|
الحداد عند الطفل
مارينا رزق
الحوار المتمدن-العدد: 3789 - 2012 / 7 / 15 - 13:02
المحور:
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
هذا موضوعٌ يسألني عنه كٌثر لكنهم لا يحبّون سماع الجواب، رغم ذلك قررت أن أصنف هنا بعض الآراء التي أستخدمها في التعامل مع أسئلة الأهل حول الحداد عند صغارهم. لم أتطرق هنا إلى الرض النفسي التالي للأزمات، عندما يكون الموت ناتجاً عن حدثٍ رضي كحادث، أو جريمة قتل، أو انفجار، أو حريق، أو زلزال.... بل اقتصرت البحث على الجزء الخاص بفقد الشخص الميت.
تختلف نظرة الطفل للموت حسب عمره: قبل عمر5 سنوات : يكون الموت بالنسبة للطفل غياباً وقتياً يمكن التراجع عنه. بين 5-8 سنوات : يعتبر الطفل أن كلّ ما يتحرك ويأكل هو حيّ ، وكلّ ما هو جامد لا يتنفس و لا يحسّ ميتاً. أكبر من 8 سنوات: يبدأ الطفل باعتبار الموت ظاهرةً غير قابلة للإلغاء، لا يمكن قهرها، تحصل لكلّ كائنٍ حي. بين 10-12 سنة: يبدأ الطفل باستيعاب ظاهرة تحلل الجسد الميت.
قد يكون العمر الزمني غير متطابقٍ مع درجة التطور الروحي الحركي للطفل، خاصةً عند الأطفال الذين عاشوا باكراً تجربة الموت في عائلاتهم، أو بسبب تجارب رضيّة مجتمعية أو فردية. عندها تكون الأعمار المذكورة أعلاه أعماراً تقريبيةً وليست حدوداً نهائيةً. أهم التظاهرات النفسية تواجداً عند الطفل في حالة الحداد هي تظاهرات القلق.. ومنها: الكوابيس الليلية، الرهاب والخوف، الأفكار المتكررة عن الموت. قد تظهر تصرفات عدائية عند الطفل منها اللفظية والجسدية. تظهر أحياناً تظاهرات نكوص سلوكي (العودة إلى مرحلة تطورية سابقة مثل فقد السيطرة على المصرات البولية والبرازية ، أو رفض النوم وحده، أو مص الاصبع....). إن أهم مميز للحداد عند الطفل هو اختلاف ظواهره بين يومٍ وآخر، وعدم ثبات حالة الحزن كما عند الكبار. فقد نرى الطفل في يومٍ ما حزيناً، مثبطاً، يرفض اللعب وينطوي على نفسه، بينما نراه في يومٍ آخرَ منفتحاً يشارك في أي نشاط يتوفر له. قد تتناوب هذه التظاهرات المتغيرة حتى في اليوم نفسه... حتى يظن الكبار المحيطون بالطفل أحياناً أنه غير حزين ، وأنه قد نسي الشخص الميت (وهذا بالطبع غير صحيح). يجب الانتباه للحداد خاصةً عندما يفقد الطفل أحد أبويه، فهو في حاجة تكافلية لوالديه وسيؤثر فقد أحدهما أو كليهما في نموه وتطوره. كما أنه إن كان في فترة المراهقة وكان الوالد الذي فُقد من نفس الجنس فقد يعتقد أن انعكاسات عدائيته على الوالد الميت كانت هي السبب في موته، فيكون للاحساس بالذنب الموقع الأهم. كذلك كذلك يجب الانتباه خصوصاً لحداد الطفل على والدٍ قاسٍ أو عنيفٍ (والد هنا يشمل الأم والأب كليهما). أما في حالة الحداد على أحد الإخوة فأهم عاملٍ يجب البحث عنه وافتراض وجوده هو الغيرة بين الأطفال (ووجودها أمرُ طبيعي و متوقع) وتنازع الأخوة على محبة الأهل، وبالتالي الشعور بالذنب تجاه الأخ الميت بسبب أية مظاهر عدائية قد سبقت موته... خاصةً إن كان الأخ الميت قد كان مريضاً قبل موته. قصة سريرية قصة طفلة عمرها 9 أشهر توفيت والدتها خلال حادث سيارة. بقيت الطفلة في بيت جديها منذ الحادث بينما يرفض الوالد رؤيتها. طلب الجدان مشورة طبية نفسية لأن الطفلة ظلت ترفض وبتكرار أن تُحمل وأن تُلمس، وكانت أية محاولة للعب معها أو الاقتراب منها تنتهي بالبكاء والصراخ، ولم تعد تأكل إلا بالإكراه، ورغم ذلك كلّه كانت ترفض أن تنام وحدها. بعد أيام من استمرار الحالة على ما ذُكر لم يعد الجدان يتحملان الوضع فقررا طلب المشورة. اتضح من أول الاستشارة أن العائلة لم تخبر الطفلة بوفاة أمها فطُلب من الأب أن يبلغها لكنه رفض قطعياً وأبلغنا أن علينا تدبير وضع الطفلة وأن ما نطلبه لا علاقة له بالوضع المؤلم الحالي، وأن الطفلة صغيرة جداً ولا يمكن لها أن تفهم لا الموت و لا حادث السيارة. ولم يرضَ حتى أن يبلغها الجدان. استمرت الاستشارات وظلّ وضع الطفلة على حاله ، وتغيرت حتى نوعية اللعب لديها، حيث صارت ألعابها تتصادم ببعضها محدثة ضجيجاً لم يعد الجدان يحتملانه وصارت ردة فعلهم غالباً تتلخص في الصراخ حتى تتوقف. وبدأ ظهور نوبات غضب وصراخ وضرب للرأس في الأرض. بعد شهرين بدأت حالة الأب تتحسن واقتنع جزئياً بضرورة رؤية الطفلة و بعد يوم واحد من ذلك قرر أن يبلغها بنفسه ما حدث لأمها. وقبل مرور أسبوع واحد بدأت الطفلة تأكل بشكل أفضل وقالت الجدة أنه صار بإمكانها لمس الطفلة من جديد دون صراخ.
من العوامل الإيجابية التي تزيد في ممانعة الطفل للمعاناة خلال فترة الحداد ما يلي: *إعلان وفاة الشخص الميت للطفل بأسرع ما يمكن، مهما كان عمر الطفل صغيراً وحتى إن كان لا يتكلم بعد. إن إخبار الطفل بما حدث هو من أهم العوامل التي تساعده على عيش الحداد وتجاوزه. وليس هناك أيّ صحة للرأي القائل أن الطفل لا يفهم أو لا يحسّ. يفترض اختيار ألفاظ سهلة متناسبة مع عمر الطفل من جهة ،ومع اعتقاد وإيمان أهل الطفل وبيئته من جهةٍ أخرى، دون الدخول في تفاصيل كثيرة. يُفضل دوماً أن يخبر الأهل الطفل، فإن كانوا غائبين يخبره الشخص الأقرب له مباشرةً. يُفضل أن يحدّث الأبوان الطفل معاً، أو أن يخبره شخص واحد يحبّه و يثق به. الكذب بقصد حماية الطفل هو من أسوأ ما يمكن حصوله في حالة الحداد. *ألا يكون الطفل قد وجد بقرب جثة الشخص المقرب منه وحده، وإن كان ذلك قد حصل نجد أنه كلما زادت هذه الفترة ساءت حالة الطفل. *أن تكون تصرفات المحيطين بالطفل مولدةً لنوعٍ من الأمان بالنسبة له. أي أن يعتني به أشخاصٌ يعرفهم (يفضل أن يكونوا هم نفس الأشخاص الذين يعتنون به عادةً كوالديه أو مربيته). أن يبقى الطفل في نفس بيئته التي يعرفها (بيته وغرفته وسريره.... ) وأن يستعمل نفس الأشياء التي يستعملها عادةً (الألعاب، ثياب النوم، الثياب العادية، الرضاعة، الصحن والملعقة...). طبعاً مادام ذلك ممكناً، فإن لم يكن ذلك مستطاعاً يُفضل إحاطة الطفل بأشياء يعرفها (تُحضر من بيته). *الاستمرار بالعناية بالطفل قدر المستطاع، مع الانتباه لحالة الحداد الممكن وجودها لدى الأهل أنفسهم, يجب الانتباه أن الشخص الموجود جسدياً قرب الطفل قد يكون غائباً عنه بالكلّية بسبب حالة الحزن التي يعيشها. *الانتباه لعلامات الحداد عند الطفل (أي البحث عنها ) والاعتراف بوجودها. *الحديث عن الشخص الميت مع الطفل، إما مباشرةً أو باستخدام صوره، أفلام عائلية، زيارة الأماكن التي كان الطفل يزورها معه.... *يُفضل ألا يبكي الأهل أمام الطفل، بإمكانهم أن يتحدثوا أمامه عن حزنهم وعيشهم للحداد هم أنفسهم على أن يذكروا أمام الطفل أنهم يتحدثون مع كبارٍ آخرين وهذا يريحهم. إن تحسن حالة الأهل وتراجع مظاهر الحزن لديهم و تأقلمهم مع فكرة الموت هو من أهم العوامل التي تساعد في تقبل الطفل لهذه الفكرة وتعلمه كيف يواجهها مستقبلاً. *يمكن أن يتناوب الأبوان العناية بالطفل وعندما يغلب الحزن أحدهما يحلّ الآخر محله.
قصة سريرية طفلة بعمر 9 أشهر، توفي والدها خلال أشهر الحمل بها، وأصيبت والدتها باكتئاب شديد، ثم انتحرت في المنزل ولم يكن معها إلا الصغيرة، التي ظلت وحدها (مع جثة أمها) ثلاثة أيام... قبل اكتشاف الوفاة. وضعت الطفلة في ملجأ لصغار الأطفال حيث اعتنى بها الجميع لكنهم اكتشفوا بعد عدة أيام أن من الصعب حمل هذه الطفلة أو احتمالها. فطلبت إدارة الملجأ استشارة نفسية. وُجدت الطفلة في حالة فرط تنبه... دون أي رغبة باللعب مع الآخرين أو تبادل أية مظاهر تشابه العلاقات الانسانية العادية معهم... لم تكن الطفلة تعلم بما حدث لأمها و لم يكلمها أحد عن هذه الأم منذ وصولها للملجأ. رفض فريق العمل في الملجأ مسؤولية إبلاغها بالخبر فكان من الضروري أن يخبرها الأخصائي النفسي. تمّ ذلك مع المحافظة على اتصال بالنظرات مع الطفلة بينما يمسك الأخصائي يدها ويخبرها بأن ماما اشتاقت لبابا بعد موته واختارت أن تذهب لعنده، وأن الاثنين يحبانها (الطفلة) دوماً . ثم طُلب من إدارة الملجأ أن تتصل (بواسطة الشرطة) مع جدة الطفلة الموجودة في جنوب البلاد، وأن تحضر من منزل الطفلة لعبتها المفضلة وثياب نومها وبعض ثياب أمها (جينز وبلوزة قطنية متسخة) التي ما زالت تحمل رائحتها. مهما كانت تجربة الموت والحداد قاسيةً على الطفل يمكن له تجاوز معاناته بسببها ... إن توفر له المحيط المحتوي لألمه. فالطفل في النهاية ليس شخصاً مستقلاً معتمداً على ذاته بل هو معتمدٌ بشدة على محيطه، وسيتأثر حتماً بما يعيشه من حوله خلال فترة الحداد. الأهل قادرون بمحبتهم للطفل على مساعدته في تجاوز هذه الأزمة الصعبة كما سبق فساعدوه على تجاوز الكثير من أزمات الحياة الصحية والمدرسية والنفسية... قبلها. في أسوأ الحالات (وهي غياب الأهل أنفسهم) يمكن أن يتوفر هذا المحيط الحامي والمحتوي للطفل من أفراد عائلته نفسهم أو من مختصين، على أن يكون مستمراً ويمكنه الاعتماد عليه. يجب أن نتذكر أن الموت (في أغلب الحالات) هو أمر لا يعرف عنه الطفل شيئاً وهذا كفيلٌ بتشويشه كلّياً. فالكبار يعرفون المشاعر التي ترافق حدث الموت عادةً كالغضب والحزن والخوف ... أما الصغار فلا يدركون ما يحصل لهم، وهنا يفيدهم أن يحاول الكبار ترجمة ما يحدث معهم (مع الصغار) بالكلمات ...مثلاً، أحسّ من ركلاتك العنيفة أنك غاضبٌ جداً، وهذا أمرٌ يحصل عندما نفقد أحداً نحبّه مثلما حصل البارحة بوفاة الجدة، قد يختبئ الحزن داخل الغضب ويفيد كثيراً أن نعرف أنه موجود. أتعرف ... يحقّ لك أن تكون حزيناً لأنك تحبّ جدتك. كثيراً ما صٌدم الأهل الذين يرافقون الطفل إلى العيادة النفسية عندما نبدأ الحديث معه، غالباً ما يقولون لنا "لكنه لا يفهم، فهو لا يتكلم بعد" .... الطفل يفهم ويحتاج أن تقدم له العالم بكلماتك، والموت هو جزءُ من حقائق هذا العالم فلا تتركه عارياً دون غطاء الكلمات.
د.مارينا رزق طبيبة نفسية، مستشفى جان مارتان شاركوه، فرنسة
#مارينا_رزق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
المزيد.....
-
كيف تحوّلت تايوان إلى وجهة تستقطب عشاق تجارب المغامرات؟
-
فيديو مروع يظهر هجوم كلب شرس على آخر أمام مالكه في الشارع
-
لبنان.. عشرات القتلى بالغارات الإسرائيلية بينهم 20 قتيلا وسط
...
-
عاصفة ثلجية تعطل الحياة في بنسلفانيا.. مدارس مغلقة وحركة الم
...
-
مقتل مسلح وإصابة ثلاثة من الشرطة في هجوم قرب السفارة الإسرائ
...
-
اتفقت مع قاتل مأجور.. نائبة الرئيس الفلبيني تهدد علنا باغتيا
...
-
العثور على جثة الحاخام المفقود في الإمارات وتل أبيب تعتبر ال
...
-
سكوت ريتر: بايدن قادر على إشعال حرب نووية قبل تولي ترامب منص
...
-
شقيقة الملك تشارلز تحرج زوجته كاميلا وتمنعها من كسر البروتوك
...
-
خبير عسكري روسي: واشنطن أبلغت فرنسا وبريطانيا مباشرة بإطلاق
...
المزيد.....
-
الجِنْس خَارج الزَّواج (2/2)
/ عبد الرحمان النوضة
-
الجِنْس خَارج الزَّواج (1/2)
/ عبد الرحمان النوضة
-
دفتر النشاط الخاص بمتلازمة داون
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (مقدمة) مقدمة الكتاب
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (3) ، الطريق المتواضع و إخراج
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
ثمانون عاما بلا دواءٍ أو علاج
/ توفيق أبو شومر
-
كأس من عصير الأيام ، الجزء الثالث
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
كأس من عصير الأيام الجزء الثاني
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
ثلاث مقاربات حول الرأسمالية والصحة النفسية
/ سعيد العليمى
-
الشجرة الارجوانيّة
/ بتول الفارس
المزيد.....
|