوجهها نحو الاستقامة ، والنهج المستقيم ، لتنصرف مختارة لعبادة خالقها سبحانه وتعالى وحده ، الذي تنسب إليه هذه المشيئة ، حيث قال تعالى : ( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً * وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ) (11 ). وقال تعالى : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) (12 ) . وقال تعالى : (ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقّ فَمَن شَآءَ اتّخَذَ إِلَىَ رَبّهِ مَآباً ) (13 ). وقال تعالى : ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ) (14 ) . وقال تعالى : (مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (15 ) . ومن خلال مجموع هذه الآيات ، ندرك أن للحرية الإنسانية أكبر المساحات في الإسلام ، وأنه دين لا يسلك أبداً مسلك إرغام الناس على تبني اعتقادات فكرية ، أو مذهبية معينة ، ولا يكره أحداً على اعتناق عقيدة الإسلام ،ولا إكراه فيه على الدين ، إنما هو البلاغ . لأن منظومته الاعتقادية ، قدمت في إطار استدلالي محكم ، يمتد على مساحة هائلة من النشاط الإنساني ، في مجال الاعتقاد ، والفكر ، وغيره، وهي مساحة لا يستطيع أن يراها الأشخاص الذين ينظرون إليه ، من خلال نظاراتهم السوداء ، إما عن جهل جائر ، وإما من عداء كافر ، والقائل بأن الإسلام لم يقل بالحرية الشخصية ،أو حرية العقيدة ،أو حرية الرأي ، القائمة على أساس من الدين السماوي ، والنظام الأخلاقي النظيف ، إنما يضع نفسه بجدارة ، في صف أعداء الإسلام .
ولهذا فهو دين شامل ، جاء ليكفل حرية كل إنسان ، في الوطن الإسلامي ، ويصون حرماته ، أياً كانت عقيدته ، كما أنه دين يسمح للناس ، بل يدعوهم إلى الاستنتاج الحر، عن طريق استخدام مبدأ الحوار ، وآليات المناظرة ،والحجج ، ليصلوا جميعاً ، غاية العدالة الإلهية ، المتمثلة في العدالة الكونية ، والعدالة الشرعية ، وهي غاية أصيلة ، لجميع الشرائع السماوية ، التي جاءت قاطبة ، لتحقيق العدالة في الأرض ، ليتحقق مقتضى سنن الكون في الوجود ، من أجل أن تجري جميع الكائنات نحو غاياتها بتوازن ، كما أن في هذه الغاية أيضاً ، قيمه إنسانية سامية ، يسود بها منهج الحق ، ويتحقق بها مقتضى سنن الشرع في المجتمعات ، لتكون البشرية بسائر أجناسها ، وأعراقها ،وثقافاتها ، أمام ميزان العدل والإنصاف ، للعدل بين الناس ، وفق أوامر الشرع ، وإعطاء كل ذي حق حقه ، قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (16 ) . وهذا ما حققه العنصر البشري ، في زمن الرسول محمد صل الله عليه وسلم ، وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين ، تلك العناصر التي تألقت في عالم الإنسانية ، لجعلها سنة العدالة الإلهية أساسًا ومنبراً ، لدينها ودنياها ، وقدمت للبشرية جمعاء على إثر ذلك ، الكثير من النماذج المشرقة ، للوحدة ،والتجانس ،والأمن، والسلام ، في ظل التباين الثقافي، والديني، والعرقي، لتلك المجتمعات ، ومما يؤسف عليه ، فإن ذلك التألق للأمة الإسلامية ، حٌجِب عن أنظار البشرية ، بعد أن كانت خير أمة أخرجت للناس ، قال تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (17 ) . وما سبب ذلك الحجب، إلا لتغطية سحب ركام المظالم ، وأحداث الجوانب المظلمة ، للأعمال الغير مسئولة ،التي أرتكبها المسلمون في عصرهم الحديث . والكون وكما هو معلوم ، يجري في توازن دقيق ، وفق عدالة عامة ، نابعة من تدبير الخالق جل علاه ، تدير موازنة عموم الأشياء ، وتأمر البشرية بإقامة العدل ، ومراعاة هذا الميزان الإلهي ، سواء من الجانب الشرعي ، بإتباع صراط الدين الذي جاء به الرسل ، وبينوه ، حيث قال تعالى : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ... ) (18 ) ، أو بالامتثال لسنن الحق والعدل في نواميس الكون ، وهذا ما حافظ على الدوام عليه ، الأنبياء والرسل ، وعباده الله المؤمنين الصالحين ،الذين ليس لغير الله عليهم من سلطان ، لأن الإنسان ملزم بالفطرة ،على المحافظة على هذا التوازن ومراعاته ، سواء في الجانب الكوني ،أو الشرعي ، والسعي في سبيل نشره ، والمناداة به ، والدعوة إليه، لإيجاد عناصر العدل ، والتوازن ، في سائر مظاهر الحياة ، ليعم سائر أرجاء العالم ، وهذا ما يرجوه أي ضمير إنساني. ولكن لما كان هناك بعض الناس ، ممن لا يؤمنون بالشرائع ، وطبعت نفوسهم على الطغيان ، وتحررت ضمائرهم من شعور العبادة الخالصة لله ،وصرفت لغيره ، سواء لبشر، أو ملك، أو حجر، أو ما أشبه ذلك ، ولد حينها الكفر، الذي ينكر حقيقة الله ، ونعمه التي أمتن بها على عباده ، أتي دور عمل سائر الحريات الممنوحة للإنسان ، في مختلف معاملاته ، وسائر شؤونه الفردية، والاجتماعية ، التي جعلتهم يقفون في سبيل الدعوات المنادية إلى إقامة مبدأ العدالة الإلهية العامة، ويضعون العقبات في سبيل تقدمها ، ويمنعون الداعي عن تبليغها ، ويعذبون من آمن بها ، وفي هذا تمرد على نظام المشيئة الإلهية ، سواء في الجانب الكوني ، أو الشرعي ، أو كلا الجانبين معاً . لذلك يأمر الله سبحانه وتعالى ، أنبيائه، و عباده المؤمنين الموحدين ، أن يواجهوا ذلك الإنسان ، من أجل الحفاظ على توازن العدل ، سواء فيما يتعلق بالجانب الكوني ، أو الشرعي ، ويدعوه دعوة قرآنية أساسها الحكمة ، والموعظة الحسنة ، التي تنبأ عن الحب ، والشفقة ، والعطف الرباني للإنسان ، تلك الدعوة التي لا تختلف في طريقتها الإنسانية ، باختلاف الزمن ، من بداية دعوة سيدنا نوح عليه السلام ، حتى نبينا محمد صل الله عليه وسلم ، وصحابته أجمعين ، والتي قد تكون سبباً ، في رجوعه إلى رشده ، وتزكية نفسه ، وإرشاده على الله ، للرجوع إليه ، والدخول في دينه ، الذي يدين بالحق ، و يفضي إلى الامتثال إلى أوامر العدل ، قال تعالى: )أُبَلّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ((19 ) . وقال تعالى : ( قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ) (20 ) . فإن امتثل لذلك واهتدى ، وأسلم ، فذاك هو المطلب ، وبالتالي يخلص ذلك الإنسان نفسه ،من عبادة العباد ، إلى عبادة رب العباد وإن رفض الدخول في الإسلام ، وتوقف عن اعتراض سبيل الدعوة الإسلامية ، ورضي بإعطاء الجزية ، فلا إكراه في الدين ، لأن من لم يمنع المسلمين ، من إقامة دين الله ، ونشر عدالته ، لم تكن مضرة كفره ، إلا على نفسه ، قال الله تعالى : (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) (21 ) . وبذلك يعطيه المسلمون عهداً على ذلك ، بموجب عقد يعقده إمام المسلمين معه ،أو نائبه ، وهذا إقرار الكافر على كفره ، وعدم المساس بحريته الدينية ، وبموجب ذلك يصبح من أهل العهد ( أهل الذمة ، أهل الهدنة ) ، بشرط الالتزام بأحكام الإسلام ، التي يتمتع بموجبها بحماية الدولة الإسلامية ، سواء ببقائه في دار الإسلام ، أو ببقائه في دياره ، وذلك كما عاهد النبي صل الله وسلم ، نصارى نجران في بلادهم . والحكمة من هذه الجزية ، ومن التوقف عن القتال والكف عنه ، هو لضمان عدم إعاقة حركة توسع مبدأ العدالة الإلهية ، المتمثلة في الدين ، وتهيئة الجو الإسلامي لذلك الكافر ، لعله يدخل في الإسلام باختياره ، عند مشاهدته للمسلمين، وهم يقدمون النماذج المشرقة، للوحدة ،والتجانس ، والأمن ،والسلام ،ويمثلون الإسلام خير تمثيل . ولكن إن اعترض ، وتمرد على دين الله ، وأطاع الشيطان ، ثم أصر على تسخير نفسه ، وتسخير كامل حريته ، التي قامت على أساس أساطير عقائد القوة ، والإكراه ، للقضاء على دين الإسلام ، أو أي دين سماوي آخر ، يستمد شرعيته من عقيدة العدل الربانية ، ومن مبدأ موازين العدالة الإلهية ، ( العدالة الكونية ، العدالة الشرعية ) ، ففي هذا الفعل، تعارض صارخ ، ومخالفة صريحة ، لنواميس العدل ، التي أقام الله بها الكون. ولذلك ينزع الله منه تلك النفس ، أو تلك الحرية ، بسلطان الشريعة ، لأنه لا يجوز أن تسلب هذه القدسية ، إلا بالحق ، وهذا الحق لم يتركه الشارع هكذا دون تحديد ، ولم يتركه لاجتهاد المجتهدين ، و المتأولين ، الذين قد يعبثون بهذه القدسية ، لأسباب قومية ، أو عرقية ، أو ما أشبهها من الدوافع ، التي يأباها الإسلام ، لتكون فوضى ، ينعدم الأمان بموجبها ، كما هو حاصل الآن في كثير من أقطار العالم ، ولذلك يسلط الله عباده الذين مارسوا معتقداتهم ، وشعائرهم الدينية ، من إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، و أمر بالمعروف ، ونهي عن المنكر ، على أساس من الدين السماوي ، والعقيدة الربانية ، التي تحقق مبدأ العدالة الإلهية ، على أصحاب تلك الحريات الشيطانية ، بنشوء مواجهة - قتال - بين أتباع هاتين الحريتين . قال تعالى : ( الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) (22 ). وقال تعالى :( وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُون ) (23 ).
وقد وضع الإسلام لهذا القتال قيوداً وضوابط أذكر منها : - القتال بدافع الإيمان ولأجل إقامة دين الحق ، وحمايته . - النهي عن بدأ قتال الكافر . - الأمر بتقديم الحجج ،والأدلة ،ومناظرة الكافر المعتدي، من أجل هدايته ، وإرجاعه . - إنذار الكافر ،بعد إقامة الحجة عليه ،وتخويفه . - استجابة دعوة السِلم ،من قبل الكافر المعتدي ، والنهي عن مقاتلة غيره من الكفار . قال تعالى:( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِين ) (24 ) .
وقد عرف هذا القتال في مصطلح التشريع الإسلامي - بالحرب الدينية المشروعة - ، وهو قتال ليس من أجل إكراه أحد على الدخول في الدين ، وإنما من أجل تأمين الدفاع عن حرية أتباعه ، في ممارسة معتقداتهم ، وشعائرهم الدينية المقررة شرعاً ، ولأجل ضمان استمرارية مسيرة رسالته الدينية ، الساعية لإرساء قواعد الحرية ،والمساواة ،والعدل ،والرحمة ،والإخاء ، بين أبناء الشعوب ، وتمكينها في الأرض ، لمن يرغب بالدخول في الإسلام بكامل اختياره ، ولأجل ردع أولئك الكافرين ، والمعتدين ،الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، أما عن طريق نزع أرواحهم بقتلهم ، وإما عن طريق نزع حرياتهم ، إذا وقعوا أسرى في يد المسلمين في تلك الحرب .
وعلى الرغم من أن طبيعة قتل الكافرين ، ونزع حرياتهم هو الكره ، إلا أن هناك حكمة إلهية بالغة الأهمية ، من أباحة ذلك، وذلك لما في فتنة الكفار، والمعتدين ، على ما هو أكبر وأعظم من ذلك . لتسلطهم على مبدأ العدالة الإلهية . قال تعالى : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الْدُّنْيَا والآخرة وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (25 ). ولذلك أباح الله تعالى من قتل تلك النفوس ، و نزع تلك الحريات ، ما يحتاج إليه في حفظ الدين ، وصلاح أمور العباد ، وما تقتضيه ضرورة الحفاظ على توازن عدالته الكونية والشرعية .
ومن الطبيعي، فلا تكاد تخلوا مثل تلك الحرب الدينية المشروعة ، من غالب يحوز الأرض ، أو المال ، أو الأنفس ، أو هذه جميعاً ، وهذا ما يسمى- الغنائم - ، ومغلوب يفقد هذه الأشياء ، أو بعضها ، والمقصود بالأنفس هنا هم الأسرى (26 ).
ولقد لخص جمهور الفقهاء مصائر الأسرى بعد سيطرة الدولة الإسلامية عليهم ، في أمور أربعة هي : المن عليهم والعفو عنهم ، أو مفاداتهم على مال ، أو أسرى ، أو استرقاقهم ، وسريان أحكام الرقيق عليهم ، أو قتلهم . وعرضوها أحياناً بشكل يختار الإمام بينها ، وفاضلوا أحياناً أخرى ، بين واحد منها والآخر ، وألغى بعض الفقهاء واحداً أو أكثر من هذه المصائر ، ليحددوا مصير الأسرى فيما أبقوه دون ما ألغوه .
ولقد كان التصرف في أسرى بدر، هو الأساس الذي بنا عليه الفقهاء أحكامهم في أسرى الحروب الإسلامية بوجه عام ، لأن هذه الغزوة كانت السابقة الأولى في تاريخ الحروب الإسلامية ، ولأن عدد من وقع فيها من الأسرى كان من الضخامة ، بحيث يتطلب تقنين الأحكام ، ولأن الرسول صل الله عليه وسلم ، معلم البشرية ، هو الذي كان يحكم في أمر هؤلاء الأسرى ، وحكمه تشريع يستمد منه الفقه وأحكامه ، يقول ابن كثير في تفسيره : وقد استمر الحكم في الأسرى عند جمهور العلماء أن الإمام مخير فيهم : إن شاء قتل ، وإن شاء فادى بمال ، وإن شاء استرق من أسر ، ثم تنسحب أحكام أسرى بدر على سائر الغزوات .
وحين تحدث الفقهاء عن التخيير في الأسرى ، جعلوا هذا التخيير بين المن والفداء والاسترقاق والقتل . والمن والفداء قد وردت فيهما آية صريحة ، هي قوله تعالى : ( فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ) (27 ).
وذهب بعضهم ، إلى حصر مصير الأسرى في هذين الاثنين فقط ، ولا ثالث لهما . ولقد جاء في تفسير: لما كنا مخيرين في الأسرى بين إطلاقهم بغير مقابل والفداء بهم ، جاز أن يعد هذا أصلاً شرعياً لإبطال استئناف الاسترقاق في الإسلام ، فإن ظاهر التخيير بين هذين الأمرين ، وأن الأمر الثالث الذي هو الاسترقاق غير جائز لو لم يعارضه أنه الأصل المتبع عند كل الأمم . والقتل أيضاً لم يرد في آية تدل دلالة صريحة عليه ، إلا ما ذهب إليه بعضهم في قوله تعالى : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (28 ) ، من أنها تدعو إلى قتل الأسرى ، وتنهي عن قبول الفداء فيهم . ومن الملاحظات الجديرة بالرصد والاهتمام ، الخاصة بشأن الأسرى هو ما يلي : - الحضور المباشر للرحمة الإلهية ، حال وقوع هذا العقاب الوجداني عليهم ، وتشوفها وتطلعها لما في نفوس أولئك الكافرين ، الذين وقعوا في الأسر ، رحمتاً بهم، وشفقتاً عليهم ، قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلِ لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَم اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا ) (29 ). - اللطف الرباني الخفي ، الساعي لإصلاح طبائعهم ، وتطهير قلوبهم ، وتغيير ما في نفوسهم ، تقويماً ، وترقيتاً ، وتقوية ، على التقوى ، والخير ، والفضيلة . فإن تحقق صلاح تلك النفس ، خلال فترة الأسر، أعاد الله لها حريتها ، و أبدلها خيراً ، مما أخذ منها في تلك الحرب ، وهذا ما جسده قول الله تعالى :( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلِ لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَم اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخذ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ). وإلا وقعت تلك النفس ، في سهم أحد المسلمين، المشاركين في تلك الحرب ، إن رأى إمام المسلمين الكفء أن الخير والصلاح في ذلك ، وبالتالي تسلب التصرف في حريتها ، وتطوع لغير صاحبها، وكل ذلك بحكمة إلهية ، وذلك هو الرق والاستعباد الشرعي ، الذي يصيب جوهر ، ووجدان النفس ، والذي عرفه علماء الفقه الرق : بأنه عجز حكمي يقع على الإنسان، سببه الكفر . هذا إذا كانت الحرب دينيه مشروعه ، فإن كانت الحرب لمطامع الدنيا، وحظوظ الملك ، فلا يباح فيها الرق (30 ). وبذلك تنقل تلك الحرية ، إلى يد ذلك المسلم ، المدرك لهذه الحكمة ، الذي يعمل على إعادة تسخيرها، بالكيفية المقررة شرعاً ، لتعمل من جديد، في كل ما من شأنه، التوافق مع نواميس، ونظم العدل الإلهي ، وهذا هو مبدأ العدل الرباني بكل معانيه. وهذا ما حرص الإسلام على تحقيقه ، و سعى إليه سعياً دؤوب ، وقد تبلور هذا، في الواقع المشاهد، لحال الكثير من الأسرى ، والعبيد، والجواري ، الذين خالطوا المجتمع الإسلامي ، في زمان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه الكرام ، ثم اسلموا إثر ذلك الاختلاط . وهذا ما جسدته ، قصة إسلام ثمامة بن أثال ، سيد أهل اليمامة ، والتي تبدو للقارئ لأول وهلة، أنها قصة عادية، إلا أنها تحمل في ثناياها ، ما لم يكن يتصوره المرء، ولا يدركه، إلا من أطال التأمل فيها ،وقرأ ما بين السطور: لماذا أسلم هذا الرجل ؟!... و لماذا ربط في المسجد ؟!... وما ظنه برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!... و لم منَّ عليه رسول الله ؟!... وهي أحداث ومواقف، تستحق التأمل والتمحيص ، وكل ذلك يدركه من رزقه الله نوراً، يكشف به عن مشخصات الأمور، وأحداث الوقائع. وثمامة بن أثال هذا ، هو رجل من زعماء المشركين ، هداه الله تعالى، في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد روى قصته الإمام البخاري ،ومسلم ،وأحمد في مسنده . فبعد أن أغارت خيل النبي عليه الصلاة والسلام قِبل نجد ، وكانت ديار كفر، أسروا رجلاً مهماً ، وهو ثمامه سيد أهل اليمامة ، و اليمامة : منطقة معروفة في نجد. فأتي به إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، وكان ذلك الحدث بمثابة ضربة معنوية قاصمة لأولئك الكفرة ، لأن سيدهم قد أخذ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم، قد ملئ حكمة وبعد نظر، ولذلك أمر بأن يربط ثمامة ... و لكن ليس في خيمة..، ولا في بيت مغلق..، أو في سجن..، وإنما وضع في المسجد، وربط إلى سارية من سواري المسجد ، وربط ثمامة إلى سارية من سواري المسجد معناه أنه يرى يومياً ما هي حياة المسلمين الحقيقة ، كيف يأتون إلى الصلاة مبكرين، وكيف يصلون ويدعون، ويذكرون الله، يُرفع الأذان ، فيطرق مسامع ثمامة خمس مرات في اليوم، ويسمع قراءة النبي عليه الصلاة والسلام، وسماع قراءة النبي عليه الصلاة والسلام وحدها غاية في التأثير، كما أن المسجد في ذلك الزمن ، كان مكاناً للصلح، كما في قصة كعب بن مالك و ابن أبي حدرد لما توسط النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، فوضع صاحب الحق شيئاً من حقه، وأمر الآخر أن يبادر بالسداد، ومكان للتزويج وعقد النكاح، والتوفيق بين المسلمين ، ومكان لجمع التبرعات والصدقات، ومكاناً تجمع فيه زكاة الفطر ،وتقسم على الفقراء، ومكاناً للفتاوى والأسئلة والإجابات، وحلق الذكر ودروس العلم، وهو المكان الذي يأتي الناس ليصلوا فيه النوافل ،والتراويح جماعة أحياناً. وهذه المشاهد الموجودة في المسجد كفيلة بالتأثير في النفوس، ولذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام ،من حكمته بربط ثمامة في المسجد، وليس في أي مكان آخر، ثم جاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى ثمامة وقال: ماذا عندك؟ أي: ما الذي استقر في ظنك أن أفعله بك؟ ما تظن يا ثمامة أنني فاعل بك؟ فأجاب بأنه يظن بالنبي عليه الصلاة والسلام ظن خير، وأنه ليس ممن يظلم، وأن ظنه به أن يعفو ويحسن إليه، وأنه إن قتله فإنما يقتل ذا دم، أي: صاحب دم، لدمه موقع يشتفي قاتله بقتله، كأنه يقول: إذا قتلتني تقتل شيئاً كبيراً يحق لك انتقاماً، وتقتل رئيساً وعظيماً من العظماء. قال: وإن تنعم تنعم على شاكر، أي: يشكر لك منتك وفضلك عليه، وفي اليوم الثاني والثالث عرض عليه ما عرض عليه من قبل، وسئل عما سئل عنه من قبل، والنبي صل الله عليه وسلم لما رأى موقف ثمامة كما هو أمر بإطلاقه قال: أطلقوا ثمامة ، قال: قد عفوت عنك يا ثمامة وأعتقتك. وهذا في رواية ابن إسحاق ، وجاء فيها: أن المسلمين قد جمعوا له من طعام ولبن، فقدموه إليه فلم يصب من ذلك إلا قليلاً. ولما أُطلق الرجل ، لم يرجع إلى قومه؛ لأن ما شاهده من المشاهد الإسلامية السامية ، كفيل بأن يجعل الهداية تدخل إلى قلبه، فذهب ،واغتسل ،وأسلم ، ونطق بالشهادتين، ثم بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة ،ومحو ذنوبه وتبعاته السابقة، وأخبر النبي صل الله عليه وسلم ،عما أحس به من محبة النبي صل الله عليه وسلم، ومحبة دينه، ومحبة بلده، فانقلب البغض إلى حب وانقلبت الكراهية إلى محبة، واتضح من خلال التأثير، كيف تنقلب مشاعر الكافر عكس ما كانت عليه.وذلك لو وُجد الكافر في بيئة سليمة، وتعرض لمؤثرات صحيحة، ووُجد في جو طيب فإنه يتأثر، وهكذا حصل لـثمامة ، حينما ربط في هذا المكان ،فتأثر وانقلبت مشاعره، فإنه كان يكره النبي عليه الصلاة والسلام، ويكره دينه، ويكره بلده، فصار أحب الوجوه إليه ،وجهه عليه الصلاة والسلام، وأحب البلاد بلده، وأحب الدين إليه دينه، زد على ذلك أن المنَّة التي مَنَّ بها عليه الصلاة والسلام ،دون فدية ،ولا قيد ،ولا شرط ،أو مقابل ، على هذا الرجل قد أثَّرت فيه، منَّةٌ شكرها هذا الرجل، وكان شكره الإسلام، إنه كرم نبوي ، حيث قال: أطلقوا ثمامة، وهذه هي طبيعة الدين الإسلامي الصحيح ، وهذه الأشياء مجتمعة أثرت في الرجل؛ وقلبت مشاعره، ثم أسلم وتابع النبي عليه الصلاة والسلام. يقول أبو هريرة رضي الله عنه : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبَل نجد ، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة ، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندك يا ثمامة ؟ فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد، فقال: ما عندك يا ثمامة ؟ قال: ما قلت لك؛ إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان من الغد، فقال: ما عندك يا ثمامة ؟ فقال: عندي ما قلت لك؛ إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله حتى كان من الغد فأعاد السؤال وأعاد الجواب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة . فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، يا محمد! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وَجهِك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إليَّ، والله ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك، فقد أصبح دينك أحب الدين كله إليَّ، والله ما كان من بلدٍ أبغض إليَّ من بلدك، فقد أصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة؛ فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟ -في رواية البخاري و مسلم - فقال: لا، ولكن أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذه هي قصة ثمامة بن أثال الحنفي سيد أهل اليمامة رضي الله تعالى عنه (31 ). كما أن المتأمل لمبادئ وسماحة الشريعة الإسلامية أيضاً، يلاحظ سعي الإسلام ، و تطلعه إلى عتق جميع من وقعوا في الرق ، وآل مصيرهم إليه ، ولذلك فقد حث على العتق، ورغب فيه تطوعاً ، وشرع له العديد من الطرق، والوسائل التي توجبه ، بجعله كفارة للعديد من الذنوب ، التي يتعرض لها المسلمون في حياتهم ، كالقتل الخطأ، والحنث في اليمين، والظهار ، والإفطار في شهر رمضان ، وندب إليه فيما عدا ذلك . قال تعالى :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ۚ وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا ۚ فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ۖ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ۖ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (32 ) . وقال تعالى : ( لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (33 ) . وقال تعالى: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (34 ).
كما جاء بتحرير الرقيق عن طريق المكاتبة ، وهي حق يطالب فيه الرقيق بحريته في مكاتبة من يملكه ، وهو حق كفلته له الشريعة الإسلامية ، وقد ورد في الحديث الشريف ما نصه : "من أعان مجاهدًا في سبيل الله ، أو غارمًا في عسرته، أو مكاتبًا في رقبته ،أظله الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله" (35 ).
كما أن قصة أم المؤمنين جويرية ،قد جسدت أيضاً هذا الحديث أجمل تجسيد ، وجويرية هذه ، هي جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار من بني المصطلق ، التي كانت سيدة نساء قومها ، وكان أبوها قائد بني المصطلق ، الذين جمعوا لقتال النبي محمد صل الله عليه وسلم ، فقد سبيت يوم المريسيع ، من ناحية قديد إلى الساحل ، وهي غزوة بني المصطلق في سنة خمس من الهجرة ، حيث هزم الله بني المصطلق ، وأصاب من المشاركين في تلك المعركة منهم سبياً كثيراً ،و كانت جويرية ممن أصابهن السبي من النساء المشاركات ، فوقعت بعد توزيع الغنائم في سهم ثابت بن قيس بن الشماس ، أو لأبن عمه ، وكان قد قتل زوجها ، مسافع بن صفوان بن ذي الشفر في تلك الغزوة ، فكاتبت على نفسها ، لتخلص نفسها من الرق و الاستعباد ، ولم يكن معها ما كاتبت عليه ، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليعينها على ذلك ، فرد عليها بما هو أفضل ، إذ عرض عليها الزواج منها ، وقضاء مكاتبتها ، فأجابت بالقبول ،وأسلمت ،وحسن إسلامها . وهنا نلاحظ حكمة النبي محمد صل الله عليه وسلم ، من زواجه بجويرية ، وذلك لمعالجة الآثار النفسية الصعبة ، والفجوة الإنسانية ، لتلك الفترات الاستثنائية التي عاشتها جويرية ، لمفارقتها لأباها ،وزوجها، وقومها ، ومساعدتها على معايشة تلك المرحلة النفسية ، بعد هزيمة قومها ، وهذا ما حصل مع جويرية ، لأن مرحلة ما بعد الحروب ، أشد وطأة من الحروب ذاتها ، كما أن هذه القصة ،تكشف لنا سمو مقاصد النبي صل الله عليه وسلم ، من وراء بعض زيجاته . وسمو اهتمامات الشريعة الإسلامية ، بقضية مراعاة واحترام النفس البشرية ، سواء للعبيد أو الجواري ، لذلك فقد عادت الحالة الطبيعية ،الاجتماعية ، والنفسية ، لجويرية ، وبصورة كاملة، بل إن حالها تجاوز ما هو أبعد من ذلك، لتكون أماً للمؤمنين ، ظافرة بكثرة ذكر ربها ، فقد جاء في الحديث أن النبي صل الله عليه وسلم، خرج من عندها وهي في مصلاها، ثم رجع حين تعالى النهار، وهي ما زالت في مكانها تذكر الله، فقال لها: " لم تزالي في مصلاك منذ خرجت ؟ ، فأجابته: نعم، فقال لها صل الله عليه وسلم : قد قلت بعدكِ أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن : سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته" (36 ) .
ومن الأمور السامية ، والغايات النبيلة ، التي وجهة إليها الشريعة الإسلامية ، أنه في حال ظفر المسلمين بسبايا كافرات ، من خلال الحروب الدينية المشروعة ، ورأى إمام المسلمين الكفء ، العالم بأحكام هذه الأمور ، أن من الخير والمصلحة ، أن ترد السبايا إلى قومهن ، جاز له ذلك .
أيضاً من الطرق والوسائل التي أوجدها الإسلام ، لتحقيق عتق الرقاب ، هي تخصيص جزءاً من أموال زكاة المسلمين ، لعتقها والمتأمل بتمعن ، لكثرة سبل العتق ، في الشريعة الإسلامية ، يلحظ أن من مقاصد الإسلام ، هو إنهاء جميع حالات الرق ، بشرط تحقق صلاح أمور العباد ، وتحقيق مبدأ العدالة الإلهية ( العدالة الكونية ، العدالة الشرعية ) ، وقد ذكر القرآن الكريم آيات صريحة الدلالة ، ظاهرة المعنى ، مبينتاً هذا المقصد الإسلامي النبيل ، قال الله تعالى :( وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (37 ) . أي أنه سيأتي اليوم الذي لا تجد فيه رقاباً للعتق ، وحالات الرقاب هذه ، هي الحالة التي جاءت على نهج الطريقة الإسلامية الصحيحة، التي ذكرها القرآن الكريم ، وبينتها تعاليم ديننا الإسلامي ، وسار على نهجها الرسول صل الله عليه وسلم ،وصحابته أجمعين ،والتابعين ، ومن سار على نهجهم ، الذين نقل لنا التاريخ ، طريقتهم الصحيحة التي ساروا عليها ، عند تعاملهم مع ظاهر العبيد والجواري، التي تنبأ عن حسن إدراكهم لمراد الحكمة الإلهية من سلب الحرية ، وحسن استيعابهم لمفهوم الرق والاستعباد ، وليس على ما وجد متأخراً ، و يوجد حالياً في بلاد ومجتمعات المسلمين ، الذين مارسوا هذه الظاهرة ،على أساس من الفهم والتصور الخاطئ ، الذي اعتبروه واقع الشريعة ، بينما هو مخالفة شرعية صريحة ، وإخلال لمبدأ العدالة الإلهية ، ونوع من أنواع الاستغلال البشري ، الذي لا يمت إلى الإسلام بأي صلة ، وهذا ما لا يجوز شرعاً ، و يوجب تشويه سمعة الإسلام والمسلمين ، والبعد عن الهدف الإسلامي النبيل . وكان على المسلمين المتأخرين ،أن يتمسكوا بالطريقة التي شرعها الله ، وأمر بها نبيه محمد صل الله عليه وسلم ، ولكن مما يؤسف له ،أنهم لم يستوعبوا المعنى الحقيقي ، لمفهوم الرق والاستعباد في الإسلام ، ولم يوفقوا لذلك ، وواضح أن ما نص عليه الإسلام ، وسار عليه محمد صل الله عليه وسلم شيء ، وأن ممارساتهم التاريخية لهذه الظاهرة شيء آخر . الباحث والكاتب الإسلامي
إبراهيم المراغين السبيعي
قضية العبد الأبيض .. والحر الأسود .. ضعف الطالب والمطلوب .. إن المنهج الصحيح هو عرض حقائق الإسلام ابتداءً لتوضيحها للناس، لا رداً على شبهة ، ولا إجابة على تساؤل في نفوسهم نحو صلاحيته أو إمكانية تطبيقه في العصر الحاضر، وإنما من أجل " البيان " الواجب على الكتّاب والعلماء لكل جيل من أجيال المسلمين ، ثم لا بأس - في أثناء عرض هذه الحقائق - من الوقوف عند بعض النقاط التي يساء فهمها أو يساء تأويلها من قبل الأعداء أو الأصدقاء على حد سواء . ومن النقاط التي وجب الوقوف عليها هي أحداث هذه القصة . فمنذ ما يقارب الأربعين عام ، حدثت واقعة قتل ، أقد فيها رجلاً أسود البشرة ، على قتل آخر ابيض البشرة ، وذلك اثر نزاع نشب بينهما . وعندما أراد القضاء تنفيذ حكم الله ، الذي أوجبه الشرع الإسلامي ، وهو القصاص ، أحتج ذوي المقتول على ذلك ، بحجة أن قتيلهم هو حر أبيض ، وأن مرتكب جريمة القتل ، على حد زعمهم ، هو عبد أسود ،وقد طلبوا غير حكم الله ، مستندين في ذلك إلى الآية الكريمة : ( يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاص فِي الْقَتْلَى الْحُرّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْد بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى...) (38 ) . وقد أثرت تلك القضية ، وخصوصاً الآية الكريمة ،على نفسيات الكثيرين ، سواءً على ذوي القاتل ، الذين رضخوا لطلب ذوي الدم ، بل وامتد ذلك التأثير ، إلى المحيطين بهم في المجتمع ،فضلاً عن إثارة تلك القضية ، نوعاً من اللغط الفقهي في وسط القضاء. ولكن القضاء أبا إلا أن ينفذ حكم الله ،وما أمرت به الشريعة الإسلامية . وعندما أعاد القضاء النظر ، وحقق في أحداث وملابسات القضية وبنوع من التمييز ، وذلك بالرجوع إلى أدق التفاصيل، اتضح أن المقتول الأبيض أصله مولى ، من أحفاد العبيد العتقاء من ذوي البشرة البيضاء ،الموالي العتقاء ، من بلاد الشرق ، الذين جلبهم الفاتحون معهم إلى الجزيرة العربية ، وأن من نعتوه بالعبد ، لسواد لون بشرته ، هو من المهاجرين الأحرار الذين قدموا أيضاً إلى الجزيرة العربية لطلب المعيشة ، ولا توجد له علاقة بالرق.. ضعف الطالب والمطلوب.. والمسألة على غرابتها ليست غريبة حين ينظر إليها على ضوء الحقائق النفسية ، فالحياة عادة ، والملابسات التي يصنعها الإنسان ، سلباً كانت أو إيجاباً ، ثم يعيش فيها ،هي التي تكيف مشاعره ،وتصوغ أحاسيسه وأجهزته النفسية . فبعد أن سعى أعداء الأمة الإسلامية ، إلى تسويق الفكر اليهودي المنحرف ، لغرسه في عقول البشرية عامتاً (القصة المحرفة للنبي نوح عليه السلام وأبنائه ، التي وردت في كتب وأسفار بني إسرائيل ، سبق الإشارة إليها )، وتكريسه في الأذهان ، لإقناع جهال الأمم وأتباع الديانات الأخرى به ، وللأسف فقد نجحوا في تحقيق ذلك ، ومرروه على الكثير من الجهله ، بما فيهم جهال المسلمين ، الذين وصلوا لأبعد درجات الاقتناع به فكرياً ، وأفضل المستويات من حيث تطبيقه عملياً . ثم استلمت بعض المجتمعات الإسلامية زمام المبادرة ، وسعت إلى صناعة الكثير من الملابسات السلبية ، ومن إحدى تلك الملابسات ، هي فرز طيف من الطبقات ذات التباين الطبقي الصارخ ، بين أفراد مجتمعاتهم ، هذا التباين الذي كان نتاجاً لذلك التصور العقلي المحض ، الذي يوصي أتباعه ، بأن جميع أصحاب البشرة البيضاء هم السادة ، حتى وإن كانوا من أحفاد العبيد البيض العتقاء من العجم ، وأن غيرهم من ذوي البشرة السوداء هم العبيد ، حتى وإن كانوا من العرب أو الأحرار الذين قدموا للرزق وطلب المعيشة . الأمر الذي أثر في الكيان النفسي للأفراد المنتميين لتلك الطبقات ، سواءً لأتباع الطبقة التي منحت أفرادها جهلاً صفة الأحرار ، أو لأتباع الطبقة الأخرى و التي منحت هي الأخرى أتباعها والمنتمين إليها جهلاً صفة العبيد . ومع مرور الزمن نشأ بما يعرف في علم النفس " التكيف النفسي " ، وهو تكيف ناشئ في أصله من الملابسات الخارجية بطبيعة الحال ، التي صنعها لنفسه ابتداءً ذلك الإنسان، ولكنه استقل عنها، وأصبح شيئاً قائماً بذاته ،كفرع الشجرة الذي يتدلى إلى الأرض، ثم مد جذوراً خاصة به ، واستقل عن الأصل . ثم أصبح من الصعوبة أن يتغير ذلك التكيف النفسي ،وذلك لنمو أجهزة الطاعة إلى أقصى حد ، في نفسيات أتباع الطبقة التي منحت أتباعها صفة العبيد ،نتيجة لجهلها ، ولعدم إدراكها بأمور دينها ، ثم رضيت بذلك الإذلال ،وآمنت به ، دون توفر أي دليل أو مستند شرعي صحيح، وهذا ما أوصل ذوي القاتل إلى قبول ردت فعل ذوي المقتول ، وتقديم حكمهم على حكم الله ، وكذلك هو حال الطبقة التي منحت أتباعها صفة الأحرار ،وانتفخوا لأجل ذلك ،إلى أن وصلوا إلى درجة عالية من الانتفاخ الوهمي الكاذب ، والذي ما هم ببالغيه ، إلا إذا عاد ذلك الفرد أو ذلك المجتمع ، إلى الفهم الصحيح لسلطان الشريعة، فضلاً عن فهم القرآن ،على الأساس الذي كانت تفهمه عليه العرب في زمن نزوله ، وذلك من حيث فهم الألفاظ اللغوية ، والعبارات الأدبية . لضمان تغير تلك الأنفس والعقول من الداخل، بوضع ملابسات جديدة أساسها القرآن الكريم ، ومصدرها الشارع الإسلامي الصحيح ، لتتكيف المشاعر على النحو الصحيح، ولتنموا من جديد الأجهزة الضامرة في تلك الأنفس ، لتصنع كياناً بشرياً سوياً ، بدلاً من ذلك الكيان المشوه الممسوخ . وذلك ما صنعته روح الشريعة الإسلامية الصحيحة في أحداث هذه القصة . الباحث والكاتب الإسلامي
إبراهيم المراغين السبيعي
فهم نصوص الأحاديث والقرآن على غير أساسها .. هي ما جعلت فقيه الجهل.. يأتي بدواهي لم يأتي قبله أحداً بها ..
إن الدافع من وراء ذكر هذه القصة هو الصدمة والذهول ، عند اكتشافي لأحد معلمي أبناء المسلمين للتربية الدينية والشرعية ، قضى ما يزيد عن 30 عاماً ( أكثر من ربع قرن )، معلماً ومفسراً ، بعضاً من آيات كتاب الله الكريم، وأحاديث رسوله محمد صل الله عليه وسلم ، ذات العلاقة بموضوع الرق والاستعباد ، لأبناء المسلمين ،على غير حقيقتها القرآنية ، بطريقة لا تجد أمامها من تفسير مريح ومثير وجذاب ، إلا ذلك التفسير المنحرف ،الذي يجد هواً عظيماً في عقول الجهله ، الذين يحاولون جعل الرق والاستعباد والبشرة السوداء في إطار واحد ، ظناً منهم أن هذا الصنيع، يكسب عملهم القوة ،التي ينفذون بها ،إلى قلوب من حولهم ،غير متقين الله فيما يفعلونه .
لذلك أحببت أن أروي قصة هذه الآيات والأحاديث ، من منظور ومفهوم صاحبها ، ثم من منظور ومفهوم مضامين نصوص القرآن الكريم ، التي كانت تفهمه عليه العرب وقت نزوله ، لعلي أبين لهؤلاء الناس ، مدى بعدهم عن الحقيقة القرآنية ، والتي قد تدفعهم وغيرهم من المسلمين في الوقت ذاته، إلى أن يسلكوا هذا السبيل ، لتفسر ، وفهم آيات القرآن الكريم ، ، والأحاديث النبوية بطريقة صحيحة .
فعندما نزل القرآن الكريم على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ، كان معظم المسلمين في ذلك الزمن وعلى رأسهم العرب سريعاً ما يدركون حقائقه ومضامينه ، و تعود الأسباب في ذلك ، إلى نزول القرآن بلسان عربي ، الأمر الذي سهل عليهم سرعة معرفتهم لمفاهيمه اللفظية واللغوية ، وهي منحه ربانيه تفضل بها الله سبحانه على العرب ، وليست تفضيلاً بشرياً لهم كما يضن البعض .
ومن أحد الصور التي سجلها القرآن الكريم للظواهر الاجتماعية في المجتمع الإسلامي ، صورة العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان ،بحيث يكون فيها أحدهما تابعاً ، والآخر متبوعاً . وقد كشف عن الأدوات الخاصة بالتقييم بينهم ، وهي التقى، و العمل الصالح ،الذي يصلح به حال الفرد ،وحال المجتمع ، العمل الذي يقوم به الغني والفقير ، العبد والسيد ، الذكر والأنثى . وسلك القرآن في سبيل ذلك أسلوب الحوار ، الذي يكشف عن حقيقة الموقف ، من حيث أن السادة لا يمتازون عن الأتباع في شيء ، لا من حيث اللون ،ولا الجنس ،ولا العرق ، كذلك لم يحدد القرآن الكريم لوناً ، أو أجناساً ، أو عرقاً بشرياً ،تقوم على أساسه طبقة السادة، و آخر تقوم عليه طبقة العبيد والجواري .
لكن بطل هذه القصة معلم الصبيان عبد الرحمن "الفقيه الجاهل " ، استنبط من القرآن الكريم ،ومن الأحاديث النبوية الشريفة ، ما يحدد ألوان وأجناس البشر ، التي تبنى على أساسهم علاقة التبعية " السادة والعبيد " ، بمفهوم يصادم صريح القرآن والسنة المستفيضة ، فقد ذهب بالقول والاعتقاد ، إلى أن نصوص القرآن قد قررت ذلك في قول الله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى) ، وفسرها على أساس من الهوى ، والفقه العجيب ،المبني على مفهوم غير مراد الآية القرآنية الكريمة، لقصور في فهمه ، بصوره تبدوا أمام طلابه، وكأنما هي الحقيقة التي لا ريب فيها ، فقد بين لهم أن المقصود بالحر في هذه الآية هو الإنسان الأبيض البشرة ، وأن المعني بالعبد هو الإنسان الأسود البشرة ، بل وذهب جهله إلى منتهاه ، عندما أخبرهم ، بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ، قد أخبر المسلمين بذالك صراحتاً، وأن الله سبحانه وتعالى قد خلق فريقاً من الناس للعبودية ، وهم أهل الحبشة على حد زعمه ، مستنداً في ذلك على حديث رسول الله صل الله عليه وسلم الذي قال فيه : )اسمعوا وأطيعوا ولو تأمَّر عليكم عبد حبشي) (39 ) ، قاصداً بسبب جهله أن كل أهل الحبشة عبيد ولو جئنا لتفسير الآية تفسيراً صحيحاً ، لوجدنا أن سبب نزول الآية ، أن قبيلتين من العرب اقتتلتا، فقالت إحداهما: نقتل بعبدنا فلان ابن فلان، وبأمتنا فلانة بنت فلان ، تطاولا منهم عليهم، وزعماً أن العبد منهم بمنزلة الحر من أولئك، وان أنثاهم أيضاً بمنزلة الرجل من الآخرين، تطاولًا عليهم، وإظهارا لشرفهم عليهم.
وأظهر الأقوال في هذه الآية، أن المراد بالقصاص المكتوب هنا ، أن لا يتجاوز ولي القتيل في الاستيفاء ،فيقتل بالعبد المقتول ،أبيض كان ،أو أحمر، أو أسود ، حراً أبيض كان أو أحمر أو أسود ،غير جانٍ ولا قاتل ظلماً وعدواناً. المهم أن يكون أساس استعباد والاسترقاق ، مبني على أصل شرعي كما وضحنه آنفاً ، وهو الأسر في حرب دينية مشروعة.
والحر سواءاً كان أبيض أو أحمر أو أسود ، عربياً كان أو أعجميا إذا قتل حراً ، أبيض كان أو أحمر أو أسود, عربياً كان أو أعجميا فدم القاتل كفء لدم القتيل , والقصاص منه دون غيره من الناس , ولا يجوز أن يتجاوز بالقتل إلى غيره ممن لم يقتل ،فإنه حرام أن يقتل بالقتيل غير قاتله ،والفرض الذي فرضه الله على المسلمين في القصاص هو ترك المجاوزة بِالقصاص من قتل القاتل بقتيله إلى غيره
فإن قال قائل : إن الله تعالى ذكره قال : ( كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) ، فما لنا أن نقتص للحر إلا من الحر , ولا للأنثى إلا من الأنثى ؟ ! نقول : بل لنا أن نقتص للحر من العبد وللأنثى من الذكر , بقول الله تعالى: ( وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) (40 ). وبالنقل المستفيض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " المسلمون تتكافأ دماؤهم... " (41 ) .
أما عن حديث شيخنا الفاضل "الفقيه الجاهل " معلم الصبيان : )اسمعوا وأطيعوا ولو تأمَّر عليكم عبد حبشي) ، والذي فسره بفقه عجيب ، بأن جعل جميع أهل الحبشة عبيداً ، وأن الله قد أختارهم واصطفاهم من سائر الخلق البشري ، وكتب عليهم العبودية الأبدية ، إلى آخر ما ذهب إليه فقيهنا . فإذا أردنا أن نضع المسألة على حقيقتها .. وذلك بالعودة إلى مصادر التفسير الصحيحة ، ووجهنا السؤال إلى أهل العلم الثقات : هل هذا هو المعنى الحقيقي الذي تضمنه الحديث ، وقصده رسولنا محمد صل الله عليه وسلم ؟! لعلنا نجد بعد الرجوع إلى المصادر ، وأقوال المفسرين من أهل العلم ، أن المراد من مضمون الحديث هو تغليب السمع والطاعة ، للحاكم المسلم ، عربياً كان أو أعجميا ، أبيض كان أو أحمر أو أسود ، وذلك بوجوب طاعته في غير معصية الله ، حتى وإن لم تتوفر فيه شروط الإمام وكان عبداً حبشياً ، ومعنى عبداً حبشياً : أي كان رقيقاً ، وأصله من أرض الحبشة، وحل عليه العجز الحكمي بسبب كفره ، وأساس مصدره ،هو من أسرى الحروب الدينية المشروعة ، ثم دخل في الإسلام ، وأصبح من أتباعه. أما جميع من يقطن أرض الحبشة ، فهم أحرار ، والأصل فيهم الحرية ، كما أن الحديث لم يشر إليهم إطلاقاً ، أو يذكر بأنهم عبيد ، وحاشا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، إلى مثل هذه الموازين.
وقد ذهب هذا الفقيه بالقول أيضاً ،بأن العرب لا يرضون بإمارة أسود البشرة لأنه عبد ، لكون أهل الحبشة جميعهم عبيد ، واستشهادهم بالحديث : )اسمعوا وأطيعوا ولو تأمَّر عليكم عبد حبشي) . فلعنا ندرك من خلال ما بيناه ، أنه أساء فهم وتفسير ما عمد عليه ، من بعض الآيات والأحاديث ، لأنه قد يكون الأصل في هذا الأسود هو الحرية ، ويكون لون بشرته مستمداً عن طريق الأمهات من خلال زيجة أو نحوها .
و لا نحتاج أن نقول شيئاً حول هذا أكثر مما قاله الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : في شرح الرياض : وإن تأمر عليكم عبد حبشي سواء كانت إمرته عامة كالرئيس الأعلى في الدولة أو خاصة كأمير بلدة أو أمير قبيلة وما أشبه ذلك وقد أخطأ من ظن أن قوله وإن تأمر عليكم عبد حبشي أن المراد بهم الأمراء الذين دون الولي الأعظم الذي يسميه الفقهاء الإمام الأعظم ؛ لأن الإمارة في الشرع تشمل الإمارة العظمى وهى الإمامة وما دونها كإمارة البلدان والمقاطعات والقبائل، وما أشبه ذلك . ودليل هذا أن المسلمين منذ تولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانوا يسمون الخليفة أمير المؤمنين فيجعلونه أميرا وهذا لا شك فيه ثم يسمى أيضا إماما لأن السلطان الأعظم ويسمى سلطانا لكن الذي عليه الصحابة أنهم يسمونه أمير المؤمنين وقوله وإن تأمر عليكم عبد حبشي يعني حتى ولو لم يكن من العرب لو كان من الحبشة وتولى وجعل الله له السلطة فإن الواجب السمع والطاعة له لأنه صار أميرا ولو قلنا بعدم السمع والطاعة له لأصبح الناس فوضى كل يعتدي على الآخر وكل يضيع حقوق الآخرين وقوله: السمع والطاعة هذا الإطلاق مقيد بما قيده به النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال إنما الطاعة في المعروف ثلاث مرات يعني فيما يقره الشرع وأما ما ينكره الشرع فلا طاعة لأحد فيه حتى لو كان الأب أو الأم أو الأمير العام أو الخاص فإنه لا طاعة له فمثلا لو أمر ولي الأمر بأن لا يصلي الجنود قلنا لا سمع ولا طاعة لأن الصلاة فريضة فرضها الله على العباد وعليك أنت أيضا أنت أول من يصلي وأنت أول من تفرض عليه الصلاة فلا سمع ولا طاعة لو أمرهم بشيء محرم كحلق اللحى مثلا قلنا لا سمع ولا طاعة نحن لا نطيعك نحن نطيع النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال أعفوا اللحى وحفوا الشوارب وهكذا كل ما أمر به ولي الأمر إذا كان معصية لله فإنه لا سمع له ولا طاعة يجب أن يعصى علنا ولا يهتم به لأن من عصى الله وأمر العباد بمعصية الله فإنه لا حق له في السمع والطاعة لكن يجب أن يطاع في غير هذا يعني ليس معنى ذلك أنه إذا أمر بمعصية تسقط طاعته مطلقا لا إنما تسقط طاعته في هذا الأمر المعين الذي هو معصية لله أما ما سوى ذلك فإنه تجب طاعته وقد ظن بعض الناس أنها لا تجب طاعة ولي الأمر إلا فيما أمر الله به وهذا خطأ لأن ما أمر الله به فإنه يجب علينا أن ننفذه ونفعله سواء أمرنا به ولي الأمر أم لا فالأحوال ثلاثة إما أن يكون ما أمر به ولي الأمر مأمورا به شرعا كما لو أمر بالصلاة مع الجماعة مثلا فهذا يجب امتثاله لأمر الله ورسوله ولأمر ولي الأمر وإما أن يأمر ولي الأمر بمعصية الله من ترك واجب أو فعل محرم فهذا لا طاعة له ولا سمع وإما أن يأمر الناس بما ليس فيه أمر شرعي ولا معصية شرعية فهذا تجب طاعته فيه لأن الله تبارك وتعالى قال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) (42 ) ، فطاعة ولي الأمر من غير معصية طاعة لله ولرسوله والله الموفق .
وقال في الشرح الممتع : الإمام : هو ولي الأمر الأعلى في الدولة، ولا يشترط أن يكون إماماً عامّاً للمسلمين؛ لأن الإمامة العامة انقرضت من أزمنة متطاولة، والنبي صلّى الله عليه وسلّم قال: (اسمعوا وأطيعوا ولو تأمَّر عليكم عبد حبشي) ، فإذا تأمر إنسان على جهةٍ ما، صار بمنزلة الإمام العام، وصار قوله نافذاً، وأمره مطاعاً، ومن عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ والأمة الإسلامية بدأت تتفرق، فابن الزبير في الحجاز، وبنو مروان في الشام، والمختار بن أبي عبيد وغيره في العراق، فتفرقت الأمة، وما زال أئمة الإسلام يدينون بالولاء والطاعة لمن تأمر على ناحيتهم، وإن لم تكن له الخلافة العامة . كما لو استعرضنا أحوال الموالي ( العبيد العتقاء ) عبر ذاكرة التاريخ الإسلامي ، وبحثنا في أحوالهم ، فإننا نجد أن كثيراً منهم ، قد تبوئوا العديد من المناصب ، و الولايات على بعض نواحي الدولة الإسلامية، سواءً داخل أقاليم الجزيرة العربية ، أو خارجها ، وقد كان من هؤلاء الموالى ، الأبيض والأسود والأحمر ، الذين صلح حالهم ،وعظم شأنهم في الإسلام ، ثم أصبحوا من القادة ،والسلاطين ، والفاتحين ، الذين عرفتهم الدولة الإسلامية ، و لا تزال أسمائهم براقتاً إلى هذا العصر . فهذا سبكتكين من أصول تركية
الذي أسس دولة تحمل اسمه من بعده، وهو من العبيد العتقاء من موالي التيكين ، وكان التيكين من موالي بني سامان ، أصحاب الدولة السامانية ، فلما صلح حاله ، رفعه الإسلام ، ثم تحول عام ( 977 – 997م ) من مولى ، إلى ملك ملوك غزنة ،وما ورثوه من الملك، بعراق العجم، وبلاد الترك و خراسان وما وراء النهر ،عن أسيادهم بني سامان، وما فتحوه من بلاد الهند . وكذلك أبنه محمود بن سبكتكين ) 998 -1030م)
الذي خلفه ، ثم أصبح من كبار القادة والفاتحين الذين عرفتهم دولة الإسلام ، وهو الذي حارب البويهيين ومذهبهم الشيعي ، و لقب بسيف الدولة ،ثم بناصر الدولة ص1680 ابن خلدون
وأيضاً بنو طرف عبيد بني مخزوم ، من بلاد المشرق الإسلامي ( بلاد ما وراء النهر، والترك ، الباكستان ، و خرسان ، والهند ، وغيرها..) ، الذين ولوا بعض أطراف اليمن، من جنوب الجزيرة العربية ، أو ما يعرف بمخلاف عثر ، وذلك طبقاً لما يذكره ابن حزم ( 356هـ ) الذي يقرر هذه الحقيقة بقوله" وبنو طرف الذين ولوا بعض جهات اليمن ،هم موالي عيسى بن محمد والد أبي المغيرة المخزومي (43 ). وذلك بعد أن تزوج أحد سادة بني مخزوم ، وهو عيسى بن محمد بن المغيرة المخزومي - ، من ابنت ( صورة (1))
طرف المخزومي - مولى بني مخزوم - ( صورة (2))
وذلك بحسب ما ذكره ابن حزم ، بقوله : ( وكان طرف ، مولى عيسى ، وجد أبي المغيرة ، وابنه الحسن بن طرف خال أبي المغيرة ) (44 ).
ثم تمكنوا في زمن الدولة العباسية ، من تحقيق قدراً سياسياً ملحوظاً من الاستقلال ،عن ولاة مكة المكرمة ، الأمر الذي خولهم إلى سك أسمائهم جنباً إلى جنب مع الخلفاء العباسيين ، وهو تقليد لا يخلو إلا لكبار الولاة في الولايات الرئيسية ، وليس في الأقاليم الصغيرة التابعة لتلك الولايات .
هذا وهناك العديد والعديد من الموالي الذين احتفظت ذاكرة التاريخ بأسمائهم ، وبطولاتهم وإنجازاتهم ،على مسرح مناصب وولايات الدولة الإسلامية ، ولكن أكتفي بهذا القدر منهم .
وأخيراً فإننا نجد أن نصوص القرآن الكريم ، والأحاديث النبوية الشريفة ،جميعها جاءت بخطاب رباني ،في صورة سلسلة من النصوص الأدبية البليغة ،والألفاظ اللغوية، والمفاهيم القرآنية، التي لا يدرك مفهومها الصحيح إلا العالم بمضامينها ،التي لا يأتيها الباطل ،ولا يمكن أن تتخللها فوضى ، إنما الفوضى قد تنبع من العقول التي تقفز إلى الاستنتاجات قفزا ، دون تقصي الأسباب التي تؤدي إلى مسبباتها .
الباحث والكاتب الإسلامي
إبراهيم المراغين السبيعي
الجواري والإماء في عصر صدر الإسلام وما استتبعه من عصور إسلامية في زمن بني أمية وبني العباس ومن بعدهم .
يعتقد البعض أن القصد من التعبير المجازي لكلمة " جارية " هو المرأة السوداء أو السمراء ، لدرجة قيام السذج بحصر هذا اللفظ لهذا المدلول ، وهذا محض الجهل اللفظي واللغوي ، وأساس التخلف الثقافي ، الذي لفظه كتاب الله العزيز وسنة رسوله المطهرة في الألفاظ العقدية، والذي لم تألفه أيضاً العرب في مدلولاتهم اللغوية ، ومناتهم اللفظية ، وقد يعود سبب ذلك ، لما ألفوه من مفهوم دلالي خاطئ ، الذي طوعه الجهل المركب ،الذي واكب زمن ظهور تلك المرحلة من تاريخ الإنسانية وما وقع فيها من مخالفات شرعية وإنسانية ، على حد سواء.
فما هو معنى الجارية لغة وشرعاً إذن ؟ وعلى من يطلق ؟ وما نصيبه من الذكر في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؟ وما نصيبه من الذكر في لغة العرب وفي موريثهم التاريخي والثقافي ؟
من المعلوم أن الله سبحانه وتعالى أرشد عباده إلى خير الألفاظ والأقوال ، ونهاهم عن سيئ الخصال والفعال ، ولذلك حفل القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة بالكثير من الأوامر والنواهي القوليه والفعلية ، في ظل تعاليم الدين الإسلامي الجديد ، الذي جاء بمفاهيم جديدة في العبادات والمعاملات والقيم والتعاليم ، مما لم يألفه العرب في جاهليتهم من ألفاظ عقدية ، ومدلولات لغوية ، وتوجيهات شرعية . أو مما ألفوه من حيث المفهوم الدلالي الذي طوعه الدين الإسلامي ، ليتماشى ويساير إشراقه محمد صلى الله عليه وسلم على عالم الإنسانية ، الذي غير كثيراً من القيم الفكرية ، والعادات النطقية ، والألفاظ اللغوية .
وقد كان لتلك المتغيرات الفكرية واللغوية ، أثر كبير في مفردات اللغة العربية ، لأن اللغة هي وعاء الفكر ، وهي أداة للتعبير عن ظاهر اللفظ من كلام الله ، وتفسير معاني الألفاظ التي نطق بها القرآن الكريم ، أو وردت في الحديث النبوي الشريف . وقد كان لذلك الأمر أثر كبير في وظيفة الكلمة وما صاحبها من تطوّر في الآراء والأفكار الإسلامية، حتى أصبح من المتعذر فصل اللغة العربية عن علوم الإسلام.
تعريف مصطلح " جارية "
معنى اسم جارية : تأتي كلمة جارة لمعاني كثيرة منها : الجارية تأتي بمعنى : السفينة ، والجوار والجاريات جمع جارية، ومعناها السفن ، قال تعالى : ( إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ) (45 ) ، أيضاً قوله تعالى : ( وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ ( (46 ) .
والجارية تأتي بمعنى الأنهار لجريانها ، قال تعالى : ( فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ) (47 ).
والجارية: تأتي بمعنى الفتية من النساء ، ومنها تكون الجارية وهي الأمة المملوكة بملك اليمين ، والتي يكون أساس مصدرها هو الأسر في حرب مشروعة ضد الكفار . وما جويرية الا جارية صغيرة .
والجارية: تأتي بمعنى الجوري ، ينطق الاسم بياء مشددة جويرية حين ينسبونها إلى الجوري، وهو الورد الأحمر فيقولون: جورية كما ينطقون حورية وقد يصغرونها فيقولون: جويرية، وجور مدينة فيروزاباذ واليها ينسب الورد فيقال: جورى والوردة: جورية.
والجارية تأتي بمعنى الشمس.
والجارية تأتي بمعنى الريح.
وما يجب تعريفه هنا هو الجارية : الأمة المملوكة بملك اليمين ، والجواري والإماء كلاهما مرادفات لما معناه السبايا المأسورات في الحروب المشروعة ضد الكفار ، ففي قديم العهد عندما تكون هناك معركة وينتصر فيها المسلمين يكون من بين أسرى العدو الكافر سبايا من النساء .
معنى السبي لغة : يقال سبيت النساء سبياً وسباء ، ووقع عليهن السباء ، وهذه سبية فلان : للجارية المسبية ، وتقول خرجت السرايا فجاءت السبايا والسبي ما يسبى والجمع سبى ، والنساء لأنهن يسبين القلوب ، يسبين فيملكن ، ولا يقال ذلك للرجال ، لأن الغالب تخصيص الأسر بالرجال والسبي بالنساء ، والجمع سبايا .
معنى السبي اصطلاحاً : هو لا يكاد يخرج عن التعريف اللغوي السابق ، وكذلك في التفريق بين السبايا والأسرى ، فالسبايا هم الصبيان والنساء الذين ظفر المسلمون بأسرهم أحياء ، والأسرى هم الرجال والمقاتلون إذا ظفر المسلمون بأسرهم أحياء كذلك .
وأساس نشأة السبي وجود النساء والصبيان في ميدان القتال ، ووقوع الأسر على الجميع ، ومن هنا أيضاً تساق النساء أسيرات ، فيصرن بعد القسمة في أيدي المحاربين ، ولما كان الشأن الغالب أن يقتل بعض أزواجهن ، ويفر بعضهم الآخر حتى لا يعودوا إلى بلاد المسلمين ، كان من الواجب على المسلمين كفالة هؤلاء السبايا ، بالإنفاق عليهن، ومنعهن من الفسق ، لأن من المصلحة لهن وللبيئة الاجتماعية ،أن يكون لكل واحدة منهن - أو أكثر - كافل يكفيها هم الرزق .
كما أن الإسلام ما فرض السبي ولا أوجبه ولا حرمه أيضاً ، وإنما أباحه لأنه قد يكون فيه المصلحة حتى للسبايا أنفسهن ، ومنها أن تستأصل الحرب جميع الرجال من قبيلة محدودة العدد مثلاً ، فإن رأى إمام المسلمون الكفء ، أن الخير والمصلحة في بعض الأحوال أن ترد السبايا إلى قومهن جاز لهم ذلك ، أو وجب عملاً بقاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد ، وكل هذا إذا كانت الحرب دينيه ، فإن كانت الحرب لمطامع الدنيا وحظوظ الملك ، فلا يباح فيها السبي.
و من الملاحظات الجديرة بالرصد ، أنه على الرغم من كثرة الغزوات التي وقعت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما كان يمكن أن يستتبعها من أسر وسبي ، إلا أنه لم يكن له صلى الله عليه وسلم من السراري إلا أربع . ويعود السبب في ذلك ، لصلابة الإيمان ، وصلاح الأخلاق ، وشدة الرقابة على السلوك ، تلك الرقابة التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بمبادئ التشريع الرباني . ولذلك فقد نجح معلم البشرية محمد صلى الله عليه وسلم ، في تحقيق الغرض الذي كانت ترمي إليه الشريعة الإسلامية الصحيحة ، لنتعلم منه نحن أتباع ديانته صلى الله عليه وسلم . قال أبو عبيدة : كان للنبي أربع : مارية (48 ) ، وهي أم ولده إبراهيم ، وريحانة (49 ) ، وجارية أخرى أصابها في بعض السبي ، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش (50 ) .
و من الملاحظات الجديرة أيضاً ،في ذلك الزمن ، هو أن السبيه لم تكن تستباح لكل الرجال ، وإنما هي لرجل واحد تشبه علاقته بها علاقته بزوجته ، وفي هذا أيضاً احترام لآدميتها وتكريم لمشاعرها .
ولكن بعد موته صلى الله عليه وسلم ، و بانقضاء زمنه ، و زمن الطبقة الأولى من الخلفاء الراشدين و الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين ،ومن معهم من المسلمين ، فقد قام على من أتى من بعدهم صراع بين الدين والدنيا ، وتحول بعض الخلفاء والحكام والأغنياء من المسلمون ،بدئاً بعهد بني أموية وبني العباس ، إلى حياة جديدة .
فبإشراق أسارير الدنيا عليهم ، ولتمكنهم من أطايبها بما نالوا من ثراء عريض ، فقد اقبلوا عليها إقبال عاشق غاب رقيبه، يشبعون نهمهم من لذاتها، وما أتاحت لهم الفتوح أن يحظوا ببنات الأعاجم ، وقد أتينهم مأسورات ، فأسرن قلوبهم بجمالهن .
فشيدوا القصور ، تحيط بها الحدائق الغناء ، وازدحمت بها الجواري والسراري ، من نساء الروم والفرس والترك ، وأسرف البعض في استعمال ذلك ، بل وتعداهم إلى حياة المجتمع والأسرة ، ولكن دون مراعاة لروح الشريعة الإسلامية ، وذلك عن طريق الشراء ، حيث لعبت النخاسة دوراً هاماً في انتشار ذلك ، في محيط المجتمع الإسلامي ، والإسلام برئ منه ، وهو مخالف لروح الشريعة بلاد جدل ، وليس من الإنصاف أن نحمل الإسلام تبعات ذلك ، و ما استتبعه من إنعكاسات سلبية ، أدت إلى تفكك كيان دولة الإسلام ، وروابط المجتمعات والأسر الإسلامية .
وإذا ذهبنا إلى العصر الأموي والعباسي ، نجد أن هناك تحولاً طرأ على نمط الحياة ، و انتقال إلى طور جديد ، أخذ فيه بعض الخلفاء ينعمون برخاء كان ممتنعاً عليهم في عهد الخلفاء الراشدين . فقد ارتفع قدر الجواري عندهم ، لدرجة أنه بلغ ولع بعض الخلفاء بهن أن شغلته عن أمور الدولة ، ولأن البعض منهم لم يكونوا قدوة صالحة ، فقد أثر ذلك سلباً على مجتمعاتهم ، وأصابها ما أصاب بعض أولئك الخلفاء من ولع ، وجاءهم الجواري بضروب من الغناء و الطرب وفنونه . ففي مكة والمدينة ظهرت أول طبقة من المغنين ، فألفوا من ألحان الفرس والروم ألحاناً جديدة .
وقد شاعت شهرة الكثيرات منهن بحديثهن الممزوج بالأدب والفكاهة والشعر ، فهذه دنانير (صورة (3))
تخرجت في المدينة ،ثم حملت إلى بغداد ،وأخذت عن ابن جامع، واشتراها يحيى بن خالد البرمكي ، واسمع الرشيد غناها ، فاشتد إعجابه بها ووهبها عقداً قيمته ثلاثون ألف دينار ، وبعد قتل الرشيد البرامكة دعاها إليه وأمرها أن تغني ، فقالت له يا أمير المؤمنين ، أني آليت أن لا أغني بعد سيدي أبدا ، فغضب وأمر بصفعها فصفعت ، وأعطيت العود فأخذته وهي تبكي أحر بكاء ، واندفعت تغني : يا دار سلمى بسارح السند .. بين الثنايا ومسقط اللبد .. لم رأيت الديار قد درست .. أيقنت أن النعيم لم يعد .. فرق لها الرشيد وأمر بإطلاقها .
وهذه عنان (صورة (4))
جارية للناطفي ينشدها شاعر فيقول : وما زال يشكو الحب حتى رأيته .. تنفس في أحشائه وتكلما ويطلب إليها الشاعر أن تجيزه ، فأجازته قائله : ويبكي فأبكي رحمة لبكائه .. إذا ما بكى دمعا بكيت له دما
وهاتان جاريتان من مولدات اليمامة (صورة (5))
يعرضان على المتوكل بحضوره وزيره الفتح بن خاقان ، فنظر إليهما وقال إلى أجملهما : ما أسمك ؟ قالت : سهاد ، فقال لها : أنت شاعرة ؟ قالت : هكذا يزعم مالكي ، قال : فقولي في مجلسنا هذا شعراً ترتجلينه وتذكرينني فيه ، وتذكرين الفتح بن خاقان ، فتوقفت هنية ثم أنشدت : أقول وقد أبصرت صورة جعفر .. امام الهدى والفتح ذي العز والفخر.. أشمس الضحى أم شبهها وجه جعفر.. وبدر السماء الفتح أم شبه البدر فقال للأخر أنشدي ، فقالت : أقول وقد أبصرت صورة جعفر.. تعالى الذي أعلاك يا سيد البشر.. وأكمل نعماه بفتح ونصحه .. فأنت لنا شمس وفتح لنا قمر فأمر بشراء الأولى ورد الأخرى ، فقالت له لم رددتني؟ قال : لأن في وجهك نمشا ، فقالت : لم يسلم الظبي على حسنه .. يوما ولا البدر الذي يوصف.. الظبي فيه خنس بين .. والبدر فيه كلف يعرف . فأمر بشراء الثانية
وكذلك عريب (صورة (6))
جارية عبد الله المراكبي ، صاحب مراكب الرشيد ، وكانت نهاية في الحسن والجمال والظرف وحسن الصورة وجودة الضرب وإتقان الصنعة والمعرفة بالأنغام والرواية للشعر والأدب .
ومنهن فضل وعلم (صورة (7))
وقد نشأت في المدينة وتعلمتا فيها الغناء وحملتا إلى الأندلس ، فاشتراهما عبد الرحمن الداخل الأموي ، وجاريته قلم الرومية ، وقد أرسلت صبية إلى المشرق ، وتعلمت في المدينة الغناء وحذقته .
ومنهن العبادية جارية المعتمد بن عباد ، وكانت أديبة ظريفة شاعرة ، وقمر جارية إبراهيم بن حجاج اللخمي صاحب أشبيلية ، وكانت من أهل الفصاحة والبيان والمعرفة بصوغ الألحان ، وقد جلبت من بغداد وجمعت أدباً وظرفاً ورواية وحفظا ، مع فهم بارع وجمال رائع .
ومن الجواري من كانت تستعمل حيلة لوصال سيدها ، تدل على فطنة وذكاء ، من ذلك أن الملك عبد العزيز بن السلطان صلاح الدين الأيوبي ، كان أحب في أيام أبيه قينة حسناء وشغف بها ،
فبلغ ذلك صلاح الدين الأيوبي فمنعه من صحبتها ، فحزن ولم يمكنه أن يجتمع بها ، ومضى على ذلك عدة أيام فسيرت إليه مع خادم كرة من العنبر ، فكسرها فوجد فيها زرا من الذهب ، فلم يفهم مرادها ، فجاء القاضي الفاضل فدفع إليه الكرة وسأله أن يعرفه ماذا تعني ، فقال القاضي في الحال : أهدت إليك العنبر في وسطه .. زر من التبر رقيق اللحام .. فالزر من العنبر تفسيره .. زر هكذا مستترا في الظلام.
ومنهن من كانت له منزلة عالية في القصور . وهذا يدل على ما كان للأثيرات من الجواري والقيان من أثر في حياة القصور (صورة (8)).
ولم يكن هذا الأثر لهوا ومجونا فحسب، بل كان إلى حد كبير مآس مفجعة. فقد كان القصر ميدانا لنزاع السلطة بين أمهات الأولاد من الجواري بتنافسهن على عهدة الخلافة لأولادهن ، وإثارة الخلاف بينهم. وقد أراد الرشيد أن يتفادى النزاع بين أولاده فقسم الدولة بين أبنائه الثلاثة: الأمين والمأمون والقاسم ، فجعل شرقها للمأمون ، وجعل غربها للقاسم ، وجعل ما بينهما للأمين وعهد إليه بالخلافة ، على أن يؤول أمرها من بعده للمأمون ثم للقاسم ، وقد فعل ذلك إرضاء لأمهاتهم ، وزعم أن ذلك حل لإزالة الخلاف بينهم. غير أن النزاع ما عتم أن قام وأتسع ، ونشبت الحرب الضروس بين الأمين وأخيه المأمون ، وكانت في واقعها حربا بين العرب الذين آزروا الأمين وببن الفرس الذين آزروا المأمون ، وكان انتصار المأمون على الأمين انتصاراً للفرس على العرب ، وكان مقتل الأمين بيد طاهر بن الحسين الفارسي ، سهما أصاب العنصر العربي في مقتله ، وكان جزاؤه أن أقطعه المأمون خراسان ، فكان ذلك بداية الانفصال السياسي الذي تتابع بعد ذلك في الدولة الإسلامية ، وفي ذلك يقول الإمام السيوطي : في دولة بني العباس افترقت كلمة الإسلام وسقط اسم العرب من الديوان وأدخل الفرس في الديوان ، واستولت الديلم ثم الأتراك وصارت لهم دولة عظيمة ، وانقسمت الممالك عدة أقسام ، وصار بكل قطر قائم يأخذ الناس بالعسف ويملكهم بالقهر . وكان من مظاهر التنازع على السلطة وتنافس أمهات الأولاد على عهدة الخلافة ، إثارة الحقد بين الإخوة ، وكيد بعضهم لبعض ، وإقدام الأخ على قتل أخيه أو على قتل أبيه .
ونتيجتاً لازدياد أعداد الجواري من نساء الروم والفرس والترك ، وانتشارهن في المجتمعات الإسلامية ، فقد أستغل ضعاف النفوس ذلك ، ما دفعهم إلى إقامة مدارس خاصة ، لأهداف وأغراض كانت دنيئة . وكان في طليعتهم مخارق وعلوية وابن سريج وابن مسجح ومعبد والفريض وطويس ،
وقد أخذ هؤلاء في تدريب الجواري الغناء والضرب على الأوتار (صورة (9))
وتعليمهن كيف يجملن أنفسهن ويسترن عيوب أجسامهن ، و يسلين الرجال بالعزف على الآلات الموسيقية (صورة (11)) ..
وقد كان منهن طبقة عرفت بالعازفات ، يستخدمن كما تستخدم المسامرات في اليابان في الليالي الحمراء يمرحن ويعزفن ويرقصن رقصاً فنيا أو خليعاً (صورة(12)).
كما يعلمهن أيضاً كيف يتصنعن الحب والدلال . ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد ، بل استمر الفساد الخلقي بأوسع مما كان عليه ، فقد كان من أولئك الجواري طبقة عرفت باسم الخليلات (صورة(15) ).
وكن يعشن مستقلات ، ويستقبلن في بيوتهن من يغوين من العشاق من فساق المسلمين ثم يبتن مع من يردن من الرجال للحصول على أكبر أجر مستطاع ، ليفسدوا عليهم دينهم ودنياهم ، ثم يشغلونهم بعد ذلك عن أسرهم وأبنائهم ، ويقبضون من ضمائرهم ، روح الأبوة الصالحة ، ويدفعونهم إلى وئد الوفاء نحو زوجاتهم ، وإهمال شئونهن وشئون أبنائهم ، ما يؤدي في نهاية المطاف ، إلى تراخي الروابط الأسرية ، ومن ثم لا قدر الله انحلال تلك الروابط ، ثم موت نواة المجتمع .
وهكذا فإننا نرى أن الولع المبالغ فيه ، في حب الجواري والقيان من نساء الروم والفرس والترك وغيرهن ، قد احتل مكان الصدارة عند بعض الخلفاء والحكام ، وغزو الحسان منهن قلوب بعض أفراد مجتمعات المسلمين، الذين أسرفوا في استعمال ذلك ، بلا ضابط شرعي ،وبلا فهم ودراية بالغاية الشرعية نحو مسألة الجواري والإماء ، فهو كما استعرضنا أن الإسلام ما فرض السبي ولا أوجبه ولا حرمه ، وإنما أباحه لأنه فيه مصلحة للسبايا أنفسهن ، تلك المصلحة التي كانت أحد مقاصد روح الشريعة الإسلامية النبيلة ، التي رمت إليها في مسألة الجواري ، وسبايا الحروب المشروعة، وذلك لضمان معالجة النتائج الحتمية التي خلفتها الحرب ،ومعالجة الآثار الإنسانية الصعبة ، للفترات الاستثنائية التي يعشنها السبايا المأسورات ، اللاتي شاركن في تلك الحرب ، ومساعدتهن على معايشة تلك المرحلة النفسية ،بعد هزيمة قومهن، وفقدان أهلهن ووطنهن. لأن مرحلة ما بعد الحروب ، أشد وطأة من الحروب ذاتها ، لترجع بعد ذلك الحالة الاجتماعية الطبيعية لهن، وبصورة كاملة، وذلك من خلال الأحكام والشروط الإسلامية المنظمة ،والمرتبطة ارتباطاً وثيقاً ،بمبادئ التشريع الرباني ، المعالجة لمسائل الرق وملك اليمين ، لا بتشريع وقوانين الجهله ، والتجاوزات التاريخية التي قام بها بعض المسلمين ، تلك التجاوزات التي أحدثت ثغرات على الدين الإسلامي ، نفذ من خلالها أعداء الإسلام ،والكتاب الذين في قلوبهم خبث ، وحقد من أبتاع الديانات الأخرى ، لمهاجمة الدين الإسلامي , وحسبوها بأنها مشكلة أوجدها الإسلام ، ومن ثم عمدوا إلى إثارة العديد من الشبهات والشكوك حوله ، ليصدوا الناس عن عبادة الله جل وعلا ، لأنهم اقتطعوا تلك الأخطاء الخطيرة والبشعة ، وصوروها على أنها واقعاً طبيعياً للمبادئ التي شرعها وجاء بها الدين الإسلامي ، تجاه قضية العبيد والجواري ، كما تعد هذه النماذج أحد الصور القاتمة الظلال ، التي رسمت خطئاً عن الإسلام ومبادئه ، وشوهت صورته ، ومن ثم باتت عالقتاً في أذهان وعقول الكثيرين ، سواءاً من أتباعه ، أو ممن لم يعرف صورته الحقيقية بعد . وللأسف فإننا اليوم وبعد كل هذا ، نسمع أصوات ، ونقرأ مقالات ، ونشاهد دعوات، لبعض كتاب العرب ، وأبناء المسلمين ، يطالبون فيها، بالعودة إلى تلك المخالفات الباطلة ، التي تعتبر في حكم الزنا، لأن التسري بالنساء اللاتي يختطفهن النخاسون ، أو يبيعهن التجار ليس من التسري الصحيح في الإسلام ، بل عصيان لله ولرسوله (51 ) .
ولو أردنا أن نورد مثلاً للأصوات الإسلامية والعربية البارزة التي تدعوا إلى ذلك ، لإيقاع الأمة الإسلامية بقصد، أو بغير قصد في وحل ذلك الانحلال ، فهو ما نلقاه اليوم ،وما نسمعه في من صوت نشاز
للداعية الإسلامي المصري عبد الرءوف عون ، وللناشطة الكويتية سلوى المطيري ، التي تطالب بسن قانون ،لامتلاك ،وشراء النساء ،والفتيات الروسيات ، اللاتي يقعن أسيرات في أيدي القوات الشيشانية ،مقابل مبلغ مالي حددته هي ، يدفع لمن أسر تلك "الجارية ، على حد زعمها ، وكما تقول هي وبالحرف الواحد في مقال نشر لها "من أجل حماية الرجال من الفساد والزنا ، و للقضاء على الدعارة " ، بل ويزداد الأمر سوءاً عندما يؤكدون أن الإسلام يجيز هذا الفعل ، فأي جهلٍ كان فيه ، وأي ثقافةٍ ضحلة يحملونها، و أي قلة أدراك ومعرفة بخطورة ما يتكلمون عنه.
ومما لا يدع مجالاً للشك ، فإن هذه الأصوات، وهذه الدعوات ،أو ما شاكلها ، من آراء بعض الكتاب ، وآراء بعض شباب المسلمين ، الذين سيطرت الشهوة الحيوانية على كامل عقولهم ، والذين أضحكوا علينا ، وعلى الأمة الإسلامية ، الأمم الأخرى ، إنما تمثل خطراً شديداً على المجتمع المسلم ، وفي حال الانجراف خلفها لا سمح الله ، لقضية خطيرة وحساسة كهذه ، من دون مرعاه لروح الشريعة الإسلامية ،ومقصدها الإنساني النبيل ، ومما لا شك فيه ، فسوف يقضى على ما تبقى من القيم الإسلامية الأصيلة ، وسيعيد العالم الإسلامي والعربي إلى " سيناريو " الزلل والخطأ ،والوقوع في دوامة ذلك الانحلال الخلقي، و الانحراف الأخلاقي ،والتفكك الأسري، والاجتماعي، الذي عاناه المسلمون منذ قرون طويلة .
الباحث والكاتب الإسلامي
إبراهيم المراغين السبيعي قانون حقوق الإنسان العالمي.. عدل إلهي ؟!.. أم قانون أممي ؟!..
العدل والقانون .. هناك نقطة يجب أن تكون واضحة في مستهل هذا الكلام وهـي أن العدل مهما كان معناه ، إلا أنه قيمة خلقية ، وهذه القيمة هي أحد الغايات التي يسعى إليها الإنسان لتحقيق حياة هنيئة .
العدل. العدل هو أساس الكون ، وأساس العمران ، وبه قوامهما ، ولا نجاح لقوم يزدرون العدل بينهم ، و مفهوم العدل أوسع من مفهوم القانون ، ويمكن أن يطبق ، حيثما وجد ، تقنين للقواعد ،سواء كان قانونيا أو غير قانوني . مثال على ذلك ، تستطيع مؤسسة أو مدرسة خاصة ، إدارة ذاتها ، بقانون يتفق مع العدل الشكلي ، سواء كانت الأحكام القانونية تطبق بدقة أم لا ، هذا من حيث المفهوم الواسع لمعنى العدل . وتأتي العدالة الشرعية بمفهوم المساواة في التعامل ، وهي عدالة نسبية تجمع العدالة القانونية والاجتماعية ، أي تحري الحق بحسب القدرة البشرية ، لتحقيق العدل بين الناس وفق أوامر الشرع .
القانون . القانون هو إحدى المؤسسات الجوهرية في حياة الإنسان الاجتماعية ، الساعية إلى تنظم كيان المجتمع ، ليتحقق تحضر العنصر البشري، وتقدمه ، وارتقائه ،في جميع الشئون الإنسانية ،الدينية، والعملية، والفكرية. كما أن القانون وسيلة ، لتحقيق الانسجام الاجتماعي ، عن طريق كبح مشاعر الشر لدى الإنسان ، وأن أي تقدم اجتماعي ، لا يمكن تحقيقه، دون وجود قانون العقوبات الزاجر ، ويعتبر العدل هو غايته القصوى ، التي يهدف إليها.
علاقة عدالة الكون الإلهي بالقانون العالمي لحقوق الإنسان والحرية البشرية
كان من الضروري علينا كبشر ،أن نبحث و نتمعن في دائرة القرار العالمي ،الذي دعا عموم البشرية ، إلى سن قوانين وأنظمة ، تصون للإنسان حريته ، وتحفظ بها حقوقه ، وتكفل حمايتها ، وعلينا لهذه الغاية ، أن نأخذ في الاعتبار، علاقة هذه القوانين والأنظمة ، بقانون العدالة الكونية الإلهية العامة ، لنعرف من الذي دعا كل هذه المجتمعات البشرية ، في صفحة الكون العريضة ،المنفصلة جغرافياً ، والمنتمية إلى أمم متعددة ، وديانات مختلفة ، وحضارات ، وثقافات متمايزة ، إلى القبول بمثل هذا النداء العالمي ، والعمل به ككل اجتماعي .
إن قانون حقوق الإنسان ، وحفظ الحريات وحمايتها دولياً ، والمعاهدة الأوربية ، والإعلان العالمي عنها، الذي أقرته الجمعية العمومية لحقوق الإنسان للأمم المتحدة عام 1948، وجميع نظم العدل ، والقوانين ، المنادية لتحقيق العدالة في الأرض ، بين سائر البشر ، بمختلف أديانهم و أجناسهم وأعراقهم وثقافاتهم، أمام ميزان العدل والإنصاف، تعتبر أحد قيم العدالة الشرعية ،المرتبطة بالعدالة الإلهية العامة، التي تدير موازنة عموم الأشياء ، ولاختصاص شرائع الدين بالمجتمع البشري ، فقد أسند أمر تنفيذها إلى الإنسان ، قال الله تعالى: ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ..) (52 ) ، لتحقيق العدل بين الناس، وفق أوامر الشرع ،وإعطاء كل ذي حق حقه، وهذه سنة الله ، طالما بقي الوجود البشري على الأرض، قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (53 ).
ولما وضعت البشرية لنفسها نظماً اجتماعية ناقصة ، يستهجنها العقل والمنطق ، والتي تحددت في ظروف يسودها الظلم والبغي، لاعتمادها على معايير، الجنس والدين والعرق ، كان الأثر السلبي بالغاً على الحياة الاجتماعية لتلك المجتمعات ، لتولد الفوضى العارمة، وحدوث المشاكل الاجتماعية ، ونشوء الأزمات التي أقلقت مجتمعاتهم ، وما ذلك إلا نتيجة ، لتعارض معايير تلك النظم والقوانين ، مع معايير النظم والقوانين الإلهية ، ما أفقدها القدرة على إيجاد التفسيرات الحقيقية ، للأسباب التي أدت إلى حدوث تلك المشاكل والأزمات، وعجزها من تقديم الحلول الجذرية للقضاء عليها ، وما ذلك ، إلا لإخلالهم بموازين العدل الشرعية ، المرتبطة بالعدالة الكونية العامة ، لأن منهم من ربط النظام الديني الشرعي الخاص بالرق والاستعباد ، بالنظام السياسي ، ومنهم من ربطه ، بالضرورة الاقتصادية ، ومنهم من جعله ناظما طبيعياً ، ومنهم من جعل سببه الفقر ،أو الحاجة ،أو الدين، أو الجريمة أو الخطف، أو الاستغلال الجنسي ، وفي هذا كله مخالفة لما يمليه نظام العدالة الإلهي ، وبالتالي لا يملك هذا النظام ، أية صلاحية للبقاء شرعياً، وما من شك من أن من يعمل به يؤثم ، لأن فيه انتهاك جائر للحرية البشرية ، وحقوق الإنسان ، لفئة من البشر ، شاءت مشيئة العدل الإلهية ، أن يكونوا أحرارا ، وهذا هو مبدأ العدل الإلهي ، الذي نصت عليه جميع شرائع الأديان السماوية ( اليهودية والمسيحية والإسلامية ). ففي الديانة اليهودية (العبرية)، دون في الأجزاء الأخير في عهد النبوة الكبرى لها ، أن أنبيائهم لما شرعوا لأقوامهم الدين ، أقاموه على أساس وحدانية الألوهية، التي لا تتزعزع ، حيث تملي إرادة الله سن النظم والشرائع لكل الجنس البشري ، و قد أكد أنبياء العبرانيين بلغة حازمة على الالتزام بشريعة الله ، على شريعة الحكام والشعوب على حد سواء ، وذكروا أن لا نظام بشري يسمو على نظام الله ، وأن الله سيوقع العقاب على الذين يعصون أوامره ، كما ورد في شريعة نبي الله موسى ، والتوراة مليئة بقصص العقوبات الزاجرة ، التي أوقعت على الملوك والشعوب ، الذين اجتروا على انتهاك شريعة ونظم الله ، لمصالحهم لخاصة ، أو لمصلحة آلهة أخرى، أو أنماط حياة غريبة . ومما لا يلزم إغفاله ، أن العبرانيون خاصة ، كانوا من أكثر شعوب العالم القديم أثراً ، في إبراز التعارض بين قوانين العدل الإلهية والبشرية ، بأساليب وطرق أثرت على الفكر القانوني الغربي ، منذ ذلك الحين حتى الآن ، ورفضوا كل أنظمة التعدد الإلهي ، والحكام الإلهيين ، وأن أي قانون، أو نظام، ينص على ما يخالف قانون العدل الإلهي ، يعتبر باطلاً ، ويجب تجاهله مهما كان الثمن ، كما اعتبروا أن العدل مهما كان معناه ، إلا أنه نفسه قيمة خلقية ، أي أنه إحدى الغايات التي يسعى إليها الإنسان لتحقيق حياة هنيئة ، ولئن كانت الغايات الأخلاقية للإنسان تصنف بأنها خيرة ، فإن فكرة العدل هي أحد الأمور الخيرة ، التي تسعى الأخلاق لتحقيقها للجنس البشري ، وهذا الخير قد يعمل كوسيلة أو كغاية في حد ذاتها ، فقد تعتبر السعادة مثلاً غاية في حد ذاتها.وتعتبر الحرية وسيلة لتحقيق السعادة ، لا شيء خير في ذاته ، وبعبارة أخرى ، قد تصنف الأمور الخيرة المختلفة ، أو قيم مجتمع إنساني ، في مسلسل ، بحيث يكون بعضها مجرد وسائل، لتحقيق قيم أسمى ، وجميعها يهدف إلى الخير المطلق ، وهو مسألة اختيار لا تطبيق ، و بمقدورنا وإذا شئنا أن نضع العدل في هذا المقام .
ولذلك ، فعلى أتباع الديانة اليهودية في هذا العصر ، أن يرقوا إلى نظام العدل الإلهي ، الذي انبثق منه دينهم الحق ، وجاء به أنبيائهم ، ذلك الدين ، الذي يرفض النظم والقوانين الدينية والاجتماعية ، التي وضعها ملوكهم السابقين ، والكهنة والحاخامات ، الذين زعموا أنهم يتمتعون بالقداسة ، وجعلوا التوراة تمتلئ بكثرة الشكوك والغموض ، واستغلوا سذاجة الناس ، لأنها نظم قامت على أساس الظلم ، و التعصب ، والعنصرية ، والفوضى ، والخلاف ، ليدرؤوا عن أنفسهم الصدام مع الغير، وليحققوا التسامح والإصلاح الديني والاجتماعي والأخلاقي ، مع أنفسهم ، ومع غيرهم من المسلمين و المسيحيين الفلسطينيين بصفة خاصة في أرض فلسطين، أو مع غيرهم من أتباع الأديان السماوية من مسلمين ومسيحيين وغيرهم ، والأجناس البشرية الأخرى بصفة عامة ، على كل مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، لينعموا بدنياهم كما أراد الله .
أما في الديانة المسيحية ، فقد دعا نبي الله عيسى عليه السلام ، بما أخبره به الله تعالى ، إلى المساواة بين الناس ، وقد أوصى تابعيه أن يعاملوا الناس بمثل ما يحبون أن يعاملون به ، وقد تفرق حواريه من بعده في الأرض ، يبشرون بدعوته ، وانتهى المطاف ببعضهم إلى روما ، عاصمة الإمبراطورية الرومانية ، ومهد الوثنية ، وقد جذبت دعوة العدل الإلهية هذه ، الكثير من أصحاب الفطر السليمة إليها ، ورأى المثقفون المسيحيون فيها إشراقاً روحياً ، خلت منه الوثنية ، كما استبشر بها المستضعفون ، حباً في العدل و المساواة ، غير أنها أخذت منذ القرن السادس ، ولأسباب مادية ، تدعو أن المسيح عيسى عليه السلام ، إنما جاء ليحرر المسيحيين أو المتنصرين فقط ، وفي هذا تعدي على الحريات الدينية للغير ، بإكراههم على اعتناق دين المسيحية ، ومعاذ الله أن يكره المسيح عيسى عليه السلام أحداً ، على اعتناق دين ، وإنما مثله ، كمثل محمد صل الله عليه وسلم ، عندما خاطبة ربه ، بقوله تعالى ، في النص القرآني الكريم : )لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (54 ) . وإن حصل تحريف ، فهو وبلا أدنى شك ، من صنع الباباوات والأساقفة ، التي تعود أسبابه إلى أمور مادية ، أو لمصالح خاصة ، لأن المسيحية واليهودية والإسلامية ، جميعها أديان حق وعدل سماوية ، جاءت من عند رب واحد ، قانونه العدل.
أما في الديانة الإسلامية ، فلم تختلف نظم وقوانين العدل الإلهي ، عن نظم وقوانين الديانة اليهودية والمسيحية الحق ، التي جاءت من عند الله، بشأن العدل بين البشر ، وحماية حريتهم، وحرمة الاعتداء عليها ظلماً ، وقد ذكر الله تعالى، في الحديث القدسي ، صورة من الوعيد الشديد لمن يتعرض لها ، قال الله تعالى : ( ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ ، وذكر منهم : ورَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ ) (55 ) . وموقف العدل الإلهي هنا واضح وجلي ، فهو لم يساير الأهواء ، التي استغلت حريات البشر دون وجه شرعي ، ونزعتها باسمه ، ونعتتهم بالأرقاء ،ثم بيعوا على أنهم عبيد وجواري ، وإنما جاء الرد الإلهي الحاسم ، الذي يثبت حريتهم ، ويخرج تلك الأنفس ، من ظلمات العاهات، والعادات الاجتماعية والقبلية الهمجية ، التي لم تبقي لقوانين الدين ، التي أخبر بها محمد صل الله عليه وسلم ، وضوابط الشرع ، التي رسم الدين الإسلامي حدودها ، في مجال العلاقات الاجتماعية بين البشر، إلا كومة من طين ، تعجن وتلبس لباس الدراويش.
وهذه هي مشيئة سلطة العدل الإلهية ، المنسوبة إلى إرادة الله، التي دعت إلى سن قوانين و نظم العدل ، وإقامة الإصلاح الاجتماعي على الأرض ، وهي السلطة ذاتها ، التي أخضعت الأمم ، وستخضع الكثير من المجتمعات المنتمية إلى أمم مختلفة، وأديان سماوية متعددة ، إلى نبذ النظم التي تنتهك حرية البشر ، وتنال من حقوق الإنسان ، دون وجه شرعي ، وقد شاءت هذه المشيئة الإلهية ، أن تعود الحريات التي سلبت من أصحابها ظلماً وعدوان ، وذلك في صورة ثورات اجتماعية ، أو قرارات أممية ، نادت بحرية الإنسان .
فأما ما جاء في صورة ثورات ، فإن أقدم ما عرف عن الثورات ، التي قامت دفاعاً عن حرية الإنسان ، وعن حقوقه التي انتهكت ، هو ما حصل في العهد الروماني ، الذي يعتبر مسرحاً دامياً لتلك الثورات ، ففي عام 185 قبل الميلاد ، ثار مجموعة ممن سلبت حرياتهم ظلما وعدوان في أتروريا ، وتتابعت ثوراتهم بعد ذلك في أقاليم أخرى ، وكان أهمها ثورتان : ثورتهم في صقلية ، والأخرى في مدينة كابوا ، وفي عام 131 ق . م انتهز مجموعة ممن نزعت حرياتهم ظلماً وقهراً في صقلية ، اشتغال الجيوش الرومانية في صد هجمات القبائل الرومانية ، وثاروا واحتلوا مدن الجزيرة ، وانظم إليهم الفقراء ، ثم أن الدولة أرسلت أربعة جيوش لقمع ثورتهم ، ولكن مشيئة العدالة الإلهية ، قضت أن تدمر تلك الجيوش واحداً بعد آخر ، ثم انتقلت صقلية إلى يد أولائك المقهورين لبضع سنين .
وكذلك الحال في العهد الإسلامي والبلاد الإسلامية ، التي لم تخل هي الأخرى من نشوء الثورات ، بسبب الانتهاك الخاطئ للحرية البشرية ، فقد حدثت ثورات ، قام بها ، مجموعات ممن سلبت حريتهم ظلماً ، ومن أبرز هذه الثورات ما حدث في أيام مصعب ابن الزبير ، عندما جلب مجموعة من أفريقيا إلى العراق لاستصلاح الأراضي الزراعية ( السباخ) . ومن ضمن هذه الثورات أيضاً ، هو ما حصل في العهد العباسي ، في زمن المعتمد على الله . هذا ما يخص صور الثورات.
وأما ما جاء في صورة قرارات ، ومنظمات عالمية ، فهو ما جاءت به المعاهدات الأوروبية ، و القرارات العالمية ، التي أقرتها الجمعية العمومية لحقوق الإنسان للأمم المتحدة منذ عام 1948 ، التي نادت بقانون حقوق الإنسان ، وطالبت بضرورة سن قوانين تحفظ بموجبها حريته، بشكل عالمي، لتعمل المجتمعات البشرية ، في صفحة الكون العريضة ككل اجتماعي ، وقد عمل العالم الغربي ، و مجتمعات دول أوروبا كذلك ، بدئاً بالدنمارك وفرنسا وبريطانيا ثم تبعتها أمريكا . وقلة هي المجتمعات العربية ، والإسلامية التي قبلت ،وعملت بتلك النظم والقوانين ، وقلة هي الأخرى التي عارضت ذلك ، وتمسكت بحق وجود الرقيق كما يقولون ، وقد كان من ضمنها ، المملكة العربية السعودية ، لجزمها أن الاستعباد (الرق ) مذكور في تشريعهم الإسلامي ، وأن القرآن الكريم قد نص عليه ، وهذا صحيح ، ولكن بعد النظر إلى شرعية وصحة ما كانوا عليه ، أتضح أن ما جاء به التشريع الإسلامي ، ونص عليه القرآن الكريم شيء ، وأن ما كانوا عليه من فهم ، وتصور، وممارسة شيء آخر ، لأنهم مارسوا ، قضية الرق على أناس أحرار ، لا تجري عليهم قواعد وأحكام الرق ، ولا تتوفر فيهم الشروط الشرعية الموجبة للاستعباد ، وبعد هذا الاستيعاب ، حصل الإلغاء ، لتلك الانتهاكات ، التي طالت رقاب الأحرار باسم الدين ، كما فرضت العقوبات على من يمارس ذلك في السر والعلن. وقد كان ذلك على يد المغفور له بإذن الله ، الملك فيصل بن عبد العزيز ، والحق يقال أنه رجل دين وعلم ومبدأ ، رسخ بموجب هذه العوامل ، مفهوم " وحدة أصل البشرية " ، في المجتمع السعودي ، وقد مكنته هذه العوامل أيضاً ، من استنباط مقاصد الشريعة الإسلامية لظاهرة الرق ، واكتشاف وتلمس مواطن الخلل ، لتلك المخالفات الشرعية ، فضلاً عن اكتشافه لها ، من خلال الشكاوى التي تقدم بها بعض ممن غرر بهم ، و تم استدراجهم ، ثم بيعوا على أنهم أرقاء ، وهذا ما أكده الشيخ عبد الرحمن الجبرين رحمه الله ، الذي وضح بعض الأمور حول أولائك (56 ) ، ومن بعض ما ذكره الشيخ ما يلي نصه : " في القرن الماضي، في أول القرن الرابع عشر وفي آخر القرن الثالث عشر كان هناك أناس يسرقون بعض الأطفال، ويبيعونهم على أنهم مماليك، يأتون إلى بعض البلاد التي فيها شيء من الجوع ونحوه، كالسودان أو الحبشة، وتلك البلاد، ثم يستدعون بعض الأولاد الذي في سن العاشرة والحادية عشر، ويختطفونه يطعمونه ويكسونه، ويقولون: اذهب معنا ونحن نطعمك ونعطيك ونحو ذلك، يذهب معهم ويعتقد أنهم سوف يحسنون إليه، فيأتون إلى هذه البلاد ويبيعونه على أنه مملوك ".
يتبع نص الشيخ :
" وكثر بيع هؤلاء الذين ليسوا مماليك؛ وإنما هم أحرار، فلما كثر بيعهم وقَلَّ أو انقطع الجهاد من عشرات السنين رأت الحكومة في هذه البلاد أن أكثر هؤلاء المماليك ملكيتهم ليست صحيحة، وأنهم مظلومون، وأنهم قد بِيعُوا وهم أحرار، فرأتْ الحكومة تحريرهم في سنة ست وثمانين، وصدر الأمر بتحرير كل الرقاب الموجودين في المملكة، وتعويض أهاليهم عنهم، ولو كان عند أحدهم عشرة أو عشرون إذ دفعت الحكومة قيمهم وتحرروا، ولم يبقَ في هذه البلاد أرقاء، ولكن إذا حصل قتال مع الكفار، ثم حصل الاستيلاء على سبيهم فإن الرق يعود، وهذا هو الأصل؛ لأن أصله الاستيلاء على سبي المشركين؛ أطفالهم ونسائهم ونحو ذلك" ،انتهى كلامه . وتجدر الإشارة إلى إن أغلب أولائك من المسلمين الفقراء من أفريقيا و آسيا ، في زمن توقفت فيه الفتوحات الإسلامية ،و خفت فيه الصرامة والرقابة على الشروط الإسلامية ، في كثير من المجتمعات الإسلامية أما يدعيه ويردده الكثيرون ، ممن لا يدركون المعنى الصحيح ، لمفهوم الرق الشرعي في الإسلام ، أو ممن لا يجيدون قراءة مسلسل أحداث الأمور بموضوعية وإنصاف ، بأن المغفور له بإذن الله هو من حرر العبيد ، وأن قبوله بذلك القرار ، كان بضغط دولي غربي ، بقيادة أمريكا ، و دول أوروبا ، فهذا إدعاء يجانب الصواب . لأنه لو كان الأمر شرعياً كما أراد الله ،ومرتبطاً بعدالة الكون الإلهية العامة ، المتمثلة بالعدالة الشرعية ، لبقوا عبيداً ، حريتهم بيد غيرهم، لتحقق مقتضى سنن شرع الله في ذلك المجتمع ، لأنه لا قانون ، ولا نظام بشري ، يسمو و يقوى على قانون العدل ، و نظام الله سبحانه . ولأن المسألة مسألة عدالة ربانية بحتة ، لتحقيق العدل المرتبط بالحرية البشرية ، والحقوق الإنسانية ، لفئة بشرية سلبت حريتها ، وحقوقها ظلماً وجهلاً، فقد جاء الخضوع الأممي ، لمعظم مجتمعات شعوب العالم ، ابتداءً بالمجتمعات الأوربية والغربية ، التي مرت بمراحل من الإصلاح و النضج ، وصولاً بالمجتمعات العربية ،وغيرها من المجتمعات البشرية في دول العالم الثالث . ولعل المتأمل والباحث ، أن يلحظ ويلتمس مضي واستمرار هذه العدالة قدماً ، بقيادة رجال الدين ، والحقوقيون المنتمين للمنظمات ، والمراصد الحقوقية ، والناشطين في هذا المجال ، والكتاب ، والأكاديميون ، والباحثون المختصون ، نحو الدول التي مازالت مجتمعاتها البشرية ، تعاني من انتهاك الحرية البشرية ، و حقوق الإنسان ، واستمرار ممارسة نظم الإرغام الاجتماعي ، و القصري على فئات بشرية حرة ، لتلبسها قهراً وظلماً رداء الرق والاستعباد ، مثل موريتانيا واليمن والمغرب والجزائر والسودان وغيرها ، لتحقيق غاياتها وأهدافها السامية.
ومن هنا أخي الكريم قارئ هذه الدراسة ، كان لا بد لنا نحن بني الإنسان ، من ضرورة إعادة اعمار فكرنا البشري ، تجاه قضية الرق والاستعباد ، وفق الأسس والنظم الشرعية ، التي جاءت ضمن منظومة تعاليم شرائع الأديان السماوية الصحيحة، ( اليهودية ، المسيحية ، الإسلامية ) ، لندرك مفهومه الصحيح ، الذي تدرك به غاية العدل الإلهية ، التي لا مراء فيها ولا جدال . ولعلنا أدركنا هذا ، من خلال هذه الدراسة المتواضعة .
ولعل إخواني من أرباب الفكر ، ورواد الدراسات ، والبحوث ، والإعلاميون ، والكتاب ، من المسلمين ، وغيرهم ، ممن تناولوا هذا الموضوع ، بألسنتهم ، أو تناولته أقلامهم، أن يدركوا هذا أيضاً ، لأنه يجب أن يكون صاحب القلم ، عالماً بما يكتب ، وفق ما أراد الله ، ورسوله صل الله عليه وسلم ، في أي جانب من جوانب الحياة ، دينية ، أو سياسية ،أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو حضارية، أو غير ذلك من مجالات الحياة ، لتعم الفائدة على الجميع .
كما أنه من المعلوم والمقرر، أن الكلام يُنسى ، والهم يُغفر، والمكتوب موثق باق ، قال صل الله عليه وسلم : أن الله عفا لأمتي ما حدثت به أنفسها ، ما لم تعمل أو تتكلم به ، فكيف يا رعاك الله ، إذا كتبته وتكلمت به ونشرته ، ومما لا شك فيه ،أن الأمر أشد ، والعلة أدهى وأمر، ولا يضر المخطئ إلا نفسه ، ولذلك فنحن المسلمين ، وبشكل خاص، في حاجة ماسَّة ، إلى القلم الصادق، إلى القلم الأمين ،إلى القلم الملهم، الذي ينشر الحق، ويحيي السنة ،ويدل الناس إلى ما فيه خير دينهم ودنياهم ( ولا يأبى كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب) .
ونسأل الله – في الختام- أن يهبنا حسن القصد، وسداد العمل ، وأن يتجاوز عما نسيناه ،أو أخطأنا فيه ، والحمد لله رب العالمين.
الباحث والكاتب الإسلامي إبراهيم المراغين السبيعي
التعليقات ( 1 ) جاء في تكوين 9: 20-27 أن نوحاً لما أراد أن يلعن ابنه حام، لعن حفيده كنعان بن حام وقال: ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته (آية 25), و في سفر التكوين 9 : 25 : جاء أن كنعان ملعون لعنة أبدية، وأنه هو ونسله عبد العبيد لأخوته. ( 2 ) جاء في سفر التثنية (14/2) ونصه:(وقد اختارك الرب لكي تكون شعباً خاصاً فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض). ( 3 ) سورة الصافات ، آية رقم ( 112 – 113 ). ( 4 ) سورة هود ، آية رقم ( 71 ) . ( 5 ) سورة الإسراء ، آية رقم ( 70 ) . ( 6 ) الراوي: من سمع النبي المحدث: الوادعي - المصدر: الصحيح المسند - الصفحة أو الرقم :( 1536 ). ( 7 ) سورة النحل ، آية رقم ( 89 ). (8) سورة الأنبياء ، آية رقم ( 107 ) . (9) سورة المائدة ، آية رقم (2). (10) سورة البقرة ، آية (282). (11) سورة الإنسان ، آية رقم ( 29 – 30 ) . (12) سورة آل عمران ، آية رقم ( 64 ) . (13) سورة النبأ ، آية رقم ( 39 ) . (14) سورة يونس ، آية رقم ( 108 – 109 ) . ( 15 ) سورة الإسراء ، آية رقم ( 15 ) . ( 16 ) سورة النحل ، آية رقم ( 90 ) . (17 ) سورة آل عمران ، آية رقم ( 110 ) . ( 18 ) سورة الحديد ، آية رقم ( 25 ) . ( 19 ) سورة الأعراف ، آية رقم ( 68 ) . ( 20 ) سورة هود ، آية رقم ( 88 - 89) . ( 21 ) سورة الممتحنة ، آية رقم ( 8 ) . ( 22 ) سورة النساء ، آية رقم ( 76 ) . ( 23 ) سورة التوبة ، آية رقم ( 12 ) . ( 24 ) سورة البقرة ، آية رقم (190 ) . (25) سورة البقرة ، آية رقم ( 217( (26) كلمة الأسرى ، أو أسرى ، أو أسارى ، هي جمع أسير ، والأسير مشتق من الاسار، وهو قطعة من الجلد ، كانوا يشدون بها الأسير ، ومنها سمي المشدود أسيراً ، ثم سمي كل من يؤخذ في الحرب أسيرا ، ولو لم يشد بها ، الصحاح للجوهري. ( 27 ) سورة محمد ، آية رقم ( 4 ) ( 28 ) سورة الأنفال ، آية رقم ( 67 ). (29) سورة الأنفال ، آية رقم ( 70 ) . ( 30 ) تفسير المنار جـ 5/5 ،في ظلال القرآن – سيد قطب ج4 /83 . ( 31 ) متفق عليه : رواه البخاري في الحديث رقم (4372) في المغازي ، باب وفد بني حنيفة ، ومسلم في حديث رقم (1764) في الجهاد والسير . (32 ) سورة النساء ، آية رقم ( 92 ) . ( 33 ) سورة المائدة ، آية رقم ( 89 ) . ( 34 ) سورة المجادلة ، آية رقم ( 3 ) . ( 35 ) رواه الصحابي سهل بن حنيف ، عن رسول الله صل الله عليه وسلم ، رقم الحديث : 429 ( 36 ) رواه مسلم ( رقم الحديث /2726 ). ( 37 ) سورة المجادلة ، آية رقم ( 3 - 4 ) . ( 38 ) سورة البقرة ، آية رقم ( 178 ). (39 ) رواه البخاري وأحمد. . (40 ) سورة الإسراء آية رقم (33 ) . (41) رواه أبو داود والنسائي . (42 ) سورة النساء ، آية رقم ( 59 ). ( 1 ) سورة الحاقة ، آية رقم ( 11 ) . ( 2 ) سورة الرحمن ، آية رقم ( 24 ). ( 3 ) سورة الغاشية ، آية رقم (12). ( 4 ) أهداها إليه المقوقس . ( 5 ) عرض عليها أن يتزوجها ، ويضرب عليها الحجاب ، فقالت : يا رسول الله .بل تتركني في ملكك ، فهو أخف على وعليك ، وقد توفي الرسول وهي في ملكة - أحكام الأسرى والسبايا في الحروب الإسلامية للدكتور عبد اللطيف عامر أستاذ الشريعة – جامعة الزقازيق صفحة رقم ( 292 ). ( 6 ) زاد المعاد جـ 1 صفحة ( 29 ). ( 7 ) التاج المذهب لأحمد بن القاسم الصنعاني ج 4 . كتاب السير /459 ، كتاب أحكام الأسرى والسبايا في الحروب الإسلامية صفحة 199 ، للدكتور عبد اللطيف عامر أستاذ الشريعة – جامعة الزقازيق . ( 52 ) سورة الحديد ، آية رقم ( 25 ) . ( 53 ) سورة النحل ، آية رقم ( 90 ) . ( 54 ) سورة البقرة ، آية رقم (256 ) . ( 55 ) رواه الإمام البخاري في صحيحة برقم ( 2109 ). ( 56 ) كتاب العتق للشيخ ، كتاب شرح أخصر المختصرات ، للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين رحمه الله .
الباحث والكاتب الإسلامي
إبراهيم المراغين السبيعي
#ابراهيم_المراغين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عضو بالكنيست الإسرائيلي: مذكرات الاعتقال ضد نتنياهو وجالانت
...
-
إسرائيل تدرس الاستئناف على قرار المحكمة الجنائية الدولية الص
...
-
وزير الخارجية الأردني: أوامر اعتقال نتنياهو وجالانت رسالة لو
...
-
هيومن رايتس ووتش: مذكرات المحكمة الجنائية الدولية تفند التصو
...
-
الاتحاد الأوروبي والأردن يُعلنان موقفهما من مذكرتي الاعتقال
...
-
العفو الدولية:لا احد فوق القانون الدولي سواء كان مسؤولا منتخ
...
-
المفوضية الاممية لحقوق الانسان: نحترم استقلالية المحكمة الجن
...
-
المفوضية الاممية لحقوق الانسان: ندعم عمل الجنائية الدولية من
...
-
مفوضية حقوق الانسان: على الدول الاعضاء ان تحترم وتنفذ قرارات
...
-
أول تعليق من -إدارة ترامب- على مذكرة اعتقال نتانياهو
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|