|
مجموعة أرنى الله لتوفيق الحكيم
هدى توفيق
الحوار المتمدن-العدد: 3791 - 2012 / 7 / 17 - 22:34
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
المجموعة القصصية ( أرنى الله ) جمعتْ ما بين عمق الفلسفة وطرافة الأحداث وبساطة الأسلوب ، من خلال الواقعية الرمزية أو النظرة الفلسفية . تناول فيها الحكيم جانبيْن أساسييْن ، يفصلان القصص كل إلى نوع محدد ، سواء الكتابة الفلسفية ، المبنية على السؤال والتمرد ، والجانب الآخر النظرة الواقعية لحياة الإنسان ومشكلاته وهمومه ، بمخيال السارد ، الذى يُعبّر بقوة عن مدى عمق هذا الخيال الغزير ، النابع من حس فنان ، وليس لمجرد عرض هموم أو مشكلات ، بشكل سطحى وزائف ، بل من أجل فهم واستيعاب الأمور بطريقة مثلى ، وعدم تقبل المُسلمات والبديهيات ، بدون دقة . فى تلك المجموعة نقترب من العوالم المحظورة بجرأة شديدة وذائقة فنية وثقافية رفيعة المستوى ، بأسلوب ولغة لها مدلولات واسعة ، تسعى إلى المرح والتآلف مع حكايات الحكيم المستمدة من المسرح الذهنى ، المعروف به ، والواضح فى كل قصصه . وبناءً على هذا سأتناول المجموعة من خلال ثلاث نقط أساسية : الأولى النظرة الفلسفية فى بعض القصص . الثانية : خيال السارد الذى يتجاوز أى فضاء زمانى أو مكانى . الثالثة : تلمس ظلال المسرح الذهنى من خلال اللغة الحوارية ، سواء ذات الطابع الفلسفى أو الطابع الواقعى ، وهى تستدعى وتستحضر نفسها بقوة من وعى وذهن المبدع الكبير. والمدهش فى تلك المجموعة المهمة أنّ توفيق الحكيم مزج بين الواقعية والرمزية ، على نحو فريد ، يتميّز بالخيال والعمق دون تعقيد أو غموض . وهذا أيضًا يُطلق على القصص الطارحة للأسئلة الفلسفية والتعرض للموروثات الدينية بجرأة ، تــُخالف المألوف والمعتاد فى الثقافة السائدة . وبناءً على تلك النقط تنقسم المجموعة القصصية ( أرنى الله ) المؤلفة من 14 قصة ، إلى قصص تخص ذاك الجانب ( الطابع الفلسفى ) وقصص تخص الطابع الواقعى . يجمع بين هذين الجانبين ، اللغة الحوارية ، كركيزة أساسية فى بناء كل قصص المجموعة ، رغم اختلاف المضمون . وذلك الخيال الغزير. الجانب الفلسفى يتمثل فى القصص الآتية ( أرنى الله ) ، ( الشهيد ) ، ( موزع البريد ) ، (وكانت الدنيا) ، ( من سنة مليون ) ، ( معجزات وكرامات ) ، ( امرأة غلبتْ الشيطان ) . فى تلك القصص تبدو الشخصيات تائهة فى فهم هذا الكون الفسيح ، المليىء بالتناقضات ، من خلال لغة حوارية تتلمس ظلال المسرح الذهنى بقوة ، وهى لغة تمتلىء بالتساؤلات الأبدية التى عرفها الإنسان منذ الأزل عن حقيقة الأشياء فى هذا الوجود . يطرحها الحكيم فى عوالم تــُعبّر عن شخصيات المجموعة. عوالم مليئة بالهواجس والهموم والأفكار الجامحة ، فى أمور اعتدنا التسليم بها من قبل أنْ نولد . إلاّ أنّ مبدعنا يجعلنا نثور ونتمرد ونستسلم لمنطق اللغة الحوارية البسيطة ، المُفعمة بالتساؤلات عن تلك الذات الإنسانية منذ بدأت الخليقة ، فى محاولات عديدة ومستمرة لنستكشف ذواتنا فى هذا العالم الرحب الكبير ، وكنماذج لذلك بالتحديد : ( أرنى الله ) ، ( موزع البريد ) ، ( فى سنة مليون ) ، ( امرأة غلبتْ الشيطان ) . تدور قصة ( أرنى الله ) بين رجل وطفله وهما يتحدثان كأنهما صديقان ، حتى باغته الطفل بسؤال لا يُستهان به ، إذْ قال الطفل : إنك يا أبت تتحدث كثيرًا عن الله . . أرنى الله ! هذا السؤال جعل الرجل حائرًا حيرة بالغة ، حتى ذهب إلى طرف المدينة ، يبحث عن ناسك هرم لعله يجد جوابه . وبعد حوار له طابع فلسفى يتماهى ويتغلغل فى عمق هذا السؤال البالغ الصعوبة ، حيث أنه سؤال طرحته الإنسانية منذ الأزل ، وتاهت فى دروب كثيرة علها تجد جوابًا عن هذا السؤال الأبدى . فيصر الأب على رؤية الله . ويجد ضالته فى أعماق نفسه لمحبة الله. وقد ملأ قلبه مقدار نصف ذرة من محبة الله. فنصف ذرة من نور الله ، تكفى لتحطيم تركيبنا الآدمى واتلاف جهازنا العقلى كما أخبرنا الناسك . أما فى قصة ( موزع البريد ) يتحوّل هذا الشخص البسيط ، من مجرد شخص نعرف مهنته جيدًا إلى شكل آخر ، ومعنى مختلف تمامًا عن موزع البريد . فقد أصبح موزع البريد يُوزع أوراق اليانصيب والحظوظ على الناس ، ولكل إنسان عنده رسالة بنصيبه المماثل لنصيب أخيه. فمثلا تنال العجوز الحيزبون كريهة الصوت الجائزة ، ويكون رقمها هو الرابح للجائزة الكبرى البالغة من الجنيهات ألوفـًا ... ويصرخ موزع البريد سخطــًا وغضبًا ( من ربه ) قائلا على لسانه : ((إتق الله يا شيخ . وكنْ صاحب نظرة إذا لم تكن صاحب عدل ، هذه الشمطاء الشوهاء التى يكره أنْ يضحك لها قبر. تــُقبل عليها أنت وتمنحها هذه النعمة ، وعلى خطوات منها هؤلاء المرحات ينضح منهن الصبا ... لا تــُبصرهن عينك ولا يضحك لهن وجهك )) وموزع البريد العجيب هذا يقع بين شكوى أهل السماء وهم يقولون له (( جلبتَ علينا بإهمالك سخط الناس ، وأهل الأرض يصيحون فيه : هذا أخذ وذلك لم يأخذ . وهو وحده المظلوم ( أى ساعى البريد ) . بينما قصة ( أنا الموت ) تعرض فى إطار لغوى فلسفى طلبًا وليس سؤالا ، فالبطل يجلس فوق صخرة فى ( سيدى بشر ) بالأسكندرية ، حيث قرّر أنْ يموت ، أى ينتحر ( وهو شاب حائز على ماجستير فى الفلسفة ومن ذوى المُلاك ) ويعيش من ريع عقارات ورثها عن أبويه. فلماذا إذن يريد أنْ يموت ؟ لا يوجد مبرر منطقى غير رغبة ملحة من أجل الفكرة المجردة وهو أنْ يتلاقى فى الموت فقط . أى البحث الدائم عن ماهية هذا الموت . والتخبط بين الوهم والحقيقة.. الواقع والخيال . لا شك أنّ خيال السارد يؤدى دوره فى جميع قصص المجموعة بحنكة ومهارة وفى إطار مرح ساخر، يُرغمنا على الابتسام ، بأسلوبه الجميل والبسيط والرشيق . أيضًا لا شك أنّ عامل المفاجأة أحد العناصر المهمة التى وظفها المبدع للتعامل مع الواقع . وأنت مندهش من خلق صور يُطلقها المؤلف من حيّز السكون والخمود ، لتتحول إلى فراشات حوارية بواسطة مونولوج طويل أو حوار احتجاجى كما صوّرها فى قصة ( وكانت الدنيا ) بين الشيطان والأفعى ، حيث أصبحتْ حواء صانعة الشيطان ، رمز الغواية والدهاء فى أبهى صورة وأحسنها . ونحن نتابع خيال السارد الذى فرض رؤاه ، لإثارة متعة القراءة ، كما نتابع بشغف هذا الحوار الساخر، بين الأفعى والشيطان . يبادر الشيطان إلى سؤال الأفعى : لماذا حُرّمَ على آدم لمس حواء ؟ تــُرى ماذا يحدث لو امتزج هذان المخلوقان ؟ وتصيح الأفعى : يحدث لهما ما يحدث لهذا الطير.. يتناسلان . ويخرج منهما مخلوق ثالث . ولكن لماذا لا يُراد خروج هذا المخلوق الثالث ؟ أيضًا فى قصة ( امرأة غلبتْ الشيطان ) تشترك مع القصة السابقة فى تصوير المرأة فى صورة الأفعى . ونلاحظ أنّ تلك الحوارات نابعة من ذات المؤلف ، وتوضح – إلى حد ما – وجهة نظره فى المرأة ، المرتبطة بالغواية والدهاء ، وإنْ تم هذا بأسلوب ساخر وبسيط وسلس ومرح ودون افتعال ، يلح فى المقام الأول على طرح سؤال مهم عن تلك الذوات الحائرة الهائمة الممتلئة بالشك والحيرة ، وهذا ليس لزعزعة الإيمان أو دعوة للإلحاد ، إنما لفهم الأمور على حقيقتها ولتكريس إيمان ويقين ثابت لا شك فيه ، بحوار ذهنى مُتخيل ، ينطلق من ذات المبدع ليتخلل ذواتنا ويُشركنا بقوة فى عمق الأسئلة وغزارة الخيال . بينما نرى فى قصة (مؤتمرالحب) المرأة مخلوق بسيط رقيق ، وأيضًا هى الزوجة الخائنة فى قصة ( الحبيب المجهول ) وهى الزوجة الفاشلة فى قصة ( أسعد زوجيْن ) وهى الحبيبة المخلصة فى قصة ( اعتراف القاتل ) وهى العاهرة الكاذبة فى قصة ( وجه الحقيقة ) إذن فإنّ للمرأة عدة أشكال متنوعة عند توفيق الحكيم ، دون تعصب كما قال عنه البعض أنه (( عدو للمرأة )) . أما الجانب الواقعى فى القصص الأخرى المتمثلة فى قصص ( الحبيب المجهول ) ، ( مؤتمر الحب ) ، ( أسعد زوجيْن ) ، ( ميلاد فكرة ) ، ( وجه الحقيقة ) ، ( فى نخب العصابة ) رغم أنها ليست ذات طابع فلسفى ، إلاّ أنها تدور مثل القصص الأخرى فى فلك واحد ، وهو البحث عن الحقيقة ، أى حقيقة الذات والأشياء فى الوجود . ومدى شكوكنا تجاه كل شىء حولنا ، والسقوط فى براثن الوهم والواقع والخيال ، الذى نفترضه فى عقولنا ، فى عالم مليىء بالهواجس والهموم. أيضا غزارة الخيال وتلمس ظلال المسرح الذهنى من خلال اللغة الحوارية الطويلة والقصيرة ، كجميع القصص السابقة. ذاك الجانب من القصص يتناول الإنسان فى كل حالاته ، الشائعة والمتواترة فى حياته ، من سذاجة وغباء وطمع وحب وفراق وندم . وما يرافقه من أوهام تظهرها مواقف ساخرة وأحداث مفاجئة وصدمات غير متوقعة ، كما فى قصة ( وجه الحقيقة ) فهى أصدق برهان وهو يُسلم نفسه لوهم الحب ، دون أنْ يعى أنّ هذا زيفٌ وهراءٌ من الجانب الآخر. وكعادة الإنسان فى قدرته على البقاء والاستمرار، يفيق البطل ويستكمل طريقه طارحًا خطأه الفادح دون أنْ ينظر للوراء ويبدأ من جديد ، كما فى قصة ( أسعد زوجيْن ) فنرى طرافة الحدث وعمق المشكلة ، عن رجل قلبه يساوى بالضبط معدته حتى أوقعه غباؤه وشهوة الطعام الزائدة عن الحد فى الزواج من مذيعة برنامج ( طبقك المفضل ) التى هى فى الحقيقة فاشلة فشلا ذريعًا فى الطهى تمامًا . أو نرى سذاجة الرجل فى قصة ( الحبيب المجهول ) عندما مشى ورأى صديقه ودخل المغامرة التى كادت فى نهاية الأمر أنْ تودى بحياته . أو جشع آل كابونى فى قصة ( فى نخب العصابة ) أظن أنّ ليس هناك من زمن محدد لنتحدث عنه . فهى أشبه بقصص تجوب فى الفضاء الواسع دون حدود . تفرض فيها الشخصيات عالمها المتخيل على الزمن الثابت . فالزمن بفضائه ساكن وهادىء لا يُحركه سوى هذا الصخب الذى تصدره الشخصيات بحواراتها وآمالها وأحلامها وأطماعها لتحفر مكانًا وزمنًا يثبت وجودهم . لسبب بسيط كما طرحه لنا توفيق الحكيم بعمق وبساطة : أنّ الأفكار والأسئلة باقية ومستمرة إلى زوال البشر، تطرح نفسها وتحتج وتثور وتتمرد وتجدُ فى البحث عن الحقيقة والحرية. ـــــــــــــ • مجموعة ( أرنى الله ) دار الشروق – عام 2007 . ***
#هدى_توفيق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خلوة الكاتب النبيل
-
حاذث النصف متر تجاوزكل الأمتار
-
العداء العبرى لمصر وفلسطين
-
مقال عن أكابيلا ايدا وماهى
-
إلى زكي مراد
المزيد.....
-
تأسست قبل 250 عاماً.. -حباد- اليهودية من النشأة حتى مقتل حاخ
...
-
استقبل تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024 بجودة عالية
-
82 قتيلاً خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
82 قتيلا خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
1 من كل 5 شبان فرنسيين يودون لو يغادر اليهود فرنسا
-
أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
-
غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في
...
-
بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
-
بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
-
قائد الثورة الاسلامية آية اللهخامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|