|
آلام امرأة غزية
سونيا ابراهيم
الحوار المتمدن-العدد: 3790 - 2012 / 7 / 16 - 09:12
المحور:
سيرة ذاتية
أكتب هذه القصة وأنا أعلم أن آلام المرأة الغزية لن تنتهي إلى الأبد ..
كنت قد اضطريت أن أحاول ايجاد بعض الأصدقاء على شبكة التواصل الاجتماعي – فيسبوك. وصرت على تواصل مع مجموعة من الأصدقاء الذين قد أتوا لزيارة غزة مع قوافل التضامن لدعم الشعب الفلسطيني ، وفك الحصار المطبق علينا منذ ما يقارب خمسة سنوات . و وجدت الكثيرين ممن ينشرون صوراً على حوائطهم لدعم فلسطين ، وأما آخرين كانت لهم صور شخصية مع غزيين ، في أماكن قاموا بزيارتها أثناء تواجدهم القصير في غزة . ظليت أتحدث إلى الكثير منهم ؛ لأحدثهم عن قضيتي كامرأة غزية تصارع الحياة تحت ظل الأيام المنسية في قطاع غزة . وقد يبدو كلامي في البداية رومانسيا ً؛ حتى أني وجدت من هؤلاء الأصدقاء من يدعون بالصبر لأهل غزة ؛ ثم أحدهم الآخر يتحدث إلي عن أهمية النضال السلمي ، و دور مؤسسات المجتمع المدني . أما القليل منهم فحاول أن يتحدث إليّ عن غزة ، وكيف أن السلطة الوطنية الفلسطينية هي متورطة منذ سنوات طويلة في الفساد ، والفلتان الأمني ، وكأنهم يعرفون الحال جيداً كما كنا نعيشها تحت حكم السلطة سابقاً . وجدت نفسي في يوم من الأيام الكثيرة - التي قضيتها وأنا أتحدث لأشخاص يعيشون في العالم الافتراضي ، وهم أصدقاء لي على صفحتي الشخصية - أتحدث إلى رجل في الأربعينات ، لا يبدو عليه إلا أنه واثق من أني كنت أخطط للخروج من غزة . ولم أرسل إليه طلب الصداقة إلا عندما أعجبت بصورته الشخصية " أوقفوا القتل في غزة " ، ثم تأكدت بظنٍ غبي ، ومتسرع أنه يستطيع مساعدتي . وأصبحت بكل هذا التردد ، والظن المريب أتحدث إليه ، وأحدثه عن كل ما يريد معرفته عن غزة ، ووجدت أنه مطلع إلى حدٍ ما على كل الأمور . ولقد كان واثقاً مما كان يسأل عنه ، حتى أنه سألني في احدى رسائله عن معوقات خروجي من غزة ، واستطاع - بغباء المراهقات ، الذي كنت أعاني منه - وبخبث رجلٍ يعلم جيداً أني يائسة من وضعي في غزة ، أن يجعلني أثق فيه ، وتتالت بعد ذلك رسائله ، التي كان يتمنى لي فيها " يوماً رائعاً " .. لم أركز كثيراً فيما كان يحاول أن يثبته ، وظليت أتجنبه معظم الأوقات ، لأنه لم يخطر ببالي ما كان يخطط له ذلك الرجل العجوز . ************************* في شهر سبتمبر .. كانت المشاكل العائلية قد بلغت درجة من السوء ، التي لا يمكن حلها بأي طريقة للنقاش أو الحوار ، واستطعن إخوتي المتزوجات السيطرة على الورثة ؛ حيث استعملت إحداهن زوجها كورقة ٍ للضغط على والدتي ، ثم بعد ذلك نقلوا العدوى لوالدتي ، التي أصبحت تدافع عنهن ، وأقنعت نفسها كالعادة بأن تتصرف في توزيع الورثة دون أي حقٍ أو مساواة . في آخر الشهر فقدت حقي بالورثة ، وطلب مني المحامي ، الذي قرر أن ظروفي في هذا المجتمع القبلي لن تسمح لي بأن أطالب والدتي بحقي في الميراث ، طالما ما زلت أعيش في منزل العائلة " دون زوج " !! وكأنه كان يحاول أن ينصحني بالصبر على الظلم ، ومن ثم الموت من أجل النسيان ، أو فقدان الذاكرة ، الذي للآن لم أستطع تجاهله . وفي غزة حيث انتقلت إلى هذا المنزل ، وأنا عمري أربع سنواتٍ ، لم أشعر إلا بالغربة ، وخنقتني ظلمة أيامي ... أذكر في المرة الأولى التي زرنا بها منزلنا البعيد ، وكان قيد الانشاء وقتها ، وكان يقع بعيداً عن حي عائلة والدي ووالدتي ، وكيف أني صرخت وطلبت من والدي ، الذي كان تركني حينها في السيارة ، و أغلق نوافذها ، ألا أتحدث مع أي أحدٍ من الجيران . والدي لم يشعر بالحزن حينها ، ربما كان ذلك لأنه ظن أن هذا المنزل ، الذي بناه بعيداً عن عيون الأقارب وازعاجهم ، سيحقق له سعادةً ، ثمرة عمل سنين طويلة في الغربة ، قبل أن يحلم ذلك الحلم الكئيب . كنت ما زلت في الرابعة من عمري ، وكنا ما زلنا نقيم في منزلنا الواسع في مكة ، حينما استيقظت من النوم ، ووجدت والدتي ، والدي ، وأخي الأكبر يقطعون الصور ويرمونها في أكياس سوداء في سلة المهملات . ولما سألت أختي عما يحدث ، أخبرتني وعيناها تخبآن خوفاً من المجهول : لن يسمحوا لنا في المطار ، باصطحابِ كل هذه الصور ، عندما نرحل من هنا ! ******************** في شهر أكتوبر كنت قد بدأت أشعر بالخوف من تلك العلاقة ، التي كونتها مع الصديق المتضامن مع غزة عن طريق المراسلة ، وأذكر الآن مقولة رددها صديق لي : " عدوٌ في الوطن ، ولا حبيب في الغربة " . استأت كثيراً وأنا أفكر أنه لا مستقبل لهذه العلاقة ، وأنا ما زلت أعيش غربة في وطني الممزق ، مع عائلتي التي لا تشعر بأهمية وجودي طيلة الوقت ، واضطريت أن أخبره أني لن استطيع أن أكون صديقة له إلى الابد ، وتحججت حينها بأني أعلم أنه سيأتي يومٌ ما وهو يريد أن يكمل حياته ، أو يدخل تجربة مع شريكة تعيش معه في نفس بلده ، وليس مثلي تبعد عنه مئات الأميال ، والليالي . خفت منه ، وأنا أوقع نفسي في علاقة عن بعدٍ ، وأنا أحاول أن أخبئ عنه ذلك السر ، الذي ظل يلاحقني . كان حلماً رأيته في شهر أغسطس ، وكان ذلك قبل أن أكون قد كشفت له عن شعوري تجاهه . حلمت أنه كان يعانق امرأة أخرى في المطار ، رغم أنه كانت تربطه علاقة صداقة بي . أزعجني ذلك الحلم ، وكان لدي الجرأة حينها أن أقول لنفسي : لقد رأيت في منامي رجلاً أربعينياً " عجوزاً " يخدعني ، بعد أن أوقعني في حبه . لسوء الحظ ، استطاع أن يقنعني أن أكمل علاقتنا عندما أخبرته في أكتوبر بأني لا أريد أياً منا أن يظل بعيداً عن الآخر ؛ حتى أنه وعدني بأنه سيجد طريقةً ما ، ويساعدني على لقائه حقيقة وجهاً لوجه ، كما لو كنا نعرف بعضنا ، وأردنا هذا الشئ منذ عدة سنين . وظلينا نتراسل ، ونتحدث عن الوضع في غزة ، وعن كل شئٍ ، إلا تفاصيل الحياة في الخارج ؛ حيث كان يعيش في بلدٍ حرٍ بعيد عن الهموم ، التي كنت أواجهها في غزة ، منطقتي التي دمرتها الحروب والنزاعات منذ عشرات السنين ، دون أن يفاتحني بأهمية الانتقال إلى حياة أفضل بعد ما عرفه عن معاناتي مع العائلة التي نبذتني منذ أن ولدت أنثى سمراء البشرة ، لعائلة تفضل الشقراوات !! وكانا فصل الخريف ، والشتاء هما فصلي علاقتنا ، وابتدأت علاقتنا تتطور ، و أنا أظن أنه سينتقل في الحديث قريباً عن علاقة جدية ، بعيداً عن هذه المراسلات ، التي كانت بدأت تسبب بالقلق ، والتوتر لي . بعد أن انتهى عقد عملي في شهر سبتمبر ، ماتت كل آمالي بأن يتم تمديد العقد ، حتى أني بدأت بمراسلة متضامنة مغريبة ، تعرفت إليها بعد أن رأيت صورها مع المتضامنين ، الذين كانوا في غزة من مدةٍ غير طويلة . ظننت أنه ذلك في الوقت ، الذي بدأ يراوغني بدون قصد ، كان يجب علي أن أجد من يساعدني في الخروج من غزة بأسرع وقت . وجدتها منذ بداية حديثنا ، تعبر عن حبها لغزة ، وعن رغبتها بزيارة غزة في أقرب فرصة ممكنة ؛ حيث أنها كانت تركت صديقها الغزي ينتظرها حتى موعد زيارتها في الشهور المقبلة . ************ وفي شهر نوفمبر ، كنت أخرج بشكلٍ يوميٍ إلى مقهى الانترنت ، وهو المكان الوحيد ، الذي يقضي فيه معظم الخريجات والخريجين أوقاتهم ؛ لتعبئة طلبات الوظائف ، و إرسال السيرة الذاتية ، أملاً في وظائف قليلة ، دون أي آمالٍ أو طموحٍ في حياة يشعرون بها بالسعادة ، والأمان . و رغم أني لم أنهِ إجراءات شهادتي الجامعية ، بل كنت قد تمكنت من الحصول على إفادة خريجة ، أستعين بها في حال اتصلوا لمقابلتي ، وجدت أني غير مكترثة لإنهاء أي اجراءاتٍ روتينية مملة ، لأني لم أستطع الحصول على أي مبلغٍ نقدي من والدتي ، و لم تكن تعلم أن إجراءات الشهادة قد تتطلب مني مبلغاً من المال علي تسديده مسبقاً .. وكل هذا لم يوترني في الحالة ، التي كنت فيها أقدم لوظائف لا يطلبون فيها الافادة إلا لعقد قد يستمر لمدة ثلاثة شهور ، دون أي أملٍ في التمديد . واصلت ارسال سيرتي الذاتية ، وتعبئة الطلبات ، وعندما سألت عن رغبتهم بمتطوعين ، وجدت أنهم مكتفيين بالعدد المتواجد لديهم .. حتى في غزة ، لا يوجد حاجة لمتطوعين ؟؟ ومن شدة غيظي كنت أتساءل كم من لعنة يجب علي أن أتعامل معها بشكلٍ يومي ، فقط لأني أعيش في هذه البقعة التعيسة من الأرض !
شهر نوفمبر ، بالنسبة لي كان يعتبر شهر الأحداث ، الغربة ، والألم ، والوحدة ، وانا لا أجد من عائلتي سوى العنف المعنوي ، والجسدي . وحتى جاء ذلك اليوم المشئوم ، ووقعت على قدمي اليسرى بعد يومٍ طويل قضيته ، وأنا أركض من مكانٍ إلى مكانٍ ، أبحث عن عمل تطوعي دون أي أجر . انتفخت قدمي يومها ، ورفضت نصيحة صديقي بالمراسلة ، بأن أذهب إلى الطبيب ، كان ممرضاً ، وعندما أخبرته أن قدمي كانت زرقاء شعرت بأنه لا يفهم لماذا كنت مترددة من رؤية الطبيب ! آخر ما كان ينقصني حينها ، هو حجة مرض تمنعني من الخروج من منزل عائلتي الكئيب ، حجة تجعلني أقضي أربع وعشرين ساعة ، وأنا أعض أظافري ، وأراقب الحيطان ، التي لا ينفذ من خلالها أي حلم ، أو صوت للنجاة . كانت وحدها الساعات الثمان ، التي أقضيها كل مساء ، مع انقطاع التيار الكهربائي ، تكفل جنوني ، وضجري من منزل يخلو من معالم الحياة ، وكانت والدتي تستمتع ، وهي تتحكم في مصروف المنزل ، دون أي حق ، وتقرر معاقبتي أنا ، وأختي الصغرى ، بألا تزودنا بإضاءةٍ خفيفةٍ طيلة المساء . وكنت في كثيرٍ من المرات أضطر أن أضئ الفنار الصغير ؛ لمساعدة أختي في ترتيب جدولها المدرسي ، قبل مجئ موعد نومها . ******************
ووقعت المشكلة في اليوم التالي ، من حادثة القدم اليسرى ، التي ظلت منتفخة ، وأنا أصرخ ، لأن أخي منعني من إرسال أختي الصغرى لشراء الحليب ، ورفع العصا ، التي من سوء حظي ، تكون دائماً موجودة أمامه وقت حصول أي شجار ، وكما حدث في السنة الماصية ، كسرها هذه المرة على وجهي ، وسالت الدموع ، والدماء ، تغطي عيني اليمنى ، والنظارة مكسور نصف زجاجها على عيني والجزء الآخر تناثر من شدة الضربة . البكاء والدماء ، التي لم تتوقف وأنا أصرخ ، وهو يحاول أن يمنعني من الخروج من المنزل ، لأنه كان واثقاً أن هذه المرة سأقدم بلاغاً إلى الشرطة . خرجت بصعوبة ، وهو يهددني بأنه لن يسمح لي العودة إلى المنزل ، وطلبت سيارة تاكسي ، وانهرت ، وأنا أحاول أن أتلاشى نظرة الركاب ، وتساؤلاتهم ، وسألتني امرأة طلبت مني ان أمسح بقية الدم عن وجهي : هل هو زوجك ، الذي سبب لكِ هذه الاصابة ؟ لم أجبها ، وانما ظليت أبكي بصمت ، وقمت بتقديم البلاغ ، وتحملت قلة ذوق مخبرين الشرطة التنفيذية في المدينة ، التي لم أعد أجد لنفسي مكاناً للصراخ فيها !! لم ولن أكره مدينة في حياتي مثلها ! اتصلت بي أختي بعد أن كنت قدمت البلاغ ضد أخي ، ووثقته بتقريرٍ طبيٍ كدليلٍ لاثبات الاعتداء بالضرب . وصلت أختي إلى حالةٍ يائسةٍ ، وهي تحاول أن تجرني معها إلى منزل العائلة ، بعد ان أخبرت والدتي بأني كنت في مركز الشرطة . وعندما يأست أختي من اقناعي ، قررت أن تخرج من منزلها ؛ لتزور والدتي لمدة أسبوع ، و حزمت أمتعتها هي وابنتيها ، وزوجها ، وتركتني في منزلها دون أي مفتاح ؛ لتمنعني من الخروج في غيابها . صمدت لأسبوع وأنا أشعر بالوحدة في منزل أختي البارد ، وأنا أنتظر ماذا ستقرره الشرطة في حالة أخي ، الذي تكرر اعتداءه عليّ منذ ما يقارب سبعة سنوات . صديقي بالمراسلة كان موجوداً ، لمساندتي برسائله ، وظن أحياناً أني أريد التخلي عنه بسبب حالتي النفسية والجسدية المعنفة . *********** ما انتظرته لم يحصل ، وقد استطاع أخي أن يخرج من الحبس بوساطة له مع الشرطة المحلية في أقل من أربعٍ وعشرين ساعة ! عدت إلى منزل العائلة ، وكم أتذكر وقتها كيف أن والدتي ، وأختي الصغرى إلتزمتا الهدوء في غرفتيهما ، وكأنهما يدّعيان النوم . عدت إلى منزل العائلة ، وأنا لا أدري أين أخبئ الدموع من وجهي ، الذي شقه أخي فوق عيني اليمنى ، وكسر نظارتي ، وانا أحاول أن أحمي نفسي من العصا ، التي كسرها على جسدي ، وللسنة الثانية على التوالي ... يأتي إلى غزة الكثير من المتضامنين ، ولم أسمع يوماً أن أحدهم حاول إنقاذ روحاً بائسةً ، وكانت معظم زياراتهم من أجل الدعم النفسي ، وكأنها زيارات استطلاعية لا أكثر ، ولا أقل ! ربما لأني لم أكن مشهورة ، و غنية ، ولم أملك الأصدقاء ، الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن والدتي ، وأخي .. خفت أن أتعرض للابتزاز ، وقررت الصمت . ظل صديقي يلح بأسئلته ، وظليت أنا أعبر عن قلقي له في رسائلي ، ومن خوفي من الشرطة ، التي أطلقت سراح أخي ، ومن قلة فرص العمل ، ومن ثم خوفي من أن تكتشف عائلتي لجوئي إلى المكتبة ؛ لأجعلهم يظنون أن لدي فرصة عمل . وأنا ما زلت أعيش في غزة ، أصبحت صديقة لصديقي بالمراسلة بالطريقة التي كان يختارها ، ولم أستطع أن أجعله صديقي كما أشاء ، وشعرت حينها بأني ظليت أراسله من على درجات السطح الباردة طيلة فصل الشتاء لكي لا أظل وحيدة .. ولم يكن لدي حينها خيار آخر ، من المكوث في الجو البارد ، وعائلتي تقطع عليّ كابل الانترنت ، لتزيد من محاصرتي وتعجيزي . كأنهم أرادوا أن يطبقوا عليّ صمتهم بحصار آخر ، يفرضونه داخل غربة الوطن . وظليت مع صديقي لفترة طويلة ، أراسله بعد عودة التيار الكهربي ، الذي كان يؤثر انقطاعه لمدة طويلة على اتصال الشبكة .. وكانت الشبكة ، ورسائله هي النافذة الوحيدة ، التي أخرج منها إلى العالم البعيد ، الذي تمنعني عائلتي ، ثم غربتي من الوصول إليه ، دون أي جراح أو معاناة . ********** شعرت بالضجر ، وهو يرسل إليّ صورا لأعلام فلسطين ، ومن ثم صور مدينة غزة ، وكأنني لا أعيش في هذه الغربة ، التي كان يأخذ صوراً لها من مجموعات فلسطينية ، ويعيد إرسالها إلي ، لافتة محبة في العلاقة التي لن تتحقق - حسب رغبته - إلا وأنا في هذه الظلمة . ولاحظت من حديثي معه أن الكثير من المتضامنين كانوا يدعموننا لأنهم كانوا ضد سياسات بلدانهم الرأسمالية ، فكانوا يحاولون مناصرة شعبنا العالمثالثي ، وهم يرسلون إلى غزة قوافل من بلدانهم الحرة ، حتى يمارسوا ضغوطاً على حكوماتهم .. *****************
أما الرجل الأربعيني فكان رقيقاً ، ودافئاً برسائله ، ولكن ذلك لم يمنع أبداً خوفي من أن يتحقق ذلك الحلم الذي حلمته ، وهو يُقبل امرأة أخرى في المطار !! وفي كثير من الأحيان كنت أنقطع عن مراسلته لمدة يوم أو يومين ، وذلك بسبب انقطاع التيار الكهربائي ، وخاصة في أكثر أشد أيام الشتاء برودة . وكنت أحياناً أشعر بأنه لا جدوى من انتظاري على ذلك الدرج ، الذي أغرقته الأمطار ، وأنا أحاول أن أصل إلى العالم الافتراضي ، والطيران الاسرائيلي يؤثر على الارسال . حتى أنه عندما كان يتصل بي على التلفون ؛ حيث كان متاحاً له مكالمة واحدة مجانية كل شهر على فلسطين ، استغل معظم مكالماته ليعبر عن حبه ودعمه لفسلطين ، دون أن يتطرق إلى أي موضوع جدي بيننا ، حتى أني لم أكن أعلم ما كان يجب علي أن أخبره . كلماته كانت تشعرني بالضيق الذي أتجاوزه برغبتي في الحرية المطلقة ، من ظلم العائلة ، وفقر الحال ، وضياع حقوقنا كشعب يملك حق تقرير المصير ! وظننت حينها بتفكيري المتواضع أني اذا سمحت له أن يعبر عن حبه لفلسطين بكل شعاراته عن حاجة العالم لثورة - اشتراكية عالمية - ، فإنه سيساعدني على إيجاد ملاذٍ آمنٍ معه ، بعيداً عن الظلم الذي عانيته منذ صغري .. وكنت في كثير من الأحيان أربط بخيالي بين صوره التي يرسلها إلى عن فلسطين ، والصور التي سألتقطها معه في بلده الحر ، صور كثيرة رسمتها بخيال امرأة تعيش تحت ظلم العائلة الأبوي ، والقمع السياسي ! لم أدرك يوماً عندما كنت أخبره - خلال مراسلتنا - عن القصف وصوت الطيران الذي يحلق على مستوى منخفض ، بأنه شعر بأي ألم أو خوف ، بل أنه كان دائماً يصر على متابعة الحديث ، وجعلني ذلك أظن أحياناً أنه لا يفكر بالموضوع على الاطلاق . شعرت بغرابة الأمر وكيف أنه لم يشعر بالظلم أو الخوف الذي كنت أعيش تحته ، وحيدة ومنبوذة في مجتمعي الفقير ، وأعيش تحت تهديد يومي من كل النواحي التي تحيط بي ، وهو ما زال يحافظ على رباطة جأشه ، دون أي محاولة لمساعدتي . وبدأت أشعر بالضجر من الصور التي كان يرسلها ، دائماً صور عن مدينتي ، وعن الشاطئ ، وعن التراث ، وكأني لست أنا التي تعيش في غزة ، تلك الصور التي كان يحصل عليها من مجموعات تدعم فلسطين ، ثم يعيد إرسالها إلي ، وبدأت أسأل نفسي السؤال نفسه : هل أنا نافذته إلى عالم ضيق ، حزين ؟؟ وهل يضحي وهو يقبل بي ، وأنا التي أعيش في بلد مهمش على الخريطة ، بينما يعيش هو في بلد حر ، جدرانه غير مغلقة الأبواب ؟؟ هل هو من يضحي ، وهو لا يبذل مجهوداً للوصول إلى الشبكة ، بينما أنا المهمشة في مجتمعي ، والمعنفة من أسرتي أنتظر رجوع التيار الكهربي ؛ لأطمئنه أني لم أمت بعد ؟؟ أنا التي كنت أقول قبلها بأني اذا تنازلت أكثر ، وأنا من هي الضحية ؛ فإن ذلك سيؤدي بي إلى التهلكة ، ولكني معه لم أكن سوى امرأة وحيدة كل حياتها تسير بلا أي معنى ، ويتعلق جزء تخفيه عن الآخرين في صندوق أسود ، تضيئه عندما تتحدث إلى رجل يكبرها أكثر من عشرين سنة في العالم الافتراضي . لم أجد أكثر منه وقاحة عندما كان يخبرني أنه كان يوزع مناشيراً لدعم فلسطين في مظاهرات ضد الاحتلال ، في مدينته البعيدة ، وأنا كنت أراجع ذكريات طفولتي الحزينة ، التي كنت أبكي فيها آلاماً، و وحدتي أكثر من أشعر بالانتماء لهذه البلدة التي قزمتها عائلتي ، وقادة باعوا بلدي ، ومن ثم النافذة التي يطلقون عليها العولمة التي لا أحصل منها على أي شئ سوى مزيدٍ من الصور !
النهاية
#سونيا_ابراهيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تشزوفرينيا حماس تحت قمع الاحتلال ، وقمع الحريات في الديكتاتو
...
-
في ذكرى الامتحانات الثانوية ، والقمع السنوي لحكومة حماس
-
غزة , والكبت الحصاري الذي تفرضه ثقافة حماس هو -انحصاري-
-
عرض من القضبان المغتصبة .. و لا خيار للحب
-
أذكروا محاسن موتاكم
-
من حق المراة في الامتناع : معا ضد ختان الذكور
المزيد.....
-
-حالة تدمير شامل-.. مشتبه به -يحوّل مركبته إلى سلاح- في محاو
...
-
الداخلية الإماراتية: القبض على الجناة في حادثة مقتل المواطن
...
-
مسؤول إسرائيلي لـCNN: نتنياهو يعقد مشاورات بشأن وقف إطلاق ال
...
-
مشاهد توثق قصف -حزب الله- الضخم لإسرائيل.. هجوم صاروخي غير م
...
-
مصر.. الإعلان عن حصيلة كبرى للمخالفات المرورية في يوم واحد
-
هنغاريا.. مسيرة ضد تصعيد النزاع بأوكرانيا
-
مصر والكويت يطالبان بالوقف الفوري للنار في غزة ولبنان
-
بوشكوف يستنكر تصريحات وزير خارجية فرنسا بشأن دعم باريس المطل
...
-
-التايمز-: الفساد المستشري في أوكرانيا يحول دون بناء تحصينات
...
-
القوات الروسية تلقي القبض على مرتزق بريطاني في كورسك (فيديو)
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|